تفسير الإنجيل بحسب القديس لوقا أصحاح 19 للقديس كيرلس الكبير

الأصحاح التاسع عشر

عظة 127 يسوع وزكا (لو19: 1-10):

ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا. وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيًّا، وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ. فَرَكَضَ مُتَقَدِّمًا وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ:«يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِكَ». فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحًا. فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُل خَاطِئٍ». فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ:«هَا أَنَا يَارَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ». فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ:«الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ»..

كان زكا[1] رئيسا للعشارين، وكان رجلاً مستعبدا تماما للطمع، وكان هدفه الوحيد هو أن يزيد أرباحه، لأن هذا هو ما كان يفعله العشارون، مع أن بولس يدعوه (أي الطمع) عبادة أوثان (كو5:3)، وهذه العبارة تناسب فقط أولئك الذين ليست لهم معرفة بالله. وحيث إنهم بلا خجل يجاهرون علانية بهذه الرذيلة، فإن الرب قد ألحقهم عن صواب جدا بالزواني، عندما قال لرؤساء اليهود: ” إن الزواني والعشارين يسبقونكم إلى ملكوت الله ” (انظر مت 21: 31). أما زكا فلم يستمر بين صفوفهم، بل حسبه المسيح جديرا بالرحمة لأنه هو الذي يقرب البعيدين، ويعطي نورا لأولئك الذين في الظلمة.

تعالوا إذن لنري كيف كانت طريقة اهتداء زكا، لقد رغب أن يرى يسوع، ولذلك صعد إلى جميزة، وهكذا فإن بذرة الخلاص نبتت داخله، والمسيح رأى هذه البذرة بعيني لاهوته، قبل أن ينظر إلى فوق ليراه بعينيه البشريتين”. وحيث إن قصده بالنسبة لجميع البشر هو أن يخلصوا، فإنه بسط لطفه إليه وشجعه وقال له: “أسرع وانزل”. إن زكا طلب أن يراه لكن الجمع منعه، ولكن لم يكن سبب المنع هو الناس، بقدر ما كانت خطاياه هي المانع. ” وهو كان قصير القامة”، ليس فقط من وجهة نظر جسدية، بل أيضا من وجهة روحية؛ ولم يكن بإمكانه أن يراه بطريقة أخرى إلا بأن يرتفع عن الأرض ويصعد إلى الجميزة التي كان المسيح مزمعا إن يمر بها. والآن فإن القصة تحوى لغزا داخلها، فلا توجد طريقة أخرى يستطيع بها الإنسان أن يري المسيح ويؤمن به إلا بأن يصعد إلى الجميزة، إلا بأن يعتبر أعضاءه التي على الأرض، الزنا، النجاسة..إلخ، أن يعتبرها حمقاء. إن المسيح كان مزمعا أن يمر بالجميزة، ولأنه حدد لطريقه أن يعبر على الناموس، أي شجرة التين (الجميزة)، فإنه قد اختار جهالات العالم أي الصليب والموت”. وكل من يحمل صليبه ويتبع كلام المسيح يخلص إذا ما عمل الناموس بفهم (روحي)، وكأنه شجرة تين لا تحمل تينا بل حماقات (بالمعنى الروحي)، لأن السلوك الخفي للمؤمنين يبدو لليهود أنه حماقة، الذي هو عبارة عن قطع الرذيلة والتطهير منها، والامتناع عن الممارسات الرديئة، مع أنهم غير مختونين بالجسد بالمعنى اليهودي للختان ولا يحفظون السبت. لذلك إذ علم المسيح أن زكا كان مهيا للطاعة وغيورا للإيمان ومستعدا أن يتغير من الرذيلة إلى الفضيلة، لذلك فقد دعاه أيضا، وبالطبع فإن زكا سوف يترك شجرة التين (الجميزة) ليربح المسيح. لذلك أسرع ونزل وقبـل المسيح بفرح، ليس فقط لأنه رأه كما كان يرغب، بل أيضا لأن المسيح قد دعاه، ولأنه قبله ليقيم عنده، الأمر الذي لم يكن يتوقعه أبدا.

(لو 5:19) ” يا زكا أسرع وانزل لأنه ينبغي أن أمكث اليوم في بيتك “.

 كان هذا من فعل سبق المعرفة الإلهية لأنه عرف جيدا ما كان سيحدث، فهو رأي أن نفس زكا كانت مستعدة جدا لأن تختار حياة مقدسة، ولذلك هداه إلى التقوى، لذلك فإن الرجل قبل المسيح بفرح، وكان هذا بداية تحوله إلى الصلاح، وتخليه عن أخطائه السابقة، وأن يستودع نفسه بشجاعة لطريق أفضل.
لكن ربما يقول أحد للمسيح مخلصنا جميعا: [ ماذا تفعل يارب؟ هل تمضى لتمكث مع زكا؟ وهل تتنازل وتقيم مع رئيس العشارين؟ إنه لم يغتسل بعد من وصمة حبه الجشع للربح القبيح، إنه لا يزال مريضا بالطمع أصل كل الجرائم، لا يزال مملوءا بعيب السلب والاغتصاب].

ويجيب (المسيح): نعم أنا أعرف هذا تماما، إنني أنا الله بالطبيعة، وأرى طرق كل إنسان على الأرض. وما هو أكثر من هذا، أنا أيضا أعرف الأشياء المستقبلة. أنا دعوته إلى التوبة لأنه مستعد لها، ومع أن الناس يتذمرون ويلومون لطفي، فإن الحقائق نفسها سوف تبرهن على أنهم مخطئون. يقول النص: “فوقف زكا وقال للرب ها أنا أعطى نصف أموالي للمساكين، وإن كنت قد وشيت بأحد أرد أربعة أضعاف “. ها أنتم ترون توبته، تغيره السريع نحو طريق أفضل، إسراعه نحو التقوى، محبته السخية للفقراء والذي كان قبلاً عشارا بل رئيسا للعشارين، والذي أسلم نفسه للطمع وانشغل بالربح، في الحال صار رحيما ومكرسا لأعمال المحبة. إنه يعد بأن يوزع ثروته للمحتاجين، وإنه سيعوض كل من غشهم، وهذا الذي كان عبدا للطمع جعل نفسه فقيرا وتوقف عن الاهتمام بالأرباح.

لذلك، فليت جموع اليهود لا يتذمرون عندما يخلص المسيح الخطاة، بل ليجيبوننا عن هذا: هل يوجد لديهم أطباء ينجحون في جلب الشفاء حينما يفتقدون المرضى؟ هل يمتدحونهم عندما يستطيعون أن يخلصوا المرضى من قروح بشعة أم يلومونهم ويمتدحون أولئك غير الماهرين في عملهم، بل هم كما أظن، سوف يحكمون بالأفضلية للماهرين في مساعدة كل من يعانون من الأمراض. فلماذا يلومون المسيح إذن، إذ أنه عندما كان زكا ساقطا ومدفونا في أمراض روحية، أقامه المسيح من حفر الهلاك.

