البابا متاؤس الرابع
القوة على الإفاقة
تميز النصف الثاني من القرن السابع عشر باستعادة المماليك النفوذ إذ قد نجحوا في أن يجعلوا الوالى – عميل السلطان التركي – تحت رحمتهم . الانه رغم كونه مندوب الباب العالى إلا أنهم كانوا حكام الاقاليم ، ومقابل كونه “الباشا” ، كانوا هم “البكوات” ، وقد أدى استرداد السلطة وتلاعبهم بالحاكم العام إلى إضعاف الخزانة و إلى ازدياد التدهور الزراعي و التجاري والصناعى .
فاتسمت الحياة العامة بعدم الاستقرار . فلا عجب إذن أن القبط لم يبادروا إلى الاجتماع والتشاور . ومما ضاعف في تراخيهم أن الخيبة التي كانت قد ملأت النفوس من مسلك البابا الراحل كانت لاتزال مسيطرة عليهم .
على أن الله في شامل رحمته قد منح الانسان القوة على الإفاقة من كل الصدمات و بالتالي على مواجهة ما في حياته من مسئوليات رغم كل ضيق و كل حزن . وهذا ما حدث للأساقفة في تلك الفترة إذ أنهم انتبهوا إلى وجوب المبادرة إلى انتخاب الراعي الأول بعد أن كانوا قد جاروا الشعب في تراخيه . وحين تنبهوا تبادلوا الراي مع الأراخنة إلى أن أقنعوهم بضرورة البحث في اتزان والضراعة في حرارة كي يرشدهم الآب السماوي إلى الراهب الجدير بهذه الرياسة الروحية السامية.
وهكذا بدأ الأراخنة بدفعة من أساقفتهم يبحثون عن الراهب الذي يتوسمون فيه الرعاية الرشيدة . وعلى الرغم من أنهم كانوا يبتغون تعويض الوقت إلا أنهم انقسموا فريقين : فريق ناصر القمص جرجس رئيس دير السيدة العذراء ( البرموس)، وفريق ناصر احد رهبان هذا الدير عينه وهو القمص يوحنا .
ومرة اخرى تجلت مراحم الرب الحنون لأن الفريقين لم يلبثوا أن تفاجوا واتفقت كلمتهم على انتخاب القمص جرجس . ففرحوا بهذا الاتفاق .
نشأة جرجس
ولد هذا الراهب من ابوين تقيين يعملان بمقتضى بتعاليم الرب، فيكثران من الصدقات و من المساهمة في الكنائس واعمالها . وكانا من أغنياء مير الداخلة ضمن کرسی قسقام منطقة الدير المحرق. وكان جرجس واحدا من ثلاثة أخوة ذكور . إلا أن اخويه انصرفا إلى الاشتغال بالزراعة ورعاية المواشي . أما هو فقد توسم فيه والداه الذكاء والرغبة في تحصيل العلم فارسلاه إلى كتاب بلدتهم . فتعلم القراءة والكتابة والحساب – والأهم انه تعلم الألحان الكنسية وتدرب على قراءة الكتاب المقدس و غيره من كتب البيعة . وقد وهبه الله بصيرة نافذة فكان يفسر آيات الكتاب المقدس والطقوس لكل من يسأله عنها .
رهبنته بدير البراموس
فلما بلغ أشدة أخذ يفكر في هذا العالم وأباطيله وسرعة زواله ، وبالتالى أخذ يفكر في أن لنا وطناً سماوياً باقياً . فقال لنفسه : لماذا لا اعيش منذ الآن في ذلك الوطن السماوی،؟ وحين وصل به التفكير إلى هذا الحد قام لفوره، وقصد إلى برية شيهيت حيث ترهبن بدير البرموس. وعاش في ذلك الدير ست سنوات وهو يجاهد ويسعى إلى استكمال نفسه وتهذيبها . وامتلأت نفسه فرحاً وسكينة .
وبعد هذه السنوات الست رای والده في حلم ووجد الحزن مرتسم على وجهيمها بسببه لانهما لم يكونا يعلمان ترهبه ، وانزعجت نفسه لهذا الحلم فاستشار كبار الآباء في الموضوع . واشاروا عليه بوجوب الذهاب إلى والديه لتطمينها لان الله أوصى باکرامها. فغادر جرجس الدير وذهب إلى بلدته و إلى بيت ابيه . فتهلل الجميع لرؤيته . ثم حاول ابوه أن يثنيه عن الرهبنة باقتراحه الزواج . فلما رای جرجس الحاح ابيه هرب من مير وعاد مسرعاً إلى الدير دون ان يخبر احدا. ولما اختفى هذه المرة ادرك أبواه و بقية أهله أنه إنما عاد إلى الدير . فرضوا بذلك . اما الرهبان فحين راوه تهللوا لعودته.
وعاد جرجس جهاده الروحي . فعاش بمحبة واخلاص لكل اخوته . ودرب نفسه على خدمتهم روحياً وجسدياً ، وعلى قضاء كل احتياجاتهم فبادلوه محبة بمحبة وانتخبوه ليكون رئيسا عليهم وقساً لهم. فازداد سهرا وتقشفاً وسعياً نحو الكمال ، وضاعف عنايته بأخوته.
قنديل مضاء فوق رأسه
وحين اتجهت إليه الأنظار للرعاية العليا كان مقيماً في طوخ النصاری ليشرف بنفسه على عزبة الدير لتموين ساكنيه. فذهب إليه مندو بو الأساقفة والأراخنة وكاشفوه برغبتهم ، ولكنه شکرهم معلناً لهم رفضه معتذراً بسمو هذه الكرامة ، فوجهوا أنظارهم صوب القمص يوحنا الذي كان مع رئيسه إذ ذاك ، و كان هو ايضا مشهوداً له بالسعي المتواصل نمو الكمال. على انهم اختلفوا فيما بينهم فتركوا طوخ النصارى وعادوا إلى القاهرة.
وفي القاهرة أخذوا يستعيدون معاً كل ما جرى بينهم وبين كل من الراهبين الذين قابلاهم . وعندما استقر الإجماع على ان جرجس هو الرجل الذي يصلح لهم . فأوفدوا مندوبين عنهم من كبار الكهنة واعيان الشعب يصحبهم بعض الجنود . ولما وصل هؤلاء المندوبون إلى عزبة الدير وجدوا أن جرجس ما زال بها فالقي الجند القبض عليه لانه أصر على الرفض ، واستصحبوه معهم عنوة واقتداراً كما اقتادوا القمص يوحنا ايضاً. ولما وصلوا إلى القاهرة أودعوا الراهبين بيت الوالى حيث ظلا شبه سجينين ثلاثة شهور و كان الجند يحرسون الجناح الذي يقيمان فيه. وفي ليلة من اليالي شاهد الجند الذين عليهم نوبة الحراسة كأن قنديلاً مضيئاً يسطع فوق راس القمص جرجس . فدهشوا لهذه الظاهرة . وفي الصباح أخبروا الجميع بما شاهدوه ، وعندما استقر الرأی نهائياً على انه هو المختار من الله.
فاخذوه من يت الوالى وذهبوا به إلى كنيسة الشهيد العظيم مرقوريوس ( ابي السيفين) حيث اقيمت عليه صلوات الرسامة في يوم الأحد 3 هانور سنة 1376 ش باسم متاؤس الرابع او متاؤس الميرى . فأصبح البابا الإسكندرى الثاني بعد المئة وكان يوم رسامته يوماً له رنة الفرح في كل البلاد المصرية . فقد تهلل القبط لانهم وجدوا أخيراً الاب الذي يسهر عليهم ، وفرح مواطنوهم معهم.
القيادة في تؤدة واتزان
وكان المقر البابوي لا يزال في كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة فأقام فيها الأنبا متاؤس . وحالما تسلم مقاليد الكنيسة أخذ ينظر في الأحكام الشرعية وأثرها في أمور الكنيسة، كما أخذ يسوس الشعب و يدير أحواله في تؤدة واتزان و من مراحم القدير أن السلام كان سائداً وقتذاك.
وقد ظل اليابا متاؤس على قواضعه الجم فلم يقبل أبدا أن يجلس على الكرسي البابوي في الكنيسة بل كان يكتفي بالوقوف جانبه . كذلك دأب على افتقاد اليتامى والأرامل ، وعلى زيارة المرضى والمسجونين ، وعلى العناية بالرهبان والمنقطعين. فوجد الجميع فيه اباً عطوفاً مدركاً لمسئولياته .
حريق يتبعه وباء
ومع أن السلام ظل مستنباً إلا أن حريقاً هائلاً شب في جهة باب زويلة واستمر ايام متتالية . فتسبب في قتل المئات من الناس وتخريب عدد كبير من العمارات.
ولم يكد الناس يفلحون في اخماد النار واستخلاص بعض الأشخاص والمتاع من لهيبها حتى انتشر وباء مفزع وصفوه بأنه الحريق ، لكثرة ما اهلك من الناس .
نقل المقر البابوي
وقد رأی الانبا متاؤس الرابع أن ينقل المقر البابوي إلى كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة الروم وانتقل إليها بالفعل . فيكون عدد الباباوات الذين أقاموا في كنيسة السيدة العذراء بحارة زويلة إثنا عشر بطريركاً ابتداءا من الأنبا يؤنس الثامن البابا الإسكندرى التسعين إلى الأنبا مرقس السادس البابا الاسكندرى الواحد بعد المئة.
أهواء ونزوات
وأعقب الحريق والوباء اضطهاد مضاعف . لأن الترك بدأوا يعاملون القبط تبعاً لأهوالهم ونزواتهم الطارئة ، فكانوا يغلقون الكنائس ويمنعون الصلاة فيها ، ثم يغلقون ابواب المنازل الخاصة . فإن أراد قبطى الخروج من بيته فرض عليه الجند المحيطون به مبلغاً من المال ليأذنوا له في الخروج ثم حدث أن ذبح الجنود الترك امرأة خليعة في المدينة وألقوا بجثتها بعيداً عن بركة الأزبكية . ورای كبير حفظة الأمن الفرصة مواتية فأمر باغلاق جميع بيوت القبط المتاخمة للمنطقة ، وفرض غرامة ثقيلة عليهم إن هم شاءوا أن يحصلوا منه على الأذن بفتح ابوابهم والخروج من بيوتهم . فلما سألوا عن السبب في هذه الغرامة أجابهم بانها ثمن الدم المهدور.
ثبات في وجه الضيق
كذلك كان القبط كلهم حتى سنة 1664م يدفعون ضربية موحدة . ولم يكونوا مضطرين إلى أن يدفعوها لخزينة الوالى : فكان البعض منهم يدفعها للمساجد ، والبعض يدفعها للشيخ البكرى ( لكونه سليل ابو بكر الصديق ) بينما يدفعها فريق ثالث لبعض العظماء الذين كان يطلق عليهم لقب “السادات” والضريبة المدفوعة لمختلف الجهات كان اسمها الالتزام الشرعي ، في حين أن تلك التي يدفعونها لخزينة السلطان كانت تعرف باسم التزام السلطان الاعظم ،. و كان النوع الأول ضئيل القيمة في حين أن الثاني كان ثقيلاً ، كذلك كانت الكفور والضيع المختلفة تشترك في دفع الضريبة لذلك كانت مختلفة القيمة تبعاً لنسبة القبط العائشين فيها وكان الملتزم يحدد مقدارها فكان في العادة يطالب الفقراء بأقل مما يطالب به الأغنياء . فكانت ضريبة فيها شيء من العدالة .
اما في سنة 1664م فقد قرر الوالى توحيد الضريبتين و جعلهما واحدة باسم السلطان محتماً على الفقراء أن يدفعوا ما يدفعه الأغنياء . فياخذ هو كل المبالغ ويسدد منها ما يخص المساجد والسادات و يودع الباقي في خزينة السلطان ليتصرف هو فيه قبل إرساله إلى وليَّه . وهذه الخطة وضعت فقراء القبط في موقف شدید البؤس والضنك – فكانوا كثيرا ما يضطرون إلى الهرب والاعتصام بالجبال وقت حضور الملتزمة لان الذي لا يستطيع الدفع لا يجد غير الكرباج. غير أنه رغم هذا كله لايذكر لنا المؤرخون أن الارتداد في هذه الفترة كثر على عكس ما حدث في بعض الفترات المملوكية ، و يبدو من هذا الواقع العجيب أن الإغراءات اقوي عملاً من الضيقات . فيما كان سلاطين المماليك يعرضون الجاه والمال والحظوة كان عدد الذين جحدوا إيمانهم كثيراً ، أما الاضطهادات فرغم قسوتها لم تفعل إلا فعلاً ضنلا بالقياس إلى ضراوتها وبالقياس إلى العدد الذين هزَّتهم الرتب العالمية.
حادث له رهبته
وذات مرة سطت الحماقة على بعض الغوغاء فاستشارت فيهم الرغبة في هدم كنيسة الشهيد العظيم مرقوريوس ( ابي السيفين)، ولكي يضفوا على رغبتهم قوة القانون ذهبوا إلى الديوان و جعلوا الوالى يعين لهم أغا ليشرف على عملهم الآثم، وبلغ الانبا متاؤوس أخبار هذا التآمر فامتلأ قلبه حزناً وقضى ليلته ساهراً ضارعاً في حرارة مستعطفاً الآب السماوي ليتدارك شعبه و يحفظ له هذه الكنيسة الفخمة من الخراب . وقد اقترنت ضراعته باستشفاعه بالشهيد القديس صاحب الكنيسة. وكان الراغبون في هدمها قد نجحوا في استصحاب الأغا وبعض الجنود وذهبوا جميعاً إلى الكنيسة . ولما وصلوها كان المساء قد أمسي . فرأوا أن يبيتوا إلى جوارها ليبداوا عملهم في الصباح الباكر . و بینا هم نائمون سقط عليهم حائط المنزل المجاور فقتلتهم كلهم . فلما أصبح الصباح ورای الناس ماجرى امتلأت قلوبهم رهبة ولم يجسر احد ان يتعرض للكنيسة . اما البابا المرقسي فقد رفع صلاة الشكر لله الذي بدد مشورة الحمقى كما بدد قديماً مشورة اخيتوفل .
ولم يقف جهاد البابا عند اعلانه المبادي المسيحية صراحة ولا عند ردعه الخطاة بل انه قد شاء أن يدعم العقيدة الأرثوذكسية في القلوب فكتب رسالة عن حقيقة الوجود الإلهي في سر الأخارستيا . وقد صاغ رسالته هذه في تعبيرات شرقية صافية توضح الايمان تبعاً للتعليم الأرثوذكسي بحيث سيج حولها سياجاً يحفظها.
نياحته
و بعد انقضاء اربع عشرة سنة و ثماني أشهر على بابوية الأنبا متاؤس الرابع تاجر خلالها بالوزنات التي تسلمها من ربه مضى إلى مقبرة الباباوات بكنيسة ابن السيفين وصلى ثم قال بصوت مسموع : انفتحی واقبليني لاسكن مع اخوتی..
و بعد ايام مرض وعلم بالروح انه مرض الموت . فارسل في طلب رئيسة دير الراهبات بحارة الروم وسلمها كل ما عنده وقال لها : واحتفظي بهذه الأمانة بكل حرص ، وسلميها لمن يأتي بعدی لانها وقف على الكنيسة . ثم بعث بعد ذلك بخطاباته إلى الأساقفة يوصيهم برعية المسيح له المجد. و بعد هذه التوصيات انتقل بسلام إلى العالم العلوي . وكانت نياحته في قلاية ملاصقة لكنيسة الشهيد العظيم ان السيفين . و تجمع الأساقفة والكهنة والشعب للصلاة عليه ، ولكن الوالي لم يأذن لهم بدفنه إلا بعد أن أخذ منهم اموالاً طائلة .
وقد حزن عليه الشعب حزناً عميقاً لانه كان اباً عطوفاً رحيماً ، ودفنوه في المغارة المخصصة للباباوات تحت هیکل كنيسة أبي السيفين.
البابا مرقس السادس | القرن السابع عشر | العصور الوسطى | البابا يوحنا السادس عشر |
تاريخ البطاركة | |||
تاريخ الكنيسة القبطية |