العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

مجد الأجساد المقامة وتوق الله لخلاص الجميع

العظة الثانية والثلاثون من العظات الخمسون

[مجد المسيحيين يمكث منذ الآن في نفوسهم، وهو عتيد ان يظهر في زمن القيامة ويمجد أجسادهم بما يتناسب وتقواهم]

[أ] الروح القدس يسربل الأجساد المُقامة

1 – إن لغـات هـذا العـالم مختلفة، فلكـل أمـة لغتها الخاصـة، أمـا المسيحيون فيتعلمون لغة واحدة جديدة ويتأدبون جميعا تحت حكمة واحدة – حكمة الله التي ليست من هذا العالم ولا مـن هـذا الدهر الزائل. وبينما يسلك المسيحيون في هذا العالم يختطفون إلى مناظر سماوية جديدة تماما وإلى أمجاد وأسرار، متخذين فرصة لذلك من الأمور المنظورة. فإنه يوجد أجناس حيوانات داجنة كالفرس والثور، ولكل منهم جسده الخاص وصوته الخاص؛ نفس الأمر أيضا مع الحيوانات البرية: فللأسد جسده الخاص وصوته الخاص، وبالمثـل للوغـل؛ وبين الزواحف بون شاسع؛ وفي الطيـور أجسام كثيرة: فجسم النسر وصوته شيء، وشيء آخر هو جسم الصقر وصـوته؛ نفس الأمور أيضا في البحر، فثمة أجسام عدة لا يشبه أحدها الآخر؛ وفي الأرض بذور كثيرة ولكل بذرة ثمرتُها الخاصة، وهنالك أشجار عديدة، لكـن تـوجـد أشجار أكثر ضخامة وأشجار أقل حجما، بـل وفاكهتها أيضا متباينة فيما بينها أشد التباين، فلكل منها مذاقه الخاص؛ وهنالك أعشاب وفيما بينهـا اختلافات جمة، ففيما يخصص بعضها للعلاج، يستخدم البعض الآخر للتعطر ليس إلا؛ فكل واحدة من الأشجار تخرج من باطنها أرديتها الظاهرة من أوراقي وزهور وثمار، بالمثل أيضا البذور من داخلها تحمل أردية ظاهرة، والزنابق تخرج من داخلها أرديتها وتزين العشب .

2- هكذا أيضا كل المسيحيين الذين حسبوا أهلًا منذ الآن لأن يقتنوا اللباس السماوي، يمتلكون ذلك عينه ماكنا في نفوسهم. وحيث إن الرب قد سبق فعين أن هذه الخليقة تنحل وأن السماء والأرض تزولان، فاللباس السماوي الذي منذ الآن يكسو النفس وبمجدها والذي اقتناه المسيحيون في قلوبهم، هو بعينه سيكسو ويمجد أيضا الأجساد المجرّدة، تلك التي ستقوم من القبور في ذلك اليوم، أعني الأجساد المقامة. فواضح أن هذا الذي يناله المسيحيون منذ الآن كعطية ولباس سماوي غير منظور سيسربل آنذاك تلك الأجساد أيضا بالمجد! فكما أن الأغنام والجمال حالما تجد عشبا تقبل على الطعام بنهم وتحرق وتدخر منه قوتا لذواتها، وفي وقت الجوع تصعد ذلك عينه من جوفها وتحترة، فما قد سبقت وخزنته يكون بمثابة غذاء لها؛ هكذا أيضـا كـل الذين اختطفوا الآن ملكوت السماوات وتذوقوا الطعام السماوي، عائشين بالروح، سيحظون في زمان القيامـة بـذلك الروح عينه ساترا لجميع أعضائهم ومدفنا لها.

3 – فكما أسلفنا القول عن تمايز البذور، أنّ الكثير منها يزرع في أرض واحدة ويعطي ثمارًا متباينة لا يشبه أحدها الآخر؛ بالمثل أيضا فيما يخص الأشجار، فمنها ما هو أكثر ضخامة ومنها ما هو أقل حجما، لكن أرضا واحدة تمسك بجذورها جميعا؛ هكذا أيضا الكنيسة السماوية: فلئن تكـن واحدة إلا أنه لا حصر لها، فكل واحد مزدان بمجد الروح القدس على نحو مميز. فعلى منوال الطيور تخرج من أجسادها أردية أجنحتها، وفارق جلي فيما بينها، إذ يطير البعض أكثر دنوا من الأرض بينما يُحلق البعض الآخر في الأعالي؛ أو على غرار السماء وهي واحدة لكنّها تحوي في ذاتها نجوما كثيرة، منها ما أشد لمعانا وما هو أكبر حجمًا وما هو أقل، وكلها مثبتة في السّماء؛ هكذا أيضا القديسون هم متأصلون على نحو متنوع في سماء اللاهوت الواحدة وفي أرض غير منظورة. بالمثل بالنسبة إلى آدم نفسه فالأفكار التي تأتي عليه متباينة، أما الروح الذي يأتي إلى القلب فيصنع فكرا واحد وقلبًا واحدا، لأن الأفكار التي من أسفل وتلك التي من فوق تتدبر ; تحت قيادة روح واحد.

[ب] ظل السماويات، والسماويات عينها

4 – فما هو المراد بالحيوانات التي تشق ظلفا؟ إنها بظفرين تسلك الطريق بلياقة، فهي موضـوعة رمزا للذين يسلكون في الناموس باستقامة. فكما أنّ ظل الجسد هو من الجسد نفسه لكنّه لا يقدر أن يتمم خدمةً جسدية – إذ لا قدرة للظل أن يغصب جروحا ولا أن يمد بالغذاء أو يتكلم – غير أنّـه مـن الجسد نفسه ويسبق فيعلن قدوم الجسد؛ هكذا أيضا الناموس العتيق هو ظل للعهد الجديد، أما الظل فيسبق ويعلن الحقيقة لكنّه

 

 ليس له «خدمة الروح». فإن موسى ما كان ليستطيع – وهو لابس الجسد – أن يدخل إلى القلب وينزع ثياب قوة الظلمة النجسة، فليس من يحل قوة الظلمة الشريرة سوى ما هو روح من روح، وناز من نار. فالختان الذي في ظل الناموس يشير إلى الختان الحقيقي الوشيك – ختـان القلـب، ومعمودية الناموس هـي ظـل للأمور الحقيقية، لأن تلك المعمودية تغسل الجسد، أمـا هنـا فمعمودية النّـار والـروح تطهـر العـقـل الـذي قد تنجس وتغسله.

5 – هناك : كاهن متسربل بالضعف يدخل إلى الأقداس، ليقدم ذبائح مـن أجـل نفسـه ومـن أجـل الشـعب؛ وهنا: المسيح، رئيس الكهنـة الحقيقي، قد دخل مرة واحدة إلى المسكن غير المصنوع بيد والمذبح الفوقاني، وهو مستعد أن يطهر الذين يسألونه والضمير الذي قـد تدئس. لأنه يقول: «سأكون معكم إلى انقضاء الدهر» (مت 18: 20 – حسب النص). فإن رئيس الكهنة كان له على صدره حجران كريمان، وكان يحمل أسماء رؤساء الآباء الاثني عشر . فالذي قـد صـار “هناك” هو مثال، لأنه هكذا الرب أيضا، بعد أن تسربل بالرسل، أرسلهم مبشرين وكارزين للعالم أجمع. فها أنت ترى كيف أن الظل يشير إلى الحق الوشيك. فعلى شاكلة الظـل لا يندي خدمة ولا يبرئ أتعابا؛ هكذا الناموس العتيق ليس بقادر أن يبرئ جراحات النفس وأتعابها، لأن لا حياة له.

[ج] النفس العادمة شركة الروح مدعاة للرثاء

6 – فحينما يتحد شيئان معا ينتجان شيئا ما كاملا، كالعهدين مثلا. فعلى صورة الله وشبهه قد صار الإنسان، والإنسان له عينان وحاجبان ويدان وقدمان، فإذا ما عرض أن يكون ذا عين واحدة أو يد واحدة أو قدم واحدة، بات كالمشوه؛ أو على مثال الطائر إذا ما كان له جناح واحد، فما يستطيع بجناح واحد أن يطير؛ هكذا أيضا طبيعة البشر إذا ما لبثت بمفردها عريانة، ولم تنل خلطة الطبيعة السماوية وشركتها، فإنّها لا تقوم شيئا بل تقبع عريانة ومشوهة في طبيعتها في دنس كثير. لأن هذه النفس قد دعيت هيكلا الله ومسكنا له وعروسا للملك، لأنه يقول: «إني سأسكن فيهم وأسير بينهم» (2کو 6: 16). فهكذا شر الله، إذ لما نزل من السماوات المقدسة احتوى طبيعتك العقلية، أي جسدك الذي من الأرض، ومزجه بروحه الإلهي، لكي تقبل أنت الترابي أيضا النفس السماوية. وعندما يكون لنفسك شركة مع الروح القدس وتدخل النفس السماوية إلى نفسك، حينئذ تكون إنسانا كاملا في الله ووارثا وابنا.

7 – فكما أن عظمة الله وعدم محدوديته لا تُحيط بها الكائنات الفوقانية ولا السفلية؛ هكذا أيضا رقـة الله، وأنه يتصاغر مع المتواضعين والصغار، شيء لا تستطيع إدراكه لا العوالم السماوية ولا الأرضية. لأنّـه كـمـا أنّ عظمته لا سبيل للإحاطة بها، كذلك أيضا رفته. فقـد يـدبّر الله أن تكـون أنت في ضيقات وآلام وجـراح، وهذه التي تخالهـا أمـورا مضادة تكـون لصالح نفسك. فمثلا إن كنت تشاء أن تكون في العالم وتغتني ثم يصادفك إخفاق، فتبتدئ حينئذ تفكر في نفسك: “حيث إني لم أصب نجاحا في العالم فلأمض وأهجره وأعبد الله. ثم حين تأتي ههنا تسمع الوصية القائلة: «بع أملاكك» (مت 19: 21)؛ أبغض الشركة الجسدانية؛ أعبد الله، حينئذ تبدأ تشكر على إخفاقك الذي كان في العالم قائلا: “إني بهذه العلة أوجد مطيعا لوصية المسيح. ثم إنك كما غيرت ذهنك – جزئيا، من جهة الأمور الظاهرة – واعتزلت العالم والشركة الجسدانية؛ هكذا يعوزك كذلك تغيير ذهنك من الاهتمام الجسدي إلى الاهتمام السّماوي، ثم تشرع بعد ذلك تفحص ما قد بلغ مسامعك، فلا يكون لك راحة بعد إلا فقط في الاهتمام والجهاد لكي تقتني هذا الذي قد سمعته.

8 – وحينما تحسب أنك قد صنعت كل شيء باعتزالك العالم، يخاطبك الرب قائلا: “علام افتخارك؟ جسدك ونفسك أما خلقتهما أنا؟ ذهبك وفضتك أما صنعتهما أنا؟ فماذا عملت أنت؟ فتبتدئ النّفس تعترف جهارا وتتوسل إلى الرب وتقول: “كل الأشياء هي لك، المسكن الذي أنا فيـه هـو لك، ثيابي هي لك، منـك أغتذي، ومـن لـدنك أتدبّر في كـل احتياجي. حينئذ يبدأ الرب حيال هذا أن يقول: ” أشكرك، فالخيرات هي لك، والمشيئة الصالحة هي لك. ومـن أجـل محبتك لي، إذ اتخذتني ملاذا لك، هلم فأعطيك ما لم تمتلكه أنت حتى الآن ولا اقتناه بشر على الأرض. اقبلني أنا ربك، مع نفسك، لكي تكون نفسك معي في كل حين فرحة ومبتهجة.

[د] النعمة تفسح للضيقات لأجل المنفعة

9- فكما أن المرأة المخطوبة لرجل تحضـر كـل أموالها وكل مهرها، من فرط محبتها، وتضعها بين يدي رجلها، وتقول هكذا: “إني ما أملك شيئا لي، فأموالي لك ومهري لك ونفسي وجسدي لك»؛ هكذا أيضا تكون النفس الحكيمة عذراء للرب ولها شركة مع روحه القدوس. لكن كما أنه لما أتى إلى الأرض تألم وصلب، ينبغي لك أنت أيضا أن تتألم معه. لأنك في الوقت الذي فيه تعتزل العالم وتقبل على طلب الله واقتناء التمييز، تُجابه حربا مع طبيعتك في عوائدها القديمة، ومع عاداتـك الـتي ولدت بها، وفي محاربتـك مـع عـاداتـك تلقى أفكـارا معادية لـك ومحاربة لذهنك، فتجتذبك هذه الأفكار وتطـوف بـك في العالم المنظـور الـذي خرجت منه؛ فتشرع تجاهـدها وتحاربها، دافعا بأفكار قبالة أفكار، وبذهن قبالة ذهن، وبنفس قبالة نفس، وبروح قبالة روح، وهناك يبلغ صراع النفس أشده.

10– ذلك أنّ اللثام يماط عن قدرة للظلمة – قدرة كامنة مراوغة قابعة في القلب. إلا أن الرب يكون قريبـا مـن نفسـك وجسدك وناظرا حربك، فيسر إليك بأفكار سماوية ويبدأ في أن يهبك راحة في الخفاء، لكنّه يتركك ريثما تتهـذب. وفي هذه الشدائد عينهـا تُدبّر النّعمـة أمـرك، وحين تبلغ الراحة، تعرفك النعمة ذاتها وثريـك أنّه إنما لأجل منفعتك أفسحت هي لتتدرب أنت. فكما حين يكون هناك غلام لرجل غني وله مرت يعذبه برهة بجلدات وتظهر عليه آثار التأديب والجروح والضربات الثقيلة إلى أن يغدو رجلًا، لكن حينئذ يبدأ يشكر مربيه؛ هكذا أيضا تؤدبك النعمة تدبيريا إلى أن تبلغ إلى «رجل كامل»

[هـ] الله ينشد خلاص الجميع

11 – إن الفلاح يلقي بذاره في كل مكان، والذي يغرس كرمة يريد أن تأتي كلها بثمر، فإذا حضر أخيرا منجله ولم يجد ثمرا تولاه الحزن؛ هكذا الرب أيضا يريد أن يبذر كلمته في قلوب البشر. لكن كما أن الفلاح يحزن على الأرض العقيمة، كذلك الرب أيضا يحزن على القلب العقيـم عـديم الثمر. فكما أن الرياح تهب في كـل مكـان عـلـى كـل الخليقة، وكما أنّ الشمس تشرق على المسكونة؛ هكذا اللاهوت هو في كل مكان ومتواجد في كل موضـع، فإذا مـا التمسته في السّماوات فهناك تجده في أفكـار الملائكة، وإذا ما التمسته على الأرض تجده هنا أيضا في قلوب البشر، على أن نفرا قليلا من المسيحيين، من بين كثيرين، يوجدون مرضين له. والمجد والعظمة للآب والابن والروح القدس، إلى الدهور، آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى