العودة من السبي وبناء الهيكل

٥٣٨-٣٣٣ ق.م
فترة هدوء وسلام

دعوة للعودة

الله هو البادئ دائمًا فى عمل الخير مع الإنسان، وكم من زيارات للنعمة تأتى للإنسان، فإن نداء كورش يشبه إلى حد كبير نداء الرب يسوع شمس البر.. فكلمة كورش معناها شمس، وهو يرمز فى هذا لشمس البر الرب يسوع “رُوحُ الرَّبِّ عَلَىَّ لأَنَّهُ مَسَحَنِى لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ.. لأُنَادِىَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ” (لو 18:4). نبَّه روح الله كورش ملك فارس، فأطلق نداءه بالسماح لمَنْ يريد من المسبيين من اليهود، بالعودة إلى وطنهم، لبناء هيكل إله السماء(عز1:1-2)،وأصدر كورش ملك فارس:

  1. نداء بحرية العودة إلى الوطن (أورشليم) سنة 538 ق.م.
  2.  أمر ببناء الهيكل مرة أخرى، وأعطاهم من خزانته مالاً وفيرًا.

كان نداء العودة إلى أورشليم بمثابة إختبار عظيم للشعب (وهى نفس دعوة الله لنا.. تعالوا بالتوبة واتركوا لذة الخطية)، حيث أنهم:

  1. تعودوا على المعيشة فى بابل.
  2. الرحلة إلى أورشليم طويلة وشاقة.
  3. تزوجوا من بنات بابل وأنجبوا منهم أطفالاً.
  4. أورشليم بالنسبة لهذا الجيل غير معروفة كما أنها خربة. وماذا سيفعلون هناك؟ لهذا فضل الكثير منهم البقاء فى بابل أو على الأقل تأجيل العودة يكونوا مع الفوج الثانى.

كان كورش إيجابيًا فى دعوته إذ أمدهم بكل الإحتياجات من: ماشية ومأكل وملبس وكل أدوات البناء، كما اخرج كل آنية بيت الرب، التى سبق وان أخذها نبوخذ نصر إلى أرض بابل بعدما هدم الهيكل، حتى الأدوات الموسيقية التى سبق وعلقوها على الصفصاف حزنًا على سبيهم أعطاها لهم، لكى يعزفوا عليها تسابيحهم وهم سائرون فى الطريق، بل أعطاهم من ممتلكاته الشخصية وغناه الخصوصى “لْتُعْطَ النَّفَقَةُ مِنْ بَيْتِ الْمَلِكِ” (عز 4:6).

وقد رجع الشعب على ثلاث دفعات على يد ثلاث شخصيات قيادية هم: زربابل – عزرا الكاهن والكاتب – نحميا.

 

موكب العودة

1- المرحلة الأولى – بقيادة زربابـل:

زربابل ومعناه المولود فى بابل ويدعى أيضًا “شيشبصر” وهى كلمة معناها فرح فى الضيق، ويعكس هذا الاسم الفرح الذى فى قلبهم بإتمام مواعيد الله، بالرغم من البلايا والضيقات التى حّلت بهم فى بابل. وهو من الرجال الذين أوجدهم الله فى أرض السبى، والذين اتسموا بالتميز، فكان يملك روح القيادة وتم تعيينه واليًا على اليهود.

وحينما حان وقت العودة كانت أمامهم المشاكل كجبل عظيم مثل:

  1.  بُعد المسافة وطول الطريق المحفوف باللصوص.
  2. ضخامة عدد العائدين معه ما يقرب من 50 ألف نسمة.
  3.  أعدائهم الأقوياء الذين يحاولون إقناع الشعب بعدم جدوى العودة.

إن أصعب شىء فى العمل هو بدايته، فأصعب ما فى عبور شعب بنى إسرائيل البحر الأحمر هى الخطوة الأولى التى داسوا بها على مياه البحر.. وأصعب خطوة لرجال الفضاء كانت هى الخطوة بعيدًا عن الجاذبية الأرضية..

ليتنا نتعلم الدرس ونبدأ البدايات القوية السليمة، ونستمر فى الطريق مهما بدا لنا من صعوبات بالغة. الملاحظ ان زربابل لم يستعن بأية قوة ولا طلب مساعدات أو حراسة بل قال: “إِنَّ يَدَ إِلَهِنَا عَلَى كُلِّ طَالِبِيهِ لِلْخَيْرِ” (عز 22:8).

وفرق كبير بين حالتهم وهم فى طريقهم إلى بابل وبين مغادرتهم إياها، “سيرا كانوا يسيرون وهم باكون حاملين بذارهم (نتائج أعمالهم)، ويعودون بالفرح حاملين أغمارهم” (مز 125 من الأجبية).

خطوات عودة الشعب من بابل إلى أورشليم هى نفس خطوات عودة النفس المتغربة عن الله إلى أحضانه الأبوية، والتى تتمثل فى النقاط التالية:

  1.  الاعتزال عن الشر : الاعتزال عن المجتمع البابلى، وحل الزيجات من النساء الغريبة التى سبق وأرتبط الشعب بها بالمخالفة لوصايا الله.
  2.  التأنى : حتى لا تبدا الطريق ولا تكمل، ولكن تأخذ خطوات حكيمة لتضمن الثبات فى العودة والاستمرار.
  3. القداسة: أن لا يمسوا نجسًا ويتطهروا، فلا ياخذوا أصنام ولا يحتفظوا بأى ذكريات شريرة. فالحسد والنميمة والشهوة والحقد، كل هذه تجعل العبادة غير مقبولة، والخدمة غير سليمة، فالمهم ليس الخروج من الخطية فقط، وإنما التطهير وتقديس النفس والقلب والأيدى.
  4.  القيادة الإلهية: “لأَنَّ الرَّبَّ سَائِرٌ أَمَامَكُمْ، وَإِلَهَ إِسْرَائِيلَ يَجْمَعُ سَاقَتَكُمْ” (إش 12:52). إذا كان الله يطالبنا بوصية فهو أعطانا مسبقًا النعمة اللازمة لها. لقد أوصاهم بالخروج وفى نفس الوقت ضَمن لهم المعونة والحماية لهم من أعدائهم فى الطريق.

لقد أطلق كورش الملك نداء بعودة الشعب إلى أورشليم وأعطاهم الحرية، وزودهم بكل الاحتياجات ودفع ثمن حريتهم، وما على الشعب إلا أن يسعى للثبات فى هذه الحرية وتحقيقها هكذا السيد المسيح له المجد أعطانا الحرية ودفع دمه ثمنًا لها، وما علينا إلا الثبات فيها، “فَاثْبُتُوا إِذًا فِى الْحُرِّيَّةِ الَّتِى قَدْ حَرَّرَنَا الْمَسِيحُ بِهَا، وَلاَ تَرْتَبِكُوا أَيْضًا بِنِيرِ عُبُودِيَّةٍ” (غل 1:5).

فرح الشعب جدًا بعودتهم وبإعادة بناء مذبح الرب، وتقديم الذبائح، وهتفوا هتافًا عظيمًا رافعين أصواتهم بالتسبيح. 

– أول عمل : لم يكن يشغلهم عند عودتهم بناء بيوتهم، بل بدأوا فى إقامة مذبح للرب، وقدموا التقدمات والذبائح وعيدوا الأعياد وحافظوا على الطقوس والفرائض.

– مضايقات فى الطريق : تم بناء المذبح وشرع زربابل فى بناء الهيكل مع يشوع بن يوصاداق وأخوته، إلا أنه ظهر له أعداء كانوا يرخون أيدى الشعب فى البناء كل أيام كورش وداريوس واحشويرش ارتحشستا. فانشغل الشعب ببناء بيوتهم وتزيينها تاركين بيت الرب، وتقدم الأعداء ليشوا بالشعب لدى الملك ارتحشستا قائلين: أنه لو تم بناء أورشليم فإن اليهود سيمتنعون عن دفع الجزية والأموال الأخرى التى يدفعونها، فأصدر الملك ارتحشستا أمرًا بإيقاف العمل. فهل للشيطان قوة لإيقاف عمل الله؟

قطعًا لا يوجد للشيطان سلطان أن يوقف عمل الله أن لم نعطه نحن فرصة، اهتم الشعب ببناء بيوتهم الخاصة وزينتها وتكاسلوا عن بناء بيت الله. فلولا تكاسل الشعب لما كان للملك ان يوقف العمل، ولكن كما تعودنا من الله انه دائماً يفتقد شعبه، فأرسل لهم النبيين حجى وزكريا يحثان الشعب على إنجاز العمل الذى تأخر جدًا، وبالفعل تم الانتهاء من البناء، وكُرّس الهيكل ببهجة عظيمة.

2- المرحلة الأولى – بقيادة عــــــزرا

وبعد رجوع زربابل بنحو 79 سنة قاد عزرا فوجًا أخر من المسبيين حوالى 1600 شخص وتقدم بهم إلى أورشليم بناءً على أوامر من أرتحشستا الملك، بعودة مَنْ يريد من الباقين من السبي، إلى أورشليم (عز12:7-13)، وكان عزرا شخص قد هيأ قلبه لطلب شريعة الرب والعمل بها، وليعلمها أيضًا لإسرائيل لعمل إصلاحات فى نفوس الراجعين من السبى للذين مازالوا يرتبطون بنساء أجنبيات.

عزرا اسم عبرى يعنى عون أو مساعدة، وهذا هو دوره مساعدة شعبه فى تذكيرهم بالشريعة التى نسوها..

كان كاهن وكاتب ماهر فى شريعة الرب، وكتب سفر أخبار الأيام الأول والثانى وكذلك سفر عزرا.

كان عمله ككاهن مُعطل (تقديم الذبائح والبخور) لأنه فى أرض السبى حيث لا يوجد مذبح، فإهتم بدراسة الشريعة التى أحبها من كل قلبه وهيأ نفسه ليعّلمها لشعبه.

سمى كاتب لخبرته ومهارته، حيث كان الكاتب يعتبر من العلماء، لأن قليلين الذين كانوا يعرفون الكتابة قديمًا، وهذا لا يعنى أنه ينسخ الكتب فقط، ولكنه دارس لها.. يفسرها ويشرحها.

كان له تفويض بتنفيذ الشريعة وعقاب من يخالفها، وله سلطة الإصلاح، فعزل الوثنيات عن الشعب، ووضع للشعب قوانين تحكمه بحسب ناموس موسى والأنبياء،
وأعاد تجميع العهد القديم، جمع الأسفار وحذف ما هو غير قانونى، وقسم الأسفار إلى 3 أقسام هى: الناموس – الأنبياء – الكتب المقدسة. وقد أشار السيد المسيح لهذا التقسيم فقال: ناموس موسى والانبياء والمزامير.

كان عزرا يعمل مستشارًا للإمبراطور أرتحشستا بخصوص شئون الطائفة اليهودية. نال ثقة الإمبراطور فسمح له بالعودة إلى أورشليم هو والشعب والكهنة، وأعطى له مالاً وخيرًا لتأسيس الهيكل. وقام بقراءة سفر الشريعة وتفسيره بمعونة اللاويين، ولذلك أعتبره الشعب اليهودى زعيمًا لهم مثل موسى النبى.. رجع الشعب وبكوا جميعهم بسبب خيانتهم لله، وإعترفوا أمام الله بخطاياهم. وقطع عزرا عهد مع الله وغيروا حياة الخطية إلى الحياة مع الله. فكانت نهاية سعيدة وفرح بالوجود مع الله.. ولكن حتى هذا الوقت كانت أسوار أورشليم لا تزال منهدمة وأبوابها لا تزال محترقة بالنار منذ أيام السبى. 

3- المرحلة الأولى – بقيادة نحميـــــــــا

بعد حوالى 13 سنة من رجوع المسبيين بقيادة عزرا، حدث أن كان هناك ساقيًا للملك يدعى نحميا وهو يهودى يتابع أخبار أورشليم بفرح، ولكن عندما علم أن أبواب أورشليم لا تزال محترقة والأسوار منهدمة، وأن المدينة بذلك عُرضة لهجمات العدو حزن جدًا ووضع فى قلبه ان يعيد بنائها.

نحميا معنى أسمه تحنن يهوه، وهو كاتب سفر نحميا، من سبط لاوى وابن حكليا. كان ساقيا للمـلك أرتحشـستا، وكـان هـذا المنصب حساسًا جدًا، حيث أنه كان من الممكـن للساقى أن يضع السم للملك، ويساهم فى انقلاب الحكم، ولكن الملك كان يحبه ويثق فيه.

عندما جاءته أخبار محزنة عن حال الشعب العائد من السبى وعن أورشليم، جلس وبكى وصام وصلى، وعرض الأمر على الملك الذى أذن له بالعودة إلى أورشليم، وقد أعطاه رسالة للملوك لأعطائه مساعدات للبناء.

ذهب نحميا لأورشليم ومكث فيها حوالى 12 سنة، عمل فيها فى مناخ من المقاومات والمتاعب من الداخل والخارج ولكنه ثبت حتى أتم بنا السور.

قام بعمل بعض الإصلاحات فى الشعب مستعينًا بكلمة الله، ومساعدة عزرا واللاويين حيث قام بنهضة رائعة أثمرت عنها حياة الفرح للشعب جميعًا.

الدروس المستفادة من شخصية نحميا :

– الصلاة : كما قال نحميا وكما فعل هو وأصدقائه: “فَلَمَّا سَمِعْتُ هَذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلَهِ السَّمَاءِ” (نح 4:1). فالصلاة تغير قلب الإنسان، وهى مفتاح حقيقى للنجاح والقيادة الناجحة.

– الغيرة القوية : التى جعلته يترك مكانه حيث التنعم فى قصور الملك، ليذهب إلى مدينة منهدمة وأسوار محروقة بالنار لإعادة بناء سورها.

– الإيمان : رغم المصاعب التى صادفته والضيقات التى مر بها، إلا أنه كقائد جيد وحكيم متكل على الله، ورجل صلاة دائمة، إستطاع أن يتحدى المصاعب.

 

النهضة الروحية المصاحبة للعودة من السبي

حينما بدأ شعب إسرائيل يعود من السبي سنة ٥٣٨ ق.م، بدأوا فوراً في بنـاء الهيكل سنة ٥٣٧  ق.م، وظلوا يعملون باجتهاد وحماس نادرين حتى تمَّ بنـاؤه في ١٠ مارس سنة ٥١٩ ق.م، وذلك بإشراف وإلهام النبي حجَّي والنبي زكريا.
ومن سفري حجَّي وزكريا نستطيع أن نُدرك أن الشعب بدأ بداية طيبة بقيادة هذين النبيين، وعاش في سلام كامل مع جيرانه والتفت إلى تعمير البلاد.
ومن الأمور الهامة جداً ما نلاحظه أن الشعب لم يطلب أن يقيم لنفسه ملكـاً بعد السبي، وذلك بسبب ما اكتشفه الأنبياء، وخصوصاً حجَّي وزكريا، أن الملوك أنفسهم كانوا هم سبب خراب مملكة إسرائيل، لأن االله منذ البدء كان هو الملـك الوحيد على إسرائيل، وذلك يتضح جداً من تعاليم كل من حجَّي وزكريا.
فعدم قيام ملك مشهور على إسرائيل من بعد السبي كان في الواقع أقـرب إلى الوضع الروحي الصحيح . ولكن كان مجيء عَـزرا الكاتـب سـنة 457 ق.م، وكذلك مجيء نَحَميا سنة 444 ق.م، واشتراكهما معاً في قيادة الشعب مثلما كان في زمن القضاة، أثر كبير في نهضة ما بعد السبي. فقد اضطلع نحميا بإعـادة بنـاء أسوار أُورشليم، وتجديد العبادة والشرائع الطقسية، والتدقيق في حفـظ الـسبت والعشور، ومسك سجلات الأنساب بتدقيق شديد . أمَّا عزرا الكاتب والكـاهن فاهتم جداً بالناموس الروحي واجتماعات الشعب للوعظ وشرح الناموس المختص بالتطهيرات والقداسة .

وظلت إسرائيل تحت الحكم الفارسي من سنة 538 إلى سنة 333 ق.م تنعم بهدوء وسلام عظيمين ، وانتهزت فرصة الهدوء والسلام الداخلي للنمو في المعرفـة الدينية ودراسة الأسفار والتعمق في الشرح والتأويل وممارسة الحياة الدينية على وجه العموم بمستوى روحي عال جداً، كتكميل للعمل العظيم الذي بدأه عزرا الكاتب، كما هو واضح في سفر ملاخي النبي.

كما بدأت تأثيرات الثقافة اليونانية تظهر في محيط الروحيات والأبحاث اليهودية، وأغنتها كثيراً، ولكن دون أن تؤثِّر على أصالة الميراث الآبـائي وروح الأسـفار المنطوية على أسرار الهيكل والعبادة. وفي ذلك العصر بدأت السلطة الدينية تتركَّز في شخص رئيس الكهنة الذي أصبح أيضاً مسئولاً عن حالة الشعب أمـام الحكـام الفارسيين وعن الضريبة.

وبنهاية هذا العصر بلغ النظام والعبادة في الهيكل أقصاه مـن حيـث الدقـة والاهتمام، كما بدأ أيضاً نظام العبادة والصلوات في المجامع المحلية . والمدهش حقـاً أن هذه الحقبة الناشطة روحياً أثمرت ظاهرة جديدة في المحيط الديني وهـي بدايـة التبشير بالديانة اليهودية في البلاد المحيطة.

على أن الحالة الاقتصادية والتوسع في التعمير كـان محـدوداً جـداً بـسبب الضرائب. وكان من أهم النتائج الإيجابية للسبي – الذي تكرر مرتين في هذه المدة بالنسبة لتاريخ إسرائيل الروحي، وبالتالي بالنسبة للتمهيد لظهور المسيَّا هو تشتت اليهود في كافة البلاد المحيطة، وتأثرهم بالمدنيات والثقافات المجاورة، وتاثيرهم أيضاً عليها. وكان هذا داخلاً في صميم الخطة الإلهية لرفع مستوى إدراكـات شـعب إسرائيل من جهة، والتمهيد لمعرفة االله عند الأُمم من جهة أخرى.

 

المراجع:

  1. تاريخ بني إسرائيل – الأب متى المسكين
  2. تاريخ العهد القديم مبسط – القس مكسيموس صموئيل

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى