عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي

التطويبة الثانية

طوبى للودعاء

1 إن أولئك الذين يصعدون سلما، حين يصعدون درجة يتخذون الثانية. والثانية تقود إلى الثالثة، وهكذا دواليك. وحين يصعد الإنسان بشكل تدريجي يرتفع شيئا فشيئا. وفي النهاية يدرك القمة.

العلاقة بين التطويبة الأولى والتطويبة الثانية

إلى أين يقودنا هذا الدخول في الموضوع؟ إن درجات التطويبة تشبه درجات متنوعة، كما يبدو لي، ومن السهل أن نعرض الصعود. والذي أدرك، روحيا، الدرجة الأولى في التطويبات ، ففي منطق سليم، يسعى إلى الثانية. ولكن هذا الكلام، للوهلة الأولى، يرن في آذاننا بشكل غريب. وقد يجد سامع أنه يستحيل أن ندرك، بعد ملكوت السماوات، ميراث الأرض. وهكذا يبدو أكثر منطقيا أن ينطلق الإنسان من الأرض إلى السماء. لأن صعودنا ينطلق من الواحدة إلى الثانية.

ولكن إن رفعنا تفكيرنا حتى السماوات، نجد هناك الأرض التي تمنح ميراثا للذين عاشوا حياة فاضلة. وهكذا ما تبلبل ترتيب التطويبات حين وعدنا الله أولاً بملكوت السماوات ثم بالأرض.

 وما يبدو، في نظرة أولى، أرضيا، هو في الواقع من ذات طبيعة الذي سبقه، بل ما يبدو – على مستوى المكان – أن موضعه يتحدد فوق، هو عملياً أدنى من الجوهر الروحي. فالفكر لا يسعه أن يرتفع إلى هناك دون أن يبدأ العقل فيتجاوز المحسوس.

فإذا دلَّت الأرض على الميراث السامي، فهذا ينبغي ألا يصدمك : فالكلمة الإلهي أراد أن يتنازل حتى دناءة ذهننا. فجاء إلينا، لأننا لم نکن قادرين على الارتفاع إليه.

هو يمنحنا الأسرار الإلهية بألفاظ وتسميات اعتدنا عليها في حياتنا كل يوم. دعا في الوعد السابق «ملكوتاً»، سعادة السماء التي لا توصف. وعاد إلى ما يرى في ملكوت الأرض : التيجان حيث تشع الحجارة الكريمة، اللباس الأرجواني الذي يبهر الحاضرين بتألقه ، الأرومة، الأردية، العرش المرتفع الرفيع الذي حوله يقف المرافقون ، وكل الغنى الذي يحيط على مسرح الحياة الحاضرة، بعظماء هذا العالم، الذين يسعون هكذا بأن ينموا بهاء قدرتهم.

معنى الملكوت

يرسم أمامنا لفظ الملكوت فكرة العظمة، التي تتجاوز كل ما له لمعان في نظر البشر. هذا هو السبب الذي لأجله استعمل المسيح هذه العبارة ليدل على خيرات رفيعة. فلو وجد شيء أعظم الملكوت ، لكان استعمله الرب، بكل تأكيد، ليحرك في قلب سامعيه الرغبة بسعادة لا يعبر عنها.

كان من المستحيل أن يدل بألفاظ خاصة على خيرات تتجاوز ذهننا ومعرفتنا. «ما لم تره عين ولم تسمع به أذن وما لم يخطر على قلب بشر» (1کو2: 9 ؛ إش64: 3).

معنى أرض

إذا أردنا للتطويبة المذكورة أن لا تفلت كلها من فكرنا، كشف لنا اللامدرك بشكل يتيح لفقر طبيعتنا أن تدركه. والمدلولان الاثنان للفظ «أرض» لا ينبغي أن يعيدا فكرنا من السماء إلى الأرض المادية ، لأنّ عرض التطويبات السابقة أصعدك وأتاح لك أن ترتفع حتى رجاء السماء : فاهتم، إذا، بالأرض، التي لا تعطى ميراثا للجميع ، بل فقط للذين، بوداعة ممارسة خلال حياتهم، اعتبروا أهلاً لهذا الوعد.

ويبدو لي أن داود العظيم، بشهادة الكتاب المقدس، تميز بين جميع معاصريه بوداعته وطول أناته، فتحدث مسبقا، بإلهام من الروح القدس، على هذا الوعد، وبالإيمان أدرك هذا الرجاء حين قال : «أرجو أن أرى حسنات الرب في أرض الأحياء» (مز27: 13).

ولا يبدو لي أن النبي دل بعبارة: «أرض الأحياء» على الأرض التي تنتج جميع المائتين، وتستعيد في حضنها كل ما جاء منها. ولكنّه يستشف في «أرض الأحياء» تلك التي لا تعرف الموت، والتي داسها الخطأة يوما وحيث لا يحق للشر أن يقيم، التي ما فلحها زارع الزؤان، التي لا تنتج الشوك والعوسج. هناك تتفجر عين الراحة ، وهناك نجد موضع المرعى والنبع الذي يتوسّع في أربعة أنهر (تك2: 10)، حيث الله الخالق غرس كرمته (إش 5)، وحيث نجد كل الخيرات التي يصفها لنا الوحي بالصور.

حين نفكر بهذه الأرض السامية التي هي فوق السماوات، والتي عليها تقوم مدينة الملك (الإلهي)، والتي عليها «تتلى أخبار المجد» (مز87: 3)، كما يقول النبي، فتدرج مختلف التطويبات لن يفاجئنا. ولا يكون لائقا أن نجعل الناس يرجون الحياة الحاضرة، أولئك الذين ، كما يقول الرسول، «يخطفون في سحب السماء للقاء الرب في الهواء، وهكذا يكونون دوما مع الرب» (1تس4: 7).

من هم الودعاء

2 لنز لأية فضيلة ستُعطى هذه الأرض أجرًا. «طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض». فبم تقوم هذه الوداعة؟ لماذا أعلن الكلمة الإلهي الوداعة مطوبة؟

لا يبدو لنا صحيحاً أن نفهم، بدون تمييز، تحت اسم هذه الفضيلة كل ما يتم بوداعة، إذا فهمنا بهذا اللفظ الدم البارد والبلادة.

فالراكض الرخو ليس أكثر وداعة من الذي سبقه. وفي مباراة، لا يربح المعركة ذاك الذي هو أكثر بطئًا. وحين نركض لقاء أجر وعدت به دعوتنا كمسيحيين، يحثنا بولس على أن نعجل: «اركضوا بحيث تنالون النصر» (1کو9: 24). وهو نفسه كان يسير بقدم حارة فينسى ما هو وراءه، ويصارع والسلاح في يده، فيطلق السهم لا بطريق الصدفة وفي الفراغ، بل يصيب النقطة التي تجرح لدى عدوه، فيوجه ضرباته على الجزء المعرض في الجسد.

أتريد أن تعرف أسلوب بولس في الصراع؟ انظر جراح الخصم (2کو11: 23). عد الضربات التي نالها هذا الخصم وتأمل جراح المهزومين.

وأنت لا تجهل أي خصم يقاتل في بدنه (لحمه ودمه) الذي يضربه ، يجلده بالعفة، يميته بالجوع والعطش والبرد والعري. ويطبع فيه سمات الرب (غل6: 17). يركض فيغلبه ويتجاوزه (1کو9: 24) لئلا يغطي الظلام عينيه (رو11: 10) حين يسبقه خصمه.

إذا كان بولس امتلك أسلوبا حيًا، سريعا، خفيفا، إذا كان داود أطال خطواته ليهاجم أعداءه (مز18: 37)، إذا شبه حبيب نش2: 8 بالغزال الذي يقفز فوق الجبال ويطفر فوق التلال – ويمكن أن نورد عددا كبيرا من الأمثلة حيث العجلة تسبق البلادة – لماذا يمتدح المسيح الوداعة ويدعوها مطوبة وأهلاً للأجر؟

أعلن : «طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض». هذه الأرض الخصبة بالثمار العجيبة حيث نجد شجرة الحياة (رؤ22: 3)، التي تسقيها ينابيع العطايا الروحية، وحيث تنضج الكرمة الحقيقية التي نعرف أنّها مغروسة بيد الآب (يو15: 1).

الوداعة الإنجيلية هي صعود

3 بدا الكلمة الإلهي كأنه يشير إلى أنّ منحدر الرذيلة زالق، وأنّ طبيعتنا تميل باتجاه الشر، بما أن الأجساد تبقى جامدة ما دامت موجهة نحو العلاء. ولكن إن ألقيت من قمة الجبل فإنها تسقط بسرعة متزايدة بسبب وزنها، سقوطا جنونيا بحيث يفلت من أي وصف. وسقوط جنوني مثل هذا هو أمر يحمل الخراب. أما الذي يأخذ الطريق المعاكسة فيعتبر هنا مغبطا. تلك هي الوداعة التي تعارض عنف الانحدار بثبات بارد ومتأن.

وكما أن النار بطبيعتها ترسل لهبها نحو العلاء ولا تتحرك في الاتجاه الآخر، فالفضيلة، السريعة والقاطعة، تحمل دوما نحو العلاء ولا تتحرك في الاتجاه الآخر. فتحرك طبيعتنا محمول إلى أسفل بسبب ثقلها. ولهذا يعلنون أن ما هو ثابت هو مغبوط. فما هو فينا ساكن، يدل على صعوده.

ومن الأفضل أن نلون كلامنا بأمثلة مستقاة من الحياة. فإرادة كل منا هي اثنتان، فتأخذ، كما تشاء، اتجاهين اثنين : اتجاه الاعتدال ، واتجاه اللاعفة. ما نستطيع أن نقوله عن فضيلة أو عن رذيلة، ينطبق على كل القيم الأخلاقية. فالطبيعة البشرية تختار، بأي حال، بين اتجاهين متعاكسين : الغضب أو الوداعة، الكبرياء أو التواضع. الحسد أو اللطف، البغض أو الطيبة التي ترشح بالسخاء والسلام.

فكما أن الحياة البشرية تتضمن عنصرا جسميا فيه تجد الأهواء جذورها، وأن كل هوى يتوق بقوة لا تقاوم إلى تهدئة الإرادة (فالمادة وزنها ثقيل)، لا يعلن الرب مطوبين أولئك الذين حياتهم بمنأى عن الأهواء، لأنه يستحيل في وجود أرضي أن يتحرر الإنسان كليا من الحواس ومن الأهواء. والمسيح يدعو وداعة شكل الفضيلة الذي نقدر أن ندركه خلال حياتنا المائتة، ويؤكد أن الوداعة تكفي للوصول إلى الطوبى. فلا يفرض عدم التألم التام : فالمشترع الآثم وحده يقدر أن يطلب من الطبيعة البشرية ما لا قبل لها به.

هكذا يكون تقريبا كما لو أننا طلبنا من الأسماك أن تعيش في الهواء، أو عكس ذلك، أن تعيش الطيور في الماء. فينبغي على الناموس أن يتكيف واستعدادات الطبيعة. فالتطويبة تفرض الاعتدال والوداعة، لا غياب الأهواء غيابا كليا، فهذا يستحيل على الطبيعة ساعة يمكن ممارسة هاتين الفضيلتين.

إذا كانت التطويبة ترفض كليا كل غوى وكل رغبة، فالبركة تكون بلا فائدة ولا استعمال. فأي كائن من لحم ودم يسعه أن يدركها؟ فالرب لا يشجب أولئك الذين يسقطون عرضا في الهوى، بل ذاك الذي يعمل للأهواء ويرضيها بملء حريته.

السيطرة على الأهواء وتوجيهها

 من الطبيعي لضعفنا أن نرى فيه خروج اندفاعات ضد إرادتنا. ولكن ينبغي ألا يجرفنا الهوى مثل سيل مندفع : ينبغي أن نقاومه بشجاعة ونبعده بعقلنا. تلك هي مهمة الفضيلة.

4 طوبى للذين يتراجعون بسهولة أمام اندفاعات الهوى، بل يعرفون أن يسودوها بالعقل. فالعقل يعمل مثل رسن حصان : يسيطر على تحركات الهوى ويحمي النفس من انحرافاتها.

مثل الغضب

نفهم أن الوداعة ويسهل علينا حين نحلل فوضى الغضب، أن مطوبة. كلمة في غير مكانها. عمل أو، بكل بساطة، افتراض يحرك هذا المرض، فيجعل الدم يدور ويحول القلب. ونستطيع أن نرى، كما في الميتولوجيا، أن شراب المحبة ينتج التحول إلى حيوانات : هنا الغضب يحول الإنسان إلى خنزير، إلى كلب، إلى أي حيوان آخر. تمتلئ العين بالدم، وينتصب الشعر على الرأس، الصوت أجش، والكلام عديم التهذيب، واللسان يصبح مجمدا وغير قادر أن يعبر عن عواطف تبلبل قلبه، والشفتان لا تعودان تتكلمان بشكل مفهوم فلا تعودان تتسلطان على اللعاب، بل تتكلمان مثل الموج وترسلان «رشاشا». وكذلك اليدان والرجلان والجسد كله الذي يحركه الهوى. ويصبح إن كان رجلان، ورجل واحد يتصرف هكذا، أما الآخر فيحاول أن يهدئ المرض ببراهين عقلية، بعين صافية وصوت هادئ، مثل طبيب يعاون بفته شخصا يتخبط في نوبة جنون، أما ترى أنت نفسك حين تقابل بين الاثنين أن واحدا يستحق الشفقة والقرف لأنه استسلم إلى غرائز البهائم. أما الوديع فيستحق أن يدعى مطوبا، لأنه حافظ على هدوئه مقابل شر قريبه.

من الواضح أن الكلمة الإلهي أشار هنا إلى هذا الهوى (هوى الغضب) لأن الوداعة ترافق التواضع . فالاثنان مرتبطان : التواضع هو أم وداعة القلب. فإن أغلقت الباب على الكبرياء، لا يجد الغضب مدخلاً له. فالبهيمية والعار يحركان هذا المرض لدى أهل العنف. أما العار فلا يصل إلى من يمارس التواضع .

وما هو الدواء؟

إن الذي يطهر عقله من جميع الأوهام البشرية، ويعي الأصل التعيس لوضعنا، وإلى أي نهاية يتوجه وجودنا العابر والزائل، ونجاسات جسمنا وفقر طبيعتنا العاجزة عن السهر على القيام بأودنا دون العودة إلى لحم الحيوان. ولا ننس الآلام والمحن والحوادث ومختلف الأمراض التي يتعرض لها جميع البشر والتي لا تعفو عن أحد: من ينظر إلى كل هذا بنظرة تطهر القلب، لن يتزعزع بسهولة إن كانت لا تحيط به اعتبارات واعتبارات.

وعكس ذلك، نظن أن علامات التقدير من الآخرين، تأتي من خطا، لأننا في طبعنا لسنا بشيء يستطيع أن يجذب إلينا مديح الناس خارج نفسنا التي مجدها يفلت مما يستطيع العالم أن يقدم لنا. فكل ما يصنع مجد الناس: الغنى، النسل، الشهرة، الشعور بالتفوق ، يأخذ المجد عن النفس ويهيئ عارها. فكل إنسان واع ومتميز يسهر بحيث لا ينجس نقاوة نفسه.

مثل هذا الاستعداد لا يعني شيئا آخر سوى العيش، بعمق، تواضع القلب. والذين تجذروا في هذه الخبرة لا يقدمون في نفسهم أي انفتاح على الغضب.

وحين يطرد الغضب، تعرف الحياة الراحة والسلام اللذين ليسا شيئا آخر سوى الوداعة التي نهايتها التطويبة وميراث السماوات، في المسيح يسوع الذي له المجد والقدرة إلى دهر الدهور. آمين.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى