العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

النفس عرش للمسيح

‏العظة الأولى من العظات الخمسون

[تفسير رمزي للرؤيا المكتوبة في سفر حزقيال النبي[انظر : حز 1 ؛ 10. ] ]

 [أ] النفس عرش للمسيح

1- بعدما رأى حزقيال النبي الطوباوي المنظر والرؤيا الإلهية المجيدة ، قصها وكتبها منظراً مفعماً أسراراً لا يُنطق بها . فقد رأى في البقعة مركبة[1] شاروبيم ، وهي أربعة أحياء روحانية لكل منها أربعة أوجه : أحدها وجه أسد ، وآخر وجه نسر ، وآخر وجه ثور ، وآخر وجه إنسان ، ولكل وجه أجنحة وكأنه ليس هناك ظهر أوقفا ، ولما كانت ظُهورها مملوءة عيوناً وكذلك بطونها ملانة عيون ، لم يكن فيها موضع ليس مملوءا عيوناً[2] .

وكانت هناك بكرات لكل وجه ، بكرة في بكرة ، وكان هناك روح في البكرات . ورأی مثل شبه إنساني جالساً فوقهم كمثل شبه إنسان تحت قدميه مثل صنعة العقيق الأزرق . وكانت مركبة الشاروبيم والأحياء تحمل السيد الجالس فوقها ، وأينما يريد المسير كانت تذهب بحسب ناحية وجهها ، ورأى تحت الشاروبيم مثل يد إنسان تسند وتحمل .

2 – وهذا الذي رآه التي كان في جوهره حقاً ويقينا ، وإنما كان يشير إلى شيء آخر ويرمز إلى أمر سري وإلهي ، إلى البيت المكتوم بالحقيقة منذ الدهور ومنذ الأجيال[انظر كو1: 26] ، والذي أُظهر في الأزمنة الأخيرة بظهور المسيح[انظر 1بط1: 20] . فقد كان النبي يرى سر النفس المزمعة أن تقبل ربها وتغدو عرش مجد له . ذلك أن النفس التي حُسبت أهلاً لشركة روح نور الرب واستُنيرت ببهاء مجده غير الموصوف ، والتي أعدها هو لتصير له عرشاً ومنزلاً ، تلك النفس تصبح كلها نوراً وكلها وجهاً وكلها عيناً ، ولا يكون فيها أي جزء ليس مملوءاً من أعين النور الروحانية هذه ، أي لا يوجد فيها أي جزء مظلم ، بل لقد أضحت بكليتها نوراً وروحاً، مملوءة عيوناً بالتمام ، وليس فيها أي جزء من وراء أو من خلف ، فإنها تبلغ أن تصير بكليتها وجهاً ، يقودها ويجلس عليها البهاء الفائق الوصف الذي لمجد نور المسيح

 وكما أن الشمس كلها متماثلة ، ليس فيها جزء من خلف أو جزء ناقص ، لكنها كلها مُجللة تماماً بالنور ، بل إنها بكليتها نور ، وبذا تصير كلَّا متماثلاً ؛ وكما أن النار أيضا ، أعني النور المتولد منها ، يكون كله متماثلاً ، ولا يكون فيه أول وآخر أو أكبر وأصغر ؛ هكذا النفس أيضا التي استُنيرت إلى التمام بالبهاء الفائق الوصف الذي لمجد نور وجه[3] المسيح[انظر 2كو4: 6] والتي اشتركت بالكلية مع الروح القدس ، وحُسبت أهلاً لأن تصير منزلاً لله وعرشاً له ، فإنها تصبح كلها عيناً وكلها نوراً وكلها وجها وكلها مجداً وكلها روحاً. وهكذا يعدها المسيح ويسندها ويقودها ويرفعها ويحملها ، وهذا يُهيئها ويزينها بجمال روحاني . ولأنه يقول : « كانت يد إنسان تحت الشاروبيم » ( حز1: 8 ، 8:10 ، 21) ، فإن ذاك الذي فيها ( أي المسيح ) هو الذي يحملها ويرشدها في الطريق .

3 – وأيضا هذه الأحياء الأربعة الحامل المركبة ترمز إلى الحواس القائدة للنفس . فكما أن النسر يملك على الطيور ، والأسد على وحوش البرية، والثور على الحيوانات الأليفة، والإنسان على الخلائق ؛ هكذا أيضا توجد للنفس حواس قائدة ، أعني الإرادة والضمير والعقل وقوة المحبة ، فبواسطة هذه تُقاد مركبة النفس وفيها يستريح الله.

ومن جهة أخرى فإن هذه الأحياء الأربعة ترمز إلى كنيسة القديسين السماوية ، فكما يقول في ذلك الموضع : إن الأحياء كانت عالية جداً ومملوءة عيوناً، حتى إن أحدا لم يقدر أن يدرك عدد الأعين أو مقدار العلو لأنه لم تعط معرفتها لأحد ؛ وكذلك النجوم في السماء قد أعطي للجميع أ أن يروها ويعجبوا لها ، وأما عددها فلا يقدر أحد أن يصل إلى معرفته ؛ وأيضا مزروعات الأرض أعطي للجميع أن يتمتعوا بها ولكن أحدا لا يقدر أن يعرف عددها ؛ هكذا أيضا بنفس الطريقة بالنسبة لكنيسة القديسين السماوية [انظر مز149: 1 سبعينية] ، فإن الدخول إليها والتمتع بما قد أُعطي لجميع الذين يريدون الجهاد لأجلها ، وأما معرفة العدد وإدراكه فهو لله وحده.

وهكذا فإن الراكب يُحمل ويُرفع بواسطة المركبة وعرش الأحياء المملوءة عيوناً، أو بالحري بواسطة كل نفس قد صارت عرشاً وكرسياً له ، وصارت عيناً ونوراً ، فيجلس هو عليها ويقودها بزمام الروح القدس ، ويرشدها في الطريق حسبما يرى هو . وكما أن الأحياء الروحانية لم تكن تذهب أينما ترید بل أينما يرى ويشاء ذاك الجالس عليها والقائد لها ؛ هكذا أيضا هنا ، فقائد الطريق . هو نفسه الذي يمسك بالزمام ويرشد النفس بروحه ، فتسير ، لا كما تريد هي ، بل حينما يشاء أن يأخذ النفس إلى السماء فإنه يمسك بزمامها ويقودها بفكرها إلى السماوات بينما يكون جسدها مُلقى على الأرض ، وحينما يشاء أيضاً فإنه يجعلها تعود إلى جسدها وحواسها ، وأيضا حينما يشاء فإنه يذهب بها إلى أقصى الأرض ويكشف لها إعلانات الأسرار . فيا له قائداً حقيقياً وحيداً للنفس ، حسناً وصالحاً! هكذا ستؤهل أجسادنا أيضاً في القيامة لهذا المجد ، بينما تسبق النفس وتتمجد به منذ الآن ممتزجة بالروح القدس.

[ب] الروح القدس نور وملح

4 – فأن تصير نفوس الأبرار نوراً سماوياً ، فهذا هو ما كان يقوله الرب نفسه لتلاميذه : « أنتم نور العالم » ( مت5: 14 ) ، لأنه بعد أن صيرهم نوراً، أمر أن بواسطتهم يستنير العالم ، إذ يقول : « لا يُوقدون سراجاً ويضعونه تخت المكيال ، بل على المنارة فيضيء لكل من في البيت . هكذا فليضيء نوركم قدام الناس » ( مت5: 15 ، 16 ) ، وكأني به يقول لهم : “لا تخفوا العطية التي نلتموها مني ، بل أعطوها لكل من يريدها” . وهو يقول أيضا : « سراج الجسد هو العين ، فإن كانت عينك مُنيرة فجسدك كله يكون نيراً، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مُظلماً . فإن كان النور الذي فيك ظلاماً، فالظلام كم يكون! » ( مت6: 22، 23 – حسب النص ) . فكما أن عيني الجسد هما نور له ، فإن كانتا صحيحتين فالجسد كله يستنير، وإن حدث واظلمتا فالجسد كله يصير مظلماً؛ هكذا الرُّسل قد جُعلوا عيوناً ونوراً لكل العالم . لذلك فإن الرب كان يخاطبهم محذراً : ” إن كنتم – وأنتم نور الجسد – تثبتون ولا ترتدون ، فهو ذا كل جسد العالم يستنير ؛ أما إن غشیتکم الظلمة ، وأنتم النور ، فالظلام – الذي هو العالم – كم يكون!”. فلأن  الرسل صاروا نوراً ، فقد أعطوا النور للمؤمنين وأضاءوا قلوبهم بالنور السماوي الذي للروح القدس ، الذي به قد حصلوا هم أيضا على الاستنارة .

5- وكذلك لكون الرسل ملحاً ، فإنهم كانوا يُصلحون ويملحون كل نفس مؤمنة بملح الروح القدس ، لأن الرب قال لهم : « أنتم ملح الأرض » ( مت5: 13) ، قاصداً بالأرض نفوس البشر ، إذ إنهم أمدوا نفوس البشر من الداخل بالملح السماوي الذي للروح القدس ، مصلحين إياها وجاعلينها سالمة وغير قابلة للفساد عوضاً عن رائحتها النتنة جداً. لأنه كما أن اللحم ما لم يملح يفسد ويمتلئ رائحة نتنة جداً، حتى إن الجميع ينفرون من هذه الرائحة الكريهة حيث يدب الدود في هذا اللحم الفاسد وهناك يستشري ويغتذي ويختبئ ، لكن عندما يوضع الملح فإنه يقتل الدود القابع ويقضي عليه فتزول الرائحة النتنة، إذ إن طبيعة الملح ذائها قاتلة للدود ومزيلة للرائحة النتنة ؛ هكذا أيضا بنفس الطريقة كل نفس لم تملح بالروح القدس وليس لها شركة مع الملح السماوي الذي هو قوة الله ، تفسد وتمتلئ من الرائحة شديدة النتن التي للأفكار الشريرة ، حتى إن الله يشيح بوجهه بعيداً عن هذه الرائحة المُنتنة النكراء التي لأفكار الظلمة الباطلة والتي للأهواء الساكنة في مثل هذه النفس، ثم يدب فيها الدود الشرير البغيض الذي هو أرواح الشر وقوات الظلمة التي تدب فيها وتستشري وتختبئ وتزحف وتغتذي عليها وتفسدها ، كما هو مكتوب : « أنتنت جراحاتي وفسدت » ( مز37: 5 س ) . ولكن حينما تهرب هذه النفس إلى الله وتؤمن به وتطلب ملح الحياة أي الروح الصالح محب البشر ، فحينئذ يأتي الملح السماوي ويقتل الدود البغيض ويزيل الرائحة النتنة الكريهة ويطهر النفس بفعل قوته. وهكذا بعدما تصير صحيحة سالمة بواسطة الملح الحقيقي تُعين من جديد لمنفعة سيدها السماوي وخدمته . فإنه لأجل هذا أيضاً قد أمر الله في الناموس ، مستخدما الرمز ، أن كل ذبيحة تُملح بملح[انظر لا2: 13 ، مر9: 49].

[ج] المسيح يميت النفس عن الخطيئة 

لذلك فإنه كان يلزم أولاً أن تُذبح الذبيحة بواسطة الكاهن وتموت ، وحينئنذ تُملح بعد تقطيعها وهكذا توضع على النار . فإن لم يذبح الكاهن الخروف أولاً ويُميته ، فلن يُملح ولن يقدم محرقة للسيد ؛ هكذا نفوسنا أيضاً التي تأتي إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقي ، يلزم أن تُذبح بواسطته وتموت عن فكرها وعن الحياة الشريرة أي الخطيئة التي كانت تحيا فيها ، أي يلزم أن تخرج منها حياتها ( العتيقة ) أي شر الأهواء. فكما أنه عندما تخرج النفس من الجسد فإنه يموت ولا يعود يحيا الحياة التي كان يحيا فيها ، فلا يسمع بعد شيئاً منها ولا يسلك بعد فيها ؛ هكذا أيضاً حينما يذبح المسيح رئيس الكهنة السماوي حياتنا ويُميتها عن العالم بنعمة قوته ، تموت حياتنا عن سيرة الشر التي كانت تحياها ، ولا تعود تسمع أو تتكلم أو تسلك في ظلمة الخطيئة ، لأنه بواسطة النعمة يخرج شر الأهواء من حياتنا وكأنه نفسها . وها هو الرسول يصرخ قائلا : « قد صُلب العالم لي وأنا للعالم » ( غل6: 14) ، لأن النفس التي لا تزال حية في العالم وفي ظلمة الخطيئة ، وما ماتت بعد عن العالم ، بل لا تزال محتفظة في ذاتها بحياة الشر ، أي بفعل ظلمة أهواء الخطيئة ، ولا تبرح منقادة لها ، لا تكون من جسد المسيح ولا من جسد النور، بل تكون جسداً للظلمة وتلبث من نصيب الظلمة؛ وبالمثل الذين لهم حياة النور أي قوة الروح القدس، فإنهم يكونون من نصيب النور.

7- لكن قد يقول لي أحد: “كيف تدعو النفس جسداً للظلمة رغم عدم خلقتها منها؟” افهم بانتباه واستقامة؛ فكما أن الثوب الذي أنت تلبسه قد هيأه آخر وصنعه وأنت تلبسه، وبالمثل أيضا قد بنی آخر بيتاً وصنعه وأنت تسكن فيه بنفس الطريقة أيضاً لمَّا تعدى آدم وصية الله وسمع للحية الشريرة، بيع ورهن نفسه للشيطان، فلبس[4] الشرير النفس التي هي الخليقة الحسنة التي صنعها الله على صورته، كما يقول الرسول أيضا: “إذ جرد[5] الرياسات والسلاطين أشهرهم جهاراً، ظافراً بهم في الصليب » (کو 2: 15). لأنه من أجل هذا أيضاً كان مجيء الرب، لكي يطردهم خارجاً، ويسترد بيته[انظر عب3: 6] الخاص وهيكله الذي هو الإنسان. ولأجل هذا فما دامت ظلمة الخطية لا تزال في النفس، فإن هذه النفس تُدعی جسداً لظلمة الشر، لأنما هناك تعيش للدهر الشرير الذي للظلمة وهناك أيضا تُمستك. كما دعاها أيضاً بولس الرسول “جسد الخطيئة، وأيضا: جسد الموت ، حينما قال : « لگي يُبطل جسد الخطيئة» ( رو6: 6 ) ، وأيضاً: « من ينقذني من جسد هذا الموت » ( رو7: 24) . هكذا بالمثل النفس التي آمنت بالله ، وأُنقذت من الخطيئة ، وأُميتت عن حياة الظلمة ، ونالت نور الروح القدس كحياة ، فإنها هناك تحيا وهناك أيضا تلبث إذ تمسك بنور اللاهوتية . فإن النفس ليست من طبيعة اللاهوت ولا هي من طبيعة ظلمة الشر ، لكنها خليقة عاقلة ، بهية ، عظيمة ، عجيبة ، حسنة ، على صورة الله ومثاله[انظر تك1: 26] ، ولكن بسبب التعدي قد دخل إليها شر أهواء الظلمة.

8- وبالنهاية فإن ما تمتزج به النفس ، تتحد معه أيضاً في مشيئاتها ، فإما أن تكون مقتنية بالحق نور الله في داخلها وفيه تحيا في كل فضيلة ، فتكون من خاصة النور والراحة ؛ أو تكون مقتنية ظلمة الخطيئة ، فتلقی الدينونة. وهكذا فإن النفس التي تريد أن تحيا عند الله ، في راحة ونور أبدي ، ينبغي لها – كما قلنا آنفا – أن تأتي إلى المسيح رئيس الكهنة الحقيقي ، وتُذبح وتموت عن العالم وعن حياتها السالفة ، حياة الظلمة والشر ، وتنتقل إلى حياة أخرى وإلى سيرة إلهية . فكما أنه حينما يموت إنسان في مدينة ما لا يعود يسمع صوت أولئك الذين فيها ولا كلامهم ولا ضوضاءهم ، بل لقد مات مرة وإلى الأبد وانتقل إلى موضع آخر حيث ليس أصوات أو صراخ من تلك المدينة ؛ هكذا النفس أيضا حينما تُذبح وتموت في مدينة شرّ الأهواء ، التي كانت تقيم فيها وتحيا ، فإنها لا تعود تسمع صوت أفكار الظلمة ولا يعود يُسمع في داخلها كلام الفكر الباطل وصراخه ولا اضطراب أرواح الظلمة ، بل إنها تنتقل إلى مدينة ممتلئة صلاحاً وسلاماً، مدينة نور اللاهوتية ، وهناك تحيا وتسمع ، وهناك تستوطن وتتكلم وتفكر ،  وهناك تعمل أعمالاً روحانية لائقة بالله .

9- فلنتضرع إذا نحن أيضا أن نُذبح بواسطة قدرته ، ونموت عن عالم الشر الذي للظلمة ، وأن يُقتل روح الخطيئة فينا ، ونلبس وننال الروح السماوي ، وننتقل من شر الظلمة إلى نور المسيح ، ونستريح في الحياة إلى مدى الدهر. فكما أنه حينما تتسابق مركبتان في ميدان والتي تتقدم تعوق الأخرى وتمنعها وتوقفها حتى لا تسبقها وتتقدمها إلى الغلبة ؛ هكذا أفكار النفس وأفكار الخطيئة ، فإنها تتسابق في الإنسان ، فإن حدث وسبق فکر الخطيئة ، فإنه يعوق النفس ويمنعها ويحجزها ويوقفها حتى لا تدنو إلى الله فتتغلب على الخطيئة . ولكن حالما يصعد الرب نفسه ويمسك بزمام النفس ، فإنه أبداً يغلب إذ يكون ماسگاً بزمام مركبة النفس ومرشداً لها في الطريق بحكمة نحو المشيئة السماوية الإلهية كل حين ، لأنه لا يحارب ضد الشر بل – إذ له القدرة والسلطان – ينتصر على الدوام

وهكذا فإن الشاروبيم لا يُحملون إلى حيث يريدون هم أن يذهبوا ، بل إلى حيث يقودهم الراكب عليهم والماسك بزمامهم ؛ فحيثما يشاء هو ، فهناك يذهبون وهو يحملهم ، لأنه يقول : « وكانت يد إنسان تحتهم » ( حز10: 21، 8 ) ؛ كذلك أيضا النفوس المقدسة ، فإ قائدها هو روح المسيح ، وهو يمسك بزمامها ويرشدها في الطريق حيث يشاء ، فمتى شاء : في أفكار سماوية ، ومتى شاء : في الجسد ، فأينما هو يشاء ، فإنها تخدمه هناك . فكما أن جناحي الطائر هما بمثابة قدمين له ، هكذا النور السماوي الذي للروح القدس يرفع أجنحة أفكار النفوس المستحقة ، ويرشدها في الطريق ويقودها كما يرى هو.

[ د ] ويل لنفس ليس لها شركة الروح  القدس

10- فأنت إذا حين تسمع هذه الأمور ، انتبه لذاتك إن كنت قد نلتها بالفعل والحق في نفسك ، لأنها ليست كلمات تُقال ببساطة ، ولكنها عمل الحق الصائر في نفسك . فإن لم تكن قد اقتنيتها بعد بل أنت مفتقر إلى مثل هذه الخيرات الروحية العظيمة ، فينبغي أن يكون لك حزن ونوح ووجع بلا انقطاع كمثل من لم يزل مائتاً عن الملكوت ، وكمثل مجروح اصرخ دائماً إلى الرب واطلب بايمان حتى تُؤهل أنت أيضاً لهذه الحياة الحقيقية. فكما أن الله لما صنع هذا الجسد لم يعطه أنه من طبعه الخاص ومن ذاته يحيا ويغتذي ويشرب ويلبس ويحتذي ، بل جعل كل تدبير حياته من خارجه ، إذ قد صنع الجسد عرياناً في ذاته ، وبدون هذه الأمور التي من خارجه ، أي بدون الغذاء والشراب واللباس ، لا يستطيع أن يحيا ، بل إن كان الجسد يلبث وحده بطبيعته فقط ولا يقبل شيئا من خارجه فإنه يفسد وينحل ؛ على نفس المنوال النفس أيضاً، فرغم خلقتها على صورة الله ، إلا أنها لا تملك النور الإلهي، لأنه هكذا قد دبر الله لها وسُرَّ بأن تنال الحياة الأبدية ، لكن ليس من طبيعتها الخاصة ؛ بل من لاهوته هو ومن روحه ومن نوره الخاص تنال طعاماً وشراباً روحانیاً ولباساً سماوي – الأمور التي هي حياة النفس بالحقيقة.

11- فكما أن حياة الجسد – كما سبق وقلنا – لا تكون من ذاته بل من خارجه أي من الأرض ، وبدون الأشياء الخارجة عنه لا يستطيع هذا الجسد أن يحيا ، كذلك النفس أيضاً بدون أن تولد منذ الآن لأرض الأحياء تلك[انظر مز27: 13] ، وتغتذي روحياً من هناك ، وتنمو وتتقدم في الرب ، وتكتسي من اللاهوت بثياب البهاء السماوي التي تفوق الوصف – بدون ذلك الغذاء لا تستطيع النفس أن تحيا في تمتع وراحة بغير فساد . ذلك لأن الطبيعة الإلهية هي خبر الحياة ، ذاك القائل : « أنا هو خبز الحياة » ( يو6: 35 ) ، وأيضاً: “الماء الحي ” ( يو4: 10 ) ، وأيضا : « الخمر التي تفرّح قلب الإنسان » ( مز104: 15) ، وأيضا : « زيت البهجة » ( مز45: 7) ، وغذاء الروح السماوي المتعدد الأنواع ، وثياب النور السماوية الآتية من الله ، ففي جميع هذه تكمن الحياة الأبدية للنفس. فالويل للجسد إذا اكتفى بطبيعته وحدها لأنه يفسد ويموت ، والويل كذلك للنفس إن هي اكتفت بطبيعتها وحدها ، واتكلت على أعمالها فقط ، ولم تقتن شركة الروح القدس[انظر 2كو13: 14 ، في2: 1] ، فسوف تموت لأنها لم تحسب أهلاً لحياة اللاهوت الأبدية. فكما أنه في حالة المرضى حين لا يعود الجسد قادراً على تقبل الطعام ، فإنهم ييأسون منهم ويبكيهم جميع أصدقائهم الأوفياء وأقرباؤهم ومحبوهم ؛ هكذا أيضا يبکي الله وملائكته القديسون النفوس التي لا تغتذي بالطعام السماوي الذي للروح القدس والتي لا تحيا في عدم فساد [6]. مرة أخرى أيضا أقول إن هذه الأمور كلمات جوفاء تُقال ، ولكنها فعل الحياة الروحانية ، وفعل الحق الصائر في النفس المستحقة الأمينة .

12- فإن كنت إذا قد غدوت عرشا لله ، وقد جلس عليك الراكب السماوي ، وقد صارت نفسك كلها عيناً روحانية وكلها نوراً ، وإن كنت قد اغتذيت من ذلك الطعام الذي للروح القدس ، وإن كنت قد سُقيت من الماء الحيّ ، ولبست ثياب النور الفائق الوصف ، وقد ثبت إنسانك الداخلي – عن اختبار ويقين – في جميع هذه الأمور ، فها أنت تحيا ، ونفسك تستريح منذ الآن مع الرب بالحياة الأبدية الحقة ، وتكون قد نلت وقبلت هذه الخيرات من عند الرب بالحق لكي تحيا الحياة الحقيقية ، أما إن كنت لا تدرك أيَّا من هذه الأمور في نفسك ، فابك ونح واحزن ، لأنك ما نلت بعد الغني الروحاني الأبدي وما قبلت بعد الحياة الحقيقية . فليكن لك إذا وجع إزاء فقرك هذا ، متضرعاً إلى الرب ليلاً ونهاراً، لأنك قد سقطت في فقر الخطيئة المدقع . فيا ليت الإنسان يكون له وجع من أجل فقره ، ويا ليتنا لا نقضي حياتنا بغير اكتراث وكاننا قد شبعنا ، لأن الذي له وجع وهو يفتش ويسأل الرب بلا انقطاع [انظر 1تس5: 17] يؤهل سريعاً للفداء والغنى السماوي ، مثلما قال الرب في ختام مثله عن القاضي الظالم والأرملة : « گم بالحري الله ينصف الصارخين إليه ليلاً ونهاراً ! نعم أقول : إنه ينصفهم سريعاً» ( لو18: 7، 8 – حسب النص ) . له المجد والسلطان إلى الدهور ، آمین[انظر 1بط4: 11] .

  1. هذه اللفظة ἀρμα = مركبة لم ترد في سياق هذه الرؤيا ( حز 1 ؛ حز 10 ) ، لكنها وردت في حز 43: 3 س ، حين كان النبي يسترجع هذه الرؤيا ويصفها “برؤيا المركبة “. ويجدر الذكر أن رؤيا حز1 كانت في السنة الخامسة . السبي ، ورؤيا حز 10 كانت في السنة السادسة من السبي ، أما رؤيا حز 43 فكانت في السنة الخامسة والعشرين من السبي .
  2. لا غرو أن تكون أولى عظات أنبا مقار عن الشاروبيم ، نظراً للعلاقة القوية الخاصة جداً التي كانت له مع هذه الطغمة السماوية التي أرسلها له الرب لتكون رفيقاً ومرشداً له طوال أيام حياته حتى يوم نياحته. فنحن نقرأ في سيرته عدة مواضع توضح لنا هذه العلاقة العجيبة له مع الشاروبيم
    1- أول ظهور للشاروبيم للأنبا مقار كان قبل رهبنته وهو بعد جمال ، وقد سافر إلى وادي النطرون مع الأجراء ليحمل نطرونا إلى مصر ، وكان الكل نياماً وهو أيضا ، وإذا به يرى في منامه إنساناً نورانياً مُتشحاً بأسطوانة كالبرق الساطع ، وهذه الأسطوانة مكللة بالجواهر ( عيون الشاروبيم ) ، وأخبره الشاروبيم أن الله سيعطيه هذا الجبل ميراثاً له ولأولاده ، يتفرغون فيه للصلاة ، ويخرج منه رؤوس ومقدمون . وأوصاه أن يتذكر هذا الكلام جيداً ووعده بتكرار ظهوره له مستقبلاً ( الرهبنة القبطية في عصر ق . أنبا مقار – الأب متى المسكين – الطبعة الثالثة ص 62 ).
    2 – بعد تجربة أنبا مقار الشديدة ، التي اتهم فيها بالخطيئة ، وبعد ظهور براءته ، وعلمه بأن أهل القرية مزمعون أن يأتوا إليه ويعتذروا له ويكرموه ، وقف يصلې طالباً الإرشاد أمام مذبح الكنيسة ، وإذا به يشاهد عن يمينه كاروباً ناريا له ستة أجنحة وكله مملوء عيوناً، فشدده وقواه وعزاه . ثم ظهر له ثانية وهو يصلي في الليل وقاده إلى الجبل المقدس وأوصاه بالسكني هناك ، ثم في آخر كلامه خاطبه قائلا : ” أما أنا فسأكون كل وقت معك كأمر الله ( المرجع السابق ص 67) .
    3- يذكر كتاب فضائل أنبا مقار فقرة 1 ، انتقاداً عجياً من الشاروبيم للأنبا مقار ، إذ ظهر له ووضع يده على قلبه ، كما لو كان يزن قلبه ، وقال : وزنت قلبك ، وسوف يطلق اسمك ، أسم قلبك ، على هذا الجبل (میزان القلوب) . ولما قال الشاروبيم هذا ، صلب أنبا مقار ، وقال له : قد صلبت نفسك مع المسيح ، فاصلب أنت نفسك معه في زينة الفضائل ورائحتها العطرة.
    4 – نكر في نهاية زيارته الأولى للأنبا أنطونيوس أنه قام ورجع إلى جبله ، وجلس في قلايته صامتاً … وكان الكاروبيم يفتقده دائماً ( المخطوطة العربية س 18 – مكتبة دير أنبا مقار ) . 
    5- وحتی عند نياحته ظهر له الكاروبيم الذي كان معه منذ الابتداء ومعه جمع كثير من الروحانيين ، وقال له : أسرع وتعال ، فإن هؤلاء كلهم ينتظرونك ( المرجع السابق ) .‏
  3. كلمة πρόσωπον يمكن ترجمتها وجه ( مت17: 2 ؛ لو29: 9 ؛ 2 کو4: 6 ) ، أو شخص (2کو1: 11) . 
  4.  الفعل ἐνδνομαί = يلبس، وهنا يصف القديس لُبس الشيطان للنفس
  5.  الفعل ἁπεκδνομαρί = يُجرد (أحداً من ثيابه)، وهو عکس الفعل السابق ذكره، وقد استشهد القديس بهذه الآية ليبين عمل الرب في تجريد الشيطان من لباسه الذي لبسه – أي النفس، أي أن الرب “ينقض أعمال إبليس”(1يو3: 8)
  6. هذا التعليم بخصوص حزن الله وقديسيه وبكائهم على النفوس الضالة يكرره أنبا مقار في العظة 2:15 ، كما نجده أيضا في رسائل ق . أنطونيوس ( 5 : 1، 6 : 4 ) ، وهو يشبه الكلام عن ندم الله وتأسفه الذي ورد في الكتاب المقدس .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى