العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

حرية إرادة الإنسان وجلال قدره

العظة الخامسة عشرة من العظات الخمسون

 

[هذه العظة تعلم بالتفصيل كيف يجب على النفس أن تسلك – في قداسة وطهارة ونقاوة نحو عريسها المسيح يسوع مخلص العالم. وهي تحوي أيضا أسئلة مملوءة تعليما غزيرا، مثلا ما إن كانت جميع الأعضاء سوف تقوم في القيامة، وغير ذلك كثير جدا عن الشر، وعن النعمة، وعن حرية إرادة الجنس البشري وكرامته]

 

[ أ ] الملك المسيح يخطب النفس البائسة

1 – لكأنما رجل غني جدا، ملك ممجد، قد سر بامرأة مسكينة لا تملك شيئا سوى جسدها فقط، وبات مفتونا بهـا ورام أن يأتي بها عروسـا لـه فتسكن معه. ثم إنّها تظهر بعد ذلك كل نية صالحة للرجل وتُراعي محبتها له، وإذا بتلك المسكينة المعوزة التي لا تملك شيئا، تغدو سيدة على كل ما لزوجها. لكن إن هي عملـت أمــا بخـلاف مـا يجب عليهـا ومـا ينبغـي وتصرفت على نحو لا يليق في بيت رجلها، حينئذ تطرد بازدراء وامتهان، واضعة كلتا يديها على رأسها، كما يشار إلى ذلك في ناموس موسى عن المرأة غير الخاضعة ولا النافعة لزوجها. وحينئذ تقتني لنفسها في النهاية وجعًا وحزنا عظيما مفكرة كيف أنّها سقطت من غنى مثل هذا وكيف أقصيت عن مثل هذا المجد وباتت في هوان بسبب حماقتها.

٢ – هكذا أيضا النفس التي خطبها المسيح، العريس السماوي، عروسا له كي ينعم عليها بالشركة المستيكية الإلهيـة معـه فـتـذوقت الغنى السماوي، ينبغي لها أن ترضي خطيبها المسيح في اجتهاد كثير وإخلاص، وأن تتمم – كما يتوجب عليها وكما يليق – خدمة الروح القدس التي استؤمنت عليها، لكيما ترضي الله في كل أمر ولا تحزن الروح القدس في شيء، وتصون، كما يليق، حشمتها الصالحة ومحبتها له، وتتصرف حسنا في بيت الملك السماوي، مقدرة النعمة التي أغدقت عليها حق قدرها. مثل هذه النفس تقام سيدة على كل خيرات الرب، بل وتفتني لنفسها الجسد المجيد عينه الذي للاهوتيته. ولكن إن كانت تزل في شيء وتأتي عملا بخلاف ما يجب عليها في خدمتها وتصنع أمورا لا ترضيه، ولا تتبع مشيئته ولا تعمل في توافق مع نعمة الروح القدس الكائنة معها، فحينئذ يزدرى بها بامتهان وعلى نحو لا يليق، وتقصى عن الحياة كمثل من لا تعود تنفع وتصلح لشركة الملك السماوي. وفي النهاية يكون هناك حزن ووجع وبكاء من جميع القديسين والأرواح العاقلة على تلك النّفس، ويبكيها الملائكة والقوات والرسل والأنبياء والشهداء.

3 – لأنه كما أن فرحا يكون في السماء – كما قال الرب – «بخاطئ واحـد يـتـوب» (لو 15: 7)، هكذا أيضـا يكـون حزن شديد وبكـاء في السّماء على نفس واحدة تسقط من الحياة الأبدية. وكما أنه حين يموت على الأرض رجل غني، فإنّه بالمراثي والنوح والتّحيب يحمله إخوته وأقاربه وأحباؤه ومعارفه خارجا عن هذا العالم؛ هكذا أيضا ينوح كل القديسين على تلك النفس بنحيب ومرات. لأنه إلى هذا تشير الكتب المقدسة في موضع آخر قائلة: «سقط الصنوبر، فابك أيها الأرز» (زك 11: 2 حسب النص). لأنه كما أن شعب إسرائيل حين كان يبدو أنه مرض للسيد – وإن لم يرضه أبدا كما ينبغي – كان يحظى بعمود سحاب يظلل عليه وعمود نار يضيء له، ونظر البحر وقد انشطر أمامه، وماء زلالا قـد نـبـع  صخرة؛ ولكن حين ارتد بفكره ونيته عن الله، أسلم حينئذ للحيات، ولأعدائه، مفوذا في سني قاس ورازها تحت عبودية مرة؛ هكذا أيضا يحدث نفس الشيء تماما لنفوسنا. وهذا قد أظهره الروح أيضا – سرا – في سفر حزقيال النبي عن مثل هذه النفس قائلا، كأنه عن أورشليم: «وجدتك في البرية عريانة، فغسلتك من ماء نجاستك، وألبستك لباشا، ووضعت أساور حول يديك، وقلائد حول عنقك، وأقراطا في أذنيك، فصرت لي ذات اسم في جميع الأمـم. وأكلت السميد والزيت والعسل، وفي النهاية نسيت إحساناتي، وذهبت وراء محبيك، وزنيت في خزي» (انظر: حز 16: 5 – -10 حسب النص).

4 – هكذا أيضا يحض الروح القدس النفس التي بالنعمة قد عرفت الله، والتي بعد أن تطهرت من سالف خطاياها، وازدانت بزينات الروح القدس، واشتركت في الغذاء الإلهي السماوي، لم تسلك كما كان يجب عليها بحسب وافر المعرفة التي قد نالتها، ولم تصن كما يليق نيتها الصالحة الواجبة عليها ومحبتها للمسيح عريسها السماوي؛ فتطرد(4) وتقصى من الحياة التي كانت شريكة فيها قبلا. ذلك أن الشيطان له القدرة أن يرتفع ويعلو ضد من قد بلغـوا مـثـل هـذه القامات، والشر لا يبرح منتصبا ومصارعا لمـن قـد ظفروا بمعرفة الله، بنعمته وقوته، حتى يسقطهم. فخليق بنا إذا أن نجاهد ونحترص بكل تبصر لكي «نتمم خلاصنا يخوف ورغدة»، كما هو مكتوب (في 2: 12). فجميعكم إذا، الـذيـن قـد صـرتم شـركاء روح المسيح، لا تحتقروا أمـرا مـا، صغيرا كـان أم كبير، ولا تزدروا بنعمـة الـروح القدس، حتّى لا تقصـوا خـارج الحياة التي قـد صـرتم بالفعـل شـركـاء فيها .

ب النفس تخدم الرب بروحه

5 – وأيضا أسوق مثلا لشخص آخر : كمثل عبد إن كان يدخل إلى القصر لكي يتيم خدمة ما، فإنه يأخذ أدوات خدمته من مخصصات الملك، فيدخل خاوي اليدين، وبأدوات الملك يخدم الملك. وهنا يعوزه تبصر كثير وإفراز حتى لا يصنع شيئا في خدمته بخلاف ما يجب، فيحضر أطعمة على مائدة الملك بدلا من أخرى، ولكنّه بالأحرى يقدم الأطعمة بحسب ترتيبها: الأولى فالأخيرة؛ أما إن كان، بسبب جهله وعدم تمييزه، لا يخـدم الملك بترتيب، فإنه يصبح عرضة للخطر والموت؛ هكذا النفس أيضا التي بالنعمة وبالروح القدس تخدم الله، تحتاج إلى إفراز كثير ومعرفة، حتى لا تخطأ في أواني الله – أي في خدمة الروح – بعدم توافق إرادتها مع النعمة. ففي خدمـة الـروح التي تتم سرا بواسطة الإنسان الباطن، يخدم الـرب مـن النفس بآنية الله، أي بروحه؛ فما من أحد – بدون آنية الله، أي نعمته – بمستطيع أن يخدم الله، أي أن يكون مرضيا له في جميع مشيئاته.

6 – وحتى حينما تنال النّفس النعمة، فإنّها لا تزال إذ ذاك في حاجة إلى كثير من الفهم والتمييز، واللذين يهبهما الله ذاته للنفس التي تطلبهما منه، حتى تخدمه خدمة مرضية بالروح القدس الذي تناله، فلا تسرق بشيء من الشر وتخطأ حائدة عن الطريق الطريق بسبب جهلها وعدم خشيتها وتراخيها، فتأتي عملا لا يتفق ومشيئة سيدها. لأن عقابا وموتا وحزنا يكون لمثل هذه النّفس، وهذا ما يقوله الرسول الإلهي: «ليلا بعدما كررت لأخرين أصير أنا نفسي مرفوضا» (1کو 9: 27)، فها أنت ترى – رغم كونه رسولا الله – أي خوف قد صار له! فلنضرع إذا إلى الله، نحن جميعا الذين يلنا نعمته، أن يجعلنا نخدمه خدمة الروح بحرص شديد بحسب مشيئته، وأن لا نعيش بنية مرتخية، لكي بهذا – إذ نحيا مرضين له ونعبده عبادة روحية وفق مشيئته – نرث الحياة الأبدية.

7 – فإن كان أحد يعتريه مرض ما، فإن بعضا من أعضائه، مع هذا، – تلبث سليمة، ربما العين ليبصر بها أو أي عضو آخر، بينما تكـون بقية الأعضـاء قد تلفت؛ أو تظـل يـده صحيحة فيمـا تكـون قـدمـه قـد ألم بها العطب؛ هكذا الحال أيضا في العالم الروحاني: فقد يكون لأحد ثلاثة من أعضاء روحه صحيحة، ولكنّه ليس لأجل هذا قد صار كاملا. فها أنت تنظـر مـا أكثر درجـات الـروح وقاماته، وكيف أن الشر يتصفى ويتضاءل تدريجيا وليس دفعة واحدة؛ فإن كل عناية الرب وتدبيره – إن في إشراق الشمس أو في كافة أعماله المخلوقة – إنما صار لأجل الملكوت العتيد أن يرثه المختارون، حتى يغدو ملكوتا يعم فيه السّلام والاتفاق. 

8 – فينبغي إذا للمسيحيين أن يجاهدوا في كـل شـيء، فـلا يـدينوا أحدا البئة: لا الزانية البغي، ولا الخطأة، ولا الذين يسلكون بلا ترتيب، بل بنية بسيطة وعين نقية ينظرون إلى الجميع، حتى إن هذا يصبح للإنسان وكأنه شيء طبيعي وراسخ فيه أن لا يزدري بأحد ولا يحكـم على أحد ولا يمقت أحدا ولا يعود يميز بين الناس. فإن رأيت إنسانا  أعـور فـلا تميزه عن الباقين في قلبك بل انظر إليه كأنه صحیح، والإنسان المقطوعة يده كأنه ليس بأقطع، والأعرج كأنه يمشي مستقيما، والأشل كأنّه معافى. فإن هذه هي نقاوة القلب: أنك حين تنظر الخطأة أو المرضى، تتعاطف  معهم وتتحرك أحشاؤك من نحوهم. فإنّه يعرض لقديسي الرب أن يجلسوا في مرصـد وينظروا أباطيـل العـالم، ولكنّهم فيمـا يـبـدون للنّـاس بإنسانهم الخارجي أنهـم يشاهدون مـا يجري في العالم، يكونون بإنسانهم الداخلي في حديث مع الله.

9 – فلأهل العالم عمل آخر يستلهمونه من روح الضلال كي يفتكروا في الأرضيات، وأما المسيحيون فلهم نية مغايرة وفكر مغاير وينتمون إلى عالم آخر ومدينة أخرى، ذلك لأنّ روح الله له شركة مع نفوسهم، وهم يطأون المقاوم. فإنه مكتوب: «أخر عدو يبطل هو المؤث» (1کو 15: 26)، فالذين يتقون الله هم سادة على كل شيء، أما المرتخون في الإيمان والخطأة فإنهم عبيد لجميع الأشياء: فالنار تحرقهم، والحجر والشيف يقتلهم، والشياطين في النهاية تتسلط عليهم.

[ج] فيما يخص قيامة الأجساد

10 – سؤال: هل في القيامة تقوم جميع الأعضاء؟

 الجواب: إن كل شيء ميسور لدى الله، وهكـذا هـو وعد، حتى وإن يبدو هذا للضعف البشري والفكر الإنساني وكأنه أمر مستحيل. لأنّه كما أنّ الله حين أخذ من التراب ومن الأرض كون مثل طبيعة أخرى غير مشابهة للأرض (التي أخذت منها)، أعني طبيعة الجسد، وجعل فيها عناصر كثيرة مثل الشعر والجلد والعظام والأعصاب؛ وكذلك على غرار الإبرة التي تلقى في النار فيتبدّل لونها وتنقلب نارا، وإن كانت طبيعة الحديد بالتأكيـد لا تمجي بل تبقى متواجدة؛ هكذا أيضا في القيامة سوف تقوم كافة الأعضاء، ولا تملك شعرة كما هو مكتوب، بل تغدو جميع الأعضاء مضيئة، إذ تغمر كلها في نور ونار وتتغير. بيد أنّها لا تنحل – على ما يزعم البعض – ولا تستحيل نارا فتتلاشى طبيعتها، فبطرس يظل بطرس، وبولس بولس، وفيلبس فيلبس، كـل يلبث في طبيعته الخاصة وفرادته، ممتلئـا مـن الـروح القدس. أما إن كنت تقول إن الطبيعة تنحل، فلا يبقى بعـد بطرس أو بولس بل الله فقط من كل جهة وفي كل مكان، فإذ ذاك لا الذين يذهبون إلى الجحيم يشعرون بعـذابهم، ولا الذين يمضـون إلى الملكوت يحشـون بمكافأتهم!

11 – وكأنّما فردوس به أشجار زاهية من كل نوع: كمثرى وتفاح وكرمة مورقة مثمرة، ثم يحدث أن يتغير هذا الفردوس بكل أشجاره وأوراقه ويتبدل إلى طبيعة مغايرة ويضحي كل شيء منيرا؛ هكذا في القيامة أيضـا سـوف يتغير الناس وتغدو أعضاؤهم مقدسة ومضيئة.

[د] لا بد للحق أن يُضطهد

12– فينبغي إذا لرجـال الله أن يعدوا ذواتهم للجهـاد والصراع؛ فكمثل شاب كريم المختد يتحمل القتال وما يقع عليه من الضربات ويدفعها عنه، هكذا يتحتم على المسيحيين أن يتحملوا الضيقات التي من الخارج وكذا الحروب التي من الداخل، حتى بهذا وإن يضربوا يغلبوا بالصبر، لأن طريق المسيحية هو هكذا، فحيث يكون الروح القدس، هناك يلازمه الاضطهاد والقتال ملازمة الظل. فهـا أنـت تنـظـر الأنبياء الذين كان يعمل فيهم الروح القدس، كيف كانوا يضطهدون من بني جلدهم على الدوام. بل إنك لتنظر الرب، الذي هو «الطريق والحياة»، أنه لم يضطهد من أمة غريبة، بل من خاصته ومن عشيرته – عشيرة إسرائيل – قد اضطهد وصلب، وهكذا بالمثل الرسل أيضا. لأنه من بعد الصليب انتقل الروح المعزي وسكن في المسيحيين، فلم يعد أحـد مـن اليهود يضطهد (آنذاك) لكن المسيحيين هم الذين استشهدوا، لأجل هذا ينبغي لهم أن لا يستغربوا هذا الأمر، فلا بد للحق أن يضطهد.

[ه] حفظ القلب ودرء الأفكار الخبيثة عنه

13- سـؤال: يزعم البعض أن الشر إنما يأتي مـن الخـارج، وإن أراد الإنسان لا يقبله بل يصرفه عنه.

الجواب: كما أن الحية حين كلمت حواء من الخارج وجدت السبيل إلى الولوج داخلها بانصياعها، هكذا الآن أيضا، بإذعان الإنسان تجد الخطيئة – رغم كونها من خارج – منفذا إلى داخله، لأنّ للخطيئة سلطانا وجسارة أن تدخل إلى القلب. أما الأفكار فهي ليست من الخارج بل من الداخل، من القلب، لأن الرسول يقول: «أريد أن يصلي الرجال بلا غضب ولا أفكار رديئة» (1تي 2: 8 – حسب النص)، إذ إنّ الأفكـار تخـرج مـن القلب بحسب مـا يقـول الإنجيل. فاقصـد الصـلاة إذا وارقب قلبـك وعقلك، وابتغ أن ترسل صلاتك إلى فوق، إلى الله، نقية؛ وانظر هناك [بحرص شديد] إن كان يوجد أي عائق، إن غدت صلاتك نقية، إن كان عقلك منشغلًا بالرب انشغال الزارع بزراعتـه والرجـل بامرأتـه والتاجر بتجارته؛ إن كنت تحني ركبتيك للصلاة فما يخطف حينئذ آخرون أفكارك.

14 – ولكنك تقول إن الرب قد جاء، وبالصليب دان الخطيئة(4). فلم تعد بعد في الداخل. ولكن كما لو أن جنديا قد ترك مركبته في بيت إنسان ما، فإنه يكون له السلطان أن يدخل ذلك البيت ويخرج منه متى يشاء؛ هكذا الخطيئة أيضا لها السلطان للمجادلة داخل القلب، لأنه مكتوب: «ودخل الشيطان في قلب يهوذا» (لو 22: 3). أما إن كنت تقول إنّه بمجيء المسيح قد أدينت الخطيئة، وإنه من بعد المعمودية لم يعد للشر مرعى للمجادلة داخل القلب، أفتجهل إذا أنه منذ ظهور الرّب وحتى الآن، جميع الذين اعتمدوا قد أتى عليهم وقت افتكروا فيه بالشرور؟ أولم يوجد بينهم من جنح نحو المجد الباطل أو الزين أو الشره؟ بل كل العلمانيين الذين لهم شركة مع الكنيسة، أفقد غدا قلبهم بلا عيب ونقيّا؟ أم إننا نجد أنه بعد المعمودية أيضا قد اقترفت خطايا عديدة ووجد خطأة كثيرون؟ لذلك فحتى بعـد المعمودية هنالك مرعى للسارق لكي يدخل ويصنع ما يشاء.

15 – فإنه مكتوب: «نحب الرب إلهك من كل قلبك» (تث 6: 5)، ولكنك تقول: “إني أحبه وأقتني الروح القدس. فهل تقتني إذا ذكر الرب في نفسك؟ هل لك عشق من نحوه؟ هل تتحرق شوقا إليه؟ هـل أنـت ممسوك هناك ليل نهار؟ إن كنت حائزا على مثل هذه المحبة، فهل أنت نقي؟ أما إن كنت مفتقرا إليها، فافحص ذاتك بأكثر تدقيق: حينما تعرض لك بعض الأمور الأرضية والأفكار القبيحة الشريرة، هل ترضخ لها أم إن نفسك تكون منجذبة على الدوام نحو محبة الله والاشتياق إليه؟ لأن الأفكار تجتذب الذهن إلى أسفل، إلى ما هو أرضي وفاسد، ولا تدعه يحب الله أو يذكر الرب. بيد أنه في أوقات كثيرة يحدث أن إنسانا عاميا يدخل ليصلي فيحني ركبتيه ثم ينطلق عقله إلى الراحة، وكلما يحفر ويعمق يتداعى حجاب الشر القائم مقابله، فيلج إلى رؤية وحكمة لا سبيل لأن يبلغها الأعزاء ولا الحكماء ولا الخطباء، ولا أن يدركوا أو يعرفوا انطلاق عقله لأنه قد انشغل بالأسرار الإلهية، فمن لا خبرة له باللآلئ لا يعرف أن يتينها لعدم خبرته. فالمسيحيون إذا يأنفـون أمجاد الأرض، حاسبين إياهـا كزبل، إزاء تلك العظمة العاملة فيهم.

16 – سؤال: هل يمكن لإنسان له هذه الموهبة أن يسقط؟

الجواب: إن يهمل يسقط، لأن الأعداء لا يكسلون ولا يتوانون في حربهم، فكم بالحري ينبغي لك أنت أن لا تكف عن طلب الله، لأنّ خسارة فادحة تلحق بك إن توانيت، حتى وإن كنت تظن ذاتك مزكى في سر النعمة عينه.

17 – سؤال: وهل تبقى النعمة بعد السقوط؟

الجواب: إن الله يشاء أن يأتي الإنسان مرة أخرى إلى الحياة، ولذا فإنّه يستحثه أن يبكي أيضا ويتوب. بل وحتى إن لبثت أنت خاملا، فإنه يروم أن يجعلك من جديد فاعلا أشد ثباتا، تائبا عما كنت قد اقترفته قبلًا.

۱۸ – سؤال: هل يعاني الكاملون ضيقا أو حربا أم إنهم يصيرون بلا هم بالكلية؟

الجواب: إن العدو لا يكف عن الحرب ضد كل أحد، لأن الشيطان هو بلا رحمة ومبغض للبشر، ولأجل هذا فإنّه لا يتوانى عن أن يحارب واحد، وإن كان لا يظهر هجومه على الجميع بنفس الدرجة. فها إن الولاة والأشراف يوفون الضرائب للملك، فالذي يكون واثقا بغناه وذهبه وفضته يوفي الأموال المستحقة كما من فضلته، غير حاسب إياها خسارة – إذ كما أن الذي يصنع صدقة لا يعتبرها خسارة على الإطلاق، كذا الشيطان أيضا يحسب هذه الأمور أعمالًا ثانوية – ولكن يوجد أيضا من هو فقير معوز لقوت يومه، فهذا يجلد ويعذب لكونه ما استطاع أن يوفي الضريبة المستحقة، ويوجد آخر يكشط ويعذب بشدة غير أنه لا يموت، ويوجد آخر أيضا يحكم عليه بمجرد نطق واحد بأن تقطع رأسه فيهلك؛ هكذا أيضا بالنسبة للمسيحيين: فإنه يوجـد مـن يحاربون بشدة ويعذبون مـن الخطيئة ومع ذلك لا يزالون متشددين في حروبهم وحكماء ومحتقرين للقوة المعادية، فلا خطر عليهم من هذا القبيل لأنّهم بمنأى عن الشقوط وفي حرز من جهة خلاصهم بسبب تمرسهم في الحرب ضد الشر مرارا كثيرة وخبرتهم. وحيث إنهم يحظون بمعية الله، فهم يقتادون في الطريق وينعمون بالراحة. 19 – غير أنه يوجـد آخرون، لأنهم لم يتدربوا على الإطلاق، إن هـم وقعوا في شدة واحدة وثارت عليهم الحرب، يسقطون للوقت في العطب والهلاك .

[و] النعمة تحفر ناموسها في القلب

كمثل أناس مسافرين إلى مدينة ينشدون رؤية أحبائهم ومعارفهم، فحتّى لو صادفوا كثيرين في الأسواق فإنهم لا يعاقون منهم، ذلك لأن غايتهم هي لقيا أحبائهم، لذلك فحالما يقرعون الباب من الخارج ويدعونهم، يفتح لهم أحباؤهم فرحين؛ أما إن كانوا يتلكأون في الأسواق مخدوعين، أو يتعوقون ممن قابلوهم، فإن الباب يوصد دونهم ولا أحد يفتح لهم؛ هكذا أيضا الذين يسعون حثيثا للبلوغ إلى سيدنا المسيح، الحبيب الحقيقي، ينبغي لهم أن يغرضـوا عـن جميع الآخرين ويتجاوزوهم. فكما أن الداخلين إلى البلاط من أشراف وولاة ليمثلوا أمام الملك يكونون في خوف شديد كيف يعطون جـوابا ولا يخطـأون بكلمـة في دفاعهم فيعرضون للعقاب، في حين أن الفلاحين والعاميين – إذ لا ينظرون رؤساء على الإطلاق – يقضون حياتهم بلا هم؛ هكذا أيضـا هـذا العـالم الـذي تحت السماء، من الملوك إلى الفقراء، فلأنهم يجهلون مجد المسيح، فإن همهـم يكـون في أمـور هـذه الحياة، ولا أحد يتذكر سريعا يوم الدينونة؛ أما الذين يأتون بفكرهم إلى منبر المسيح حيث عرشه، ويمثلون أمامـه كـل حـين، فإنهم يكونون في خوف ورعدة على الدوام لئلا يخطأوا في شيء من وصاياه المقدسة.

٢٠ – وكمـا أن أغنياء الأرض حين يجلبون أثمـارا وفيرة إلى مخازنهم، يعملون أيضا أكثر يوما فيوما، حتى يزدادوا غنى ولا يفتقروا – إذ لو أنّهم استناموا إلى الثروة التي وضعوها في أهرائهم، فتهاونوا وما جمعوا شيئا آخر بل استنفدوا ما كانوا قد ادخروه، فإنهم يسقطون سريعا في الفاقة والعوز – ومـن أجـل هـذا يلزمهم أن يتعبوا ويجمعوا الخيرات مكثرين ومدخرين لئلا يعتـازوا؛ هكذا أيضا في المسيحية، من جهة تذوق الإنسان شيئا من نعمة الله، لأنّه يقول: «ذوقوا وانظروا أن الرب طيب» (مز 33: 9؛ 1بط 2: 3). فهذه المذاقـة هـي قـوة الروح القدس العاملة في يقين تام والخادمة في القلب، لأن كـل الـذيـن هـم أبنـاء للثـور ولخدمـة العـهـد الجديد بالـروح القدس لا يتعلمون شيئا من البشر إذ هـم متعلّمـون مـن الله، لأن النعمة عينهـا تـحـفـر نواميس الـروح في قلوبهم. لهذا يجب عليهم ألا يستلهموا يقينهم فقط من الأسفار المكتوبة بحبر، بل أيضا من ألواح قلوبهم التي تكتب عليها نعمة الله نواميس الروح والأسرار السماوية. لأن القلب هو الذي يهيمن على الجسد برمته ويملك عليه كأداة له، فحالما تمسك النعمة بمراعي القلب تملك حينئذ على كل الأعضاء والأفكار، لأنه هناك في القلب يكون الذهن وكل حواس النفس وتطلعاتها، ولذا فإنّ النعمة تسري إلى كل أعضاء الجسد.

٢١ – كذلك أيضا (على النقيض من هذا) بنو الظلمة: فإن الخطيئة تملك على قلوبهم وتسري إلى كل أعضائهم، «لأن من القلب تخرج الأفكار الشريرة»، وإذ تنبع هكذا تظلم الإنسان. أما الذين لا يقرون بأن الشر متعايش مع الإنسان ونام معه، فإنهم لا يأبهون بعدهم ولا يتأذون من شهوة ما، لأنّه لزمان معين يكـف الشـر عـن مـضـايقتهم في داخلهـم وإغرائهم بالشهوة، حتّى ليقسم الإنسان مؤكدا: “إن مثل هذا الهـوى لا يثورن في بعد. ولكن بعد زمان يسير يستعر بالشهوة حتى إنه يوجد إذ ذاك حانثا لقسمه أيضا. لأنه على غرار الماء ينساب عبر قناة، هكذا أيضا الخطيئة عبر القلب والأفكار، فكل الذين ينكرون ذلك يؤبخون ويستهزأ بهـم مـن الخطيئة نفسها، وإن كانت لا تشاء أن تغلبهم علنا، لأن الشر يسعى لأن يختبئ ويختفي في فكر الإنسان.

[ز] سلطان الإنسان على ذاته

22 – فإن كان أحد يحب الله، فالله أيضا يمزج محبته به، فإن هو آمن به مرة، يزيد له الله إيمانه السماوي، فيغدو إيمان الإنسان ضعفين. فكل ما تقدمه له من أعضائك، يمزج هو بنفسك، إزاء هذا، ما يقابل من حواسه، لكي تكون عاملا كل شيء بنقاوة ومحبا له ومصليا إليه. ذلك لأن للإنسان منزلة جليلة، فهـا أنـت تنـظـر مـا أعـظـم الشـماء والأرض والشمس والقمـر، ولكـن الـرب لم يسـر بهـم، إنما فقط في الإنسان قد وجد راحته. فالإنسان إذا أرفع كرامة من المخلوقات طرا، بل ربما أجسر على القول ليس فقط المخلوقات المنظورة لكن غير المنظورة، أغني الأرواح الخادمة، لأنه لم يقـل عـن ميخائيل وغبريال رئيسي الملائكة: «لنصنع على صورتنا وشبهنا» (تك 1: 26)، بـل عـن الجوهر العقلي للإنسان، أي النّفس التي لا تموت، لأنّـه مـكـتـوب أيضا: «معسكرات ملائكة حول خائفيه» (مز 33: 8 – حسب النص)؛ فالخلائق المنظورة مربوطة بطبيعة غير قابلة للتغيير.

23- فلقد أقيمت السماء مرة وكذا الشمس والقمر والأرض – تلك التي لم يسر بها الرب – ولكن شيئا مما خلقه لا يستطيع أن يغيّر نفسه، لا ولا يملك حتى الإرادة لذلك. لهذا فإنك أنت على صورة الله وشبهه، لأنّه كما أن الله إرادة حرة وما يريده يفعله – فإن كان يشاء، فبحسب سلطانه، يرسل الأبرار إلى جهنم والخطأة إلى الملكوت، ولكنّه لا يختار هذا ولا يقبله لأن الرب هو الديان العادل – هكذا أنت أيضا لك سلطان على ذاتك، وحتى إلى الهلاك إن كنت تشاء. فأنت ذو طبيعة قابلة لتغيير مسارها، فإن أردت أن تحذف أو تصنع سما وتقتـل بـه أحـدا، فليس مـن يقاومـك أو يمنعك. فإن يشأ أحد، يخضع الله ويسلك طريق البر ويكبح شهواته، لأن هذا العقل هو خصم لقوى الشر، ويستطيع، بفكر موطد، أن يسود على هجمات الشر والشهوات القبيحة.

24– فإن كان في بيت كبير – حيث توجد آنية ذهبية وآنية فضية، وصنوف من الثياب، وذهب وفضة – يغصب الفتيان والفتيات (الخدام)  المقيمون هناك فكرهم، رغم أنهم بطبيعتهم يشتهون كل هذه الأشياء بسبب الخطيئة الملازمة لها، فمن أجل خوفهم خوف البشر من أسيادهم يقاومون هجمات شهواتهم؛ فكم بالأحرى حيث يكون هناك خوف الله! فإنه يجب، إذ ذاك، أن يقاوم الإنسان ويصارع ضد الشر الملازم له، فالله إنما أمرك بما هو في مقدورك. فإن طبيعة الحيوانات غير العاقلة هي مسيرة. فطبيعة الحية قاسية وسامة، وكل الحيات هكذا هي؛ والذئب لا يني يفترس، وسائر الذئاب لها نفس الطبيعة؛ والخروف الذي يفترس ساذج، وهكذا جميع الخراف تحظى بذات الطبيعة؛ والحمامة هي بلا مكر وبسيطة، ولكل الحمام هذه الطبيعة عينهـا؛ أما الإنسان فليس هكذا، بل يوجـد مـن يفـترس كالذئب، ويوجـد مـن يفترس كالخروف، فمن ذات الجنس البشري يخرج الاثنان .

25– فهناك إنسان لا يقنع بامرأته بل يزني، بينما آخر لا يدع ولا حتى الشهوة تصعد إلى قلبه؛ وهناك من ينهب ما هو لقريبه، في حين يوجد آخر من أجل تقواه نحو الله يوزع ما هو له. فها أنت تنظر كم أن هذه الطبيعة البشرية قابلة للتغير: فتارة توجد جانحة نحو الشر وطورا نحو الخير، وفيما بينهما لها القدرة أن تميل إلى ما تشاؤه من الأعمال. فالطبيعة البشرية إذا قابلة للخير والشر، إما للنعمة الإلهية أو للقوة المعادية، غير أنها ليست مسيرة. فإن آدم نفسه فيما مضى، إبان كونه في حال النّقاوة، كان يملك على أفكاره، ولكـن منـذ مخالفته الوصية، وجبال يقال بحثم على ذهنه وأفكار الشر تمتزج به حتى باتت جميعها وكأنها أفكـاره هـو، مع أن واحدا منها ليس له بل هي في حوزة الشر.

26– وبعد، فيجب عليك أن تلتمس سراجا كيما يوقد فتجد أفكارك النقية، لأن هذه هي الأفكار الطبيعية التي خلقها الرب فيك. فإن أولئك الذين يربون إلى جـوار البحر يتعلمون السباحة، فإذا ما قامت الأنـواء والأمواج لا يفزعون؛ أما الذين لا عهد لهم بمثل هذه الأمور، فحتى حين تأتي عليهم ولو عاصفة صغيرة، يتملكهم الخوف ويغرقون؛ هكذا يكـون المسيحيون أيضا. وكما أن عقل طفل ذي ثلاث سنوات لا يمكنه أن يعي أو يدرك عقل حكيم كامل، لما بينهما من بون شاسع في العمر؛ هكذا المسيحيون أيضا بشبه الأطفال الصغار يعتبرون العالم، مثبتين أنظارهم بالأحرى على مقدار النعمة (المعطاة لهم)، ذلك لأنهم غرباء عن هذا الدهر، فلهم مدينة أخرى وراحة أخرى. فالمسيحيون يقتنون تعزية الروح القدس، وكذا دموعا وحزنا وتنهذا، وهذه الدموع عينها هي نعيم لهم، على أن لهم أيضا خوفا وسط فرحهم وتقليلهم. وهكذا يكونون كمثل أناس حاملين دمهـم علـى أيـديهم، لا يثقون في ذواتهم ولا يحسبون أنفسهم شيئا، بل يكونون مرذولين ومرفوضين أكثر من جميع الناس.

27- كما لو أن هناك ملكا قد أودع إنسانا فقيرا كنزه الخاص، فذاك الذي أخذه ليصـونه لا يعتبره وكأنه ملك له، بل يعترف على الدوام بفقره ولا يجسر أن يبذر من كنز إنسان آخر. فإنه يتفكر هكذا كل حين: “ليس فقط أن الكنز هو لآخر، بل أيضا إن ملكا مقتدرا هو الذي قد عهد به إلي، ومتى أراد فإنه يأخذه مني؛ هكذا أيضا ينبغي أن يحسبوا أنفسهم أولئك الذين قد اقتنوا نعمة الله، ويتضعوا بلبهم ويقروا بفقرهم. لأنه كما أن ذلك الفقير الذي أخذ الكنز الذي الثمن عليه من قبل الملك، إن هو ارتفع متكلا على كنز إنسان آخر وكأنه ملكه الخاص وانتفخ قلبه فإن الملك يسترد منه كنزه، ويلبث ذاك الذي استودع الكنز فقيرا كما كان قبلًا؛ هكذا أيضا الذين قد اقتنوا النعمة، إن هم ارتفعوا وانتفخت قلوبهم فإن الرب ينزع نعمته منهم، ويلبث أمثال هؤلاء كما كانوا قبل أن ينالوا النعمة من لدن الرب .

 28– بيد أن كثيرين – رغم ملازمة النعمة لهم – يسرقون من الخطيئة وهم لا يدرون. كمثل أن يكون هناك فتاة في بيت وكذا شاب أيضا، وإزاء تملقه إياها توافقه فتسقط في الزنى وتطرد خارجا؛ هكذا أيضا الحية البغيضة – حية الخطيئة، فإنّها تلازم النفس وتغويها وتغريها، فلو وافقتها النّفس، فإنّ تحادا نجسا يصير ما بين النفس غير الجسدية والشر غير الجسدي الذي للروح الشرير، أي أن الروح تقترن بروح آخر، فيزني في قلبه ذاك الذي وافق الحية وقبل إليه الفكر الشرير. فمقياس جهادك إذا هو هذا: أن لا تزني في أفكارك بل تقاوم بذهنك، وتشن حربا وقتالا في داخلك، ولا تذعن للشر في أفكارك ولا تسر به. فإذا ما ألقى الرب فيك هذا الاستعداد، يقبلك في ملكوته في اليوم الأخير.

 29– فإنه توجـد أمـور يدبرها الرب لكي لا يترك نفسه بـلا شـاهد لنعمته الإلهية ولدعوته، وتوجد أمور أخرى يدبرها أيضا هكذا بسماح منه، كيما يتزكى المرء ويتدرب فتتجلى حينئذ حرية إرادة الإنسان. فأولئك الذين يجتازون ضيقات وتجارب، إن هم صبروا فلن يحرموا من ملكوت السماوات . فالمسيحيون إذا لا ينوءون تحت وطأة الضيقات أو يغتمـون لها، فإن كانوا يمتحنون بفاقـة أو كـرب، فيجب عليهم ألا يستغربوا، بـل الأجدر بهم أن يسروا بالفقر ويحسبوه كفنى، والصوم كتنعم، والازدراء والهـوان كمجد). ثم إن كانوا يصادفون أمورا تحسب فاخرة في هذه الحياة، تلك الأمور التي تغريهم إلى راحة جسدية أو غنى أو مجـد أو ترف، فيجب عليهم ألا يسـروا بها، بل أن يفروا منهـا فـرارهـم مـن النار.

[ح] كرامة الإنسان ومسؤوليته إزاءها

30 – في العالم المنظور، إن كانت هناك أمة خاملة الذكر تثير حربا ضد ملك، فإنه لا يتجشم مشقة محاربتها بنفسه، بل يرسل جنودا مع رؤسائهم فيضطلعون هـم بأمـر الحـرب؛ أما إن كانت تلك التي تتحرك ضده أمة عظيمة الشأن ولهـا القـدرة أن تخرب مملكته، فإن الملك يلتزم بأن يمضي بنفسه مع بلاطه ومع جيوشه وينظم الحرب. فتبصر أنت إذا في مرتبتك، كون الله قد تحرك مع جيشه الخاص، أغنى الملائكة والأرواح القديسة، وجاء بنفسه للدفاع عنك، لكيما يفديك من الموت؛ فصن ذاتك إذا واعتبر أي تدبير قد صار لأجلك، فقد اقتبسنا مثالًا من أمور هذه الحياة، حيث إننا لا نزال فيها. فكما أنه إن كان هناك ملك قد وجد إنسانا معدما متألما، فما استنكف منه بل داوى كلومه بعلاجات شافية، وأحضره إلى بلاطه وألبسه برفيرا وتاجـا وأشركه معه في مائدته؛ هكذا أيضا المسيح، الملك الشمائي، قد جاء إلى الإنسان الذي برح به الألم، فداواه وجعله شريكا له في مائدته الملوكية، وما كان هذا رغما عن إرادة الإنسان، بل إنه بالإقناع يأتي به إلى هذه الكرامة.

31 – لأنه مكتوب في الإنجيل هكذا: «أرسل السيد عبيدة، لكي يدعو أولئك الذين يشاءون، معلنا لهم أن الوليمة قد أعدت. أما المدعوون فاستغفوا؛ فقال واحد: “إني قد اشتريت زوج بقر، وآخر: إني قد خطبت امرأة » (را: مت 22: 4 ، 5؛ لو 14: 17 – 20). فهـا أنـت تـرى أن صاحب الدعوة مستعد، أما المدعوون فأبوا، فهم الذين صاروا مذنبين في حق أنفسهم. فللمسيحيين كرامة عظيمة هذا مقدارها، فانظر كيف أن الرب قد أعد لهم الملكوت وهـو يـدعوهم ليدخلوا، أمـا هـم فـلا يشاءون!! فمن جهة العطية التي هم مزمعون أن يرثوها، ربما يقول أحد [- وهـذا حـق -] إنه إن كـان كـل إنسان منذ أن خلق آدم إلى انقضاء العالم يحارب قبالة الشيطان ويصبر على الضيقات، فلا يكون قد صنع شيئا عظيما إزاء المجد العتيـد أن يرثه، لأنه سوف يملك مع المسيح إلى الدهور التي لا نهاية لها. فالمجد لذاك الذي أحب مثل هذه النفس حتى أعطاها ذاته ونعمته واستأمنها عليهما! المجد لعظمته!

32 – فبحسب الظاهر، ها نحن – الإخوة الجالسين جميعا – لنا صورة واحدة وهيئة واحدة – هيئة آدم، فهل أيضا تبعا لذلك يكون لنا جميعا، بحسب الباطن وفي دخيلتنا العميقة، نية واحدة وقلب واحد؟ هل نحن كلنا واحد، صالحون ونتقي الله؟ أم إنّه يوجـد منـا مـن لهـم شـركة مع المسيح وملائكته، ومن لهم شركة مع الشيطان وأبالسته، رغم أننا نجلس جميعا معًا ونبدو وكأننا واحد، ولنا بأشرنا هيئة واحدة – هيئة آدم؟ فهـا أنـت تـرى كيف أن الجوهر العقلي”، أي الإنسان الباطن، يختلـف عـن الإنسان الظاهر، فجميعنا نبدو أنّنا واحد، رغم أن منا من هم مع المسيح وملائكته، ومن هم مع الشيطان والأرواح النجسة. فإن للقلب غورا لا قرار له، فهناك حجرات للضيافة ومراقد وأبواب ومداخل وخدمات كثيرة ومعابر، وهناك معمل البر والإثم، وهناك الموت وهناك الحياة، وهناك التجارة الصالحة وكذا ما يضادها.

33 – كمثل أن يكون هناك بلاط عظيم جدا قد ألم به خراب وامتلأ من كل نتن ومن جيف كثيرة، هكذا أيضا القلب، الذي هو بلاط المسيح، فإنه يغص بكل نجاسة وبحشود غفيرة من الأرواح الشريرة. فينبغي إذا لهذا البلاط أن يعاد بناؤه وتشييده من جديد، وتُجهز مخادعه ومراقده، لأنه هناك يأتي الملك المسيح مع الملائكة والأرواح القديسة كيمـا يستريح ويقيم ويتمشى ويرسي مملكته. بل إني أقول: كأنما سفينة موسقة وشفا عظيما، فإنه يوجد هناك الربان يضبط الجميع ويديرهم، فيوبخ هؤلاء ويوجه أولئك؛ هكذا القلب أيضا، فإنّ له العقل زبانا، والضمير مؤيخا، والأفكار مشتكية ومدافعة، لأنّه يقول: «وأفكارهم فيما بينها مشتكية أو مدافعة» (رو 2: 15)

34 – فها أنت تنظر أن الضمير لا يتستر على مثل هذه الأفكار التي تذعن للخطيئة، بل للحال يبكتها لأنّه لا يكذب، وإلا فما الذي سوف يجيب بـه أمام الله؟ فإنه في يوم الدينونة سوف يشهد أنه ما برح مبكتـا لـنـا على الدوام. كمثل أن يكون هناك مركبة ذات أعنة، ودوائها وعدتها جميعا تحت إمرة قائد واحد، فمتى شاء ذاك، ينطلق بأقصى سرعة محمـولا بالمركبة، ومتى شاء فإنه يكبح جماحها، وأيضـا أينمـا يـرغـب أن يوجهها فهناك تذهب معه، لأن المركبة برمتهـا مـوضـوعة تحت سلطان قائدها؛ هكذا القلب أيضا، فإن له أفكارا طبيعية كثيرة مربوطة به، والعقل – والضمير هما المنوط بهما أن ينتهـرا القلب ويهدياه ويوقظا الأفكار الطبيعية التي تنبع فيه، لأن النفس – وإن تكن واحدة – لها أعضاء كثيرة.

35 – فمنذ الوقت الذي خالف فيه آدم الوصية، انسلت الحيّة إلى الداخل وصارت سيدة البيت، وباتت وكأنها نفس أخرى إلى جوار النفس. لأن الرب يقول: «كل من لا ينكر نفسه، ومن لا يبغض نفسه، فليس هو بتلميذي» (را: مر 8: 34 ؛ لو 14: 26)، وأيضا «الذي يحب نفسه سيهلكها» (يو 12: 25– حسب النص). فإنّه لما دخلت الخطيئة إلى فتبعت من النّفس، باتت عضـوا منهـا والتصقت التصاقا بالإنسان الجسـداني ذاته، القلب أفكار كثيرة ودنسة. فذاك الذي يصنع مشيئات نفسه إنما يصنع مشيئات قلبه، حيث إن النفس قد جدلت مع القلب وامتزجت به؛ أما الذي يخضع نفسه ويغضب على ذاته وشهواته الملازمة له، فإنّه يصبح بمثابة من أخضع مدينة أعدائه، ويصير أهلا لأن يرقى إلى قامة الروح القدس الصالحة، ويحصل بالقدرة الإلهية على “الإنسان النقي» ويغدو أعظم من نفسه. لأن مثل هذا الإنسان يتأله ويصبح ابنا لله، نائلًا السمة السماوية في نفسه، إذ إن مختاري الله يمسحون بزيـت التّقديس ويصيرون شرفاء بل وملوكا.

[ط] ميل الإنسان طوعا نحو الخير أو الشتر

36 – فإنّ للإنسان مثل هذه الطبيعة، حتى إن ذاك الذي هو في عمق الشر وعبد للخطيئة له أن يتحول إلى الصلاح، وكذا المربوط بالروح القدس والذي قد تُمل بالسماويات له القدرة أن يتحول إلى الشر. كمـا لـو كـان هناك امرأة تتزر بأسمـال باليـة وتتضور جوعا وفي حالـة مـن القذارة، قد حظيت بعد بجشمها أتعابا جزيلة بكرامة ملوكية وتزيت ببرفير وتاج وغدت عروسا للملك. هذه تذكر قذارتها السالفة، وتملك الإرادة لأن تعود أدراجها إلى حالتها الأولى، لكنّها لا تختار أن ترتد إلى سابق خزيها، إذ إن هذا يعدّ حماقة. أما الذين قد ذاقوا نعمة الله وصاروا شركاء الروح القدس، (۳)، فإن كانوا لا يحترسون لأنفسهم ينطفئون ويصيرون أسوأ مما كانوا عليه حين كانوا يعيشون بحسب العالم. ليس أن الله متغير أو ضعيف، أو أنّ الروح القدس ينطفئ (من ذاته)، بل إن البشر أنفسهم هم الذين لا يتوافقون مع النعمة، ومـن أجـل هـذا ينحرفون ويسقطون في ربوات مـن الشـرور. لأن الذين ينعمون بمذاقة تلك العطية يلازمهـم كـلا الأمرين معا: الفـرح مـع العـزاء، والخوف مع الرعدة، والتهليل مع النوح، إذ ينوحون على ذواتهم وعلى جنس آدم بأسره، لأن طبيعة البشر هي واحدة، وهؤلاء دموعهم هي خبز لهم ونوحهم حلاوة ونياح. 

37 – فإن أبصرت إنسانا قد تشامخ وانتفخ لأنّـه قـد صـار شـريكا للنعمة، فحتى وإن كان يجترح آيات ويقيم موتى، لكن نفسه ليست مهانة ولا مزدرى بها، وليس هو مسكينا بالروح ولا مرذولا، فإنه يسرق من الشر دون أن يدري؛ فحتى ولو كـان يصنع آيات فيجـب عـدم تصديقه. لأن علامة المسيحية هي هذه: أن يكون الإنسان مزگی عند الله، ويجتهد أن يتوارى عن الناس. حتّى ولو كان يحظى بكل كنوز الملك فإنه يخفيها، وما ينفك يقول على الدوام: “هذا ليس لي، بل إن آخر قد عهد إلي بهذا الكنز، أما أنا فمسكين، ومتى شاء ذاك فإنه يأخذه مني”. أما إن كان أحد يقول: “إني غني ومكتف وقد ربحث ولا حاجة لي إلى شيء“، فمثل هذا ليس بمسيحي، لكنّه إناء للضلال والشيطان. لأن التمتع بالله لا يشبع منه، وكلما نعم أحد بمذاقته وأكله، غدا أشد جوعا إليه. مثل هؤلاء يقتنـون نحو الله لظى وعشـقا لا يمكن إخماده، وعلى قـدر مـا يجتهدون لكي يتقدموا ويربحوا، يحسبون ذواتهم مساكين ومعوزين ولا شيء لهم، لأنهم يقولون: “إني لست أهـلا لأن تضيء حـولي هـذه الشمس“، هذه هي علامة المسيحية، هذا هو التواضع.

38 – أما إن كان أحد يقول: “إني مكتف، وقد استكفيت تماما، فهذا مضل وكاذب.

وكما أن جسد الرب قد تمجد حين صعد إلى الجبل، وتجلى إلى مجد إلهي وإلى نور لا يسبر مداه، هكذا أيضا أجساد القديسين تتمجد وتلمع مثل البرق. فكما أن مجد المسيح المذخر في داخله قد امتد إلى جسده وتوهج، هكذا أيضا بنفس الطريقة بالنسبة للقديسين، فإن قدرة المسيح المكنونة داخلهم تندفق خارجا في ذلك اليوم إلى أجسادهم، فإنهم يشتركون – منذ الآن، في أذهانهم – في ما هو من جوهره وطبيعته، لأنه مكتوب: «المقدس والمقدسون لهـم مـن واحـد» (عب 2: 11)، و«المجد الذي أعطيتنيه قد أعطيتهم» (يو 17: 22). فكما أنّـه مـن نار واحـدة توقـد مصابيح كثيرة، كذلك من الضرورة بمكان أن أجساد القديسين – كونها أعضاء المسيح – تؤول إلى ما يكونه المسيح نفسه.

39 – سـؤال: كيـف للمسيحيين أن يفضلوا على آدم الأول، إذ إنّ ذاك كان غير مائت وغير فاسد نفسا وجسدا، أما هؤلاء فيموتون ويدب فيهم الفساد؟

الجواب: إنما الموت الحق هو ذاك الداخلي، في القلب، وهو مستتر، والذي يمـوت بـه هـو الإنسان الباطن. فإن كان أحد قد «انتقـل مـن الموت إلى الحياة» داخليا، فهذا بالحق يحيا إلى الدهور ولا يموت. وأما إن كانت أجساد مثـل هـؤلاء تنحل ردحا من الزمن، فإنمـا تقـوم مجددا في مجد لأنها مقدسة، لذلك فنحن ندعو موت المسيحيين نوما ورقادا. ولكن لو كان الإنسان لا يموت وجسده لا يفسد، لكان كل العالم – إذ ينظـر عـجـب هـذا الأمر، أن أجساد المسيحيين لا يعتريهـا فـسـاد – ييتم شطر الصلاح، لا عن إرادة واختيار بل بنوع من الاضطرار.

 40 – ولكن لكيما تتجلى بشكل قاطع الإرادة الحرة التي وهبها الله منذ البدء للإنسان وتدوم، فإنّ الأمور تضبط بحسب التدبيرويصير انحلال للأجساد، كيما يكون في دائرة مشيئة الإنسان تحوله نحو الصلاح أو الشر. لأن الذي أعطى نفسه بالتمام للشر وهو موغل في الخطيئة، وقد جعل من نفسه إناء للشيطان الذي يسود عليه بالتمام، ليس هو مربوطا بالشر قسرا، بل إن له الحرية ليصبح إناء مختارا للحياة. كذا بالمثل الذين قد تُملوا باللاهوتية، وإن يكونوا ممتلئين بالروح القدس ومربوطين به، فإنهم ليسـوا ممسوكين غصبا، بل لهم الإرادة الحرة أن يغيروا وجهتهم ويعملوا ما يشاءون في هذا الدهر.

[ي] نمو الإنسان رويدا رويدا

41 – سـؤال: هل يتضاءل الشـر ويستأصـل على مراحـل، ويتقـدم الإنسان إلى النعمة، أم إن الشر يجتث في الحال إذا ما حظي الإنسان بنمو؟

الجواب: كما أن الجنين في الرحم لا يكتمل نموه رجـلا على الفور، ولكنه يتشكل تدريجيا ثم يولد، على أنه لا يولد كرجل بالغ بـل ينمو في سنين عديدة ثم يغدو رجلًا؛ وعلى غرار بذار الشعير أو الحنطة، فإنّها لا تضرب بجذورها في الحال بمجرد إلقائها في الأرض، بل إن عواصف ورياحًا تعبر عليها، وحينذاك، وفي الوقت المناسب، تتكون السّنابل؛ وكذا ذاك الذي يغرس شجرة كمثرى لا يجني حالا الأثمار؛ هكذا أيضا في الأمـور الروحية – حيث مقدار الحكمة والدقة عظيم هكذا – ينمو الإنسان قليلا قليلا، و«يبلغ إلى رجل كامل، إلى قياس قامته»، وليس كما يزعم قوم: “البس هذا، واخلع ذاك؟! 

42 – فالذي يروم أن يتعلم الآداب، يمضي أولا ويتعلم الحروف؛ وحين يصبح الأول هناك، يذهب إلى مدرسة يتعلم فيها الرومية حيث يكون فيها آخر الكل؛ ثم حين يحرز قصب السبق فيها، يمضي إلى مدرسة البلاغة والتي فيها يكون أيضا مبتدئا وفي آخر الصفوف؛ ومتى صار محاميا يكون مبتدئاً وسط الفقهاء وآخـر الكـل، ثم حين يبر أقرانه يغدو هـو المتقدم بينهم، وعندما يصبح رئيسا يتخذ لنفسه مشيرا يعاونه. فإن كانت الأمور المنظورة لها مثل هذه المراحل للتقدم، فكم بالأحرى الأسرار السماوية يكون لها أطوار للتقدم، وتنمو خلال درجات كثيرة، وحينذاك، وعبر تدريب كثير وامتحانات عدة، يصبح كاملا ذاك الذي يجتازها حتى النهاية.

[ك] منزلة الإنسان الأثيرة عند الله

ذلك أن المسيحيين الذين قد تذوقوا النعمة حقا، واقتنوا علامة الصليب في أذهانهم وقلوبكم)، هؤلاء – مـن الملوك إلى الفقراء – يحسبون كـل الأشياء زبلا ونتنا، وهـم لهـم القـدرة أن يعرفوا أن العالم الأرضي بأسره، وكنوز الملوك، والغنى، والمجد، وكلمات الحكمة، إن هي إلا خداغ، ليس لها أساس راسخ بل هي إلى زوال؛ وأي ما كان تحت السّماء يحتقرونه بأيسر مرام.

43 – لماذا؟ لأن ما هو غريب وعجيب إنما هو الأمور التي فـوق السّماوات، التي ليست في كنوز الملوك ولا في حكمة الكلام ولا في المجد العالمي. ولأن الكرامات والغنى الذي يحظى به أولئك الذين قد اقتنوا رب كل الأشياء وخالقها في إنسانهم الداخلي، إنما هي قنية لا تزول بل تبقى. فالمسيحيون يعلمون قيمة النفس أنها تفوق كل المخلوقات، لأنّ الإنسان وحده هو الذي خلق على صورة الله وشبهه(٢). فها هي ذي السماء كـم أنها فائقة العظمة، والأرض كذلك، والخلائق التي فيهما ثمينة، وعظيمة هي الكائنات التي فيهما؛ أما الإنسان فيفضل قيمة على جميع الكائنات، لأن بـه وحـده قـد سـر الـرب، مع أن حيتان البحر والجبال والوحوش أعظـم بحسـب الظـاهـر مـن الإنسان. فانظر إذا منزلتك، كم أنك ثمين! فإن الله جعلك فوق الملائكة، وذلك حين جاء هو نفسه بذاته على الأرض من أجل أن يشفع فيك ويفديك.

44- فلقـد جـاء الله مع ملائكته لخلاصك، فإن الملك، ابن الملك، قد تشاور مع أبيه، فأرسل الكلمة، وإذ ليس جسدا وأخفى لاهوته – لكي يخلص المثيـل بالمثيـل – وضع نفسه على الصليب . فما أعظم محبة الله للإنسان، حتى إن غير المائت اختار أن يصلب من أجلـك! فانظر كيـف أن «الله أحـب العـالم حـتى بذل ابنه الوحيـد لأجله»، «فكيف لا يهبنا معه كل شيء»°)؟ وأيضا في موضع آخر يقول: «الحق أقول لكـم إنه سيقيمه على جميع أمواله» (مت 24: 47). بل وأيضا يري في موضع آخر الملائكة خداما للقديسين، لأن أليشع لما كان في الجبل وأتت عليه القبائل الغريبة، قال له غلامه: “إن كثيرين مُقبلون علينا ونحن وحدنا، حينئذ أجاب أليشع: “ألا ترى جيوش الملائكة وحشودهم معنا حوالينا ليؤازرونا ؟ فها أنت تنظر أن السيد مع حشود ملائكته ملازم لعبيده، فكم تكون عظمة النفس إذا! وما أكرم قيمتها عنـد الله! حـتى إن الله وملائكتـه يطلبونهـا للشركة الخاصـة معهـم وللملكوت، أما الشيطان وقواته فيطلبونها لنصيبهم.

45 – فكما أنه في الأمور المنظورة لا يخدم الملك من الرعاع بـل مـن الحسان المتأدبين جيدا؛ كذلك أيضا في البلاط السماوي، الذين يخدمون الملك السمائي هم أولئك الذين بلا عيب ولا لؤم، الأنقياء بقلوبهم. وكما أنه في البلاط يؤتى بالعذارى الحسان اللائي ليس بمن عيب، الأبرع جمالا، ويمضى بمين إلى رفقة الملوك؛ هكذا أيضا في البلاط الروحاني، فإن النفوس المزدانة مـن كـل وجه بالصالحات، هي التي يكون لها شركة مع الملك السماوي. ففي العالم المنظور، أينما يمضي رئيس ليقيم، ويحدث أن يكون في ذلك البيت قذارة ما، فإنّه يهيا ويجري هناك ترتيب ضخم وتُفرق الأطياب؛ فـكـم بالحري منزل النفس الذي فيه يستريح الرب ـ يحتاج إلى ترتيب – كثير، كي يتسنى لـذاك الذي هو بلا دنس ولا عيب أن يدخل فيـه ويستريح، لأنّه في مثل هذا القلب يستريح الله وكل الكنيسة السماوية. 

46 – ففي الأمور الظاهرة، إن كان لأب أملاك وتيجان وحجارة كريمة، فإنه يخبئها في حجرات سرية ويدخرها لابنه الحبيب ويعطيها له ؛ هكذا أيضا قد استأمن الله النّفس على مقتناه الذي له مع نفائسه الخاصة. وفي العالم المنظور، لو أن حربا قد نشبت ومضى ملك مع جيشه للمعركة، ويكون قسمه هو الأقل أو الأضعف، فإنه يرسل للوقت سفارة سائلا ما هو للسلام؛ أما إن كانت هناك أمة عظمى قبالة أخرى صنوة لها، أو ملك قبالة ملك – مثلا ملك الفرس قبالة إمبراطور الرومان ـ فـلا مندوحة للملكين عن أن يتحركا كلاهما للحرب بكامل جيوشهما. فانظر كم تكون منزلتك حتى إن الله تحرك للحرب مع جيوشه الخاصة – أعني الملائكة والأرواح – لمحاربة المقاوم”، لكي يفتديك من الموت؛ فالله إذا إنما من أجلك قد جاء.

47 – كما لو أن هناك ملكا قد وجد فقيرا مبتليًا بالبرص في جميع أعضائه، غير أنه لم يأنف منه، بل وضـع مـراهم على جروحه وداوى قروحه ومضى به إلى مائدته الملوكية وألبسه برفيرا وجعله ملكا؛ هكذا أيضا قد صنع الله مع جنس البشر، فلقد غسل جراحاتهم وطببها وأدخلهم إلى الجذر الشماوي. فما أعظم منزلة المسيحيين هذه، فما من شيء يمكن مقارنته بها! أما إن كان أحد يستعلى ويسرق من الشر، فمثـل هـذا كمثل مدينـة بـلا سـور يتسلل إليهـا الصـوص مـن أي موضع يشاءون دونما عائق ويخربونها ويحرقونها؛ هكذا أنت فيما تكون مهملا وغير منتبه لنفسك، تنقض عليـك أرواح الشر وتفسد عقلك وتخربه وتشتت أفكارك في هذا الدهر.

[ل] السهر على القلب وتعهده

48 – فإن كثيرين يدققون في الأمور الخارجية، ويتقنون العلم، ويعتنون بسيرة مستقيمة، ويتوهمون أن هـذا هـو الكمال، فلا يمعنـون النظر داخـل القلب ولا يرون فيـه الشـرور تُحكـم حـصـارها على النفس. لأن الشـر – بحسب معناه الباطن – هو جذر ضارب في الأعضاء، واللص – أعني القوة المعادية – متواجد في البيت، وهذه القوة قوة مناوئة وعاقلة. فما لم ينصب الإنسان جهاده قبالة الخطيئة، ينساب الشر الباطن رويدا رويدا ثم يفيض فيدفع الإنسان لاقتراف خطـايـا ظـاهرة، فالشر، كعين البئر، ينبع على الدوام. فاصرف عنايتك إذا بأن توقف تدفقات الشر، لكي لا تكون – فيما أنت ساقط في ربوات مـن الشـرور – كمـن هـو في ذهول، ويكـون حالك كحال إنسان شريف الجنس، غني، بلا هم، قد قبض عليه خدم الحاكم وخرشه، ومضـوا بـه قائلين: “إنك متهم بشكوى، وتحت حكـم الموت ، فمن فزع الخبر، أسقط في يده وبات كمن دهمه ذهول.

49 – فطبق هذا أيضا على أرواح الشر، لأن الذين في العالم المنظور – من الملوك إلى الفقراء – هم في اضطراب وتشويش وتناحر، وليس منهم من يعلم العلة، التي هي الشر الظاهر الذي انسل بواسطة معصية آدم، أي شوكة الموت. لأن الخطيئة التي تسللت، وهـي قـوة عقليـة مـن الشيطان وعنصـر شـرير، دأبت أن تبذر كـل الشـرور، وهي تعمـل – خفية – في الإنسان الباطن وفي الذهن وتقاتل الأفكـار. لكـن البشـر لا يدرون أنهـم يقترفون هذه الأمور مسوقين بقوة أخرى، بل يظنون أنها طبيعية وأنهم إنّما يصنعونها من فكرهم؛ أما الذين يقتنون سلام المسيح ونوره في ذهنهم، فإنّهم يعلمون من أين تثور هذه الأمور.

50 – فإن العالم يتألم ألم الشر وهو لا يدري. فإنه توجد ناز نجسة تشعل القلب، وهكذا تسري إلى كل الأعضاء، وترغب النّاس في الفسق وفي ربوات من الشرور. فالذين يغوون ويتلذذون، يتيمون الزني داخليا في القلب، وهكذا لما يرتع الشر يسقطون في زئي ظاهر. اعتبر ذات الأمر أيضا فيما يخص محبة الفضة، والمجد الباطل، والتّصلف، والحسد، والغضب. كمثـل أن يدعى أحـد إلى وليمة وتوضع أمامه أطعمة كثيرة، فتستميله الخطيئة إلى أن يمد يده إلى الجميع، وهكذا توجد نفسه التي تلذذت بهذا وقد ناءت بحملها. فالأهواء إنما هي جبال يقال في وسطها أنهار تنانين ووحوش مسمة وزواحف، وعلى مثال الحوت يبتلع إنسانا في بطنه، هكذا الخطيئة أيضا تبتلع النفوس. فالأهواء هي لهب نار تحرق، وسهام ملتهبة للشرير، لأن الرسول يقول: «لكي نقدر أن نطفئ سهام الشرير الملتهبة» (أف 6: 16 . حسب النص)، فإن الشـر قـد رعى في النّفس وأرسى أساساته حواليها.

51 – أما الحكماء، فمتى ثارت عليهم الأهواء لا يطيعونها)، بل يغضبون على شهواتهم الشريرة ويناصبون أنفسهم العداء. لأن للشيطان رغبة عارمة أن يستريح في النفس ويبسط جناحيه، بينما يتملكـه الكرب ويضيق ذرعا حين لا تطيعه النفس. فيوجد أناس – إذ ينالون قوة من القدرة الإلهية – حين يرون شابا مع امرأة، وإن كانت تنتابهم أفكار، لا يندئس عقلهم ولا يكمل الخطيئة داخلهم، لكن حتى من هو هكذا ليس له أن يثق بنفسه. فهناك آخرون قـد گـفـت فيهم الخطيئة بالتمام وانطفأت وجفت، غير أن هذه القامات هي للعظماء. فكما أن التجار ينزلون غراةً إلى عمق البحر ويكونون على شفا الموت غرقا، لكيما يجدوا هناك لآلئ فيرضعوا بها تاجا ملوكيًا ويزينوا بها أرجوانا؛ هكذا أيضا الرهبان يخرجون عراة من العالم وينزلون إلى قعر بحر الشر وإلى لجة الظلمة، ويظفرون من الأعماق بحجارة كريمة ويصعدونها لائقة بتـاج المسيح وبالكنيسة السماوية وبـدهر جديد ومدينة منيرة وحشد ملائكي.

52- وكما أن أصنافا كثيرة من السمك تسقط في الشبكة، فيطرحون منها ما لا نفع منه مرة أخرى في البحر مباشرة؛ كذلك أيضا شبكة النعمة تبسط جناحيها على الجميع وتطلب راحة، لكن بني البشر لا يطيعون! مـن أجـل هـذا يطرحـون مـرة أخـرى في هؤة الظلمة عينها. لأنّه كما أن الذهب تغسـل منـه كمية كبيرة من الرمل لكيمـا توجـد منـه ذرات صغيرة جدا؛ هكذا أيضـا مـن بين كثيرين، قليلون هم الذين يرگون. فالذين لهم عمل الملكوت هم ظاهرون، وكذا الذين يزينون كلامهم؛ والمصلحون بالملح السماوي الـذيـن مـن كـنـوز الـروح القدس يتكلمـون، هـم كـذلك ظاهرون؛ فالآنية التي يسر بها الله ويغدق عليها نعمته هي ظاهرة. وهناك آخرون أيضا يقبلون بعد صبر كثير القوة المقدسة، بطرق شتى كما يشاء الله. فالذي يتكلم، إن لم يكن مقتـادا بنور سماوي وحكمة، لا يمكنه أن يقنع عقـل كـل أحد، لأن نيـات النـاس كثيرة، فقوم في حرب وآخرون في راحة.

53 – فكما حينما تكون هناك مدينة خربة ويريد أحد أن يعيد بناءها، فإنه للوقت يطرح تماما ما تهدم وسقط ثم يبدأ في الحفر ويضع الأساسات حيث حفر ويصعد بالبناء، بينما لا يكون هناك بيت بعد؛ والذي يروم أن يصنع فردوسا في مواضع قاحلة ونتنة، يبدأ أولا في أن ينقيها ويحيطها بسياج ويهيئ قنـوات، وعندئذ يغرس ثم تنمـو الأغـراس وبعـد زمـان طويل يأتي الفردوس بثمر ؛ كذلك أيضا نيات البشر من بعد التعدي هي مجدبة ومقفرة ومملوءة أشواكا، لأن الله قال للإنسان: «شوكا وحسكا تُنبت لك الأرض» (تك 3: 18). فالحاجة إذا إلى جهد وتعب كثير، لكي يفتش الإنسان عن الأسـاس ويحتفظ به، إلى أن تأتي إلى قلوب البشـر ناز تأخـذ في تنقيـة الأشـواك(1)، وهكذا يبدأون في أن يتقدسـوا ممجـدين الآب والابـن والـروح القدس إلى الدهور، آمين.

 

زر الذهاب إلى الأعلى