ولكي يعلمهم هذا يقول لهم: ” اليوم حصل خلاص لهذا البيت إذ هو أيضا ابن لإبراهيم “، لأنه حيث يدخل المسيح، فبالضرورة يكون هناك خلاص أيضا. لذلك ليت المسيح يكون فينا نحن أيضا، وهو يكون فينا عندما نؤمن، لأنه يسكن في قلوبنا بالإيمان ونكون نحن منزلاً له. لذلك كان من الأفضل لليهود أن يبتهجوا لأن زكا خلص بطريقة مدهشة، لأنه هو أيضا حسب من أبناء إبراهيم الذين وعدهم الله بالخلاص في المسيح، بواسطة الأنبياء القديسين قائلاً: ” سوف يأتي مخلص من صهيون وينزع الآثام عن يعقوب، وهذا هو عهدي معهم، عندما أحمل خطاياهم” (بش٢٠:٥٩و٢١)، وليطلب من كانوا مفقودين، وليخلص من قد هلكوا، لأن هذا هو عمله، وهذا هو ثمر لطفه الإلهي. وهو يحسب كل الذين آمنوا به جديرين بهذا (الخلاص)، هو الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الأبدين . آمین .

عظة 128 مثل الأمناء
المسيح الملك 
(لو19: 11-27 ):

” وَإِذْ كَانُوا يَسْمَعُونَ هذَا عَادَ فَقَالَ مَثَلاً، لأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا مِنْ أُورُشَلِيمَ، وَكَانُوا يَظُنُّونَ أَنَّ مَلَكُوتَ اللهِ عَتِيدٌ أَنْ يَظْهَرَ فِي الْحَالِ. فَقَالَ:«إِنْسَانٌ شَرِيفُ الْجِنْسِ ذَهَبَ إِلَى كُورَةٍ بَعِيدَةٍ لِيَأْخُذَ لِنَفْسِهِ مُلْكًا وَيَرْجعَ. فَدَعَا عَشَرَةَ عَبِيدٍ لَهُ وَأَعْطَاهُمْ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ، وَقَالَ لَهُمْ: تَاجِرُوا حَتَّى آتِيَ. وَأَمَّا أَهْلُ مَدِينَتِهِ فَكَانُوا يُبْغِضُونَهُ، فَأَرْسَلُوا وَرَاءَهُ سَفَارَةً قَائِلِينَ: لاَ نُرِيدُ أَنَّ هذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا. وَلَمَّا رَجَعَ بَعْدَمَا أَخَذَ الْمُلْكَ، أَمَرَ أَنْ يُدْعَى إِلَيْهِ أُولئِكَ الْعَبِيدُ الَّذِينَ أَعْطَاهُمُ الْفِضَّةَ، لِيَعْرِفَ بِمَا تَاجَرَ كُلُّ وَاحِدٍ. فَجَاءَ الأَوَّلُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ رَبحَ عَشَرَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لَهُ: نِعِمَّا أَيُّهَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ! لأَنَّكَ كُنْتَ أَمِينًا فِي الْقَلِيلِ، فَلْيَكُنْ لَكَ سُلْطَانٌ عَلَى عَشْرِ مُدْنٍ. ثُمَّ جَاءَ الثَّانِي قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، مَنَاكَ عَمِلَ خَمْسَةَ أَمْنَاءٍ. فَقَالَ لِهذَا أَيْضًا: وَكُنْ أَنْتَ عَلَى خَمْسِ مُدْنٍ. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ قَائِلاً: يَا سَيِّدُ، هُوَذَا مَنَاكَ الَّذِي كَانَ عِنْدِي مَوْضُوعًا فِي مِنْدِيل، لأَنِّي كُنْتُ أَخَافُ مِنْكَ، إِذْ أَنْتَ إِنْسَانٌ صَارِمٌ، تَأْخُذُ مَا لَمْ تَضَعْ وَتَحْصُدُ مَا لَمْ تَزْرَعْ. فَقَالَ لَهُ: مِنْ فَمِكَ أَدِينُكَ أَيُّهَا الْعَبْدُ الشِّرِّيرُ. عَرَفْتَ أَنِّي إِنْسَانٌ صَارِمٌ، آخُذُ مَا لَمْ أَضَعْ، وَأَحْصُدُ مَا لَمْ أَزْرَعْ، فَلِمَاذَا لَمْ تَضَعْ فِضَّتِي عَلَى مَائِدَةِ الصَّيَارِفَةِ، فَكُنْتُ مَتَى جِئْتُ أَسْتَوْفِيهَا مَعَ رِبًا؟ 4ثُمَّ قَالَ لِلْحَاضِرِينَ: خُذُوا مِنْهُ الْمَنَا وَأَعْطُوهُ لِلَّذِي عِنْدَهُ الْعَشَرَةُ الأَمْنَاءُ. فَقَالُوا لَهُ: يَا سَيِّدُ، عِنْدَهُ عَشَرَةُ أَمْنَاءٍ! لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ يُعْطَى، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ فَالَّذِي عِنْدَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ. أَمَّا أَعْدَائِي، أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِيدُوا أَنْ أَمْلِكَ عَلَيْهِمْ، فَأْتُوا بِهِمْ إِلَى هُنَا وَاذْبَحُوهُمْ قُدَّامِي».

لنتقدم مرة أخرى، ولنفتح عين الذهن باتساع لكي ما ننال نور التعاليم المقدسة الذي يسكبه المسيح بغنى على أولئك الذين يحبونه، لأنه هو أيضا النور الحقيقي ينير الملائكة والرئاسات والعروش والسيادات، بل وأيضا السيرافيم المقدسين، ويشرق أيضا في قلوب أولئك الذين يخافونه. لذلك فلنسأل الاستنارة التي يمنحها، لكي إذ نفهم بالضبط قوة المثل الموضوع أمامنا يمكننا أن نختزن في أذهاننا ككنز روحي، المنفعة التي يقدمها لنا.

لذلك فإن مجال المثال يبين باختصار المغزى الكامل للتدبير الذي كان من نحونا، ومع ويمثل سر المسيح من البداية إلى النهاية. لأن الكلمة الذي هو الله صار إنسانا، أنه صار في شبه جسد الخطية، ولأجل هذا أيضا دعي عبدا، إلا أنه كان ولا يزال المولد”، لكونه مولود من الآب بطريقة تفوق الوصف، نعم! هو أيضا إله يفوق الكل في الطبيعة وفي المجد، ويفوق كل أمور وضعنا (البشري)، بل أيضا يفوق كل الخليقة بملئه الذي لا يقارن. لذلك وإن كان قد صار إنسانا إلا أنه حر المولد بسبب حر كونه ابن الله، ولكنه ليس مثلما دعينا نحن إلى هذه التسمية بسبب صلاحه ومحبته للبشر. ر. إن شرف جنسه (حرية مولده) تخصه بالطبيعة لأنه من الآب بالولادة، وأيضا أنه يسمو على كل ما هو مخلوق. لذلك، فعندما صار الكلمة، الذي هو صورة الآب والمساوي له، مثلنا، فإنه أطاع حتى الموت موت الصليب، لذلك رفعه الله أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم، لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن على الأرض ومن تحت الأرض، ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب. أمين (في 2: 8 -11). فهل أعطى الآب الاسم الذي فوق كل اسم للابن كمن هو ليس بالطبيعة إلها؟ لو صح هذا، ألا يكون قد أستعلن لنا إله جديد؟ ولكن الكتاب المقدس ينطق بصوت عال قائلاً: ” لا يكن فيك إله جديد ولا تسجد لإله أجنبي” (مز 80: 9 س). لكنه، إنما سيكون (إله) مختلف وغريب عن الله لو لم يكن منه بالطبيعة.

فالابن بالتأكيد هو إله بالطبيعة، ولكن كيف أعطاه الآب اسما فوق كل اسم؟! عن هذا نقول إنه عندما صار جسدا، أي صار إنسانا مثلنا، فإنه أخذ اسم عبد واتّخذ فقرنا وحالتنا الوضيعة، أما عندما أكمل سر التدبير في الجسد، فإنه عاد إلى المجد الذي كان له بالطبيعة، لا كشيء غريب عنه غير مألوف لديه، أو كشيء يصبح حقا له من الخارج، أي أعطي له من آخر، بل بالأحرى كشيء خاص به وقد كان له أصلاً، لأنه قال الله الآب الذي في السماء: ” مجدني أنت أيها الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم ” (يو5:17)، ولأنه موجود قبل الدهور وقبل العالمين وهو واحد مع الله وهو الله، فقد كان متسربلاً بالمجد الذي يخص الألوهة، وكما قلت فإنه لما صار إنسانا لم يتعرض لأي تبديل أو تغيير، بل استمر في الحالة التي كان موجودا عليها دائما مثل الحالة التي كانت للأب الذي ولده، أي مثله في كل شيء، لأنه هو أيضا “صورة أقنومه” (عب3:1) الذي بمقتضى طبيعته يملك كل شئ يخص ذاك الذي ولده، أقصد أنه من نفس الجوهر وله مساواة لا تسمح بأي اختلاف، وهو مثله في كل شئ. لذلك لكونه إلها بالطبيعة قد قيل إنه نال من الآب الاسم الذي هو فوق كل اسم (وذلك) عندما صار إنسانا لكي ما يتم الإيمان به كإله وملك على الكل حتى وهو في الجسد الذي كان متحداً به. 

لكن عندما احتمل الآلام على الصليب لأجلنا، ولاشي الموت بقيامة جسده من بين الأموات، فإنه صعد إلى الآب، وصار كإنسان مسافر إلى كورة بعيدة (عدد١٢)، لأن السماء كورة مختلفة عن الأرض، وهو صعد لكي ما ينال لنفسه ملكا. هنا أتوسل إليكم إن تتذكروا أيضا كلمات الطوباوي بولس الذي يقول: ” هادمين ظنونا وكل علو يرتفع ضد معرفة الله ومستأسرين كل فكر إلى طاعة المسيح” (2کو 5:10)، لأنه كيف يمكن أن الذي يملك على الكل مع الآب، يصعد إليه لينال ملكا؟ فأجيب إن الآب يعطى الابن أيضا هذا الملك من جهة كونه صار إنسانا، لأنه عندما صعد إلى السموات جلس عن يمين العظمة في الأعالي، منتظرا أن يوضع أعدائه تحت قدميه، لأنه قيل له من الآب: “اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطنا لقدميك” (مز 109: 1 س).

والنص هنا يقول: ” وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه”. وبالمثل يوبخ المسيح جموع اليهود قائلاً: ” لو لم أكن قد عملت بينهم أعمالا لم يعملها غيري لم تكن لهم خطية، وأما الآن فقد رأوا وأبغضوني أنا وأبي” (يو 15: 24). إنهم لم يريدوا أن يملك المسيح عليهم، بينما كان الأنبياء القديسين دائما ينطقون بنبوات عن المسيح على أنه ملك. لأن واحدا منهم يقول ” ابتهجي جدا يا ابنة صهيون، لأنه هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومخلص ووديع وراكب حمار وعلى جحش صغير” (زك 9: 9 س). والطوباوي إشعياء يقول عنه وعن الرسل القديسين: ” هوذا ملك عادل سوف يملك، ورؤساء بالحق يترأسون” (إش١:٣٢س)، والمسيح نفسه أيضا يقول بصوت المرنم في موضع ما: ” أما أنا فقد أقمت منه ملكا على صهيون جبل قدسه لأكرز بأمر الرب ” (مز 2: 6).

أما هم فأنكروا عليه ملكه، لأنهم عندما تقدموا إلى بيلاطس قائلين ” خذه خذه اصلبه، سألهم أو قال لهم بالأحرى باستهزاء: أأصلب ملككم؟ ” فأجابوا بكلمات شريرة: ” ليس لنا ملك إلا قيصر ” (يو 15:19). لذلك فإذ أنكروا ملك المسيح، فإنهم سقطوا تحت سيادة إبليس وجلبوا على أنفسهم نير الخطية الذي لا يمكن طرحه، كما أن رقابهم لن تتحرر، مع أن المسيح دعاهم (إلى الحرية) بقوله: ” كل من يعمل الخطية هو عبد للخطية، والعبد لا يبقى في البيت إلى الأبد، أما الابن فيبقي إلى الأبد، فإن حرركم الابن فبالحقيقة تكونون أحرارا” (يو 8: 34 -39). وأيضا قوله: ” إن ثبتم في كلامي فبالحقيقية تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم ” (يو 8: 31- 32). لكن إسرائيل في جنونه لم يفتح قلبه للتعلم، ولذلك استمر في العبودية، لأنه رفض أن يعرف المسيح، الذي يحرر.

وفي هذه الفرصة لن استمر أكثر من هذا، مرجئا إلى وقت آخر التأمل في بقية المثل لئلا يتسبب الحديث الطويل في إرهاق المتكلم ويكون مملاً لمن يسمعون. وليت المانح والمعطي لكل الخيرات يبارككم جميعا الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

‏عظة 129 مثل الأمناء (تابع)
ب- شرح المثل (لو19: 11-27)

يهرب المديونون من مداينيهم لأنهم يعرفون أنهم مزعجون. لكن ليس الأمر هكذا بالنسبة لي، لأنني جئت لأفي بديني وأحقق ما وعدت به، بل وإني أتعقب المدينين بدلاً من أن يتعقبوني هم. فما هو إذن الشيء الذي وعدت به وما هو الدين؟ في اجتماعنا الأخير قُرئ علينا مثل طويل، ولم نكمل شرح سوى جزء صغير منه واحتفظنا بالباقي لاستكماله في اجتماعنا المقدس هذا.

وكان المثل كما يلي: ” إنسان شريف الجنس ذهب إلى كورة بعيدة ليأخذ لنفسه ملكا ويرجع، فدعا عشرة عبيد له وأعطاهم عشرة أمناء وقال لهم تاجروا حتى آتي. وأما أهل مدينته فكانوا يبغضونه فارسلوا وراءه سفارة قاتلين لا نريد أن هذا يملك علينا”، ثم أضاف على هذا الكلام أيضا إنه لما عاد الإنسان الشريف الجنس بعدما أخذ الملك، طلب من أولئك العبيد الذين وزع عليهم الأمناء أن يقدموا حسابا عن تجارتهم.

في شرحنا السابق أوقفنا كلمتنا التي كانت بأقصى سرعة عند عبارة أن أهل مدينته أبغضوه ولم يريدوا أن يملك عليهم. والآن سأحدثكم عن أولئك العبيد الذين ائتمنهم سيدهم على الأمناء، واستقصي عن من هم الذين تاجروا ولذلك تم تكريمهم، ومن الجهة الأخرى من هو المشار إليه بأنه عبد كسول وبليد الذي أخفى الوزنة ولم يربح عليها شيئًا، ولهذا السبب جلب على نفسه دينونة صارمة.

لذلك فإن المخلّص يوزع على من يؤمنون به أنواعا من المواهب الإلهية، ونحن نؤكد أن هذا هو المعنى المقصود من الوزنة. وفى الواقع أن هناك فرقاً عظيما بين أولئك الذين أخذوا الوزنات وأولئك الذين أنكروا ملكه تماما، لأن الذين طرحوا نير ملكه فهؤلاء هم متمردون، بينما الآخرون قد اكتسوا بمجد خدمته. لذلك فكعبيد أمناء فقد استأمنهم سيدهم على ثروته حتى إذا ما ربحوا شيئا بالمتاجرة بها، يمكنهم أن ينالوا المدح اللائق بالخدمة الأمينة، وأيضا أن يحسبوا جديرين بتلك الكرامات التي تدوم إلى الأبد. أما بخصوص طريقة التوزيع ومن هم الأشخاص، وماذا تعني الوزنات التي وزعها (الله) ـ وإن كان لا يزال يوزعها إلى هذا اليوم، فهذه يبينها الكتاب المقدس بوضوح. فإن بولس الطوباوي يقول: ” أنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد، وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد، وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في كل إنسان ” (1كو ٤:١٢-6). وإذ يشرح بعد ذلك ما قاله، فإنه يقرر أيضا أنواع المواهب على النحو التالي: ” فإنه لواحد يعطى كلام حكمة، ولآخر كلام علم، ولآخر ايمان، ولآخر مواهب شفاء ” وهكذا (1كو 12: 8 و9)، ولذلك فإننا نجد أن تنوع المواهب واضح في هذه الكلمات.

أظن أنه بعد هذا يجب على أن أذكر من هم الذين ائتمنهم المسيح على هذه المواهب، بحسب قياس استعداد كل واحد وميله. لأنه يعرف كل ما هو في داخلنا، إذ أنه هو الله ذاته الذي يفحص الكلي والقلوب. لكن لنلاحظ أن إنجيليا آخر هو على وعي باختلاف في كمية الوزنات التي تم توزيعها فيقول: “أعطى واحد خمس وزنات وآخر وزنتين وآخر وزنة” (مت 25: 15). أنت ترى أن التوزيع قد صار بحيث يناسب قياس الملكات التي لكل واحد. فبالنسبة لأولئك الذين ائتمنوا على الوزنات فهلموا ولنعلن على قدر طاقتنا من يكون هؤلاء. إنهم أولئك الكاملون في الذهن الذين يناسبهم الطعام القوي، والذين لهم الحواس مدربة على التمييز بين الخير والشر (عب 5: 14)، هم أولئك الماهرون في التعليم باستقامة وعلى معرفة بالتعاليم المقدسة، الذين يعرفون كيف يوجهون أنفسهم والآخرين إلى كل عمل أفضل، وباختصار فهكذا كان التلاميذ الحكماء فوق كل الآخرين. ثم يأتي بعد ذلك هؤلاء الذين خلفوهم في خدمتهم، أو الذين يقومون بهذه الخدمة اليوم أي المعلمون القديسون القائمون على رئاسة الكنائس المقدسة، الذين يسوسون الشعوب ويعرفون كيف يرتبون كل شيء لمنفعة أولئك الخاضعين لهم. ويمنح المخلص مواهب إلهية متنوعة لهؤلاء حتى يكونوا أنوارا في العالم ومتمسكين بكلمة الحياة (في 2: 15 و16)، وهم بوعظهم للشعب الذي تحت رعايتهم وبإعطائهم المشورة التي هي نافعة للحياة، وإذ يجعلونهم ثابتين ولهم إيمان مستقيم وبلا لوم، فإنهم إنما يربحون بالمتاجرة وزنتهم ويسعون إلى النمو الروحي. إنهم مطوبون جدا ويربحون النصيب الذي يليق بالقديسين، لأنه عندما يعود الإنسان الشريف الجنس – أي المسيح – بعد أخذه الملك، فسوف يحسبون جديرين بالمدح، ويبتهجون بإكرامات فائقة، لأنهم إذ يضاعفون الوزنة عشر مرات أو خمس مرات، وذلك بربحهم أناسا كثيرين، فإنهم سوف يقامون على عشر أو خمس مدن، أي أنهم سوف يصيرون رؤساء أيضا ليس فقط على من ترأسوا عليهم سابقا بل أيضا على آخرين كثيرين. لأجل هذا السبب نجد القديسين يمجدون ويقدمون تسابيح عرفانهم الصاعد إلى المسيح الذي يكللهم ويقولون بفم المرئم: ” أخضع الشعوب لنا والأمم تحت أقدامنا ” (مز 3:46س). أما أن تكون الممارسة والقصد المجتهد للقديسين أن يجعلوا أولئك الذين يعلموهم شركاء للنعمة التي أعطاها المسيح لهم، فهذا يمكن لأي شخص أن يتعلمه من الرسالة التي أرسلها الطوباوي بولس للبعض ويقول: ” لأني مشتاق أن أراكم لكي أمنحكم هبة روحية لثباتكم ” (رو 1: 11). كما يشهد أيضا لتلميذه تيموثاوس: ” لا تهمل الموهبة التي فيك المعطاة لك بوضع يدي” (1تی14:4). لأنه يريده أن يسمو في تعليمه لرعيته، والمخلص نفسه يقول أيضا في موضع ما في مثل آخر: ” من هو العبد الأمين الحكيم الذي يقيمه سيده على خدمه ليعطيهم الطعام في حينه؟ طوبي لذلك العبد الذي إذا جاء سيده يجده يفعل هكذا، بالحق أقول لكم إنه يقيمه على جميع ما له ” (لو 12: 42 -44). وما معنى إنه يعطي العبيد رفاقه الطعام سوى أنه يوزع على الذي أوكل إليه رعايته منفعة الإرشاد الروحي، ويشبع بالزاد الروحي أولئك الجياع إلى البر؟

لذلك توجد كرامات وانتصارات وأكاليل لمن تعبوا وأحبوا الخدمة، لكن يوجد خزي لأولئك الذين تسلط عليهم الكسل. لأن الذي أخفى مناه في منديل صار عرضة لدينونة مرعبة، لأنه تقدم إلى سيده قائلاً ” هوذا ما لك”. لكن السيد قال له: إن القصد الذي أخذت لأجله المنا ليس لكي تحفظه في خفية، وإن كنت قد عرفت أني إنسان صارم أحصد ما لم أزرع وأجمع ما لم أضع، فهذا الأمر نفسه يجعل ذنبك أثقل، وهو لا يعطى عذرا مقبولا لتكاسلك، وإن كنت إنسانا صارما أحصد ما لم أزرع، فلماذا لم تعطى الهبة التي أغدقت عليك ـ أي المنا للصيارفة؛ أي لماذا لم تستثمرها لسعادة أو لمنفعة أولئك الذين يعرفون جيدا كيف يتاجرون بما قد أخذوه منك؟ فكنت متى جئت أستوفيه، أي أن أستعيده مرة أخرى مع ربح، لأنه من واجب المعلمين أن يزرعوا ويغرسوا المشورة النافعة والخلاصية في أذهان سامعيهم، أما أن يدعوا للطاعة أولئك الذين يعلمونهم، وأن يجعلوا ذهنهم مثمرا جدا فهذا إنما هو من فعل تلك القوة التي يمنحها الله. هذا هو الربح، لأن أولئك الذين يسمعون الكلمات المقدسة، وقتما يقبلون في ذهنهم منفعتها أي قوة الكلام، ويجتهدون بفرح في العمل الصالح، حينئذ فهم يقدمون ما أعطى لهم مع زيادة. –

لذلك يقول السيد خذوا منه المنا وأعطوه للذي عنده العشرة أمناء، لأني أقول لكم إن كل من له يعطى، ومن ليس له فحتى الذي يظنه له يؤخذ منه، لأن ذلك العبد الكسول تجرد حتى من الهبة التي أغدقت عليه، أما أولئك الذين تقدموا في الطريق الأفضل وبرهنوا على أنهم مرتفعون فوق التكاسل والتراخي، فسوف ينالون بركات جديدة من فوق، وإذ قد امتلأوا بالمواهب الإلهية فسوف يرتفعون إلى نصيب مجيد ومثير للإعجاب.

أما وقد رأينا أمجاد القديسين فهلموا لنفحص عذابات الأشرار الذين لا يريدون أن يملك عليهم ذلك الإنسان الشريف الجنس. يقول: ” أما أعدائي أولئك الذين لم يريدوا أن أملك عليهم فأتوا بهم إلى هنا واذبحوهم قدامي”. كان هذا مصير الجنس الإسرائيلي لأنهم إذ أنكروا ملك المسيح، فإنهم سقطوا في بلایا شديدة، ولأنهم أشرار، فقد هلكوا هلاكا رديا. كذلك زمرة الهراطقة الأشرار أيضا ينكرون ملك المسيح، كما يفعل جميع أولئك الذين – إذ يهملون واجب الحياة باستقامة – يمضون حياتهم في النجاسة والخطية، وهؤلاء أيضا يكابدون عقوبة مثل التي لأولئك المذكورين أعلاه، وسوف يمضون إلى الهلاك. 

أما نحن، فالمسيح يسود علينا كملك، ولنا رجاء صالح أننا أيضا سوف نحسب مستحقين لنصيب القديسين. ويوضع حول رؤوسنا الإكليل اللائق بالثابتين، لأن هذا أيضا هو هبة من المسيح مخلصنا جميعا الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين آمين.

عظة 130 يسوع يدخل أورشليم (لو19: 28-40):

” وَلَمَّا قَالَ هذَا تَقَدَّمَ صَاعِدًا إِلَى أُورُشَلِيمَ. وَإِذْ قَرُبَ مِنْ بَيْتِ فَاجِي وَبَيْتِ عَنْيَا، عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُدْعَى جَبَلَ الزَّيْتُونِ، أَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ قَائِلاً:«اِذْهَبَا إِلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أَمَامَكُمَا، وَحِينَ تَدْخُلاَنِهَا تَجِدَانِ جَحْشًا مَرْبُوطًا لَمْ يَجْلِسْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ قَطُّ. فَحُّلاَهُ وَأْتِيَا بِهِ. وَإِنْ سَأَلَكُمَا أَحَدٌ: لِمَاذَا تَحُّلاَنِهِ؟ فَقُولاَ لَهُ هكَذَا: إِنَّ الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». فَمَضَى الْمُرْسَلاَنِ وَوَجَدَا كَمَا قَالَ لَهُمَا. وَفِيمَا هُمَا يَحُّلاَنِ الْجَحْشَ قَالَ لَهُمَا أَصْحَابُهُ:«لِمَاذَا تَحُّلاَنِ الْجَحْشَ؟» فَقَالاَ:«الرَّبُّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ». وَأَتَيَا بِهِ إِلَى يَسُوعَ، وَطَرَحَا ثِيَابَهُمَا عَلَى الْجَحْشِ، وَأَرْكَبَا يَسُوعَ. وَفِيمَا هُوَ سَائِرٌ فَرَشُوا ثِيَابَهُمْ فِي الطَّرِيقِ. وَلَمَّا قَرُبَ عِنْدَ مُنْحَدَرِ جَبَلِ الزَّيْتُونِ، ابْتَدَأَ كُلُّ جُمْهُورِ التَّلاَمِيذِ يَفْرَحُونَ وَيُسَبِّحُونَ اللهَ بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقُوَّاتِ الَّتِي نَظَرُوا، قَائِلِينَ:«مُبَارَكٌ الْمَلِكُ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي!». وَأَمَّا بَعْضُ الْفَرِّيسِيِّينَ مِنَ الْجَمْعِ فَقَالُوا لَهُ:«يَا مُعَلِّمُ، انْتَهِرْ تَلاَمِيذَكَ!». فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ:«أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ إِنْ سَكَتَ هؤُلاَءِ فَالْحِجَارَةُ تَصْرُخُ!».

يسبح التلاميذ المسيح مخلص الكل ويدعونه باسم الملك، والرب، وأنه سلام السماء والأرض. ولنسبحه نحن أيضا أخذين قيثارة المرنم ونقول: ” ما أعظم أعمالك يا رب، بحكمة صنعتها” (مز 103: 24 س)، لأنه لا يوجد شيء من كل الأعمال التي صنعها إلا (وصنعها) بحكمة، فهو يوجه كل ما هو نافع، بالأسلوب المناسب له، ويحدد لأفعاله الأوقات التي تناسبها، وطالما كان من المناسب أن يجتاز بلاد اليهود ساعيا أن يكتسب كثيرين إلى النعمة التي بالإيمان عن طريق الدروس والنصائح للفائقة على الناموس، فإنه لم يتوقف عن فعل هذا. أما وقد دعاه الوقت أخيرا إلى تلك الآلام التي هي لخلاص العالم كله، ليحرر سكان الأرض من طغيان العدو، ويبطل الموت، ويبيد خطية العالم، فإنه يصعد إلى أورشليم وهو يكشف للإسرائيليين أولاً حقيقة واضحة، ألا وهي أن شعبا جديدا من بين الوثنيين سوف يخضع له، بينما هم أنفسهم يصيرون مرفوضين كقتلة للرب.

وماذا كانت العلامة إذن؟ إنه جلس على جحش كما سمعنا بوضوح منذ قليل من الإنجيلي المبارك. لكن ربما يقول قائل: “عندما كان يجتاز في اليهودية كلها” ـ لأنه كان يعلم في مجامعهم، كما كان يصنع المعجزات أيضا ـ فإنه لم يطلب دابة ليركبها. وبينما كان يمكنه أن يشتري واحدة، فإنه لم يفعل مع أنه كان كثيرا ما يتعب في الطريق من رحلاته الطويلة، كما هو مكتوب فإنه تعب من السفر عند اجتيازه السامرة (يو6:4). من يمكنه (إذن) أن يجعلنا نصدق أنه عندما كان ذاهبا من جبل الزيتون إلى أورشليم ـ وهما مكانان يفصلهما مسافة قصيرة جدا ـ سوف يحتاج إلى جحش؟ ولماذا عندما كان الجحش مصحوبا بأمه لم يأخذ المسيح الأم بدلاً من الجحش؟ فنحن نعلم من كلمات متى البشير أنهم قد أحضروا إليه الأتان التي ولدت الجحش، كما يقول ” إنه أرسل تلميذيه إلى القرية التي أمامهما قائلاً لهما ستجدان أتانا مربوطة وجحشا معها، فحلاهما وأتياني بهما ” ولذلك (يقول النص) إنهما أتيا بالأتان والجحش (مت 21: 1 و2و7) لذلك علينا أن ننظر ما هو التفسير وما المنفعة التي نستخلصها من هذا الحدث، وكيف نجعل من ركوب المسيح على جحش مثالاً لدعوة الأمم.

خلق إله الكل الإنسان على الأرض بذهن يتميز بالحكمة والقدرة على الفهم، لكن الشيطان خدعه رغم أنه مخلوق على صورة الله، وأضله حتى لا يعرف خالق الكل وصانعهم، فأذل سكان الأرض إلى أدني مستوى من عدم التعقل والجهل. وإذ يعرف النبي الطوباوي داود هذا، ويبدي بمرارة لأجله، فإنه يقول: ” إنسان في كرامة ولا يفهمها، هو مثل البهائم التي .. تفهم وقد صار شبيها بها” (مز 48: 12 س). لذلك فمن المحتمل أن الأتان الأكبر تشير إلى مجمع اليهود والذي ـ لو جاز القول ـ صار بهيميا لأنه لم يعط سوى اهتماما قليلاً لناموس موسى واحتقر الأنبياء القديسين، وأضاف إلى هذا أيضا عصيانه للمسيح، الذي كان يدعوه إلى الإيمان وإلى انفتاح عينيه. لأنه قال: “أنا هو نور العالم، من يؤمن بي فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو 8: 12). لكن الظلمة التي يتحدث عنها هي بلا شك ظلمة الذهن أي الجهل والعمى ومرض عدم التعقل الشديد.

أما الجحش الذي (لم يكن قد جلس عليه أحد)، فهو يمثل الشعب الجديد المدعو من بين الوثنيين، لأنه كان أيضا بالطبيعة عديم الفهم، تائها في الضلال، لكن المسيح صار حكمة له، لأن “فيه مذخر جميع كنوز الحكمة وأسرار المعرفة ” (كو 2: 3).

إذن فقد أحضر الجحش، إذ أرسل المسيح اثنين من تلاميذه لأجل هذا الغرض. وماذا يعني هذا؟ إنه يعني أن المسيح يدعو الوثنيين بأن يجعل نور الحق يشرق عليهم، ويخدمه لأجل هذا الغرض مجموعتان من خدامه، أعني الأنبياء والرسل، لأنه تم ربح الأمم إلى الإيمان بواسطة تعاليم كرازة الرسل الذين كانوا يضيفون دائما إلى كلامهم شهادات مستمدة من الناموس والأنبياء. فإن واحدا منهم قال لهؤلاء الذين دعوا بالإيمان للاعتراف بمجد المسيح: ” وعندنا الكلمة النبوية وهي ي أثبت التي تفعلون حسنا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم ” (2بط 1: 19). لأنه قبل مجيء المخلص كانت نبوات الناموس والأنبياء المختصة بالمسيح، بمثابة سراج منير في موضع مظلم. لأن ذهن اليهود كان بليدا دائما، مملوءا بظلمة كثيفة، لأنهم لم يفهموا ولو قليلاً ما قيل عن المسيح. لكن عندما طلع النهار وأشرق نور الحق، لم تعد الكلمة النبوية سراج صغير بل صارت بالحري مثل أشعة كوكب الصبح اللامعة.

لقد أتوا بالجحش من القرية، لكي يشير به أيضا إلى حالة الهمجية التي كان عليها ذهن الوثنيين، الذين إن جاز القول يتعلموا في المدينة ولا تعلموا العادات الشرعية، بل على العكس عاشوا بخشونة وفظاظة، لأن الذين يقيمون في القرى عادة ما يعيشون بهذه الطريقة، لكنهم لم يستمروا في هذه الذهنية الهمجية، بل على العكس تغيروا إلى ملء السلام والحكمة، لأنهم صاروا خاضعين للمسيح الذي علمهم هذه الأشياء.

وهكذا فإن الأتان قد رفضت، لأن السيد المسيح لم يركب عليها مع أنها قد تروضت من قبل، وتدربت أن تخضع لراكبيها، ولكنه ركب الجحش مع أنه غير مدرب ولم يختبر من جهة حمله لأي راكب، ولا في خضوعه للجام، لأنه كما قلت رفض (المسيح) مجمع اليهود مع أن الناموس كان عندهم، كما أن الطاعة لم تكن شيئا غريبا عنه، لكن السيد رفضه كشيء قد شاخ وفسد، ولكونه ضل بعيدا في عصيان متعمد لإله الكل، واستحسن الجحش الذي يرمز إلى الشعب الذي من بين الوثنيين.

وهذا هو معنى المديح المقدم بصوت المرتم إلى المسيح مخلص الكل، حيث يقول عن أولئك الذين كانوا في ضلال: ” بلجام وزمام تكبح فكهم، أولئك الذين لا يقتربون إليك” (مز 31: 9 س). ومن السهل أن نري من الكتاب المقدس أن جمع الوثنيين كان مدعوا أيضا إلى التوبة والطاعة بواسطة الأنبياء القديسين، لأن الله تكلم هكذا في موضع ما: “اجتمعوا وتعالوا تشاوروا معا أيها الناجون من الأمم” (إش 45: 20 س).

لذلك جلس المسيح على الجحش، ولما جاء إلى منحدر جبل الزيتون بالقرب من أورشليم مضي التلاميذ أمامه يسبحونه، لأنهم كانوا مدعوين لأن يشهدوا لأعماله العجيبة التي صنعها، وأيضا يشهدوا لمجده وسلطانه الإلهيين، وبنفس الطريقة التي صنعها يجب علينا أيضا أن نسبحه معتبرين كم هو عظيم ذاك الذي تمجده.

ولكن أحد الإنجيليين القديسين الآخرين ذكر أن الأطفال أيضا كانوا يرفعون إلى فوق أغصانا من النخيل وكانوا يجرون أمامه، وكانوا مع بقية التلاميذ يهتفون بمجده (انظر مت 21: 8 ، مر 11: 8 ، یو 12: 13)، لكي بواسطتهم أيضا نري الشعب الجديد الذي جمع من بين الوثنيين ممثلاً كما في رسم. لأنه مكتوب ” إن شعبا سوف يخلق سوف يسبح الرب” (مز 101: 18 س).

وقد تذمر الفريسيون، لأن المسيح كان يُسبح (من الجموع)، فاقتربوا منه وقالوا: ” انتهر تلاميذك”. لكن أيها الفريسي أي خطأ عملوه؟ أي تهمة توجهها للتلاميذ؟ كيف تريدهم أن يوبخوا؟ لأنهم لم يخطئوا بأي طريقة بل بالأحرى فعلوا ما هو جدير بالمديح، لأنهم إنما قد مجدوا من قد أشار إليه الناموس من قبل برموز وصور كثيرة – كملك ورب ـ وقد كرز به جماعة الأنبياء القديسين منذ القديم، لكن أنتم احتقرتموه وأحزنتموه بحسدكم الذي لا حدود له. كان من واجبكم بالأولى أن تنضموا إلى الباقين في تمجيدهم له، كان من واجبكم أن تتراجعوا عن خبثكم الفطري وتغيروا سلوككم نحو الأفضل، وكان من واجبكم أن تتبعوا الأسفار المقدسة وأن تعطشوا إلى معرفة الحق، لكن هذا لم تفعلوه، بل حولتم كلامكم إلى العكس تماما إذ أردتم توبيخ المنادين بالحق. فبماذا أجاب المسيح على هذه الأشياء؟ (أجاب) ” أقول لكم: إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ “.

لأنه من المستحيل ألا يمجد الله حتى لو رفض أبناء جنس إسرائيل أن يفعلوا هذا، لأن الوثنيين كانوا سابقا مثل حجارة أي قساة، لكنهم نالوا الخلاص من ضلالهم السابق، ونجوا من يد العدو وأفلتوا من الظلمة الشيطانية، وقد دعوا إلى نور الحق، واستفاقوا كما من سكر، وعرفوا الخالق، وسبحوه ليس سرا ولا في خفية، وليس بطريقة مستورة أي في صمت، بل بمجاهرة الكلام وبصوت عال، وباجتهاد داعين بعضهم البعض وقائلين: ” هلموا نسبح الرب ونرتل مزامير الله مخلصنا”، لأنهم قد اعترفوا كما قلت بالمسيح مخلص الكل، الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مع الروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

عظة 131 أورشليم لا تعرف زمن افتقادها (لو 41:19-44):

وَفِيمَا هُوَ يَقْتَرِبُ نَظَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ وَبَكَى عَلَيْهَا قَائِلاً:«إِنَّكِ لَوْ عَلِمْتِ أَنْتِ أَيْضًا، حَتَّى فِي يَوْمِكِ هذَا، مَا هُوَ لِسَلاَمِكِ! وَلكِنِ الآنَ قَدْ أُخْفِيَ عَنْ عَيْنَيْكِ. فَإِنَّهُ سَتَأْتِي أَيَّامٌ وَيُحِيطُ بِكِ أَعْدَاؤُكِ بِمِتْرَسَةٍ، وَيُحْدِقُونَ بِكِ وَيُحَاصِرُونَكِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ، وَيَهْدِمُونَكِ وَبَنِيكِ فِيكِ، وَلاَ يَتْرُكُونَ فِيكِ حَجَرًا عَلَى حَجَرٍ، لأَنَّكِ لَمْ تَعْرِفِي زَمَانَ افْتِقَادِكِ».

أدان إرميا النبي الطوباوي بصوت عال جهل اليهود وكبريائهم بأن واحد موبخا إياهم بهذه الكلمات: “كيف تقولون نحن حكماء وكلمة الرب معنا؟ باطل هو قلم الكتبة الكاذب، خزي الحكماء ارتاعوا وأخذوا، أية حكمة وها قد رفضوا كلمة الرب” (إر 8: 8 و9 س)، لأنهم ليسوا حكماء ولا على دراية بالأسفار المقدسة. ومع أن الكتبة والفريسيين ينسبون لأنفسهم زورا سمعة أنهم متعلمون في الناموس، فإنهم رفضوا كلمة الله، لأنه عندما صار الابن الوحيد إنسانا، فإنهم لم يقبلوه، ولا أحنوا رقابهم طواعية لدعوته التي وجهها إليهم بالإنجيل. ولأنهم قد رفضوا كلمة الله بسلوكهم الشرير، فهم أنفسهم قد رفضوا، وتمت إدانتهم بالقرار الإلهي العادل، لأنه يقول بفم إرميا: ” فضة مرفوضة يدعون لأن الرب رفضهم” (إر 30:6)، وقال أيضا: ” جزي شعرك واطرحيه بعيدا وخذي مرثاة على شفاك، لأن الرب قد رفض ورذل الجيل الذي فعل تلك الأشياء” (إر٢٩:٧س). وقد أعلن لنا إله الجميع ما هي تلك الأشياء بقوله: ” اسمعي أيتها الأرض، هأنذا جالب شرورا على هذا الشعب ثمر انحرافهم، لأنهم لم يصغوا لكلمتي ورفضوا شريعتي” (إر 19:6س)، لأنهم لم يحفظوا الوصية التي أعطاها لهم موسى بل ” يعلمون تعاليم هي وصايا الناس” (مت 15: 9 )، وبالإضافة إلى هذا فقد رفضوا أيضا كلمة الله الآب برفضهم أن يؤمنوا بالمسيح، حينما دعاهم إلى ذلك. لذلك فإن ثمار انحرافهم كانت واضحة في الكوارث التي بهم، لأنهم عانوا من كل شقاء كجزاء على قتلهم الرب.

أما (بخصوص) سقوطهم في هذه البلية ، فهذا لم يكن أمرا يتوافق مع مشيئة الله الصالحة، لأنه كان يريد لهم بالأحرى أن يبلغوا السعادة عن طريق الإيمان والطاعة. أما هم فكانوا غير مطيعين ومتغطرسين، وبالرغم من هذا – ومع أن هذه كانت حالة ذهنهم ـ فإن المسيح أشفق عليهم، لأنه يريد أن جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون (1تي 2: 4) ، إذ يقول (النص) أيضا إنه “نظر إلى المدينة وبكي”، لكيما نعرف بهذا أنه يحزن، إن جاز لنا أن نتكلم هكذا عن الله، الذي يعلو على الكل. ولكننا ما كنا نستطيع أن نعرف أنه أشفق رغم شرهم، لو لم يكن قد أظهر بفعل بشري ذلك الحزن الذي لا يمكننا أن نراه، لأن الدمعة التي تسقط من العين هي تعبير عن الحزن أو بالأحرى هي إظهار واضح له. وهكذا بكى أيضا على لعازر حتى يمكننا مرة أخرى أن نفهم أنه حزن على طبيعة الإنسان التي سقطت تحت سطوة الموت، لأنه ” خلق كل الأشياء لعدم الفساد (الخلود)، ولكن بحسد ابليس دخل الموت إلى العالم” ” (حكمة 2: 23)، ليس لأن حسد إبليس أقوى من إرادة الخالق، بل بسبب أنه كان من الضروري أن تعدي الوصية الإلهية ينتج عنه عقاب يجعل كل من يحتقر ناموس الحياة ينحدر إلى الفساد.

لذلك نحن نقول إنه بكى على أورشليم لسبب مشابه، لأنه أراد أن يراها في سعادة
بقبولها الإيمان به ونوال السلام مع الله فإنه إلى هذا (السلام) دعاهم إشعياء النبي
أيضا قائلاً: لنصنع سلامًا معه، لنصنع نحن القادمون سلاما معه (إش 27: 5 س). أما
عن أنه بالإيمان نصنع سلامًا الله، فهذا ما يُعلمنا إياه الحكيم بولس حيث يكتب:
إذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله يربنا يسوع المسيح (رو 5: 1). أما هم، فكما
قلت أسرعوا بعنف جامح إلى الغطرسة والازدراء وأصروا على احتقار خلاص
المسيح؛ لذلك فالمسيح يلومهم على نفس هذا الأمر قائلاً: “لو علمت أنت أيضا ما هو  لسلامك”، أي (لم تعرفي) تلك الأشياء المفيدة والضرورية لك لتصنعي سلاماً مع الله، وهذه الأشياء هي الإيمان، الطاعة، التخلي عن الظلال، التوقف عن العبادة الناموسية؛ وبدلاً عن ذلك تفضيل العبادة التي بالروح والحق، تلك العبادة التي بالمسيح تكون رائحتها طيبة وجديرة بالإعجاب وثمينة أمام الله لأنه يقول: ” الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا” (يو 4: 24 ).

ويقول الرب: ” ولكن قد أخفى عن عينيك”. لأنهم لم يكونوا مستحقين أن يعرفوا أو بالأحرى أن يفهموا الكتب الموحى بها من الله، والتي تتكلم عن سر المسيح، لأن بولس يقول: ” فإذ لنا رجاء مثل هذا نستعمل مجاهرة كثيرة، وليس كما كان موسى يضع برقعا على وجهه لكي لا ينظر بني إسرائيل إلى مجد وجهه الزائل، بل أغلظت أذهانهم، لأنه حتى اليوم ذلك البرقع نفسه عند قراءة العهد العتيق باق غير منكشف، لكن حينما يقرأ موسى فالبرقع موضوع على قلوبهم، لأنه يبطل في المسيح” (2کو 3: 12 – 15) لكن بأي طريقة يبطل البرقع في المسيح؟ لأنه حيث إن المسيح هو الحقيقة، فإنه يجعل الظل يبطل، ولكن بخصوص أن سر المسيح يشار إليه بواسطة ظل الناموس، فإن المسيح يؤكد لنا ذلك بقوله لليهود: “لو كنتم تصدقون موسى لكنتم تصدقونني أيضا لأنه هو كتب عني” (يو 5: 46) ولأنهم لم يفحصوا ظلال الناموس بعناية، لذلك فإنهم لم يروا الحقيقة. كما يخبرنا بولس المتعلم حقيقة في الناموس أن ” القساوة قد حصلت جزئيا لإسرائيل” (رو 11: 25)، أما القساوة فهي السبب المؤكد للجهل والظلمة؛ فالمسيح قال مرة: “ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان” (مت 15: 11)، وفي ذلك الوقت، فإن الفريسيين لاموه على كلامه هكذا بخصوص كسر الناموس وطرح الوصية التي أعطاهم لها موسى”. ” وبعد ذلك تقدم التلاميذ وقالوا له أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟ فأجاب وقال لهم: كل غرس لم يغرسه أبي السماوي يقلع، اتركوهم هم عميان قادة عميان” (مت 15: 12 -14). لذلك فالغرس الذي لم يغرسه الآب يقلع لأنه (الآب) يدعو الذين سيحسبون أهلاً لخلاصه إلى الاعتراف بالابن.

أما حالة أولئك المؤمنون به فهي مختلفة تماما، وكيف يمكن أن تكون بخلاف ذلك؟ لأنهم كما يقول المرنم بخصوصهم: ” مغروسين في بيت الرب، ويزهرون في ديار إلهنا” (مز 91: 13 س). لأنهم أبناء الله وصنعته، كما تعلن الأسفار المقدسة، لأنه قيل بفم داود: “بنوك مثل غروس الزيتون الجدد حول مائدتك ” (مز 127: 3 س).

أما الإسرائيليون وحتى قبل التجسد، فقد برهنوا أنهم غير جديرين بخلاص المسيح إذ رفضوا الشركة مع الله وأقاموا لأنفسهم آلهة كاذبة وذبحوا الأنبياء، مع أن الأنبياء حذروهم من أن يحيدوا عن الإله الحي، بل أن يتمسكوا بوصاياه المقدسة، أما هم فلم يقبلوا أن يفعلوا هكذا، بل أحزنوه بطرق كثيرة، وحتى حينما دعاهم إلى الخلاص (بعد ذلك).

هذا يعلمه لنا “خاص نفسه بقوله: ” يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليه كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم نره:وا” (مت 23: 37)، وها أنت ترى أنه أراد مرات كثيرة أن يسبغ عليهم رحمته، ولكنهم رفضوها، ولذلك فقد أدينوا بحكم إلهي مقدس، واستبعدوا عن أن يكونوا أعضاء في بيته الروحي، لأنه قال لشعب اليهود بواسطة أحد الأنبياء القديسين: ” أنا أشبه أمك (أورشليم) بالليل، شعبي هو مثل من ليس له معرفة، لأنك أنت رفضت المعرفة أرفضك أنا حتى لا تكهن لي، ولأنك نسيت شريعة إلهك أنسي أنا أيضا بنيك” (هو5:4و6 س). لاحظوا أنه يقارن أورشليم بالليل، لأن ظلمة الجهل قد غطت قلب اليهود وأعمت عيونهم؛ ولهذا السبب سلموا إلى الهلاك والذبح، لأن إله الكل تكلم بفم حزقيال وقال: ” حي أنا يقول الرب، من أجل أنك قد نجست مقادسي بنجاستك، سأرفضك أنا أيضا، ولن تشفق عيني وأنا لا أعفو” (حز 5: 11س). وأيضا ” الذين هم في الحقل يموتون بالسيف، والذين هم في المدينة يأكلهم الجوع والوبا، والذين منهم ينفلتون سيخلصون، وسيكونون على الجبال كحمام الوديان” (حز15:7، 16س). لأن إسرائيل لم يستأصل من أصل جذوره، ولا من الجذع والفرع، لكن خلصت بقية، والتي منها كان بكورها وطليعتها الرسل المباركين الذين يقول حزقيال عنهم إنهم كانوا على الجبال كحمام الوديان (أي الذين يتأملون) لأنهم كانوا كسفراء في العالم كله مخبرين بسر المسيح، وكان عملهم هو التسبيح والترتيل، وكأنهم يهتفون عاليا بالمزامير: “لساني يلهج ببرك واليوم كله بتسبيحك” (مز 34: 28).

لذلك فالوسائل المؤدية لسلام أورشليم مع الله كانت مخفية عنها، ومن بين هذه الوسائل، بل أولها وأهمها هو الإيمان الذي يبرر الخاطئ، وهو الإيمان الذي يوجد بالقداسة والتبرير أولئك الحاصلين عليه، بالله الكلى النقاوة.

أما عن أن المدينة التي كانت سابقا مقدسة وشهيرة، أي أورشليم، تسقط فـي ضيقات الحرب، فهذا يمكن أن نراه من التاريخ، بل إن إشعياء النبي يؤكد هذا لنـا، حيث يهتف عاليا إلى جموع اليهود ويقول: “بلادكم خربة، مدنكم محرقـة بالنـار، أرضكم يأكلها الغرباء قدامكم وهي خربة كأنها انقلبت بواسطة أمم غريبة” (إش 7:1س). كان هذا هو أجر الافتخار الباطل لليهود، وعقوبة عصيانهم، والعذاب الذي هو العقاب العادل لكبريائهم، أما نحن فقد ربحنا رجاء القديسين، ونحن في سعادة كاملـة، لأننـا أكرمنا المسيح بالإيمان، هذا الذي به ومعه الله الآب التسبيح والسلطان مـع الـروح القدس إلى أبد الآبدين. آمين.

  1. الفقرات التالية والمأخوذة من المخطوط اليوناني للكردينال ماي لا يمكن أن تكون أصلاً للقديس كيرلس، إنما من المحتمل أن تخص كاتبا آخر أقل منه دقة. وهذه الفقرات تعتمد أساسا في شرح الآية على الجناس (التورية) بين كلمة الجميزة وهي OUKO Hopea باليونانية، وكلمة Hopos باليونانية وتعني أحمق أو غبي. ولكن لا يوجد مثل هذا الاستخدام في كتابات القديس كيرلس، لأنه فيما يتمسك القديس كيرلس بأن العهد القديم هو مثال كامل متطابق تماما مع العهد الجديد، ويرى أن أسراره الغامضة تطل بظلالها في أصغر أحداثها على العهد الجديد، إلا أن القديس في معالجته للعهد الجديد، يكون أكثر اتساعا، حيث يتبع المعنى الظاهر للكلمات أسامنا، بل ويدين صراحة التفاصيل الجزئية (كما هو مذكور في عظة 108 عن الغني ولعازر ـ راجع أيضا مقدمة الطبعة الأولى لهذا التفسير تحت عنوان ملاحظات على طريقة القديس كيرلس في التفسير)، وبينما ينسب ماي فقرات من هذه النوعية المخالفة لطريقة تفسير القديس كيرلس للعهد الجديد، فإن السريانية تتجاهلها تماما (Payne smith).

تفسير إنجيل لوقا – 18 إنجيل لوقا – 19 تفسير إنجيل لوقا تفسير العهد الجديد تفسير إنجيل لوقا – 20
القديس كيرلس الكبير
تفاسير إنجيل لوقا – 19 تفاسير إنجيل لوقا تفاسير العهد الجديد

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى