العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

الله يختم خاصته بروحه القدوس

العظة الثانية عشر من العظات الخمسون

[عن حالة آدم قبل تعديه وصية الله ، وحالته بعد أن أضاع كلاً من صورته الخاصة وكذا الصورة السماوية . العظة تحوي أيضاً أسئلة نافعة جداً] 

+++

[أ] موت آدم عن الله بتعديه الوصية

1 – إن آدم لما تعدى الوصية ، هلك من وجهين : الأولى أنه أضاع المُقتنى النقيَّ الجميل الذي لطبيعته ، الذي كان على صورة الله وشبهه[انظرتك1: 26] والثانية أنه أضاع الصورة عينها المذخر له فيها – حسب الوعد – كل الميراث السماوي . كمثل أن تكون هناك عُمله منقوش عليها صورة الملك ثم غُشت ، فيضيع الذهب ، والصورة كذلك لا تعود تنفع ؛ على هذا المنوال أيضاً قد قاسی آدم ، ذلك لأن غنى جزيلاً وإرثاً عظيماً كان قد أعد له وكما لو أن هناك ضيعة عظيمة تحوي موارد كثيرة : فهناك كرمة مزدهرة ، وهناك كور مُخصبة ، وهناك قطعان ، وهناك ذهب وفضة ؛ هكذا كانت الضيعة – التي هي شخص آدم – ثمينة قبل المعصية ، ولكن لأنه اقتنى نيَّات وأفكارا شريرة ، مات عن الله.

۲ – غير أنا لا نقول إنه قد فني بالتمام وهلك ومات ؛ فإنه مات عن الله ولكنه ما فتئ يحيا بطبيعته الخاصة. لأنه ها هو العالم بأسره يسلك في الأرض ويشتغل ، ولكن عين الله تنظر لُب الجميع ودخيلتهم ، وكأني به فيما ينظر إليهم يغض الطرف عنهم فلا يصنع شركة معهم لأنهم ما فكروا بشيء يُرضي الله. فكما أنه وإن كانت هناك حانات ومواخير ومواضع حيث الخلاعة وما لا يليق ، فإن خائفي الله حين يمرون بها يأنفون منها وحين يرونها لا يتطلعون إليها إذ قد باتت وكانها مائتة بالنسبة لهم ؛ هكذا الله أيضاً ولئن كان ينظر الذين يحيدون عن كلمته ووصيته ، إلا أنه يغض نظره عنهم ولا يصنع شركة معهم ولا يستريح لأفكارهم.

[ب]فلنبن أنفسنا على أساس الرب والرسل

3 – سؤال : كيف يمكن لأحد أن يكون مسكيناً بالروح، ولاسيما حين يدرك في نفسه أنه قد ترقی ونما وبلغ معرفة وفهماً لم يحظ بهما من قبل؟

الجواب : طالما لم يظفر المرة بهذه الأمور وينم ، فما هو مسكين بالروح بعد ، بل يتوهم ذلك في نفسه ؛ أما حين يبلغ هذا الفهم والنمو فالنعمة عينها تُعلمه أن يكون مسكيناً بالروح.

سؤال : وما هو معنى أن يكون مسكيناً بالروح ؟

الجواب : معناه أنه رغم كونه باراً ومختاراً من الله ، إلا أنه لا يحسب نفسه شيئاً بل تكون نفسه غير ثمينة عنده بل ومحتقرة ، وكأنه ما عرف شيئاً ولا ملك شيئاً، وهو يعرف ويملك ، ويصبح هذا الأمر في ذهنه مثل شيء طبيعي وراسخ . ألا ترى إلى أبينا إبراهيم – رغم كونه مختاراً ۔ قد دعى نفسه تراباً ورماداً؟! وداود – رغم مسحه ليصير ملكاً وتمتعه بمعية الله ماذا يقول ؟ « أنا دودة لا إنسان ، عار البشر ومُحتقر الشعوب » . ( مز21: 7 حسب النص).

4 – فالذين يرومون إذا أن يرثوا مع هؤلاء ويصيروا معهم من رعية المدينة السماوية ويتمجدوا معهم ، يجب عليهم أن يقتنوا هذا التواضع ولا يظنوا في ذواتم أنهم شيء بل يكون لهم القلب المنسحق. لأنه وإن كانت النعمه تعمل بطريقة مغايرة في كل واحد من المسيحيين فيصير لها أعضاء مختلفة، إلا أنهم جميعاً منتسبون لمدينة واحدة ولهم نفس واحدة ولسان واحد ويعرف أحدهم الآخر عن گثب. فكما أنه توجد أعضاء كثيرة في الجسد ، ولكن نفساً واحدة في جميعها هي التي تحركها ؛ هكذا هو روح واحد يعمل في الجميع بطريقة مغايرة ، ولكن الكل ينتسب لمدينة واحدة وله لسان واحد وطريق واحدة . ذلك أن جميع الأبرار قد اجتازوا الطريق الضيقة الضَّاغطة ، مُضطهدين ومُذلين ومُعيرين وعائشين في جلود معاز في مغائر وفي شقوق الأرض. وبالمثل يقول الرسل أيضاً: « إلى هذه الساعة الحاضرة نجوع ونعطش ونعرى ونعير وليس لنا إقامة » ( 1 کو 4 : 11 حسب النص ) ، فمنهم الذين قطعت رؤوسهم ، وآخرون قد صلبوا ، وآخرون قد ضيق عليهم بصنوف شتى . بل إن سيد الأنبياء والرسل نفسه ، وكأنه قد تناسی مجده الإلهي ، كم عانى صائراً مثالاً لنا ؟! فلقد حمل – إمعانا في الاستهزاء به – إكليلاً من شوك على رأسه، واحتمل البصاق واللطم ثم الصليب !!

5- فإن كان الله قد سلك هكذا على الأرض ، فينبغي لك أنت أيضاً أن تصير متمثلاً به ، فإن الرسل كذلك والأنبياء أيضاً قد سلكوا هذا النهج . ونحن أيضاً، إن كنا نشاء أن نُبني على أساس الرب والرسل ، يتحتم علينا أن نصير متمثلين بهم ، لأن الرسول يقول بالروح القدس : « كونوا مُتمثلين بي ، كما أنا أيضاً بالمسيح » ( 1کو11: 1 ) . أما إن كنت تهوى أمجاد الناس وترغب في أن تُعبد وتُفتش عن الراحة ، فقد حدت عن الطريق . فإنه يتوجب عليك أن تُصلب مع ذاك الذي صُلب ، وتتالم مع ذاك الذي تألم، حتي بهذا تتمجد مع ذاك الذي تمجد. فلا بد للعروس أن تشترك في آلام عريسها ، وهكذا تصير شريكة للمسيح ووارثة معه . فإن أحداً لا يمكنه – بدون الآلام والطريق الوعرة الضيقة الضاغطة – أن يدخل إلى مدينة القديسين ويستريح ويملك مع الملك إلى الأمور التي لا نهاية لها.

[ج] معرفة آدم قبل التعدي وبعده 

6- سؤال : إذ قد قلت إن آدم قد أضاع كلا من صورته الخاصة وكذا الصورة السماوية ، فإن كان قد اشترك في الصورة السماوية ، فهل قد اقتني ، تبعاً لذلك ، الروح القدس ؟

الجواب : طالما كان كلمه الله ( اللوغوس ) ملازماً له ، وكذا الوصية ، فقد كان يحظى بكل شيء ، إذ إن الكلمة نفسه صار له إرثاً، والكلمة نفسه كان لباساً ومجداً يسربله ، والكلمة نفسه كان تعليمه . فلقد كان يلقنه کیف يسمي كل شيء فدعا هذا ” سماء” وهذا “شمساً” وهذا “أرضاً” ، وهذا “طائر”، وهذا “وحشاً” ، وهذا “شجرة” ؛ فكما كان يلقنه ، هكذا كان يدعو.

7 – سؤال : هل كان لآدم الإحساس بالروح القدس والشركة معه ؟

الجواب : حيث إن الكلمة نفسه كان حاضراً معه ، فقد حاز كل شيء ؛ إن كان معرفة أو حسَّاً أو ميراثاً أو تعليماً. لأنه ماذا يقول يوحنا عن الكلمة ؟ « في البدء كان الكلمه » ( یو1: 1) ، فها أنت ترى أن الكلمة كان كل شيء . وإن كان الكلمه ملازماً لآدم كمجد من الخارج أيضاً، فلا نعثرن من هذا ، إذ يقول : « گانا ( آدم وحواء ) عُريانين » ( قا : تك2: 25) ولم ينظر أحدهما إلى الآخر ، ولكن بعد تعدي الوصية، رأيا نفسيهما حينئذ عريانين، فتملكهما الخجل .

۸- سؤال : أفكانا إذا قبل ذلك متسربلين بمجد الله عوض رداء ؟

الجواب : مثلما كان الروح القدس يعمل في الأنبياء ويُعلمهم ، ويكون في داخلهم ، وفي لمحة خاطفة يظهر لهم من الخارج ؛ هكذا أيضاً بالنسبة إلى آدم : فمتى شاء الروح القدس ، كان يلازمه ويُعلمه ويشير عليه : “قل هكذا” ، فيقول . ذلك لأن الكلمة كان له كل شيء ، وطالما كان ثابتاً في الوصية ، كان خليلاً لله . وما العجب في أنه وهو على هذه الحال قد تعدى الوصية ؟ فإنه حتى أولئك الذين قد امتلأوا من الروح القدس لا ينفقون مقتنين للأفكار الطبيعية ولهم الإرادة للتوافق معها . هكذا أيضاً آدم نفسه ، رغم كونه في معية الله في الفردوس ، قد تعدى – من نفسه وبمحض إرادته – وانصاع للجانب الشرير ، ولكن حتى بعد التعدي كانت له معرفة.

9 – سؤال : أية معرفة ؟

الجواب : كما حينما يؤخذ لص إلى ساحة القضاء وتبدأ محاكمته ، فيقول له الحاكم : ” حين كنت تقترف هذه الشرور ، أما كنت تعلم أنه سوف يمسك بك وتموت ؟” أما ذاك فلا يجرؤ أن يقول : “ما كنت أعلم”، لأنه بالفعل يعلم ، وفيما هو يُعاقب فسوف يتذكر كل شيء ويقر به. والذي يزني، أما يعلم انه يصنع ردیاً؟ والذي يسرق أما يعلم أنه يخطئ ؟ هكذا أيضاً أما يعلم الناس من الحس الطبيعي – دون حاجة إلى كتب مقدسة – أنه يوجد إله ؟ ففي ذلك اليوم لا يستطيعون أن يقولوا : ” ما علمنا أنك أنت هو الله” ، لأنه سيقول لهم : ” أما علمتم من الرعود والبروق الصائرة من السماء أنه يوجد إله يُدبر الخليقة ؟ فلماذا إذا كانت الشياطين تصرخ :” أنت هو ابن الله ، لم أتيت قبل الوقت لتعذبنا ؟” ( قا : مت8: 29) ؟ بل إنها لا تزال إلى الآن تصرخ في مواضع الشهادة قائلة : “انك تحرقني ؛ إنك تحرقني”. أفما كان الناس يعرفون إذا شجرة معرفة الخير والشر ؟ فإن تعدي آدم قد أعطاهم المعرفة.

۱۰ – وهنا يشرع كل واحد أن يتساءل : “أية حالة كان عليها آدم إذاً؟ وماذا فعل ؟”. فإن آدم نفسه قد اقتبل معرفة الخير والشر ، ثم إننا نسمع من الكتب المقدسة أنه كان في كرامة ونقاوة ، ولكنه لما تعدی الوصية طُرد من الفردوس وغضب الله عليه . وعلى هذا فقد تعلم الأمور الجيدة بالنسبة له ، وتعلم كذلك الأمور الشريرة ، فصار يحتاط لنفسه لكي لا يعود يخطئ أيضا فيسقط في قضاء الموت. ونحن نعلم أن كل خليقة الله إنما تُدبر بواسطته لأنه هو نفسه قد خلق السماء والأرض والحيوانات والزحافات والوحوش ، تلك التي نراها ولكن لا نعلم عددها ، فمن من الناس يعلم هذا إلا الله وحده الكائن في الجميع بل وفي أجنة الحيوانات؟ ألا يعلم هو الأمور الكائنة تحت الأرض والتي فوق السماوات ؟!

[ د ] ليس لنا أن نستقصي فكر الله

۱۱- فلنترك عنا إذا هذه الأمور ولنطلب بالحري ، كمثل تُجار صالحين ، اقتناء الميراث السماوي والأمور النافعة لنفوسنا ، ولنتعلم أن نمتلك قنية تدوم معنا. فإنك إذا ما شرعت – وأنت مجرد إنسان- أن تفحص فكر الله ، فتقول : ” لقد وجدت شيئاً وأدركته” ، فسوف يوجد عقلك البشري إذ ذاك مستعلياً على فكر الله !! ففي هذا أنت تضل كثيراً، لأنك بمقدار ما تبتغي أن تتفحص بمعرفتك وتستقصي ، تنتهي إلى غور دون أن تدرك شيئاً. لأنه حتى التساؤلات نفسها التي تعرض لك ، ما الذي يُحدثها فيك كل يوم؟ وكيف أن هذا لا ينطق به ولا سبيل إلى إدراکه ! هذا ، لك فقط أن تقبله بشكر وتؤمن . بل إن نفسك أنت ذاتها ، هل في مُكنتك أن تعرفها منذ وُلدت إلى الآن ؟ إذاً فأعلمني بالأفكار التي تنبع فيك من الصباح إلي المساء ! قل لي أفكار ثلاثة أيام ! لكنك لا تستطيع . فإن كنت لا تقدر أن تطال أفكار نفسك ، فكيف يمكنك أن تدرك أفكار الله وعقله ؟!

۱۲ – لكن كُل أنت خبزاً بقدر ما تجد ، واترك عنك الأرض وما فيها ؛ وامض إلى شاطئ النهر واشرب بقدر ما يكون لك احتياج واجتز ، ولا تسل من أين يأتي ولا كيف ينبع . اجتهد لكي تشفى قدمك ، أو تصحَّ عينُك لكيما تبصر نور الشمس، ولكن لا تطلب معرفة مقدار النور الذي تحويه الشمس ، ولا كم مرة تشرق . خُذ الحيوان الملائم لاستخدامك، ولكن ما الداعي لأن تمضي إلى الجبال وتطلب معرفة كم يكون هناك من حمير وحشية ترعی أو من وحوش ؟ فالطفل حينما يدنو من ثدي أمه يرتشف اللبن ويغتذي وهو لا يعرف أن يسبُر أصله أو منبعه ، من أين ينبع هكذا ، لأنه يرضع اللبن ويستنفده کاملاً، ثم في غضون ساعة أخرى يمتلئ الثدي أيضاً! هذا ما لا يعرفه لا الطفل ولا أمه كذلك ، ولو أن اللبن ينبع بلا ريب من جميع أعضاء الأم. فإن كنت إذاً تطلب الرب في العمق ، فهناك تجده ، وإن كنت تطلبه في المياه ، فهناك تجده صانعا آیات ؛ وإن كنت تطلبه في الجب ، فهناك تجده في وسط أسدين حارساً لدانيال البار ، وإن كنت تطلبه في النار ، فهناك تجده عضداً لعبيده وإن كنت تطلبه في الجبل ، فهناك تجده مع إيليا وموسی. فإنه حاضر في كل مكان ؛ إن تحت الأرض أو فوق السماوات أو فينا ، هو في كل مكان . كذا نفسك أيضا هي قريبة منك وفي داخلك وفي خارجك ، فأينما تشاء الذهاب ، وإن إلى بلدان قصيَّة ، فهناك يكون عقلك ، سواء غرباً أو شرقاً أو في السماوات ، فإنه هناك يوجد.

[هـ] اقتناء الروح القدس هو شغلنا الشاغل

۱۳ – فلنطلب إذاً ، قبل كل شيء ، أن نقتني في ذواتنا وسم الرب وختمه، لأنه في زمان الدينونة ، حين تصير صرامة الله وتُجمع كل قبائل الأرض ، كل جنس آدم ، ويدعو الرَّاعي رعيته الخاصة ، فكل من له الوسم سيعرف راعيه الخاص ، وكذا الرَّاعي سيعرف أولئك الذين لهم ختمه الخاص ويجمعهم معاً من جميع الأمم ، لأن خاصته تسمع صوته وتذهب وراءه. فإن العالم سوف يوقف في قسمين : رعية مظلمة تمضي إلى نار أبدية ، وأخرى مفعمة نوراً ترفع إلى الميراث السماوي . إذا فما نقتنيه الآن في نفوسنا ، هو بعينه سيضيء ويتجلی ويُسربل أجسادنا بالمجد.

14 – فكما أنه في زمان شهر كسانثيكُس(يقابل شهر نيسان) تخرج الجذور المدفونة في الأرض ثمارها الخاصة وأزهارها الخاصة وجمالاما وتحمل ثمرا ، فتظهر الجذور الجيدة ، وتصير الأخرى التي تحمل شوگا ظاهرة أيضا ؛ هكذا في ذلك اليوم سيبين كل واحد ، بواسطة جسده الخاص ، أي ما صنع ، وتظهر الصالحات والشرور ، لأنه هناك ستصير كل الدينونة والمجازاة . فإنه يوجد طعام آخر بخلاف هذا الظاهر ، وتوجد مائدة أخری سماوية بخلاف الظاهرة ، لأن أيضا حين صعد إلى الجبل صام أربعين يوماً، فصعد إنسانا ونزل مقتنيا الله . وها نحن ننظر في أنفسنا أنه إن لم نمد الجسد بالقوت يذبل في أيام قلائل ، وأما هو فمکث صائماً أربعين يوماً ثم نزل وهو أشد قوة من الجميع ، ذلك لأنه كان يغتذي بواسطة الله وكان جسده يتدبر بطعام آخر سماوي ، إذ قد أضحی کلمه الله ( اللوغوس) قوتاً له فحظي بمجد في وجهه. وهذا الذي حدث له غدا مثالاً، لأن ذلك المجد يضيء الآن في داخل قلوب المسيحيين ، وأجسادنا كذلك التي ستقام في القيامة ستتسربل بلباس آخر إلهي وتغتذي بطعام سماوي.

[و] النفس كنيسة لله تُرهف إليه سمعها

15 – سؤال : ما معنى القول : « المرأة التي تُصلي برأس غير مُغطی » ( 1کو 5:11) ؟

الجواب : في زمان الرسل كانت النساء يتركن شعرهن منسدلاً عوض غطاء ، لأجل هذا جاء الرب والرسل إلى الخليقة وأتوا بها إلى التعقل. غير أن المرأة تُعتبر رمزاً للكنيسة ، وكما أنه في الظاهر ، في ذلك الزمان ، كُن يتركن شعرهن منسدلاً عوض غطاء ؛ هكذا الكنيسة أيضاً تلبس أولادها وتسربلهم بثياب إلهية مجيدة . وأما في الزمان القديم الذي لكنيسة إسرائيل ، فقد كانت الجماعة واحدة وكان مظللاً عليهم من الروح القدس وكانوا متشحين بالروح القدس عوض مجد ٍ، مع أنهم من جهتهم لم يسلكوا بمقتضى هذا . فكلمة كنيسة إذا تنطبق على كثيرين كما على نفس واحدة ، لأن النفس ذاتها تجمع كل أفكارها ، فتصبح کنیسة لله. ذلك أن النفس قد خُطبت لشركة العريس السماوي وهي تمتزج معه. هذا يُفهم على كثيرين كما على واحد ، لأن النبي يقول أيضا عن إسرائيل : « وجدتك مهجورة وعُريانه ، فألبستك » ، وما يليه، كما لو كان يتكلم عن شخص واحد.

16 – سؤال : ما معنى ما كانت تقوله مرثا للرب عن مريم : “إني أتعب في أمور كثيرة ، بينما تجلس هي إلى جوارك” ؟ ( قا : لو10: 39- 41).

الجواب : إن ما كان يجب أن تقوله مريم لمرثا ، هذا قد سبق الرب وأجاب به مرثا قائلاً: ” إن مريم قد تركت كل شيء وجلست إلى جوار قدمي الرب ، وهي تبارك الله طوال اليوم”. أفترى الجلوس إلى جواره بداعي الحب ؟ ولكيما تزداد كلمه الله جلاءً ونوراً، ألا فاسمع : إن كان أحد يحب يسوع ويُصغي إليه باستقامة ، وليس يُصغي إليه فحسب ، بل ويثبت في محبته أيضاً، فإن الله يعزم في الحال أن يهب لتلك النفس شيئاً ما عوض محبتها هذه ، وإن كان الإنسان لا يدري ما هو عتيد أن يناله ، أو أي نصيب يزمع الله أن يعطيه للنفس . وأما لمريم التي أحبته وجلست إلى جوار قدميه ، فلم يُعط لها مجرد شيء بسيط ، لكنه وهبها قوة ما خفية من ذات كيانه . لأن الكلمات نفسها التي كان يتكلم بها الرب مع مريم في سلام ، كانت روحاً وقوة ، وهذه الكلمات التي نفذت إلى قلبها أضحت نفساً لنفسها وروحاً لروحها ، وكانت هناك قوة إلهية تتدفق في قلبها حتى الملء ، لأنه حيثما تستقر تلك القوة ، فبالضرورة تصير كمثل قنية باقية لا تُنزع. من أجل هذا ، إذ قد علم الرب بما أغدقه عليها ، قال : “مريم قد اختارت النصيب الصالح” ( لو10: 42) . ولكن فيما بعد ، فإن تلك الأمور التي كانت مرثا تصنعها بغيرة من أجل الخدمة أتت بها إلى تلك الموهبة ، لأنها هي أيضا قد اقتبلت قوة إلهية في نفسها .

۱۷ – ولِم العجب من أن أولئك الذين كانوا يدنون من الرب ويلتصقون به جسدياً كانوا ينالون قوة ، إن كان المؤمنون حين كان يتكلم إليهم الرسل بالكلمة كان الروح القدس يحل عليهم ؟ فکورنيليوس من مجرد الكلمة التي سمعها نال قوة، فكم بالأحرى الرب حين كان يقول كلمة لمريم ، أو لزكَّا، أو للخاطئة التي أسدلت شعرها ومسحت به قدمي الرب، أو للسامرية، أو للص، فإن قوة كانت تنبع منه فيمتزج الروح القدس بنفوسهم ، كذا الآن أولئك الذين يحبون الله ويتركون كل شيء ويواظبون على الصلاة يتعلمون في الخفاء ما لا يعرفونه ، لأن الحق ذاته – وفقا لنيتهم – يظهر لهم ويعلمهم أن « أنا هو الحق ». فإن الرسل أنفسهم كذلك ، قبل الصليب ، لما كانوا ماكثين مع الرب ، كانوا ينظرون آيات عظيمة ، حتى إن البرص كانوا يطهرون والموتى يقومون ، ومع ذلك لم يكونوا يعلمون كيف أن قوة إلهية تسكن في القلب وتغدو فعَّالة فيه ، ولا كيف أنهم مزمعون أن يولدوا من فوق روحياً ويمتزجوا بالنفس السماوية ويصيروا خليقة جديدة. ولكنهم من أجل الآيات التي کان يصنعها الرب كانوا يحبونه ، غير أن الرب قال لهم : ” لم تعجبون من الآيات ؟ فها إني مُعطيكم إرثاً عظيماً لا يملكه العالم بأسره ” .

18 – لكنهم ما برحوا متعجبين من كلامه ، إلى أن قام من بين الأموات وأصعد الجسد من أجلنا فوق السماوات ، وحينئذ دخل الروح المعزي في نفوسهم وامتزج بها. كذا الحق ذاته يظهر نفسه للنفوس الأمينة ، فيأتي الإنسان السماوي ( أي المسيح ) ) مع إنسانك أنت ويصير معه إلى شركة واحدة . إذا فجميع ا الذين هم في خدمة ، وبنشاط يصنعون كل شيء لأجل غيرهم ومحبتهم لله ، يأتي بهم ذلك الأمر عينه ، بعد برهة من الزمن ، إلى معرفة الحق نفسه ، لأن الرب يظهر لنفوسهم ويعلمهم السلوك بحسب الروح القدس . فالمجد والسجود للآب والابن والروح القدس ، إلى الدهور ، آمین .

زر الذهاب إلى الأعلى