الملك يوشيا
ملك رجع مع شعبه إلى الله
أولاً: من هو ؟
“يوشيا” اسم عبرى معناه “الرب يشفي“، وقد استخدمه الرب فعلاً ليشفى به ارتداد شعب إسرائيل فى مرحلة من أصعب مراحل تاريخه.
هو الملك السادس عشر على مملكة يهوذا وقد تبوأ العرش وهو ابن ثمانى سنين وظل على العرش لمدة واحد وثلاثين عاماً (640-609 ق.م).
بدأ يوشيا الطفل الصغير ملكه، وقد كانت المملكة فى أشد درجات الفساد والإنحدار، كان آمون أبوه قد ملأ البلاد فساداً وشراً،ومن قبله جده منسى والذى حكم البلاد مدة 55 سنة، جعل الشر يتغلغل فى كل أرجاء المملكة، لقد استلم يوشيا المملكة بعد 57 سنة من الفساد والارتداد، وهى المدة التى حكم فيها كل من منسى وآمون.. لم يرث يوشيا إلا فساداً وخراباً. المملكة متهرأة، والفساد يعم كل أرجاء البلاد، ولكنه لم يعتمد على الميراث البشرى، بل على الوعد الإلهى والتقدم للأمام.
بدأ الاستقلال منذ بدء حكمه واضحاً وواقعاً – ولكن تسجيلات الحكـم في السنين الأُولى له ظلت غامضة وكانت على يد الحكماء الذين تولوا رعايته.
ولكن على العموم كان الحكم موالياً لأشور غير أنه كان معروفاً منذ تنـصيبه ملكاً أن الاستقلال لابد قادم على يديه . ففي السنة الثانية عشرة من حكمـه (٦٢٩ق.م سنحت له الفرصة لأول مرة عندما كان أشوربانيبال قد شـاخ وابنه شن شار إشكون Sin-shar-ishkun كان قد استولى على الحكم خلفاً له، عندئذ ابتدأت قبضة أشور تنفك عن الممتلكات الغربية كلها دون تـدخل منه، في ذلك الوقت ابتدأ يوشيا بالتحرك لإصلاح مملكته على غرار داود الملك كما يخبرنا سفر أخبار الأيام الثاني.
ثانيًا: سر البركة فى حياة يوشيا
يرجع سر البركة والصلاح فى حياة يوشيا إلى عدة أسباب، لعل أهمها:
1- الأم التقية:
يربط كاتب سفر الملوك بين اسم أمه وبين صلاحه، وسلوكه المستقيم فيقول: “وَاسْمُ أُمِّهِ يَدْيَدَةُ بِنْتُ عَدَايَةَ مِنْ بُصْقَةَ. وَعَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنيِ الرَّبِّ وَسَارَ فِي جَمِيعِ طَرِيقِ دَاوُدَ أَبِيهِ. وَلَمْ يَحِدْ يَمِيناً وَلاَ شِمَالاً“ (2مل 1:22-2)، ويديدة اسم عبرى معناه محبوبة.
ويؤكد عدد كبير من المفسرين أنها كانت من عينة حنة أم صموئيل ومونيكا أم أغسطينوس، ويوكابد أم موسى وأفنيكى أم تيموثاوس، والأمهات اللواتى كن سبب بركة لأولادهن.
2- توبة جده الملك منسى:
ولعل العامل الثانى كان توبة جده الملك منسى فى آخر أيامه وبدأ يصحح مسيرة الأمة، فأزال الآلهة الغريبة، والأشباه من بيت الرب وجميع المذابح التى بناها فى جبل بيت الرب، وفى أورشليم وطرحها خارج المدينة، ورمم مذبح الرب وذبح عليه ذبائح سلامة وشكر “وَالآنَ لاَ يَخْدَعَنَّكُمْ حَزَقِيَّا وَلاَ يُغْوِيَنَّكُمْ هَكَذَا وَلاَ تُصَدِّقُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ إِلَهُ أُمَّةٍ أَوْ مَمْلَكَةٍ أَنْ يُنْقِذَ شَعْبَهُ مِنْ يَدِى وَيَدِ آبَائِى. فَكَمْ بِالْحَرِىِّ إِلَهُكُمْ لاَ يُنْقِذُكُمْ مِنْ يَدِى!. وَتَكَلَّمَ عَبِيدُهُ أَكْثَرَ ضِدَّ الرَّبِّ الإِلَهِ وَضِدَّ حَزَقِيَّا عَبْدِهِ. وَكَتَبَ رَسَائِلَ لِتَعْيِيرِ الرَّبِّ إِلَهِ إِسْرَائِيلَ وَلِلتَّكَلُّمِ ضِدَّهُ قَائِلاً: كَمَا أَنَّ آلِهَةَ أُمَمِ الأَرَاضِى لَمْ تُنْقِذْ شُعُوبَهَا مِنْ يَدِى، كَذَلِكَ لاَ يُنْقِذُ إِلَهُ حَزَقِيَّا شَعْبَهُ مِنْ يَدِى” (2أخ 15:32-17)، فقد اجتهد منسى فى آخر خمس سنين من حياته أن يعيد تصحيح الأمور، ويبدو أنه أجتهد أن يصلح من حياة ابنه آمون، ولكنه لم ينجح فى ذلك، لقد كان آمون قد تعدى طور التكوين وتشرب الفساد من حياة أبيه، فبدأ منسى الجد يعلم يوشيا الطفل الصغير محبة الرب وغرس فيه روح التعبد والخشوع أمام الله، ومات منسى وكان يوشيا ابن ست سنين وقد أثمرت هذه التعاليم بعد ذلك.
3- المعلمين الأمناء:
ولعل العامل الثالث هو وجود بعض المعلمين الأمناء فى هذه الفترة الذين كانوا محيطين بيوشيا، ومشجعين وناصحين له مثل إرميا النبى وحلقيا الكاهن وشافان الكاتب وخلدة النبية.
إن من يدرس شخصية يوشيا ويعرف أن آمون أبوه قد مات وهو طفلاً صغيرًا ابن ثمانى سنين قد يتساءل لماذا سمح الله بأن يتربى هذا الطفل الصغير يتيمًا؟ وقد يرى البعض فى هذا الحدث ظلمًا للطفل، فما ذنبه حتى يفقد أباه، ويرث عرشًا مهملًا وهو ابن ثمانى سنين؟
قال البعض: لقد كان من أوفق الأمور أن يموت أبوه الشرير وهو طفل صغير، حتى لا يتشرب منه الفساد وعلى كل حال نحن نشكر الله لأنه حتى وإن تخلى الأب والأم، لكن يظل القدير نعم الصديق والرفيق لكل إنسان طوال رحلة الحياة.
ثالثًا: يوشيا وطلب الرجوع إلى الله
يذكر كاتب سفر الأخبار عن يوشيا “وَفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُلْكِهِ إِذْ كَانَ بَعْدُ فَتًى، ابْتَدَأَ يَطْلُبُ إِلهَ دَاوُدَ أَبِيهِ. وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَشَرَةَ ابْتَدَأَيُطَهِّرُ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ مِنَ الْمُرْتَفَعَاتِ وَالسَّوَارِي وَالتَّمَاثِيلِ وَالْمَسْبُوكَاتِ“(2أخ 3:34).
لقد عرف الرب معرفة شخصية وهو فى السادسة عشر من عمره، ولقد كانت هذه نقطة الانطلاق الأولى فى حياته فالنجاح يبدأ من الداخل، فكل إنسان له عالم داخلى وعالم خارجى وكلما كان عالمه الداخلى هادئاً ومنظماً وقوياً كلما انطلق خارجياً واستطاع أن ينجز ويبدع ويحقق الكثير، وإذا كان عالمه الداخلى مهلهلاً ومنقسماً كلما فشل فى حياته الخارجية، لقد قال أحد قادة العالم الكبار “انتصرنا فى معارك كثيرة، ولكن انهزمنا أمام أنفسنا“.
وما أجمل عبارة “طلب الرب” شاب فى السادسة عشر من عمره كنا نتوقع أن يطلب ذهباً أو فضة أو مالاً أو زوجة.. إلخ من كل هذه الأمور المادية الفانية، ولكنه يطلب الرب. وهنا يلح على أن أقول لكل شاب إنه لو امتلكت كل الوجود، ولم تمتلك الرب، ففي الحقيقة أنت لا تملك شيئاً، ولكن لو كنت تمتلك الرب ولا تملك أى شئ فى الوجود، فأنت تمتلك كل شئ لأنك تمتلك مالك كل الكون.
رابعاً : يوشيا وإدراك الهدف والرسالة
متى يدرك الإنسان هدف وجوده؟ لا يدرك الإنسان هدف وجوده إلا عندما يلتصق بإلهه، وبعيداً عن الله تصبح تصرفات الإنسان تخبطاً عشوائياً، كل إنجازاته تنتهى بموته، عندما بلغ يوشيا سن العشرين وبعد أن عرف الرب بأربع سنوات تقدم خطوة للأمام وأدرك أنه صاحب رسالة، لقد ترجم طلب الرب إلى سلوك عملى، لذا فالحياة المسيحية ليست صلوات وترانيم فقط، وليست تقوقع بل هى مثال حىّ عملى فعال تجاه قضايا ومشاكل المجتمع.
وهكذا فعل يوشيا فأدرك أن دوره هو إصلاح ما أفسده الزمن. لم يكن غاية ما يتمناه يوشيا مجرد الوصول إلى العرش أو أن يكون صاحب نفوذ أو صاحب ممتلكات، بل أن تكون المملكة للرب ولمسيحه وأن يرضى الرب عن المملكة.
وتقدم يوشيا نحو الإصلاح وبدأ إصلاحه بالهدم، فهدم المرتفعات والتماثيل والسوارى ومذبح البعل وتماثيل الشمس ودقها ورشها على قبور الذين ذبحوا لها.“وفِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ مِنْ مُلْكِهِ إِذْ كَانَ بَعْدُ فَتًى، ابْتَدَأَ يَطْلُبُ إِلهَ دَاوُدَ أَبِيهِ. وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ عَشَرَةَ ابْتَدَأَيُطَهِّرُ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ مِنَ الْمُرْتَفَعَاتِ وَالسَّوَارِي وَالتَّمَاثِيلِ وَالْمَسْبُوكَاتِ. 4وَهَدَمُوا أَمَامَهُ مَذَابحَ الْبَعْلِيمِ،وَتَمَاثِيلَ الشَّمْسِ الَّتِي عَلَيْهَا مِنْ فَوْقُ قَطَعَهَا، وَكَسَّرَ السَّوَارِيَ وَالتَّمَاثِيلَ وَالْمَسْبُوكَاتِ وَدَقَّهَا وَرَشَّهَا عَلَىقُبُورِ الَّذِينَ ذَبَحُوا لَهَا. 5وَأَحْرَقَ عِظَامَ الْكَهَنَةِ عَلَى مَذَابِحِهِمْ وَطَهَّرَ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ.” (2أخ 3:34-5).
ولقد أدرك يوشيا أن إصلاحه لا يجب أن يُحد فى أورشليم فقط، ولا يجب أن يرتبط بحدود المملكة التى كان يحكمها، لقد كان يدرك أنه مرسل يجب أن يصلح كل ما يستطيع أن يصلحه، ولذلك طهر أيضاً مدن منسى وأفرايم وشمعون ونفتالى “وَفي مُدُنِ مَنَسَّى وَأَفْرَايِمَ وَشَمْعُونَ حَتى ونَفْتَالِي مَعَ خَرَائِبِهَا حَوْلَهَا” (2أخ 6:34) وهذه كلها مدن المملكة الشمالية.
لقد أشرف يوشيا بنفسه على هدم المذابح والسوارى ودق التماثيل، ولم يكتف بذلك بل نجسها حتى لا يعاد بناؤها مرة أخرى، ولذلك أحرق عليها عظام الأموات لتنجيسها ولولا هذا لأعيد بناؤها فى أول فرصة ممكنه.
كان الفساد قد دخل إلى قدس الأقداس، فأمر يوشيا بإخراج السارية من بيت الرب إلى خارج أورشليم إلى وادى قدرون وأحرقها هناك، وأخرج من بيت الرب أيضًا جميع الآنية المصنوعة للبعل والسارية ولكل أجناد السماء وأحرقها أيضاً فى وادى قدرون وهدم بيوت المأبونين وهدم مرتفعات الأبواب “وَجَاءَ بِجَمِيعِ الْكَهَنَةِ مِنْ مُدُنِ يَهُوذَا، وَنَجَّسَ الْمُرْتَفَعَاتِ حَيْثُ كَانَ الْكَهَنَةُ يُوقِدُونَ، مِنْجَبْعَ إِلَى بِئْرِ سَبْعٍ، وَهَدَمَ مُرْتَفَعَاتِ الأَبْوَابِ الَّتِي عِنْدَ مَدْخَلِ بَابِ يَشُوعَ رَئِيسِ الْمَدِينَةِ الَّتِي عَنِ الْيَسَارِ فِي بَابِ الْمَدِينَةِ.” (2مل 8:23)، وهى المرتفعات التى أقيمت عند أبواب المدينة وقد أقيم عليها تمثال نصفه الأعلى على شكل إنسان ونصفه الأسفل على شكل ماعز وهدم المذابح التى على سطح علية آحاز. “وَالْمَذَابحُ الَّتِي عَلَى سَطْحِ عُلِّيَّةِ آحَازَ الَّتِي عَمِلَهَا مُلُوكُ يَهُوذَا، وَالْمَذَابحُ الَّتِي عَمِلَهَا مَنَسَّى فِيدَارَيْ بَيْتِ الرَّبِّ، هَدَمَهَا الْمَلِكُ، وَرَكَضَ مِنْ هُنَاكَ وَذَرَّى غُبَارَهَا فِي وَادِي قَدْرُونَ.” (2مل 12:23) وهى مذابح لعبادة الكواكب كان قد بناها الملك منسى.
حاول يوشيا أن يقلع الوثنية من جذورها وتتبعها فى كل مكان للدرجة التى يقول فيها كاتب سفر الملوك “وَكَذلِكَ السَّحَرَةُ وَالْعَرَّافُونَ وَالتَّرَافِيمُ وَالأَصْنَامُ وَجَمِيعُ الرَّجَاسَاتِ الَّتِي رُئِيَتْ فِي أَرْضِ يَهُوذَا وَفِيأُورُشَلِيمَ، أَبَادَهَا يُوشِيَّا لِيُقِيمَ كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ الْمَكْتُوبَ فِي السِّفْرِ الَّذِي وَجَدَهُ حِلْقِيَّا الْكَاهِنُ فِي بَيْتِ الرَّبِّ.” (2مل 24:23).
والترافيم يرجح أنها كانت ملكاً شخصياً للأفراد، قارن (تك 19:31)، (1صم 13:19) وهى أصنام لعبادة بيتيه، وهذا يدل على أن يوشيا حاول قلع جذور الوثنية وتتبعها حتى فى البيوت.
خامساً: يوشيا وترميم الهيكل
فى السنة الثامنة عشر للملك يوشيا أى عندما كان ابن 26 سنة ، بدأ ترميم الهيكل، لم يكتف يوشيا بتطهير المملكة من الوثنية والشر والفساد بل تحول إلى هيكل الله ليرممه ويطهره كان الهيكل قد أهمل نحو 60 عاماً
ويحتمل أنه كان يحتاج إلى ترميم ليس فقط بسبب إهمال الشعب له ولكن ربما حدث فيه بعض التخريب عند غزو الآشوريين للمدينة، وربما يتساءل البعض لماذا تأخر يوشيا على هذا العمل العظيم فقد بدأ الإصلاح وهو ابن 20 سنة ولكن من يدرس تاريخ حياة يوشيا سيكتشف أنه إما تأخر بسبب مشغوليته بتطهير البلاد فقد كان الشر يملأ كل أرجاء البلاد وكان يحتاج لسنوات طوال حتى يهدمه ويحطمه، أو لأن هذا العمل كان يحتاج إلى الكثير من المال اللازم لذلك وكانت ميزانية المملكة لا تسمح بذلك.
ولقد أسند يوشيا هذا العمل الضخم إلى علمانيين، لكى يقوموا به ويشرفوا على إتمامه وهو شافان بن أصليا ومعسيا رئيس المدينة ويوآخ بن يوآحاز المسجل (2أخ 8:34).
لم يكن يوشيا يريد أن الهيكل يكون مجرد بناء فخم وجميل، بل أراد أن يكون مركزاً للإشعاع والنور ومكاناً للسجود والتعبد والاقتراب الصادق إلى الله.
سادساً: يوشيا وسفر الشريعة
فى أثناء ترميم الهيكل وجد حلقيا الكاهن سفر الشريعة (2أخ 14:34) ويقول د. أوترى فى كتابه “نهضات فى العهد القديم” أنه لو لم ينشغل يوشيا بترميم بيت الرب لما وجد سفر الشريعة الذى كان حدثاً أعظم من ترميم الهيكل نفسه، فكم من بركات مخبوءة للأمناء بالرب يختبرونها وهم فى طريق تحقيق هدف نبيل يسعون إليه، إذ أنهم قد ينجزوا أعمال أعظم من الهدف نفسه.
ولعل السؤال الذى لابد وأن نفكر فيه هو كيف يفقد سفر الشريعة من شعب الله؟؟ كيف يهمل شعب كتابه المقدس؟ وهل يوجد فى حياة الشعب كتاب أهم من هذا الكتاب؟ هل نسى الشعب كلمة الله؟ وهنا نجد صورة حقيقية للخراب الذى وصلت له المملكة، ومن هنا نستطيع أن ندرك أن الخراب الروحى كان سابقاً للخراب المدنى ودائماً ما يكون هذا هو الترتيب.
إن العثور على سفر الشريعة برهان على أن كلمة الله لا يمكن أن تزول مهما كان فساد الشعب وانحراف الكهنة، فهى تتحدى الزمن وتخزى استخفاف وعدم مبالاة من أرسلت لأجلهم.
يعتقد البعض أن السفر قد دفن فوق كومة من الأحجار عندما أحرق آحاز نسخ أخرى من أسفار الشريعة، أو ربما فقد السفر فى عصر الارتداد أيام حكم الملك منسى، فربما يكون قد أخفى فى تابوت العهد الذى ألقى به منسى فى إحدى غرف الهيكل المظلمة حيث أُهمل كل هذه السنين الطويلة (2مل 2:21-16، 2أخ 9:33)، وربما فقد السفر عند تدنيس الهيكل، أو أنه كان قد وضع فى السور وفقاً للعادة المتبعة قديماً عندما بنى الهيكل للمرة الأولى.
بعد أن وجد حلقيا الكاهن سفر الشريعة سلّمه إلى شافان الذي جاء به إلى الملك وقرأ منه أمام الملك فلما سمع يوشيا الملك كلام الشريعة “مزق ثيابه“، ولا نقرأ عن أخيقام أو عكبور أو حلقيا أو عسايا أو خلدة النبية أن أحداً منهم مزق ثيابه، فقد كان يوشيا الملك هو صاحب القلب الرقيق، ربما كان سفر الشريعة لأى واحد منهم بمثابة اكتشاف كما يكتشف اليوم عالم الآثار مخطوطة معينة للكتاب المقدس ولكن كان سفر الشريعة بالنسبة ليوشيا هو كلمة الله، مصدر حياته ووجوده.
لقد بكى يوشيا ومزق ثيابه كدليل على الحزن والتوبة لقد اكتشف أن حياتهم وحياة آبائهم لم تكن بحسب كلمة الرب “فَلَمَّا سَمِعَ الْمَلِكُ كَلاَمَ الشَّرِيعَةِ مَزَّقَ ثِيَابَهُ، وَأَمَرَ الْمَلِكُ حِلْقِيَا وَأَخِيقَامَ بْنَ شَافَانَ وَعَبْدُونَبْنَ مِيخَا وَشَافَانَ الْكَاتِبَ وَعَسَايَا عَبْدَ الْمَلِكِ قَائِلاً: «اذْهَبُوا اسْأَلُوا الرَّبَّ مِنْ أَجْلِي وَمِنْ أَجْلِ مَنْ بَقِيَمِنْ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا عَنْ كَلاَمِ السِّفْرِ الَّذِي وُجِدَ، لأَنَّهُ عَظِيمٌ غَضَبُ الرَّبِّ الَّذِي انْسَكَبَ عَلَيْنَا مِنْ أَجْلِ أَنَّآبَاءَنَا لَمْ يَحْفَظُوا كَلاَمَ الرَّبِّ لِيَعْمَلُوا حَسَبَ كُلِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي هذَا السِّفْرِ».” (2أخ 19:34-21).
فذهبوا إلى خلدة النبية وكانت إجابتها تتلخص فى أمرين وهما:
– أنذرت الملك أن كل الدينونة لن تأتى فى أيامه وذلك لاتضاعه “مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ قَلْبُكَ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامَ اللَّهِ حِينَ سَمِعْتَ كَلاَمَهُ” (2أخ 27:34).
– وبالرغم من أن الخراب لن يحدث فى أيامه إلا أن هذا لم يفرحه بل جعله يمزق ثيابه فلم تكن نفسه هى المشكلة لديه بقدر ما هو مستقبل الأمة.
إن القلوب الرقيقة تربة خصبة لبذار النهضة والله يريد رجالاً يستخدمهم يغير بهم مصير الأمم والممالك، لكنه لا يستطيع أن يستخدم الشخص الأنانى المتمركز على ذاته لقد كان يوشيا خارج ذاته، كل تفكيره فى الأمة ومشاكلها وكيف يخرج بها من كبوتها ، لذلك أرسل يوشيا وجمع كل شيوخ يهوذا وأورشليم وكل الشعب من صغيرهم إلى كبيرهم وصعد بهم إلى بيت الرب وقرأ هو بنفسه سفر العهد.
ووقف يوشيا على منبر وقطع عهداً أمام الرب للذهاب وراء الرب وليحفظ وصاياه وشهاداته وفرائضه بكل قلب وكل نفس ليعمل كلام العهد المكتوب فى السفر (2أخ 19:34-31) وهنا نجد أروع قدوة عملية للشعب، فى الطاعة للرب لم يخجل الملك أن يعلن توبته أمام الشعب، ويعلن أنه أحد المقصرين والمخطئين.
إن هذا التصرف يوضح لنا روح الاتضاع التى كان يتمتع بها يوشيا، ليس فقط أمام إله العهد وكلمة الله بل أيضاً أمام شعب الرب.
سابعاً : يوشيا والفصح
فى السنة الثامنة عشر للملك يوشيا، أى عندما كان ابن 26 سنة “وَلَكِنْ في السَّنَةِ الثَّامِنَةَ عَشَرَةَ لِلْمَلِكِ يُوشِيَّا عُمِلَ هَذَا الْفِصْحُ لِلرَّبِّ في أُورُشَلِيمَ” (2مل 23:23) رتب لعمل الفصح وكان الفصح يحمل أجمل المعانى الروحية بالنسبة للشعب فهو أكبر الأعياد اليهودية وأهمها، أعطاه الله للشعب قبل أن يقتل كل بكر من الأبكار المصريين ويفدى كل بكر من أبكار شعبه (خر 12) إنه يحمل معنى الفداء والإنقاذ من العبودية إلى الحرية ومن الذل إلى الكرامة، إنه يشير إلى كفاية الدم فلقد قال لهم الرب قديماً “فَأَرَى الدَّمَ وَأَعْبُرُ عَنْكُمْ” (خر 13:12).
لقد أراد يوشيا أن يوصل هذه المعانى إلى الشعب مرة أخرى وأن يذكرهمم بها ليعيشوها، كانت قد مضت عليهم سنوات طويلة والشعب لم يُعيّد عيد الفصح، وكاد الفصح أن يمحى من ذاكرة الأمة لقد رتب يوشيا للفصح ترتيباً خاصاً، وعمل فصحاً على أعلى مستوى، قال عنه كاتب سفر الأخبار: “وَلَمْ يُعْمَلْ فِصْحٌ مِثْلُهُ فِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَيَّامِ صَمُوئِيلَ النَّبِيِّ. وَكُلُّ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ لَمْ يَعْمَلُوا كَالْفِصْحِ الَّذِي عَمِلَهُ يُوشِيَّا وَالْكَهَنَةُوَاللاَّوِيُّونَ وَكُلُّ يَهُوذَا وَإِسْرَائِيلَ الْمَوْجُودِينَ وَسُكَّانِ أُورُشَلِيمَ.” (2أخ 18:35).
لقد قيل عن الفصح الذى عمله حزقيا إنه لم يعمل مثله من أيام سليمان أما الفصح الذى عمله يوشيا فلم يعمل مثله من أيام صموئيل أى منذ أكثر من خمسة قرون.
ولم يكن يوشيا مجرد ملك يصدر أوامر بعمل الفصح، ولكنه كان واحداً من المتعبدين والمشاركين ويكفى أن نقرأ عنه “وَأَعْطَى يُوشِيَّا لِبَنِي الشَّعْبِغَنَمًا، حُمْلاَنًا وَجِدَاءً، جَمِيعَ ذلِكَ لِلْفِصْحِ لِكُلِّ الْمَوْجُودِينَ إِلَى عَدَدِ ثَلاَثِينَ أَلْفًا وَثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِنَ الْبَقَرِ. هذِهِ مِنْ مَالِ الْمَلِكِ.” (2أخ 7:35) فلقد أعطى وأعطى بسخاء من ماله الخاص. وكانت النتيجة أن أعطى الرؤساء تبرعات لعمل الفصح.
ثامناً: يوشيا ونهايته
مات يوشيا فى ريعان الشباب وعمره 39 سنة بعد أن ملك 31 سنة، ودفنوه فى مقبرة الملوك وكانت الخسارة كبيرة بموته فقد زال عز مملكة يهوذا وذهبت مكانتها فقد كان يوشيا آخر الزهور الباقية فى البستان الذى أضاعته الخطية من أرض يهوذا قبل أن تدخل فى ليلها الطويل والبهيم، “فَنَقَلَهُ عَبِيدُهُ مِنَ الْمَرْكَبَةِ وَأَرْكَبُوهُ عَلَى الْمَرْكَبَةِ الثَّانِيَةِ الَّتي لَهُ وَسَارُوا بِهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ فَمَاتَ وَدُفِنَ في قُبُورِ آبَائِهِ. وَكَانَ كُلُّ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ يَنُوحُونَ عَلَى يُوشِيَّا. وَرَثَى إِرْمِيَا يُوشِيَّا. وَكَانَ جَمِيعُ الْمُغَنِّينَ وَالْمُغَنِّيَاتِ يَنْدُبُونَ يُوشِيَّا فِى مَرَاثِيهِمْ إِلَى الْيَوْمِ وَجَعَلُوهَا فَرِيضَةً عَلَى إِسْرَائِيلَ. وَهَا هيَ مَكْتُوبَةٌ في الْمَرَاثي” (2أخ 24:35-25).
والسؤال الذى يواجهنا الآن هو: لماذا يسمح الله بموت هذا الملك المصلح العظيم فى ريعان شبابه؟.. لماذا يسمح بموته والمملكة فى أشد الاحتياج إليه؟ لماذا يسمح بموته وهو بركة لمجتمعه؟ إننا لا نملك إجابة عن هذه الأسئلة ويجب علينا أن نقبل بخضوع وبفرح إرادة الرب وبإدراك أنها الأفضل، لأننا لا نعرف المستقبل، ونظرتنا محدودة وضيقة. ربما سمح الله بموته حتى لا يرى الشر فى أيامه، ربما أشفق الله عليه حتى لا يرى الهيكل الذى رممه وإذا هو خراب، ويرى الشعب الذى كافح سنين من أجله وهو فى طريقه إلى السبى لقد كلمه الرب قبل موته بحوالى 12 سنة أثناء ترميم الهيكل وبعد أن وجد سفر الشريعة قائلاً: “مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ قَدْ رَقَّ قَلْبُكَ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامَ اللَّهِ حِينَ سَمِعْتَ كَلاَمَهُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ وَتَوَاضَعْتَ أَمَامِى وَمَزَّقْتَ ثِيَابَكَ وَبَكَيْتَ أَمَامِى يَقُولُ الرَّبُّ قَدْ سَمِعْتُ أَنَا أَيْضاً. هَأنَذَا أَضُمُّكَ إِلَى آبَائِكَ فَتُضَمُّ إِلَى قَبْرِكَ بِسَلاَمٍ وَكُلَّ الشَّرِّ الَّذِى أَجْلِبُهُ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ وَعَلَى سُكَّانِهِ لاَ تَرَى عَيْنَاكَ” (2أخ 27:34-28) ولقد أتم الله ما وعد به, أخذ يوشيا إليه قبل أن يرى الأيام العصيبة.
يقول كاتب سفر الملوك عن يوشيا: “وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ مَلِكٌ مِثْلُهُ قَدْ رَجَعَإِلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَكُلِّ نَفْسِهِ وَكُلِّ قُوَّتِهِ حَسَبَ كُلِّ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَبَعْدَهُ لَمْ يَقُمْ مِثْلُهُ. 26وَلكِنَّ الرَّبَّ لَمْ يَرْجعْ عَنْ حُمُوِّ غَضَبِهِ الْعَظِيمِ،لأَنَّ غَضَبَهُ حَمِيَ عَلَى يَهُوذَا مِنْ أَجْلِ جَمِيعِ الإِغَاظَاتِ الَّتِي أَغَاظَهُ إِيَّاهَا مَنَسَّى. (2مل 25:23-26).
فلقد كان يوشيا ملكاً تقياً عظيماً ومصلحاً، ولكن إصلاحه لم يصل إلى كل الأمة، لم تخترق النهضة أعماق الشعب ولم تصل إلى القاعدة العريضة.
واخيرا أعزائى الشباب ليتنا نتأمل من خلال ما سبق ما هو سر البركة فى حياة يوشيا الملك وماذا نعمل لتملأ البركة حياتنا.
هل أنا وانت نسعى مثل يوشيا الملك االرجوع والعودة الى الله هل نسعة لتطهير حياتنا وحياة الأخرين من الشر والنجاسة ، ونغرس بلا منها الشريعة (كلمة الله) ونشبع بالفصح (سر الإفخارستيا) ونعطى الله من اموالنا مثلما اعطى… فنصير بركة…
أقرأ أيضاً يوشيا بن آمون – ملك يهوذا
أمون بن منسى | تاريخ العهد القديم | يهوآحاز بن يوشيا | |
مملكة يهوذا | |||
تاريخ الكنيسة |