العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

الروح القدس كنز الصالحات

‏ العظة الثامنة عشرة من العظات الخمسون

[عن كنز المسيحيين – أعني المسيح والروح القدس – الذي
يدربهم بطرق شتى للبلوغ إلى الكمال]

 [أ] کنز الروح القدس

1 – لو أن أحداً في العالم كان غنياً جدا ويملك كنزاً مخفى ، فإنه من كنزه وغناه يقتني كل ما يريد ، ويجمع أي ما يبتغيه في العالم من مقتنيات فاخرة، متكلاً على كنزه الذي به يمكنه بأيسر مرام اقتناء كل الممتلكات التي يرغبها؛ هكذا أيضا الذين يطلبون من الله فيجدون[انظر مت7: 7] ، ويقتنون الكنز السماوي الذي للروح القدس – الذي هو الرب ذاته مشرقاً في قلوبهم – فإنهم من كنزهم، أي المسيح الكائن فيهم ، يُتممون كل بر الفضائل ويقتنون كل صلاح وصايا الرب ؛ وبواسطته يجمعون غنی سماوياً أوفر . لأنهم بواسطة الكنز السماوي يصنعون كل فضائل البر ، واثقين بفيض الغني الروحاني الذي فيهم ؛ ويعملون بسهولة كلَّ برٍ

 وكل وصايا الرب بواسطة غنى النعمة غير المنظور الذي فيهم. والرسول يقول أيضاً: « لنا هذا الكنز في أوان خزفية » ( 2کو4: 7) ، الذي هو قوة الروح المقدسة ، والتي صار هؤلاء أهلاً لاقتنائها في داخلهم وهم بعد في الجسد ، وأيضا : « الذي صار لنا حكم من الله وبرا وقداسة وفداء » ( 1كو1: 30).

2- فالذي يجد کنز الروح القدس السماوي هذا ويقتنيه في نفسه ، يُتمم به كل بر الوصايا وكل عمل الفضائل بلا لوم وبنقاوة وبلا تغصب بل بسهولة . فلنطلب نحن أيضا إلى الله ونسأله ونضرع إليه أن ينعم علينا بكنز روحه القدوس ، وهذا يمكننا أن نسلك في جميع وصاياه بلا لوم وبنقاوة ، ونكمل كل بر الروح القدس بنقاوة وبالمام بواسطة الكنز السماوي، الذي هو المسيح. فإنه في العالم لا يمكن للمسكين والعريان والفقير والجائع أن يقتني شيئاً إذ تحصره فاقته ، أما من يملك کنراً، كما قيل آنفاً، فإنه يقتني بسهولة ودون مشقة أية مقتنيات يبتغيها ؛ هكذا أيضا النفس العارية والمقفرة من شركة الروح القدس ، والرازحة تحت فقر الخطيئة المدقع ، لا تستطيع – حتى ولو أرادت أن تصنع أياً من ثمار روح البر بالحقيقة قبل أن تنال الروح القدس.

3 – على هذا المنوال لا مناص لكل واحد من أن يغصب ذاته في السؤال إلى الرب ، لكي يُؤهل لأن يجد وينال كنز الروح القدس السماوي فيستطيع هكذا بلا تعب وبسهولة أن يعمل جميع وصايا الرب بلا لوم وبنقاوة ، تلك التي لم يكن قادراً على تحميلها من قبل حتى ولو بتغصب . لأنه كيف يمكن لإنسان مفتقر إلى شركة الروح القدس وعُريان منها أن يقتني مثل هذه المقتنيات الروحية بدون کنر وغنى روحيين ؟! أما النفس التي تجد الرب ، الكنز الحقيقي ، بواسطة طلب الروح القدس. وبالإيمان والصبر الكثير ، فإنها – كما سبق وقيل – تصنع ثمر الروح بسهولة ، لأن الروح يعمل فيها وبواسطتها كل البر ووصايا الرب التي أوصى بها – يعملها بنقاوة وبالتمام و بلا لوم .

4 – فلنضرب أيضاً مثلاً آخر : كما لو أن إنساناً مُوسراً صنع عشاءً فاخراً جداً ، فإنه من غناه ومن الكنز الذي له ينفق دون أن يخشی احتیاجه إلى شيء، وذلك لأجل عظم غناه ، وهكذا ببذخ وأُبهة يُفرح مدعوّيه الذين دعاهم ، مقدماً لهم شتى أصناف الأطعمة وأحدثها . أما المسكين الذي يُعوزه الغنى ، فإن رام أن يعد عشاء لقوم فإنه يقترض كل شيء : الأوعية نفسها والثياب وما إلى ذلك ، ثم بعد أن يتعشى المدعوون – كما في عشاء لإنسان فقير – يرد لكل واحد ما كان قد اقترضه منه ، إن كان وعاء فضياً أو ثوباً أو ما شابه ذلك. وهكذا بعد أن يعيد لكل أحد كل شيء، يلبث هو مسكيناً وعرياناً ، لا غنى خاصاً له يستطيع أن يفرح به .

5 – هكذا أيضا الأغنياء في الروح القدس ، الذين لهم الغنى السماوي بالحق ولهم شركة الروح[انظر 2كو13: 13] في ذواتهم ، متي خاطبوا قوما بكلمة الحق ومتي تشاركوا مع أناس في كلام روحاني وأرادوا أن يُفرحوا الفوس ، فإنهم من غناهم الخاص ومن كنزهم الخاص الذي قد اقتنوه في ذواتهم – منه يتكلمون ومنه يُفرحون نفوس السامعين للكلام الروحاني دون أن يخشوا افتقارهم، لأنهم قد حازوا في ذواتهم على كنز الصالحات السماوي ، ومنه يُخرجون[1] ويُفرحون مدعوّي مأدبتهم الروحية . أما المسكين الذي لا يقتني غنى المسيح وليس له في نفسه غنی روحي ، ذلك الغنى الذي يفيض منه كل ما هو صالح من أقوال وأعمال وأشواق إلهية وأسرار لا يُنطق بها ، أقول حتى ولو أراد هذا أن يتكلم كلمة الحق ويُفرح قوماً من سامعيه دون أن يقتني في ذاته كلمة الله بالقوة والحق ، فإنه فقط يستعيد من ذاكرته ويقتبس كلمات من كل من الأسفار المقدسة ، أو يتكلم بما يسمع من رجال روحانيين ويعلم به ، فيتوهم أنه يُفرح الآخرين وأن الآخرين ينتفعون من كلامه ، ولكن بعد أن يتحدث ، تعود كل كلمة إلى مصدرها الذي أُخذت منه . ويرجع هو أيضا ويلبث عرياناً ومسكيناً، ليس له كنز الروح الخاص به الذي منه يُخرج وينفع آخرين ويفرحهم ، لأنه هو أولاً ليس فرحاً ولا متهللاً بالروح . 

6 – من أجل هذا يجب أولاً أن نطلب من الله بوجع قلبٍ وإيمان لكي يعطينا أن نجد في قلوبنا غناه ، أي كنز المسيح الحقيقي ، بقوة الروح القدس وفعله. وهكذا إذا ما وجدنا في ذواتنا أولاً المنفعة والخلاص والحياة الأبدية ، التي هي الرب[انظر 1يو5: 20] ، آنذاك سننفع آخرين أيضا بحسب ما هو في وسعنا ومستطاع لدينا ، مُخرجين من كنز المسيح داخلنا كل صلاح الكلام الروحاني ومحدثين بالأسرار السماوية. لأن هكذا قد سُرت مشيئة الآب الصالحة أن يحل في كل من يؤمن به ويطلبه ، فالمسيح يقول : « لأن الذي يحبني ، يُحب من أبي ، وأنا أُحبه وأُظهر له ذاتي » ( يو14: 21) ، وأيضاً: « نأتي أنا وأبي ، وعنده نصنع منزلاً» ( يو14: 23 – حسب النص) . فهكذا شاء لطف الآب الذي لا يُحد ، وهكذا سُرت محبة المسيح التي لا تُدرك ، وهكذا وعد صلاح الروح القدس الذي لا يُلفظ به ، فالمجد لشفقة الثالوث القدوس التي لا يُنطق بها

[ب] الروح القدس رُبان سفينة النفس

۷- إن الذين حُسبوا أهلاً لأن « يصيروا أولاد الله »[يو1: 12] ، ولأن « يولدوا من فوق »[يو3: 7] من الروح القدس ، الذين يقتنون المسيح في ذواتهم منيراً إياهم ومُنعما عليهم بالراحة ، يكونون مُقتادين بالروح القدس بأوجه شتى ومتنوعة ، وتعمل فيهم النعمه على نحو غير منظور في قلوبهم ، في راحة روحانية . فلنأخذ صوراً من مسرات العالم المنظورة لنوضح جزئياً من هذه الأمثلة كيف تعمل النعمة في نفوس أولئك : فقد يحدث في وقت ما أن يصيروا وكأنهم يفرحون في عشاء ملوكي ويتهللون بتهليل وفرح لا يُنطق به ؛ وفي وقت آخر يكونون مثل عروس مستريحة راحة إلهية في شركتها مع عريسها . أوقاتاً يصبحون – وهم بعد في الجسد ، من فرط الخفة والرقة – كالملائكة لا جسد لهم؛ وأوقات أخرى يكونون كأنهم سُکاری بشراب ، مبتهجون وثملون بالروح القدس ثملاً إلهاً من الأسرار الروحانية .

8- تارة يكونون كمن هم في بكاء ونحيب من أجل جنس البشر ، ويحملون ، في توسلهم من أجل سائر بني آدم ، حزناً وبكاء ، مضطرمين بمحبة الروح القدس للبشرية ؛ وطوراً يشتعلون بالروح القدس بتهليل ومحبة هذا مقدارها ، حتى انهم – إن كان ممكناً- يضعون كل إنسان طي أحشائهم ، غير مميزين بين طالح وصالح . آناً يضعون أيما اتضاع تحت كل إنسان بتواضع الروح القدس ، حاسبين ذواتهم آخر الجميع ودونهم ؛ وآناً يُبتلعون من قبل الروح القدس بفرح لا يُنطق به ؛ وآونه يكونون أشبة بجبار يتسلح بسلاح ملوكي كامل وينقض ببأس على أعدائه في الحرب ويصارعهم ويظفر بهم ، لأنه بالمثل أيضا يتسلح الإنسان الروحاني بأسلحة الروح القدس السماوية وينقض على أعدائه ويحاربهم ويخضعهم تحت قدميه . 

9- أحياناً تستريح النفس في سكونٍ عظيم وهدوء وسلام ، إذ تكون فقط في لذة روحانية وراحة لا يُعبر عنها ونعيم ، وأحياناً أخرى تتحكم من النعمة بفهم وحكمة لا يُنطق بها وبمعرفة الروح القدس الذي لا يُفحص ، و الأمور التي يتعذر التكلم عنها بلسانٍ وفم ، وأحياناً أخرى أيضاً تلبث مثل واحدٍ من سائر الناس. هكذا تتصرف النعمة فيهم بطرق مختلفة ، وتقود النفس بسبل شتی، فتنعم عليها بالراحة بحسب مشيئة الله وتُدربها بطرق متنوعة ، لكي تردها كاملة وبلا عيب ونقية إلى الآب السماوي .

10- غير أن مفاعيل الروح القدس هذه ، التي قيلت آنفا ، . هي للقامات العليا لأولئك القريبين من الكمال ، لأن راحات النعمة المختلفة السابق ذكرها ، ولئن تحدثنا عنها بطرق شتى ، إلا أنها تتم فيهم بلا انقطاع ، فعلاً تلو الآخر . لأنه حين تدنو النفس من الكمال الروحي ، وقد تطهرت بالتمام من كافة الأهواء واتحدت بالروح المعزي بشركة لا يُنطق بها وامتزجت به، وحُسبت أهلاً لأن تصير روحانية[2]، كونها امتزجت بالروح القدس ، فحينئذ تغدو كلها نوراً وكلها عيناً وكلها روحاً وكلها فرحاً وكلها راحة وكلها تهليلاً وكلها محبة وكلها أحشاء وكلها صلاحاً ولطفاً. فكما أن الحجر في قاع البحر يكون مُكتنفاً بالماء من كل جانب ، هكذا هؤلاء ، إذ يكونون ممتزجين بالروح القدس من كل وجه ، يصيرون مشابهين للمسيح ، ويكون لهم في ذواتهم بثبات فضائل قوة الروح القدس ، لأنهم يكونون داخلاً وخارجا أنقياء بلا لوم ولا دنس .

11- فإذ قد تگمَّلوا بواسطة الروح القدس ، كيف يمكنهم أن يُقدموا أثمارا رديئة من الخارج ؟! بل إنهم في كل حين وفي سائر الأحوال تضيء فيهم ثمار الروح[انظر غل5: 22 ، 23] . فلنطلب نحن أيضا إذا إلى الله ونؤمن به في محبة ورجاء عظيم[3] ، لكي يهبنا النعمة السماوية التي لعطية الروح القدس ، حتی يُدبرنا نحن أيضاً الروح عينه ويقودنا إلى كل مشيئة الله ، ويُريحنا بمختلف أوجه راحته . لكي بمثل هذا التدبير وبتمرين النعمة ونمونا الروحي نُحسب أهلاً لبلوغ کمال ملء المسيح ، كما يقول الرسول : ” لكي تمتلئوا إلى كل ملء المسيح” ( أف ۳ : ۱۹)[4] ، وأيضاً: « إلى أن نصل جميعناً إلى رجل کامل … إلى قياس قامة ملء المسيح » ( أف 4 :13) . فلقد وعد الرب كل الذين يؤمنون به ويسألونه بالحق بأن ينعم عليهم بأسرار شركة الروح القدس ، تلك الشركة التي لا يُعبر عنها. فلنندر نحن أيضا ذواتنا للرب بالتمام ، ولنسرع لكي نحظى بتلك الخيرات سالفة الذكر ، ولنصر – وقد تكرسنا نفساً وجسداً، وسمرنا على صليب المسيح – جدیرین بالملكوت الأبدي ، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الدهور ، أمين .

  1. هذا الفعل προφέρω ورد مرتين فقط في العهد الجديد ، في موضع واحد ، في ذات هذا السياق ، حين تكلم الرب يسوع عن الإنسان الصالح والأخر الشرير الذي يُخرج προφέρω  كل منهما من كنزه ما فيه من الصالحات أو الشرور ( انظر لو6: 45 ) .
  2.  حرفيا : = روحاً. 
  3. لنلاحظ كيف يورد هنا أنبا مقار في جملة واحدة الفضائل الثلاث العظمی ( را : 1کو 13:13)
  4. هذه الآية وردت هكذا كما في نص العظة ( المسيح بدلاً من الله ) في بعض المخطوطات القديمة للعهد الجديد. 

 

زر الذهاب إلى الأعلى