العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

المحبة الأخوية ، ومقاتلة الأفكار

‏العظة الثالثة من العظات الخمسون

[في أنه ينبغي للإخوة أن يسلكوا من نحو بعضهم البعض بإخلاص وبساطة ومحبة وسلام ، وكذلك أن يكون لهم قتال وحرب مع افكارهم الداخلية] 

[أ] أساس المحبة الأخوية

1 – يلزم الإخوة أن يحيوا معاً في محبة شديدة بعضهم لبعض ، سواء كانوا يصلون أو يقرأون في الكتب المقدسة أو يعملون أي عمل آخر ، وذلك حتى يقتنوا أساس المحبة من نحو بعضهم البعض ، وهكذا يمكن أن تتحقق المسرة وسط تلك المشارب ، ويمكن للجميع – الذين يصلون والذين يقرأون والذين يعملون – أن ينتفعوا حين يسلكون من نحو بعضهم البعض في بساطة وإخلاص . لأنه لماذا كُتب : « لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض » ( مت6: 10) ؟ حى كما أن الملائكة الذين في السماوات يحيون معاً في اتفاق عظيم وفي محبة وسلام ولا يوجد بينهم أي كبرياء أو حسد ، بل يعيشون معاً في محبة وإخلاص ؛ هكذا أيضا يكون الإخوة بعضهم مع بعض . فقد يكون هناك ثلاثون أخاً يعيشون معاً تحت تدبير واحد ، ولكنهم لن يستطيعوا أن يثابروا على نفس العمل كل النهار وكل الليل ؛ فمنهم من يكرس ذاته للصلاة لمدة ست ساعات ثم يرغب بعد ذلك في القراءة ، ومنهم من يخدم بغيرة ، ومنهم كذلك من يعمل أي عمل أخر.

 2- فينبغي للإخوة إذاً، أياً كان عملهم ، أن يعيشوا في محبة وفرح فيما بينهم ؛ فذاك الذي يعمل ليقُل عن أخيه الذي يصلي : “إن الكنز الذي يقتنيه أخي إنما هو مشترك ، لذلك فهو لي أنا أيضا” ، والذي يصلي ليقل عن الذي يقرأ : “إن ما ينتفع به ذاك من القراءة يؤول لفائدتي أنا أيضا” ؛ وأما الذي يعمل فليقل : ” إن الخدمة التي أعملها إنما هي لمنفعة الجماعة” فإن « كل أعضاء الجسد إذا كانت كثيرة هي جسد واحد »[1كو12: 12] ، وهي تؤازر بعضها بعضاً، ورغم أن كلا منها يُتمم عمله الخاص ، إلا أن العين تنظر من أجل الجسد كله ، واليد تعمل من أجل كل الأعضاء ، والقدم أيضا تسير حامله كل الأعضاء ، بل وكل عضو يتألم مع بقية الأعضاء[انظر 1كو12: 16]، هكذا فليكن الإخوة بعضهم مع بعض : فلا يدن الذي يصلي أخاه الذي يعمل ، قائلاً “لم لا يصلي ؟” ، ولا يدن الذي يعمل أخاه الذي يصلي ، قائلا : ” إن ذاك مستريح بينما أنا أعمل ، وكذلك الذي يخدم لا يبين غيره . بل بالحري إن عمل أي أحد عملا فليكن « لمجد الله »[1كو10: 31] ، فالذي يقرأ يقبل بمحبة وفرح ذاك الذي يصلي ، مفكراً هكذا : “إنه من أجلي يصلي” ، والذي يصلي يفكر من أجل الذي يعمل هكذا : ” إن ما يعمله إنما يعمله للمنفعة المشتركة”.

3 – وهكذا يمكن بهذا الاتفاق العظيم والسلام والانسجام أن يرتبط الإخوة بعضهم ببعض « برباط السلام »[أف4: 3] ، وأن يعيشوا معاً في نقاوة وبساطة ومسرة الله . إلا أن هناك أمراً يفوق في أهميته جميع هذه الأمور وهو المواظبة[1] على الصلاة ، فثمة مطلب واحد وهو أن يقتني كل أحد الكنز في نفسه ، والحياة – التي هي الرب – في عقله ، حتى إذا كان يعمل أو يصلي أو يقرأ ، تكون له تلك القنية التي لا تزول ، التي د الروح القدس.

[ب] ضرورة مقاتلة الأفكار

غير أن البعض يقولون : “إن الرب إنما يطالب الناس بالثمار الظاهرة فقط ، وأما الأمور الخفية فهو يُقومها” ، لكن ليست الأمور هكذا هي ، بل كما يُضبط الإنسان الظاهر ، كذلك ينبغي أيضا أن يكون هناك قتال وحرب مع الأفكار ، لأن الرب يطالبك بأن تغضب على ذاتك وتصنع حرباً ضد فكرك ولا توافق أفكارك الشريرة أو تُسر بها.

4 – وأما استئصال الخطيئة والشر الملازم لها فإنما يمكن تحقيقه بالقدرة الإلهية وحدها، إذ ليس في مُكنة الإنسان أو استطاعته أن يقتلع الخطيئة بقدرته الخاصة ، فلك أن تصارعها وتحاربها وتضارها وتُضاربك ، وأمَّا استئصالها فهو لله. وإلا فإن كنت تستطيع هذا ، فماذا كانت الحاجة إلى مجيء الرب؟! فكما أنه لا يمكن للعين أن تری بدون نور ، ولا يمكن الكلام بدون لسان ، ولا السمع بدون آذان ، ولا السير بدون أقدام ، ولا العمل بدون أياد ، كذلك أيضا لا يقدر أحد بدون يسوع أن يخلص[انظر مت1: 21 ، أع4: 12] أو يدخل ملكوت السماوات[2]. أما إن كنت تقول : “حيث إني لست أزني من الخارج أو أفسق ولست محباً للمال ، فأنا بار” ، فإنك بهذا القول تكون قد ضللت ، متهما في نفسك أنك أكملت كل شيء . فإنه ليس ثلاث خطايا فقط هي التي ينبغي للإنسان الاحتراس منها ، بل هي ربوات : فأين عدم الخشية والصَّلف وعدم الإيمان والبغضة والحسد والمكر والرّياء؟ أوما يجب عليك أن تجاهد وتصارع ضد هذه في أفكارك الداخلية ؟ فكما أنه إن كان في بيتك لص ، فإنه يورثك الضيق فلا يهدأ لك بال ، فتشرع أنت أيضاً تصارعه وتضاربه ويضاربك ؛ كذلك أيضا ينبغي للنفس أن تُصارع وتُحارب وتُضارب . 

5- وهكذا فإن النية إن هي حاربت وصار لها جهاد وضيق ، فما تلبث أن تصير لها اليد العليا ؛ فهي تسقط ثم تقيم نفسها ثم تُسقطها الخطيئة أيضاً، بل وفي عشرة حروب أو عشرين تُغلب من الخطيئة وتسقط ، ولكن بعد مرور زمن ما ، وفي معركة واحدة تغلب النفس الخطيئة ، فإذا ما صبرت ولم ترتخ فإنها قليلاً قليلاً تبدأ تنتعش وتقتني الإفراز وتصير لها الغلبة على الخطيئة. ولكن حتى وإن بلغت هذا ، فالخطيئة لا تنفك تتمكن من الإنسان إلى أن يبلغ إلى « رجل كامل ، إلى قياس قامة المسيح »[أف4: 13] ، ويغلب الموت بالتمام ، لأنه مكتوب : « آخر عدو يبطل هو الموت » ( 1کو15: 26 ) ، مثل هذه النفوس هي التي تصير لها اليد العليا وتظفر بالشيطان . ولكن إن قال أحد – كما ذكرنا آنفا – “إني لا أزني ولا أفسق ولا أحب المال ، وحسبي هذا” ، فمثل هذا يكون قد جاهد ضد ثلاثة صنوف فقط ، وأما ضد عشرين أخرى تُقاتل بها الخطيئة النفس فما جاهد بعد بل إنه مغلوب منها ، لذلك ينبغي له أن يحارب ويجاهد ضد الجميع . هذا وإن العقل – كما قلنا مراراً كثيرة – هو ند معادل وله قوة مساوية لقوة الخطيئة في رفضه لإيحاءاتها الشريرة ومقاومته إياها . 

6- لأنك إن كنت تقول : “إن القوة المعادية هي أشد. وإن للشر سلطاناً أن يملك على الإنسان بالتمام “، فإئك بهذا تجعل الله ظالماً إذا يدين البشرية التي خضعت للشيطان الذي هو أقوى منها ويُخضعها له گرهاً . فهل بعد أن جعلت الشيطان أعظم وأقوى من النفس ، تعود قائلاً : ” لا تطعه ؟!” كمثل شاب يُصارع ولداً فيغلبه ، ثم بعد ذلك يدان هذا الولد على هزيمته ! هذا ظلم جائر. من أجل هذا نحن نقول : ’ إن العقل هو ند معادل ومساوٍ “ . مثل هذه النفس حينما تطلب فإنها تنال معونة ومعاضدة وتؤهل للفداء ، لأن الحرب والجهاد وُضعا على أساس تساوي القوة . فلنمجد الأب والابن والروح القدس إلى دهر الدهور ، آمین . 

  1. من الفعل προσκαρτερέω يواظب ، يثابر ، يدأب ، ونفس هذا الفعل جاء في العهد الجديد مرتبطة أيضا بالصلاة في سبعة مواضع ، وترجم بـ ” المواظبة” : ( أع1: 14 ؛ أع 2: 42  أع 2: 46، أع 6 : 4، رو12: 12 ؛ أف6: 18 ؛ کو4: 2 ) ، انظر أيضا : العظة 19: 1،  2:40).
  2. نفس هذا التشبيه سيسوقه القديس في عظة تالية ( انظر : العظة 10:17) 

زر الذهاب إلى الأعلى