يونان النبي – للقديس جيروم

 

❈ يُشير هروب يونان إلى حال الإنسان بوجه عام فباحتقاره وصايا الرب هرب من وجهه وسلم نفسه للعالم فاشتد به نوء العالم ليغرق، عندئذ التزم بالتأمل في الله والرجوع إلى من هرب منه… كانت السفينة في خطر… والأمواج هائجة بواسطة الرياح… فإنه متى كان الرب غير راضٍ لا يكون شيء في أمان.

❈ لقد ظنوا أن السفينة بأمتعتها الطبيعية ثقيلة جدًا ولم يدركوا أن الثقل قائم بسبب النبي الهارب. لقد خاف الملاحون فصرخ كل واحد إلى إلهه، إذ كانوا يجهلون الحق لكنهم لم يجهلوا العناية الإلهية. خلال تدينهم الخاطئ عرفوا شيئًا وأدركوا بعض العمق الروحي… أما إسرائيل فلم يستطع الوسع ولا الألم أن يقوداه إلى معرفة الله. لذلك بكى يشوع على الشعب كثيرًا أما عيون الشعب فكانت جافة.

❈ بينما كان الآخرون في خطر إذا به في أمان ينام ويقوم. وبناء على طلبه وبسرّ آلامه خلّص الذين أيقظوه.

إن كان الله أرشدهم خلال القرعة إنما يحدثهم خلال فكرهم، فلا يبرر هذا استخدامنا للقرعة. لقد أرشد الله بلعام خلال أتانه (عد 22: 28)، ليعلن له أن الحيوان الأعجم أدرك ما لم يدركه الإنسان في شره، وكما تحدث الله مع المجوس خلال النجم، وكما سمح لقيافا أن يتنبأ وهو لا يعرف حين قال أنه ينبغي أن يموت واحد عن الشعب كله. على أي الأحوال إن كان يونان في حبه لشعبه استهان بخلاص الأمم فخلال القرعة كشف له الله أنه لا يحتقر أمميًا، إنما يحدثهم بلغتهم ويكشف لهم عن الحقيقة حتى خلال ممارستهم فما قدمته القرعة حمل توبيخًا إلهيًا خفيًا ليونان المُستهين بخلاص الأمم!.

❈ إنه لم يقل “أنا عبراني” قاصدًا اللقب الخاص بشعبه الذي ينتمي إلى أحد أسباطه، إنما قصد أنه عابر كإبراهيم، وكأنه يقول: أنا ضعيف وراحل كسائر آبائي، وكما جاء في المزمور: “عبروا من مدينة إلى أخرى ومن مملكة إلى شعب آخر… إنني خائف من الرب إله السماء وليس من الآلهة التي تضرعون إليها العاجزة عن الخلاص. إنني أتضرع إلى إله السماء الذي صنع البحر والبر، البحر الذي أهرب إليه، والبر الذي أهرب منه!.

❈ كأنهم يقولون: إنك تقول بأنه بسببك صار الريح والأمواج والبحر في هياج. لقد كشفت لنا عن سبب المرض فافصح عن الدواء. هوذا البحر يرتفع ضدنا، وعرفنا أننا صرنا موضع غضب لأننا أخذناك. أخطأنا إذ إستضفناك، فماذا نفعل حتى يسكن غضب الله علينا؟ ماذا نفعل بك؟ هل نقتلك؟ لكنك من مؤمني الرب! هل نحتفظ بك؟ إنك هارب من الله! الآن ليس لنا إلاَّ أن نُنفذ أمرك، فلتأمر حتى يهدأ البحر، فإن اضطرابه يشهد عن غضب الخالق… لا يمكن التأجيل بعد، أمام انتقام الخالق؟.

❈ إن هذا النوء يبحث عني، يُهددكم بالغرق لكي تمسكوا بيّ وبموتي تحيون! إنني أعرف بالحقيقة أن هذا النوء العظيم هو بسبي… هوذا الأمواج تأمركم أن تلقونيّ في البحر فتجدون هدوءًا… لنلاحظ هنا عظمة الهارب فإنه لا يراوغ ولا يكتم الأمر ولا ينكر بعدما اعترف بهروبه من الله، وإنما يتقبل العقاب بقلب متسع. يُريد أن يموت ولا يتحطم الآخرون بسببه.

❈ يوناننا يقول: إنني بالحقيقة أعرف أن هذا النوء العظيم عليكم هو بسببي، فإذ تراني الرياح مبحرًا معكم إلى ترشيش أي إلى “التأمل المفرح”، أقودكم إلى المجد، حتى حيث أوجد أنا هناك تكونون أنتم أيضًا عند الآب، لهذا يحدث غضب. العالم يبكي والطبيعة تضطرب! الموت يُريد أن يبتلعني لكي يقتلكم في نفس الوقت وهو لا يدرك أنه يأخذني كطعم، فبموتي يموت هو! خذوني إذن واطرحوني في البحر!.

❈ كانوا يريدون أن يسحبوا المجداف ويهزموا الطبيعة حتى لا يفضحوا نبي الرب… ظنوا أنهم قادرون أن يخلصوا السفينة من الخطر ولم يضعوا في اعتبارهم الدور الذي يقوم به يونان أنه يجب أن يتألم.

❈ عظيم هو إيمان الملاحين، فقد كانوا في خطر ومع هذا كانوا يصلون من أجل حياة الغير. عرفوا جيدًا أن الموت الروحي أبشع من الموت الطبيعي، إذ قالوا: “لا تجعل علينا دمًا بريئًا”. يجعلون الله نفسه شاهدًا حتى لا يتهمهم فيما لا يستطيعون عليه، وكأنهم يقولون له: لا نُريد أن نقتل نبيك إنما هو أعلن عن غضبك عليه، والنوء أكدّ إرادتك يا رب، هذه التي نحن نتممها بأيدينا.

❈ بينما لا يود الأمم موت المسيح مؤكدين أنه دم بريء (مت 27: 25)، إذا باليهود يقولون: “دمه علينا وعلى أولادنا”، لهذا متى رفعوا أيديهم نحو السماء لا يُستجاب لهم، لأن أيديهم مملوءة دمًا.

❈ لم يقل “أمسكوه” أو “انقضوا عليه” بل “أخذوه” كمن حملوه باحترام وإكرام، وطرحوه في البحر مسلمًا نفسه بين أيديهم بلا مقاومة، عندئذ وقف البحر عن هيجانه، إذ وجد من كان يبحث عنه. عندما نقتفي أثر شارد نجري وراءه بكل قدرات أرجلنا، وإذ نمسك به نتوقف بالغنيمة. هكذا كان البحر هائجًا بدون يونان، وإذ أُخذ في أعماقه من كان يشتهيه إبتهج بأخذه إياه وعيَّد له وهدأ فرحًا.

❈ عندما مات يونان الهارب في البحر خلصت السفينة التي هزتها الرياح وخلص عابدوا الأوثان.

❈ قبل آلام الرب تضرعوا إلى آلهتهم تحت تأثير الخوف (يون 1: 10)، أما بعد الآلام فخافوه بمعنى عبدوه ومجدوه… لقد خافوه خوفًا عظيمًا إي من كل النفس ومن كل القلب ومن كل الفكر (تث 6: 5؛ مت 22: 37) وذبحوا ذبيحة؛ بالتأكيد لا تعني المعنى الحرفي، إذ لا توجد ذبائح في البحر، لكن ذبيحة الرب إنما هي الروح الأصيل، وكما قيل: “قدموا للرب ذبيحة الحمد، أوف للعلي نذورك” (مز 49: 14).

❈ أظهر الرب غضبه حين كان يونان في السفينة، وأظهر فرحه حين دخل إلى الموت.

❈ آمنت نينوى، أما إسرائيل فقاوم غير مصدق. آمن أهل الغرلة، أما أهل الختان فاستمروا في عدم إيمانهم.

❈ الصوم والمسوح هما أسلحة التوبة، معين للخطاة. الصوم أولًا ثم المسوح، الأول يُشير إلى ما هو غير منظور ويليه ما هو منظور. واحد قائم أمام الرب على الدوام والآخر يقوم إلى حين أمام الناس.

وكأنه يليق بتوبتنا أن نبدأ بالصوم الخفي والحياة العملية السرية وعندئذ ننطلق إلى الأعمال الظاهرة.

❈ بالتوبة ترتبط المسوح بالصوم، حتى أن البطن الفارغة وملابس الحزن تترجى الرب بقدر كبير في الصلاة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى