حكم هيرودس الكبير

 

الفترة من بدء حكم هيرودس (٣٧ق.م ) حتى تولية أغسطس قيصر (٢٩ق.م ):


(هنا يعتمد يوسيفوس المؤرَّخ على تسجيلات سترابو ونيقولاوس الدمشقي المؤرَّخين).

ورث هيرودس عداوة اليهود له من أبيه كونه أدومياً فوق كـل شـيء، وبالرغم من كل معونة وإصلاح قدمها لليهود . وكان أول عمل احتياطي يقوم به هو قتل الرؤوس المعادين له، فذبح خمسة وأربعين من أشـياع أنتيجـونيس المتزعمين حركة المقاومة ضده ، وكان هذا العمل الوحشي سبباً في ازديـاد العداوة ضده . ولكي يقوَّي مركزه لدى الرومان سلب المملكة كثيراً من غناها الموفور من ذهب وفضة، وسلب الأغنياء، وثقَّل المطالب المالية على الـشعب، وقدم كل شيء إلى أنطونيوس ومن معه.

ولكن بقدر ما كان يزداد قوة واعتماداً على الرومان، بقدر ما كان يزداد الحقد عليه من اليهود . كذلك كان حكم هيرودس يذكِّرهم باستمرار بضياع عصر المكابيين على أيدي أنتيباتر وابنه هيرودس مما كان يزيد الـضغينة جـداً خصوصاً في صدور الصدوقيين والفريسيين، لأن حكم المكابيين كـان يمثـل الحرية الدينية الكاملة واتحادها بالحرية المدنية والسياسية في شخص واحد، الأمر الذي انكسر وتصدع على أيدي هيرودس.

ولكن لم يفتأ هيرودس من أن يقرب نفسه إلى اليهود ويقرب اليهـود إلى نفسه بشتى الطرق حتى يزيل حدة هذا الجفاء، فقرب إليه كبـار الفريـسيين العلماء مثل بوليو (أبتاليون) وتليمذه شماي، وهذان كانا من أعظم متقدمي
الفريسيين وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً في الشعب في هذه الفترة . ثم قام بعمل آخـر ليجتذب إليه أنظار وقلوب اليهود، إذ استحضر هركانوس الملـك المخلـوع والمقطوع الأُذُن من منفاه لدى الفرثيين من بابل وقربه إليه وأشركه في الحكم بعد مدة سبع سنوات، وقد نال هيرودس بسبب هذا الصنيع الحسن في هذا الشيخ العجوز – الذي يمثل أكبر وآخر رأس في عائلة المكابيين – رضا اليهود فعلاً.

وهنا تبرز حركة نسائية تزيد في تعقيد الموقف وتفضح أخلاق هـيرودس الوحشية وسرعة نقمته وبطشه . فقد قامت ألكسندرا أم أرسطوبولس (الثالث) مع مريمن أخت أرسطوبولس وزوجة هيرودس بالاتصال سراً بكليوباترا ملكة مصر وعشيقة مارك أنطوني للتدخل في إقامة أرسطوبولس رئيس كهنـة، على الأقل لأن هيرودس كان قد أقام حنانائيل رئيساً للكهنة وهو من أسـرة يهودية بابلية سليلة لأسرة صدوقية عريقة تنم بصلة إلى آخر رئيس كهنة قبـل المكابيين. وكان عمل هيرودس هذا بقصد التخلُّص من نفوذ أسرة المكـابيين نهائياً. أمَّا عمل ألكسندرا ومريمن في تنصيب أرسطوبولس رئيس كهنة فكـان على أساس إرجاع رئاسة الكهنوت إلى أسرتهم.

وقد نجحت هذه المساعي السرية وضغطت كليوباترا على أنطوني لكي يأمر هيرودس بإقامة أرسطوبولس الصغير رئيس كهنة بعد أن عزل حنانائيل، وكان عمر أرسطوبولس ١٦ سنة فقط !!

كان هذا الإجراء كسراً للناموس بسبب صغر سن أرسطوبولس، كما كان سابقة خطيرة تعطي الملك حق سلطة عزل رئيس كهنة بدون أسباب . هذا زاد من اتساع النفور اليهودي ضد أعمال هيرودس .
ومع أن هيرودس بريء من هذا الإجراء لأنه لم يكن عن أي رغبة شخصية بل بتدخل بيت المكابيين نفسه ممثلاً في ألكسندرا ومريمن، إلاَّ أن لعنـة هـذا الإجراء حملها هيرودس .

ولكن سرعان ما كشف هيرودس العلاقة السرية التي قامت بين ألكسندرا ومريمن بكليوباترا عدوة هيرودس الطامحة في اغتصاب الأجزاء القديمـة الـتي كانت تابعة لمملكة البطالسة في اليهودية، وخصوصاً مدن الساحل ، كمـا أحس هيرودس أن هناك أطماعاً لألكسندرا لاستعادة الملك لأرسطوبولس، فأسرع هيرودس بأخذ الحيطة ضد ألكسندرا وحدَّد إقامتها في القصر . ولكـن اتصلت ألكسندرا بكليوباترا ووضعتا خطة معاً لهربها مـع أرسـطوبولس إلى مصر، غير أن هيرودس اكتشف الخطة في آخر لحظة، فتخلَّص من أرسطوبولس سنة ٣٥ق.م وأبقى على ألكسندرا خوفاً من انتقام كليوباترا .

وكان تخلُّصه من أرسطوبولس بطريقة إغراقه في بركة للسباحة ادَّعى بعـدها أمام الشعب أن أرسطوبولس مات في حادثة غرق مؤسفة وبكاه أمام الناس.

ولم يصدَّق أحد هذه القصة وبالأخص ألكسندرا التي اتصلت بكليوبـاترا تطلب القصاص من هيرودس، وفعلاً أقنعت كليوباترا مارك أنطوني بـضرورة محاكمة هيرودس . فطلب مارك أنطوني من هيرودس أن يقابله أثناء مروره شمالاً بإقليم لاودكية في طريقه لأرمينيا.

هنا يأخذ هيرودس الحذر ويعيَّن يوسف عمه حاكماً أثناء غيابه ويأمره سرا بأنه في حالة وصول خبر إدانته بالموت، أي موت هيرودس، عليه أن يقتـل زوجتـه مريمن، لأنه اكتشف أن ألكسندرا تود تقديمها هدية لأنطوني ثمناً لرأسه.

وقد شاع كذباً إشاعة موت هيرودس، فبدأت المرأتان في التحرك بسرعة، وتواطأ معهما يوسف عم هيرودس وأخبرهما بالوصية السرية التي سلَّمها لـه هيرودس، مما أعطى فرصة لأم هيرودس وأخته أن يتهما مريمن باتهامـات خلقية مع يوسف عم هيرودس، ويصدقها هـيرودس عنـد عودتـه بـدون تردد، فما كان من هيرودس إلاَّ أن قتل عمه يوسف بـدون اسـتجواب واعتقل ألكسندرا في السجن، وبالرغم من أنه كان ينوي قتل زوجته مـريمن، إلاَّ أنه لإخلاصه لها عدل عن قراره.

ولكن لم تكُف مناوأة كليوباترا ضد هيرودس، ف أثارت العـرب (دولـة النباطيين جنوب وجنوب شرق اليهودية ) لمحاربة هـيرودس، وقـد اسـتطاع هيرودس بصعوبة وحرب مريرة أن ينتصر على العرب . وعند عودته ووصـوله أُورشليم منتصراً جاءه خبر هزيمة مارك أنطوني أمام أوكتافيوس (الذي تسمى فيما بعد باسم أغسطس قيصر ) في موقعة أكتيـوم سـنة ٣١ . ق.م، ودعـا أوكتافيوس بصفته إمبراطور العالم كله هيرودس لكي يمثل أمامه . ومرة أخرى يضطر هيرودس أن يأخذ الحذر من ألكسندرا ومريمن فحبسهما في قلعة تحـت حراسة مشددة وذهب لمقابلة أوكتافيوس في رودس . وفي هذه الأثنـاء لم تكف ألكسندرا عن المقامرة بحياتها فاتصلت بأبيها هركانوس وتعاهدت مـع ملك العرب مالخوس للقيام بدور ضد هيرودس، ولكن هـيرودس اكتـشف المؤامرة قبل ذهابه لمقابلة أوكتافيوس فتخلَّص من هركانوس وقتله.

استطاع هيرودس بشجاعته وصراحته ومهارته السياسية أن يجتذب أنظـار أوكتافيوس ويكسب ودَّه وتأييده، فثبته على مملكة يهوذا ورجع منتصراً.

ونزل أوكتافيوس خلف أنطوني وكليوباترا، واقتحم الإسكندرية سـنة ٣٠ ق.م، وحينئذ انتحر مارك أنطوني حالما سمع بخبر انتحار كليوباترا، وكان هذا خداعاً منها لكي تتخلَّص من مارك أنطوني وتلتفت لأوكتافيوس لتضمه إليها . ولكن لم يقابله  أوكتافيوس إلاَّ كعدو مهزوم، وجعلها تسير خلف موكبه مما دعاها إلى الانتحار هي الأخرى وعاد موت كليوباترا بالخير على هيرودس، فقد ضم إليه كل أملاكهـا في فلسطين، فاستولى على كل مدن الساحل : غزة ويافا والقلاع المحيطة ومنطقـة جدارا والسامرة. وقد ضمها أوكتافيوس لهيرودس عند مقابلته له في مصر بمناسبة تهنئته له بالنصرة على مصر.

وبلغت حدود مملكة يهوذا في عصر هيرودس في تلك الآونة نفس الاتساع الذي بلغته أيام اسكندر حنَّاؤس، وهو أقصى اتساعها.

وبرجوع هيرودس إلى أُورشليم وجد المؤامرات محاكة ضده بواسطة مريمنسنة ٢٥ ق.م وألكسندرا، فاضطر لمحاكمتهما بتهمة الخيانة وقتلهما.

الصداقة بين هيرودس وأغسطس قيصر:

توطَّدت أواصر الصداقة بين أُغسطس قيصر (أوكتافيوس بعـد أن صـار إمبراطوراً سنة ٢٩ق.م ) وبين هيرودس، وازدادت بالأكثر لمَّا قدم هـيرودس معونة عسكرية للجيش الروماني في حرب ه ضد النباطيين المستوطنين على ضـفة البحر الأحمر الشرقية، وكانت مكافأة أغسطس لهيرودس كبيرة في الواقع، إذ أضاف إلى مملكة اليهودية إقليم تراخونيتس وإقليم باتانيا، بالإضافة إلى بلاد أورانتس (المسماه قديماً أرض باشان ). ومن مظاهر الود الكثيرة أن سمح قيصر لولدي هيرودس أن يتعلَّما في روما ويقيما في قصر قيصر.

كل ذلك لم يعف هيرودس من بغضة اليهود والحقد عليه، وقد حاول بالقوة أن يأخذ من اليهود عهد الـولاء لنفـسه ولقيـصر ولكنـه فـشل في ذلـك، ويذكر يوسيفوس أنه لم يحاول أن يجبر الأسينيين على هذا العهد لأنـه كـان يوقِّرهم جداً.

وكان أغسطس قيصر شديد الإعجاب بهيرودس، وقام فعـلاً بزيارتـه في سوريا سنة ٢٠ ق.م، وقد منح هيرودس في هذه الأثناء مدناً كثيرة وأقامه والياً على سوريا نفسها مع المسئولين الرومان فيها، وعيَّن أخا هيرودس فـيروراس Pheroras  رئيس ربع على إقليم بيريه باليهودية. كما توطَّدت أواصر الود أيضاً بين هيرودس وأغريباس مساعد قيصر الأول في إدارة شئون الامبراطورية كلها، وقام بزيارة هيرودس في اليهودية سنة ١٥  ق.م، وقد استقبله هـيرودس استقبالاً ملوكياً حافلاً، وقد رحَّب به الشعب عند ما أبدى احتراماً لعبـادتهم وقدَّم لهم ذبائح للهيكل.

وقد أعطى هيرو دس حفيده لقب “أغريباس” تيمناً وتكريماً للوالي الروماني أغريباس .


اهتمام هيرودس بفن العمارة:

وقد اهتم هيرودس بفن العمارة، وأول عنايته كانت في إقليم السامرة الذي دعاه سبسطية(هذا الاسم غير إقليم سبسطية الذي يُنسب إليه الأربعون شهيداً ، وهم جنود من فرقـة الرعد في جيش ليسينيوس Licinius سنة ٣٢٠م، والذين ماتوا غرقاً في بحيرة ماء مثلَّج . فـالأخير موجود ببلاد أرمينيا الصغرى ). وكلمة سيباستوس Sebastos هي الترجمة اليونانية للكلمة اللاتينيـة أوغسطس Augustus وتعني “العظيم” وهو لقب أوكتافيوس، وبنى مدينة السامرة.

وبنى مرفأً ذا قلعة محصنة على البحر الأبيض وأسماه “قيصرية” على اسـم أوكتافيوس أيضاً، وبنى قلعة “أنطونيا” في الشمال الغربي للهيكل لتطل عليه، وقد بدأ بعمارة الهيكل نفسه سنة ١٩ق.م وأفرغ فيه كثيراً من اهتمامـه وجهده .

وبنى أيضاً مدن أنتيباتريس شمال شرق يافا (وهي مذكورة في سفر الأعمال ٣١:٢٣) وفازيليس في وادي الأُردن شمال أريحا تكريماً لاسم أبيـه وأخيـه، وأصلح بناء مدينة أنثيدون على الساحل شمال غزة ودعاها أغريبـون تكريمـاً لصديقه أغريبا الروماني، وبنى حـصون وقـلاع هـيرودس وألكـسندريون وهيركانيا واختص قلعتي ماكيروس وماسادا بقصور ملكية فيهما.

والذي يهمنا من جهة النبوات أنه اهتم جداً ببناء سـوق كـبير للمدينـة (أُورشليم) وأسوار ضخمة لها وشوارع خارجها وداخلها وحمامات، وهـذا يذكره دانيال النبي في نبواته في الأصحاح التاسع بوضوح :
+ «فاعلم وافهم أنه من خروج الأمر لتجديد أُورشليم وبنائها إلى المسيح الرئيس سبعة أسابيع واثنان وستون أسبوعاً، ويعود ويبنى سوق وخليج في ضيق الأزمنة.» (دا ٢٥:٩ )
ولعل أهم أعماله بالنسبة لليهود والتمهيد لمجيء الرب بغتة إلى هيكله هـو إعادة بناء الهيكل ضعف حجمه الأول، وتزيينه بالرخام الكورنثي والحجـارة الثمينة. وقد بدأه سنة ١٩ ق.م وتمت العمليات الكبرى سنة ٩ . ق م، ولكـن عمليات البناء الصغرى والتجميل ظلت مستمرة حتى أيام المسيح . لذلك نسمع اليهود يقولون للمسيح: «في ست وأربعين سنة بنى هذا الهيكل» (يو ٢٠:٢). لذلك نستطيع أن نقول إن هذا الحديث دار حوالي سنة ٢٧م.

السنين الأخيرة لهيرودس:

بدأت المؤامرات بين أبناء هيرودس للنزاع على الميراث والسلطان مبكِّراً في حياة هيرودس، وقد كانت عائلة هيرودس منقسمة على ذاتها بـين المكـابيين (فرع زوجته مريمن ) والأدوميين (فرع زوجته دوريس ). وقد وشى الاثنان في حق بعضهما بتهمة القيام بمؤامرات عنيفة لقتل هيرودس نفسه، ممـا اضـطر هيرودس لرفع شأنهم إلى قيصر بصفتهم جميعاً رعايا روما، فأمر بمحاكمتـهم. فحوكم اسكندر وأرسطوبولس ولدا مريمن في بيروت سنة ٧ ق.م وأُعدما في سبسطية (إقليم السامرة ). أمَّا أنتيباتر المتزعم حركة الوشاية ضد اسكندر وأرسطوبولس، فلم يكف هو الآخر مدة ثلاث سنين عن مؤامراته ضد أبيـه، الذي اكتشف محاولة وضع السم له في الطعام، فأمر والي سـوريا كينتيلـوس فاروس Quintillius Varus بمحاكمته، فحوكم في سوريا وأُعدم هناك.

وقد بدأ الإعياء والمرض العصبي يهد كيان هيرودس، وكان يشكو في أيامه
الأخيرة من الفزع والرعب وظهور مناظر وحوش مفترسة تفزعه في الأحلام، وكان قد بلغ حوالي السبعين من عمره، وأخيراً مات وفي هذه الأثناء قامت جماعة دُعيت بجماعة الغيورين، وموطنهم الجليـل، بزعامة يهوذا الجليلي ابن حزقياس، وقد اتفقوا في اتجاههم الديني ناحيـة عدم الاعتراف بقيصر كملك لهم، إذ اعتبروا ذلك خيانة الله وخطية، منـادين بأن االله هو وحده ملك لإسرائيل . وقد اتفقوا في ذلـك تقريبـاً مـع شـيعة الفريسيين في البدء، ولكن انشقوا نهائياً عن الفريسيين لمَّا عـدل الفريـسيون مذهبهم معتبرين أن سيادة روما أمر واقع بسبب خطاياهم كتأديب مـن االله عليهم أن يحتملوه، إلى أن يرفعه االله نفسه . أمَّا الغيورون فقد اعتبروا أنفـسهم يمثلون إرادة االله الخيرة، وعليهم أن يكونوا أصحاب المبادرة لتنفيذ مـشيئة االله التي يؤمنون بها عندما يقتنعون بصحتها . وظهر هذا الخلاف في البدء واضـحاً عند التطبيق، إذ رفض الغيورون دفع الجزية لقيصر، في حـين أن الفريـسيين أذعنوا وخضعوا وبادروا بدفع الجزية.

وقد تفاقمت الأمور جداً فيما بعد عندما انحاز جزء كبير من الشعب للغيورين، وانتهت بالقبض عليهم ومحاكمتهم وتشتيتهم. ولكن بقي يهوذا الجليلي ينفث روح المقاومة في الشعب ويستعد لفرصة أخرى ليقوم بثورة مسلَّحة علنية.

فاصل

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين

فاصل

 أنتيجونيس كملك ورئيس كهنة  عائلة هيرودس الكبير  أغريباس الأول
تاريخ العهد القديم

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى