القديس باخوميوس

 

هو الملقب بأبي الشركة لأنه أول من ابتدأ بالعيشة المشتركة في الأديرة تحت قانون واحد ورئيس تعيش الرهبان تحت طاعته. ولد بطيبة من أبوين وثنيين مثريين ربياه وأرشداه في الاعتقدات الوثنية الكاذبة وما أدرك رشده حاولا يوماً أن يرغماه على عبادة الأصنام فلعنها وهزأ بعابديها وفي يوم آخر سقياه خمراً كانت قد قدمت للاوثان فتقيأها لساعته فاستنتج والده من ذلك أنه سيكون عدوا للاوثان.

ولما بلغ العشرين من عمره تطوع في الجيش الروماني وحارب في بلاد الحبشة تحت قيادة والد قسطنطين الكبير الذي كان وقتئذ قائد جيوش دیوکلتیانوس قيصر وحضر مواقع حربية أظهر فيها شجاعة فائقة وهمة عالية. ودخل يوما مع بعض الجنود مدينة ديوسبولی حيث كان يقطن كثيرون من المسيحيين الذين شفقه منهم على هؤلاء الجنود قدموا لهم ما لزم من الأكل والشرب وأعدوا لهم وسائل الراحة، فتعجب باخوميوس من هذه الشهامة وسأل عن السبب الذي حمل أولئك الناس على معاملتهم بالمحبة والرحمة دون أن يعرفوهم، فأجابوه بأنهم مسيحيون وديانتهم تأمرهم بصنع الخير مع كل أحد مهما كانت جنسيته وديانته. ومع انه كان قد درس علوماً كثيرة ولكنه عرف شيئاً عن المسيحية التي مال بقلبه اليها وتوسل إلى الله قائلا « ايها الاله القادر على كل شيء أمنحني أن أعرف بأي نوع تريد أن أسجد لك وأخدمك».

ثم غادر الجندية بعد نهاية الحرب وعاد إلى وطنه وذهب حالاً إلى كنيسة ثيتوسکوبوس وانخرط في سلك الموعوظين. وهكذا في عيد فصح سنة 314م اعتنق المسيحية، ونال سر العماد من الانبا سيرابيون ( سرابامون ) أسقف دندره وله من العمر يومئذ خمس وعشرون سنة. وفي ليلة عماده شاهد في الحلم في رؤيا سماوية أن يده اليمنى ممتدة تحت ندى السماء الذي استحال على الفور الى تفاحة بيده وسمع صوتا يقول له « أحتفظ يا باخوميوس على ما يأتي عليك الآن الذي هو علامة النعمة العظيمة التي أراد المسيح ان يسكبها على قلبك».

وبعد عماده شعر بميل زائد نحو عيشة الكمال المسيحي واشتاق للعزلة والانفراد فتوجه الى أسوان وتتلمذ للانبا بلامون أحد شيوخ البرية الذي قال له «ان حياة السواح يا ابني هي أكثر صعوبة مما تتصورها حتى أن كثيرين أبتدأوا بها ولم يستطيعوا أن يتمموها. فتأمل في نوع عیشتی ففي فصل الصيف آكل مرة واحدة في كل يوم وفي فصل الشتاء كل يومين مرة. وطعامی دواماً الخبز والملح دون أن استعمل زيتاً أو خمراً. كما أنني أقضي نصف الليل وأحيانا الليل كله في تلاوة المزامير وفي التأمل في الكتاب الالهي ولهذا انصحك أن تروض نفسك مدة على هذه العيشة و بعد ذلك تأتي الى وأصيرك رفيقاً لی» فأظهر باخوميوس مزید خوفه ولكنه تقوی داخلاً بنعمة الله وأجاب الانبا بلامون قائلا « انني أتكل على نعمة المسيح واستند على صلواتك من أجلي لانال قوة استطيع بها أن أعيش متمماً واجباتی لغاية الموت ». فسر القديس بلامون من حسن جوابه وألبسه أسكيم الرهبنة. فسار التلميذ في طريق الكمال و بالغ في اماتة جسده حتى فاق معلمه في صرامة العيش وطول الصوم والسهر .

واتفق أن سائحاً مريضاً مرض الكبرياء كان يصنع العجائب بقوة أبليس حتى أنه كان يمشي على جمر نار ملتهب فلا يحترق فجاء الى القديسين وقال لهما هل حصل أحدكما على مثل هذا الايمان الذي حصلت عليه فاني أمشي في وسط النار بدون أن تمسنی. فأجاب الآب بلامون أن احسنا التواضع فيكون حينئذ ايماننا حسناً. فلما سمع باخوميوس هذا الكلام بدأ يزداد في فضيلة التواضع. وأما ذلك المغرور فأسقطه أبليس في الزنا ومات شر ميتة.

وبعد مدة سنتين تباعد يوماً عن قلايته في مقر قريب من طابانا ليلتقط حطباً ماشياً بين الشوك حافياً كعادته. ولما كان يصلي جاثياً ظهر له ملاك الرب وأشار عليه ببناء دير في تلك الجهة التي كانت بلدة قديمة خربة. فمضى الى شيخه وقص عليه الرؤيا ثم ذهبا وسكنا في المكان المعين و بنيا هذا الدير و بعد أن شيدا عدة أمكنة هنالك، ترك القديس بلامون تلميذه باخوميوس فيها، وعاد إلى مکان عزلته ولم يعد يواجه أحدهما الآخر الا مرة واحدة في كل سنة.

وتوفي القديس بلامون بعد مدة ولكن باخوميوس تعزي بحضور أخيه البكر يوحنا لأنه لم يكن قد شاهد أحداً من اقربائه منذ ترکه لوطنه وسر لأن أخاه اعتنق الديانة المسيحية وعشق سيرة الرهبنة. ولكنه كان غليظ القلب فتعب القديس باخوميوس كثيراً في سبيل تهذيبه حتى صيره أنيساً ودیعاً و بعد أن قضى خمس عشرة سنة في ذلك الدير مات باراً تقياً. 

فاستمر القديس باخوميوس بعد موت أخيه مواظبا على عيشة الوحدة والتقشف في ذلك الدير وأخذ الشيطان في محاربته بالافكار الرديئة التي كان ينتصر عليها بتأمل نار جهنم التي لا تطفأ ودودها الذي لا يموت . ثم ظهر له الشيطان بأشكال متنوعة لذيذة ومخيفة ليوقفه عن عبادته ولكنه تسلح ضده بالاسلحة الروحية وقضى بمعونة الله أربعين ليلة لم ينم البتة ممارساً الصلوات والقراءة في الكتب الالهية حتى انغلب العدو أمامه كما أنه أستمر مدة خمس عشرة سنة لا ينام فيها الا برهات وجيزة مستندا على عكازه من دون أن يقرب من الحائط . وقد اعطاء الله سلطانا على تماسيح نهر النيل فلم تكن تضره ابداً.

واذ كان يصلي ليلة ظهر له ملاك الرب واعلمه بأن يتخذ العناية لتهذيب الآخرين فشرع يقبل في ديره جميع الذين احبوا السير على منواله حتى أنه في زمن وجيز جداً وجد عنده مائة راهب أما الفرائض الرهبانية التي وضعها فقيل انه اقتبلها من الملاك نفسه.  

ولا يخفى أن الطريق التي سار فيها الانبا انطونيوس وجعلها فريضة لرهبانه من بعده وهی أن يحصل كل واحد منهم على قوته بتعب يديه كانت عسرة وشاقة وغير كافلة بحفظ الرهبانية ودوامها في عالم الوجود والفضل للانبا باخوميوس صاحب الشركة الذي اتخذ طريقة سهلة قدر الناس بواسطتها أن يعتنقوا الرهبنة و ينتظموا في سلكها في كل زمان وهي انه وضع كل قنية الرهبان و محصول تعب أيديهم في مجمع واحد تحت سلطة أحدهم وتدبيره وجعلهم يعيشون عيشة روحيه ودعا ذلك ايكونونيا ( شركة ) وفرض عليهم أن يشتغلوا بأيديهم لربح الدير ولكنه ترك الحرية لكل واحد ليشتغل حسب قوته ونشاطه . ولم يكن الرهبان يأكلون الا وهم مجتمعون على المائدة وكما فرض لهم هذا القانون فرض لهم قانونا آخر لحياتهم الروحية ورسم في ذلك القانون فرائض ليست بمستطيلة جدا اشفاقا على المتقدمين في السن من الرهبان فكانوا يحضرون يوميا لتلاوتها أمام الهيكل بدون كلل و يتناولون الافخارستيا في يومي السبت والأحد. ولما لم يوجد بين الرهبان أحد حاصلاً على درجة كهنوتيه ( وحفظ هذا الأمر في دير طابانا بعد موت القديس باخوميوس مدة تزيد عن المائة سنة ) فلهذا كانوا يحضرون بعض الكهنة من الكنائس القريبة لاتمام خدمة القداس . وأما الوعظ فكان يصير مرتين أو ثلاث مرات في كل سنة.

ووضع للرهبان أن يستعملوا الكتاب المقدس بارشاد الرؤساء حتى في وقت شغلهم وأن يحفظوا المزامير غيبا . ومن لم يكن يعرف القراءة فكان يلزم بحفظها قبل نبس شكل الرهبنة ليتمكن من اشباع نفسه بتلاوة الكتب المقدسة . وكان على الرهبان أن يشتغلوا بايديهم للحصول على حاجتهم وترك القديس باخوميوس الحرية لكل واحد ليشتغل حسب قوته ونشاطه وكان كثير النصح لهم بترك الميل لمجد العالم وحدث أن أحد الرهبان المكلفين بالنسيج اشتغل في يوم واحد ما يلزمه عمله في يومين ووضعه على باب قلايته لكي يكتسب أطراء القديس فلما رآه وأدرك سريرته قال للرهبان الحاضرين « تأملوا أن هذا الراهب يجهد نفسه بالتعب من الصباح الى المساء لاجل الشيطان وهكذا يضنى جسده من غير افادة لنفسه » ثم أمر ذلك الراهب بأن يحضر في اجتماع الرهبان و يلتمس منهم أن يصلوا لأجله أمام الله ليهبه الغفران وفرض عليه أن يبقى في قلايته خمسة أشهر يقتات بالخبز والماء فقط . ولاحظ مرة أخرى أن راهبا كان يصوم كثيرا محبة في نيل الفخر فأمره بأن يحضر نصف النهار مع الرهبان الى المائدة ليأكل معهم من الخبز والحبوب المسلوقة أفضل من أن يصوم طالباً المجد الباطل وذكر أنه رأى يوما قوما من الرهبان الحديثين صاعدين الى شجرة تين ليأكلوا سراً فأمر القديس حينئذ بقطع الشجرة فشفع فيها البستاني الذي كان رجلا فاضلا معتبرا ولم يرد القديس أن يكسر خاطره فلم يقطعها ولكنه صلی و بعد صلاته يبست التينة .

ومن القوانين أن يصلي الرهبان اثنتي عشرة مرة نهارا واثنتي عشرة ليلا و يصوم كل منهم حسب طاقته وغير ذلك من القوانين التي سار عليها غيره فيا بعد . وكان القديس يعامل الرهبان بالحلم والشفقة ولا سميا الشيوخ والمرضى منهم  أما الشبان فكان يتصرف معهم بالاناة والصبر و يدرجهم قليلا قليلا في طريق الكمال ولم يلزمهم بتقشفات الدير الاعتيادية كلها بل أمر الطباخ بأن يصلح لهم طعاما خصوصيا فلم يعجب الطباخ هذا الأمر حتى انه في بعض الأيام لم يهيء لهم شيئا من الطعام لانه حسب زعمه لم ير هذا لائقا بالراهب ومن جهة أخرى كان يجد فرصة لجدل الجدائل لاجل فائدة الدير . فلما علم القديس بفعله هذا أمره أن يأتي بكل ما كان صنع من الجدائل وكان عددها نحو خمسمائة فوضعها كلها أمام الرهبان واحرقها ثم قال أن الطاعة لا تأذن للراهب أ بأن يفحص عن تصرفات رئیسه فان ذلك مما لا بسوغ له انما عليه أن يطيع بسرعة وسرور.

ومرة أخرى أرسل وكيل الدير ليبيع جدائل الدير وعين له ثمنها فلما مضى ذلك الوكيل اتفق أن أناسا قدموا له أكثر من الثمن الذي عينه له الرئيس فباعها بالثمن الاعلى فاذ علم القديس بذلك و بخه أيضا على مخالفته واوصاه أن يرد للشاری ما کان اخذه فوق الثمن المعين . ثم عزله من وظيفته وعاقبه بأن فرض عليه ممارسة أفعال شاقة.

وأمر الجميع أن ينبذوا كتب الهراطقة وكانت قوانين هذا البار محفوظة في كل الأديرة التي كانت تحت اشرافه . وروی کاسیانوس الذي زار أديرة القطر المصرى بعد ذلك بأزمنة مديدة أنه رأى أولئك الرهبان محافظين تماما على تلك القوانين لا سيما ما يختص برؤسائهم حتى اذا كان أحدهم يكتب وناداه الرئيس لا يتم كتابة الحرف الذي ابتدأ به بل يقوم اليه عاجلا وشهد بأنهم لم يكونوا يضعون في قلاليهم الا الضروري لقوتهم حتى يتلألأ على وجوههم نور الفضيلة وتسطع منها أشعة الصلاح.

وكان القديس باخوميوس أشد الناس سرورا بنجاح رهبانه الذين كان يأتي لمشاهدتهم كثيرون و يتعجبون ما يرونه من الصفات المقدسة في أناس يشبهون الملائكة من كل الوجود. غير أن ابتهاج القديس تحول الى حزن ما أعلن له الله عن حال رهبنته في المستقبل وعن التغير العتيد أن يحدث فيها من قبل رؤسائها ولهذا شدد على الرهبان بحفظ قانونه جيدا ومقاومة الميل لمجد العالم مقاومة مستمرة بقوله « ترى ما الذي يجعل الإنسان أن يهمل ذاته الا اذا انجذب إلى محبة المجد الباطل . ولماذا ينتفخ متعظما مع أنه ليس الا ترابا ورمادا . فلنبك بالاحرى على ذلنا وشقائنا ما دام لنا زمان للبكاء . حتی اذا انتهت أيام غربتنا لا نحتاج الى زمن آخر تنتوب فيه دون أن نحصل عليه . على انه طالما في قيد هذه الحياة نستطيع أن نندب خطايانا وننوح عليها . وأما في جهنم فيقول المرتل « لأنه ليس في الموت ذكرك . في الهاوية من يحمدك » ( مز6: 5) فلتلزمنا تیارات من الدموع لتبکی البكاء الواجب على نفس تعيسة تكون رفضها العالم وما فيه رجعت تشتبك بمهماته وشهواته وتعود الى الافكار اللحمية والرغبات الارضية وعلى هذه الصورة تسقط من جديد في ذلك الأسر الذي فازت أولا بالنجاة منه فلا نرتضی یا اخوتي الاعزاء بأن يفقدنا الحياة الابدية هذا العامل الغرار الفاني الزائل الذي لا يمكنا بوجه من الوجوه أن نتكل عليه »

ولما اشتهر أمر القديس باخوميوس وتردد اسمه على الألسنة أتت أخته مريم لزيارته فلم يرد أن يقابلها ولم يسمح لها بالدخول الى الدير بل أرسل البواب يقول لها أن أخاك في سلام وقد ودع العالم فلا يود أن يراه ثانية وان كنت تشتهين التنسك وتصيرين قدوة صالحة للنساء فهو يبتنى لك ديراً لتعبدي الله فيه فلبت أخته دعواه وشيد لها ديرا خاصا سنة 340 م واجتمع معها نساء كثيرات يعبدن الله تحت اشراف القديس باخوميوس.

واستمر القديس علی اسداء النصائح للرهبان الذين يرى فيهم عيبا ولا يراهم باقين في حالتهم الرديئة يصلي من أجلهم دون أن يؤدبهم سريعا منتظرا فعل نعمة الله في قلوبهم . وكان بين رهبانه عشرة أشخاص متقشفين للغاية ولكنهم كانوا ذوي السنة نمامة الامر الذي كان يكرهه القديس جداً. واذا أتفق يوما أن أحدهم جاء اليه يتكلم معه ضد قريبه كان يتركه و يقوم حالا وهو يقول له كلمات المرتل « الذي يقع بقریبه خفية كنت أطرده » وهكذا يصده عن النميمة ولكن هذه الطريقة لم تجعل أولئك العشرة يكفون عن ارتكاب خطيئة النميمة فالتجأ إلى الله بالصلوات الحارة مدة أربعين ليلة من دون أن يرقد مطلقا أو يأكل سوى مرة في كل أسبوع إلى أن تنازل الرب وأوقف النمامين عن التكلم بالنميمة. ولما كان يقدم نصيحة لراهب كان يطلبها بكل لطف ومحبة واذا لاحظ أن أحد الرهبان تألم من كلمة صدرت منه لا يستريح حتى يزيل منه ما ألم به من جری كلامه.

وأما من جهة الأذى الذي يصدر ضده فكان كأنه عديم الشعور به بل يقبله بكل فرح وسرور . ومن ذلك أن أحد رهبان ديره طابانا طلب من الرئيس أن يرفعه الى وظيفة ايكونوموس فقال له هذا أن الآب العام باخوميوس لم يسمح بترقيته فامتلأ ذلك الراهب غيظا على القديس وذهب اليه مسرعا فوجده يشتغل مع الرهبان في ظل حائط الذير فأنشأ يهینه بكلمات شديدة . أما القديس فأخذ يعتذر له كأنه مذنب في حقه وأمر الرئيس بترقيته وهذا اللطف عالج حدة الراهب فعدل عن الوظيفة وطلب الصفح والغفران عما أفرط به.

وكان القديس لا يميز نفسه عن الرهبان في شيء لا في زمن الصحة ولا في زمن المرض حتى انه لم يخدم منهم بل بالعكس كان هو يخدمهم ولم يتميز عنهم الا باتعابه وتواضعه وصبره على المكاره.

وحوالي سنة ۳۱۱ م زار القديس اثناسيوس الرسولي جميع أبروشيات كرازته لتثبيت رعيته في الايمان الأرثوذكسي وفي أثناء زيارته لكنائس طيبة رأى أن يمر من ضواحی دیر طابانا . فالقديس باخوميوس خرج لملاقاته مع عدد كثير من رهبانه ولکی لا يعرف من البطريرك ولا من رفقائه زج نفسه بين الرهبان الآخرين كأنه أحقر من فيهم ولما قصد البابا اثناسيوس أن يرسمه قساً هرب الى تبنه فقال البابا لاولاده قولوا لابيكم الذي بنى بيته على الصخرة التي لا تتزعزع وهرب من المجد الباطل ” طوبي لك وطوبى لاولادك”

وحدث أن شابا يدعی ثيودوروس ابن امرأة شريفة الاصل تأمل ذات يوم وهو في الثانية عشرة من عمره في زوال هذا العالم و بطلان أمجاده وأدرك أنه عديم المنفعة لمن يحبونه فعزم على السير في طريق الزهد وتوجه الى القديس باخوميوس وعرض عليه نفسه فقبله لعلمه أن الله اصطفاه ليكون رئيساً للرهبان بعده.

وعلمت أم ذلك الشاب ما نواه وسار فيه فاستولى عليها الحزن وتوجهت الى الدير وطلبت من القديس باخوميوس أن يرد لها أبنها فأجابها انه نذر نفسه لله فالتمست منه أن يدعوه اليها لتراه فأبی ابنها أن يراها معتذرا بقوله « من يضع يده على المحراث لا ينبغي أن ينظر لوراء » فتأثرت الأم من قساوة ابنها بل من عزمه الشديد على السير في طريق الفضيلة وأحبت أن تقتفي أثره فانضمت الى دير النساء.

وقد ميز الله صفيه باخوميوس بموهبة صنع العجائب والتكلم بالنبوات فتوافدت عليه الناس من كل مكان بعضهم لنوال الشفاء و بعضهم للاستشارة في أمورهم . غير أن القديس لم يهتم بشفاء المرضى من رهبانه بل كان يشجعهم على احتمال كل ما يصابون به من قبل الله بشکر زائد حتی یکتسبوا رحمته ورضاه دواما . وأخص تلاميذه ثيودوروس المذكور اعتراه يوما وجع شديد في رأسه وطلب منه أن يشفيه فأجابه « اعتقد جيدا يا ابني بأنه لا تأتي علينا الأوجاع والاحزان أو أية شدة كانت الا بارادة الله أو سماحه فاحتمل اذا بصبر واتضاع هذا الوجع الذي أرسله لك الله وأنتظر الي أن ينقذك منه تعالى متى يشاء . وأنه اذا كان عز وجل يتنازل لان يمنحك بواسطة هذا العذاب مدة مستطيلة من الزمان فيقدم لعزته الشكر عن ذلك نظير أيوب البار الذي فيما بين أوجاعه والامه لم يكن يفتر عن مباركة الرب وتأكد أيضا انه وان كانت الأصوام أو الصلوات و باقي أفعال الاماتات ممدوحة بلا ریب فان احتمال ما يفتقدنا به الله من الشدائد بصبر هو أجود وأكثر استحقاقا للمدح ».

ولما كثر حول القديس ازدحام الناس الذين يقصدون أن يستشيروه في أحوالهم بعلمه الإلهي أنعم الله عليه بمعرفة اللغات كما أنعم بذلك على الرسل وسببه أن راهباً جاءه من رومية ، يرتشد منه فابتهل الأب الى الله من أجل فائدة هذا الراهب وقال « أنت تعلم ايها الاله انني لعدم معرفتی لغات لا أقدر أن أمنح ربحا باسمك الذين يأتون الى من أماكن بعيدة فاما أن تمنحنی معرفة لغة من يقدم الى لافيده أو لا تدع أحدا يأتي الى » فاستجاب الرب طلبه و اعتراف الراهب وأرشده.

 وبعد أن بنى القديس باخوميوس أديرة كثيرة واجتمع فيها ما ينيف على السبعة الالاف راهب وفي دير طابانا اجتمع ألف وأربعمائة راهب أراد الرب أن ينقله اليه فبعد الصوم المقدس لسنة 348 م افتقد الله رهبان أديرة القديس باخوميوس بمرض أمات منهم في مدة وجيزة نحو مائة راهب أكثرهم من الانقياء ثم إن القديس باخوميوس مرض أربعين يومًا اجتازها بكل سكينة الروح وبهجة القلب وقبل رقاده بيومين جمع لديه رهبانه وخاطبهم قائلا « انني اشاهد يا أولادي الاعزاء ان الله عن قرب يريد أن يدعونی اليه . أما أنا فمن دون خوف أقبل نحو الموت . لاني واثق بصلاح الله الغير المتناهي . فاحفظوا أنتم في ذهنكم الاشياء التي أوصيتكم بها مرات كثيرة . فكونوا ساهرين في الصلوات حارين في أعمالكم . واهربوا من المخاطبات مع أولئك الذين يمكنهم أن يسلبوا منكم فضيلة الإيمان أو يعكسوا استقامة عوائدکم . بل تقدرون أن تتفاوضوا مع أناس الله . الذين بواسطة سيرتهم الفاضلة يكونون لديكم نموذجا صالحا يفيدكم للبناء والتعزية أنفسكم . فأنا الآن أشعر بانحلال قوای و بدنو ارتحالى بانفصال نفسي من جسدي .. فانتخبوا اذا فيما بينكم بحضوری معكم رجلا يتخذ على ذاته تدبیرکم بعد الله مهتما في خلاصكم الابدى . أما أنا فأرى ان باترونيوس أليق لهذه الوظيفة » 

من فوافق كل الرهبان على اختياره وقبلوا باترونیوس رئيسا عليهم وكان هو أيضا مریضاً وقتئذ في دير آخر ، ثم أوصاهم القديس باخوميوس باتباع قوانينه وتجنب الهراطقة و بالثبات في الايمان الارثوذكسي وقدم لهم ثيودوروس تلميذه أيضا ليقبلوا رئاسته في الوقت المناسب واذ رأى ملاك الله يتقدم اليه بخطوات هادئة رسم على ذاته علامة الصليب وأسلم الروح في 14 بشنس سنة 222 ش و 349م وهو ابن 74 سنة ودفن في المكان الذي أوصى به.

وقد ظلت رهبنة هذا القديس قائمة في الشرق حتى القرن الحادي عشر . وقد روى انسلم أسقف هافلبرج بالمانيا من رجال ذلك القرن انه شاهد بالقسطنطينية ديرا باسم القديس باخوميس و به 500 راهب عاملين بقوانين ذلك القديس العظيم . أما سيرة هذا البار فقد دونها أحد رهبانه بالقبطية ونقلها عنه ايرونيموس فديونيسيوس الصغير . وقد عربها بعض القبط ثم ترجمها الموسيو اميلينو الى الفرنسية وطبعها في باريس سنة ۱۸۸۹ م . و بعد القديس باخوميوس ترأس مكانه با ترونيوس کاشارته و بعد هذا ترأس ثيودوروس المشار اليه آنفا والذي تنيح و بالدير ثلاثة آلاف راهب ورسم القديس اثناسيوس أموز أسقفا على دير طايانا وهو الذي اضطهده غريغور يوس الدخيل ونفاه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى