العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

شتَّان بين المسييحين وأهل العالم

العظة الخامسة من العظات الخمسون

[ في ذلك البون الشاسع بين المسيحيين وبين أهل هذا العالم؛ فهؤلاء، إذ لهم روح العالم، قد باتوا مكبلين – قلبا وفكرا – بالأغلال الأرضية، وأما أولئك فإنهم يتوقون إلى محبة الآب السماوي، مقتنينه وحده أمام أعينهم في اشتهاء كثير]

[ أ ] الشيطان يغربل أبناء هذا الدهر

1 – إن للمسيحيين عالمـا آخـر؛ فنهج حياتهم وفكرهم وكلامهـم وسلوكهم يختلف عن نهج حياة أهـل العـالم وفكرهم وكلامهم وسلوكهم، فأولئك شيء وهؤلاء شيء آخر، وشاسع هو البون بينهما. فإن ساكني الأرض وأبناء هذا الدهر أشبه بحنطة ملقاة في غربال هذه الأرض، إذ تُغربل نفوسهم بأفكار هذا العالم التي لا تهدأ وباضطراب الأمور الأرضية والميول المادية المتشابكة الذي لا يكف. فإن الشيطان يزعزع كما بأمواج كل الجنس البشري الخاطئ ويغربله بغربال الأمور الأرضية، وذلك منذ سقطة آدم لما خالف الوصية وصار تحت سلطان رئيس الشر. ولما حظي الشيطان بمثل هذا السلطان، ما فتئ – بواسطة الأفكار الخداعة المضطربة التي لا تكف – يغربل ويقلقل جميع أبناء هذا الدهر بغربال الأرض.

٢ – فكما أنّ الحنطة في الغربال تتصادم بواسطة من يغربلها، وتهتز بلا توقف وتتحرك هنا وهناك في الغربال؛ هكذا أيضا يمسك رئيس الشر جميع النّاس بواسطة الأمور الأرضية ويقلقهم ويزعجهم ويزعزعهم بما، ويصنع اضطرابا بواسطة الأفكار الباطلة والشهوات القبيحة والرباطات الأرضية العالمية، ولا يكف عن أن يسبي كل جنس آدم الخاطئ ويزعجه ويخدعه، كما سبق الرب وحذر رسله عـن هـجـوم الشرير المزمع أن يصير ضدهم، قائلا: «لهو ذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة، ولكني طلبت من أبي لكي لا يفنى إيمانكم» (لو 22: 31 و 32،حسـب النص). فإنّ الكلمة التي قيلت لقـايـين مـن خـالقـه والحكـم الـذي صدر عليـه عـلنـا – «سوف تكون متنهدا ومرتعدا وقلقا في الأرض» (تك ٤: ١٢س – حسب النص) – هذا الحكم إن هو إلا مثال وصورة لما يحدث لخفية لجميع الخطأة. فحينما سقط جنس آدم من الوصية وأمسى خاطئا، صار له خفية تلك الصورة، فوجد منزعجا بلا توقف بأفكار الرعب والخوف وكل اضطراب، إذ ما برح رئيس هذا العالم – بواسطة الشهوات واللذات من كل نوع ومن كل صنف – يزعزع كما بأمواج كـل نفس لم تولـد مـن الله؛ وكمثل حنطة تتحرك في غربال بلا توقف يقلقل أفكار الناس بطرق شتى، وبغوايات العالم ولذات الجسد والمخاوف والاضطرابات يزعجهم جميعا ويخدعهم.

3 – فأولئك الذين يتبعون غوايات الشرير ومشيئاته قد أظهرهم الرب أنهم يحملـون صـورة شـر قـايين، إذ وبخهـم قائلا: «أنتم تريدون أن تعملوا شهوات أبيكم. ذاك كان قتالا للناس منذ البدء، ولم يثبت في الحق» (يو 8: 44)، حتّى إن كل الجنس الآدمي الخاطئ قد صار له، لخفية، ذلك القـصـاص: سوف تكونون متنهـدين ومرتعـدين وقلقين في غربال الأرض بواسطة ذاك الذي يغربلكم، أي الشيطان. فكما أنه من واحد، أي آدم، قد امتد كل الجنس البشري على الأرض، هكذا أيضا قد انغرس شر الأهواء الواحد في كل الجنس البشري الخاطئ، وتمكن رئيس الشر من غربلة الجميع بواسطة الأفكار المادية القلقة الباطلة المضطربة. فكما أن ريحا واحدة يمكنها أن تحرك وتهز كل المزروعات والنباتات، وكما أن ظلمة واحدة لليلة تُخيّم على كل المسكونة؛ هكذا أيضا رئيس الشر – الذي هو ظلمة عقلية للشر والموت، وريخ خفية هوجاء – يزعزع كما بأمواج كل الجنس البشري على الأرض، ويسوقه بواسطة الأفكار القلقة، ويخدع قلوب الناس بشهوات العالم، ويملأ بظلمة الجهل والعمى والنسيان كل نفس لم تولـد مـن فـوق ولم تنتقل باهتمامها وفكرها إلى العالم الآخر، بحسب المكتوب: «فإنّ موطننا نحن هو في السّماوات» (في 3: 20).

ب ما يميز المسيحيين عن غيرهم

4 – ففي هذا يختلف المسيحيون الحقيقيون عن باقي الجنس البشري كله، وفي هذا يكمن الفارق الشاسع بين الفريقين، كما سبق وقلنا، في أنّ المسيحيين يكونون علـى الـدوام، بفكـرهم وذهنهم، في الاهتمـام السماوي، ناظرين – كما في مرآة – إلى الخيرات الأبدية، وذلك بسبب شركة الروح القدس ومؤازرته، إذ قد ولدوا ثانية من الله واستحقوا أن يصيروا أولاد الله بالحق والقوة، وبلغـوا – غـير جهادات وأتعاب كثيرة لأزمنة طويلة – إلى القيام والرسوخ وعدم الاضطراب والراحة، ولم يعودوا بعد يغربلون ويتزعزعـون بأمواج الأفكار الباطلة المضطربة. وهكذا صاروا أعظـم وأفـضـل مـن العـالم، لأن فكـرهم وهمة نفوسهم إنما هما في سـلام المسيح وفي محبة الروح، كما أشار الرب أيضا إلى مثل هؤلاء قائلا إنّهم قد انتقلوا من الموت إلى الحياة. وهكذا فإن تمايز المسيحيين ليس هو في الشكل ولا المظهر الخارجي، كما يتوهم الكثيرون أن اختلافهم وتمايزهم عن العالم إنما هو في الشكل والمظهر، في حين أنّهم بالفكر والذهن مشابهون للعالم، ولهم ما لجميع الناس من اضطراب الأفكار وطيشها وعدم الإيمان والارتباك والانزعاج والرعب. فبينمـا هـم يختلفون بالشكل والمظهر وبعض الأعمال الخارجيـة عـن العـالم، إلّا أنّهم بالقلب والفكـر مكبلون بالأغـلال الأرضية، إذ لم يقتنوا في قلوبهم النياح الذي من الله والسلام الذي من الروح السماوي، لأنهم لم يطلبوهما من الله ولا آمنوا بأنهم سيؤهلون لهما.

5 – فإنه في هذا: في تجديد الذهن، وسلام الأفكار، ومحبة الرب والعشـق السماوي نحـوه، يكـمـن الفارق بين الخليقة الجديدة التي للمسيحيين وبين جميع أهل العالم، فإن مجيء الرب كان من أجل أن يؤهل لهذه الخيرات الروحية أولئك الذين يؤمنون به بالحق. لأنه ولئن كان مجد المسيحيين وبهاؤهم وغناهم السّماوي لا ينطق به، إلا أنه ينال بالأتعاب والأعراق والامتحانات والجهادات الكثيرة، ولكن يظل كل الفضل لنعمة الله. فإن كانت رؤية الملك الأرضي مشتهاة من جميع الناس، حتى إن كل من يأتي إلى مدينة الملك يشتهي ولو أن يحظى فقط برؤية بمائه أو خشن لباسه أو مجد خلته الملوكية أو لمعان لآلئه المتنوعة أو جمال تاجه أو كرامة حاشيته، إلا أن الروحيين وحدهم يزدرون هذه كلها، لأنهم قد اختبروا مجدا آخـر سماويا غير جسداني، وجرحـوا بجمال آخـر لا يعبر عنـه، واشتركوا في غنى آخر، وتنبهوا بإنسانهم الباطن، وصارت لهم شركة في روح آخر. فإن أهل هذا العالم، إذ لهم روح العالم، يكون لهم اشتياق جارف لأن يحظوا فقط ولو برؤية الملك الأرضي بكل بمائه ومجده، لأنّه على قدر ما لذلك الملك من نصيب من الأشياء المنظورة أعظم مما هو لجميع النّاس، هكذا مجرد رؤيته فقط هي أمر مجيد وأمر مشتهى لدى الجميع، حتى إن كل أحـد يقـول في نفسه: “لو أن أحـدا يعطيني مثـل ذلـك المجـد والبهـاء والجمال!! حاسباً ذاك الملك الأرضي مغبوطا، رغـم كـونـه مثله أرضيا وعرضة للآلام ومائتا، وذلك من أجل البهاء الزائل والمجد المشتهى.

6 – فإن كان الأناس الجسدانيون يتشهون هكذا مجد الملك الأرضي، فـكـم بالأحرى جدا أولئك الذين قد قطر عليهم ندى روح الحياة الذي للاهوت وجرح قلوبهم بعشق إلهي نحو المسيح، الملك السماوي، فاضحوا مقيدين بذلك الجمال والمجد الذي لا ينطق به والحسن الذي لا يفسد والغنى الذي يفوق العقل الذي للمسيح، الملك الحقيقي الأبدي، ذاك الذي باشـتهائه والاشتياق إليه أصبحوا مأسورين، وبكـل كيانهم نزعوا إليه، متحرقين شوقا إلى نيل تلك الخيرات التي لا ينطق بها التي ينظرونها بالروح القدس كما في مرآة، والتي لأجلها يزدرون بكل جمال وبمـاء الملوك والرؤسـاء على هذه الأرض وبكـل أمجادهم وكراماتهم وغناهم، ذلك لأنهم جرحوا بالجمال الإلهي وقطرت على نفوسهم حياة الخلود السّماوي. ولهذا فإنهم يتوقون إلى تلك المحبـة الـتي للملـك السّماوي، ويضعونه هو فقط نصب أعينهم في شوق كثير، ومن أجله يخلون ذواتهـم مـن كـل محبـة عالمية وينفكـون مـن كـل رباط أرضي، حتى يستطيعوا أن يقتنـوا ذلك الشوق وحـده في قلوبهم على الدوام، ولا يمزجوا معه أي شوق آخر.

ولكن قليلون جدا الذين أقرنوا بالبداية الصالحة نهاية صالحة كذلك، هم وأكملوا الطريق إلى النهاية بلا عثرة، مقتنين محبة واحدة نحو الله وحده، وحالين ذواتهم من كل شيء. فإن كثيرين ينحسون وكثيرين يصيرون شركاء النعمة السماوية بل ويجرحون بالعشق السماوي، ولكن بسبب الصراعات والجهـادات والأتعاب ومختلف تجارب الشرير لا يثابرون بل يجنحـون إلى شهوات عالمية مختلفة ومتنوعة، ذلك لأن لكل واحد منهم رغبة في محبة شيء مما لهذا العالم، وما حرر محبته بعد من كل جهة، وهكذا فإنّهم يكفون عن مسيرهم ويغرقون في لجة العالم، إما بسبب وهـن إرادتهم ورخاوتها، أو جبنهم، أو محبتهم لشيء أرضي. فالذين يريدون بالحق أن يكملوا سعيهم إلى النهاية في سيرة صالحة، يلزمهم ألا يقبلوا بإرادتهم أي عشق آخر أو حب آخـر ويمزجـوه مع ذلك الحب السماوي، حتى لا يتعوقـوا عـن الأمور الروحية ويعودوا أدراجهم إلى الوراء فيخيبوا من غاية الحياة. لأنّه بقدر ما تكون المواعيد الإلهية هكذا عظيمة، لا ينطق بها ولا يعبر عنها، فإنها تحتاج إلى إيمان ورجاء وأتعاب وجهادات عظيمة وامتحانات شديدة. لأن تلك الخيرات التي يرجو نيلها الإنسان الثائق إلى ملكوت السماوات ليست بالأمر الهين. أتروم أن تملك مع المسيح إلى الدهور التي لا نهاية لها، وتأبى أن تقبل – باشتهاء وحتى الموت – جهادات الزمان اليسير الذي لهذا الدهر وأتعابه وتجاربه؟!

فها هو الرب يصرخ قائلا: «إن كان أحد يريد أن يأتي ورائي، فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، فرحاً، ويتبعني» (مت 16: 24 ؛ لو 9: 23)، وأيضا: «إن كان أحد لا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته وأخواته، حتى نفسه أيضا، فلا يقدر أن يكون لي تلميذا» (لو 14: 26). فإن جل الناس يريدون أن ينالوا الملكوت ويرغبون أن يرثوا الحياة الأبدية غير أنهم لا يتنازلون عن أن يحيوا بحسب مشيئاتهم الخاصة ويسعوا وراءها، فيتبعون بالأحرى ذاك الذي يبذر الأباطيل (أي الشيطان)، وهم يرغبون أن يرثوا الحياة الأبدية دون أن ينكروا ذواتهم وهذا ضرب من المحال. فإن كلمة الرب صادقة، إذ إن الذين يكملون سعيهم بلا عثرة هم أولئك الذين ينكرون ذواتهم بالتمام، بحسب وصية الرب، ويعافون كل شهوات العالم وأغلاله وملاهيه ولذاته وهمومه، مقتنين الرب وحـده نصب أعينهم، تائقين لأن يحفظوا وصاياه. مـن ثم فكـل مـن يرتد بمحض إرادتـه عـن الملكوت، لعدم رغبته في الحقيقة في أن يشقى وينكر نفسه، ولحبه أشياء أخـرى إلى جـوار تلك المحبـة (الإلهية)، فإنه يتلذذ بملذات هـذا الـذهر وشهواته ولا يكرس – بأقصى ما يستطيع، عن إرادة واختيار – كل محبته نحو الرب.

[ج] ميزان القلوب (شیهیت)

فلنأخذ مثالا واحدا تفـهـم بـه معي كل شيء، فإنه يعرض أحيانا أنّ إنسان يحكم ويميز ويعرف أن ما يريد فعله هو أمر ليس في محله، ولكن لأنّه يهواه لا يرفضه وبالتالي فإنه ينغلب منه. ففي بداية الأمر يكون هناك في الداخل، في قلبه، قتال وصراع ومقايسة ومفاضلة وموازنة بين محبة الله ومحبة العالم، ثم بعد ذلك يتقدم ويناظر نفسه، هـل يشرع في مخاصمة أخيـه ومشاحنته، قائلا في نفسه: “أقول أم لا أقول؟ أتكلم أم لا أتكلم؟ ورغم أنه يكون متذكرا الله، إلا أنه يعكف على طلب مجده الخاص ولا ينكر ذاته، فترجح قليلًا محبة العالم وتثقل كفتها في ميزان قلبـه [1]، وللوقـت تنـدفع الكلمات الشريرة إلى شفتيه، ثم يصير العقل وكأنه يشد قوسا ليطلق سهاما من داخله، فيرشق الإنسان قريبه بواسطة لسانه، مرسلا بإرادته سهام كلماته غير اللائقة وطالبا مجد ذاته. وبتوالي الرشق بتلك الكلمات غير اللائقة مرارا كثيرة تمتد الخطيئة إلى أعضاء أخرى لتتبادل الضربات، وربما يصل الأمر إلى الجروح إن طال الصراع أعضاء الجسد الأخرى، بل وربما، حين تكمل الرغبة الشريرة، يبلغ الأمر حد القتل والموت.

فانظر من أين تبدأ محبة المجد العالمي وإلى أين تنتهي إذا ما رجحت هي كفة ميزان القلب نحو مشيئة الذات. فإن ذلك الإنسان من أجل أنه لم ينكر نفسه وأحب شيئا ما من العالم، صارت كل تلك الترهات. وصدقني فإن هذا هو الحال بالنسبة لكل خطيئة ولكل عمل خبيث حين يغوي الشر إرادة العقل ويدفعها صوب الشهوات العالمية وصوب خداع الجسد ولذته. وهكذا يقترف كل فعل شرير، إن كان زي أو سرقة أو طمعا أو شكرا أو حبا للفضة أو مجدا باطلا أو غيرة أو حبا للرئاسة أو كل ما شابه ذلك من الأعمال الشريرة. بل وأحيانا توجد أعمال تبدو حسنة، ولكن إن كانت تعمل من أجل مجد الناس ومديحهم، فإنّها – في نظر الله – مثلها مثل الظلم والسرقة وباقي الخطايا، لأنه يقول «إن الله بدد عظام أولئك الذين يتوجون مرضاة النّاس» (مز 52: 6 س). فإن الشرير (أي الشيطان)، كونه متفننا في شهوات العالم ومخاتلا بها، يبتغي أن يخدم ولو بواسطة الأعمال التي تبدو حسنة. فمن أجل محبة ما أرضية وجسدانية يكبل بها الإنسان بمحض إرادته يغوى من الشر، فيصير له هذا الشر غلا ووثاقا وحملا ثقيلا يغرقه إلى أسفل ويخنقه في عالم الشر، ولا يدعه يرفع رأسه وينطلق إلى الله، إذ إنّ ما يهواه الإنسان مما لهذا العالم، هو يثقل عقله ويقوى عليه ولا يدعه يرفع رأسه.

ففي هذه المقايسة والموازنة والمفاضلة من جهة الشر يعلق ويمتحن كل الجنس البشري، يستوي في ذلك المسيحيون القاطنون في المدن أو في الجبال أو في الأديرة أو في القرى أو في البراري، فإن كان الإنسان – مخدوعا بمشيئة نفسه – يهوى شيئا ما، فإن محبته إذ ذاك تصبح مغلولة، ولا تكون بكاملهـا نحو الله. فيوجد إنسان، مثلا، يحب القنية، وآخر يحب الذهب والفضة، وآخر مستعبد لبطنه، وآخر لشهوات الجسد، وآخر – من أجل مجد النّاس – يهوى الحكمة العالمية في الكلام، وآخر يحب الرئاسة، وآخر يحب المجد والكرامات البشرية، وآخر يميل إلى الغضب والسخط إذ يسلم نفسه سريعا لهذا الوجع فيهواه، وآخر يميل إلى اللقاءات غير اللائقة، وآخر يميل إلى الحسد، وآخر ينعم نفسه طوال اليوم ويمتعها، وآخر يخدع نفسه بالأفكار الباطلة، وآخر يحب أن يكون معلما للفضيلة لأجل مجد النّاس، وآخر يلذيذ نفسـه برخـاوة وبـلا اكتراث، وآخـر مكبل بالاهتمام باللباس والثياب، وآخر يسلم نفسه للاهتمامات الأرضية، وآخر يحب النوم أو الهزل أو الكلام القبيح. فإن من أمسك بحب أي شيء عالمي، صغيرا كان أم كبيرا، فإنه بهذا الشيء عينه يكبل ولا يمكنه أن يرفع رأسه. فالهوى الذي لا يحارب الإنسان قبالته بشهامة، يميل إلى حبه، فيمسكه ذلك الهوى ويثقله ويصير له عائقا وقيدا يحول دون انطلاق عقله نحو الله وإرضائه وخدمته له وحده وأهليته لنيل الملكوت والحياة الأبدية.

 فإن النفس التي وجهتها نحو الله بالحق، تجتذب محبتها إليه بالتمام فترتبط بـه وحـده باختيارهـا وبكل قوتها، وإذ ذاك فإنها تحظى بمعونة النعمة فتنكر ذاتها ولا تتبع مشيئات عقلها – إذ إنّ العقل يسلك معنا بالمكر بسبب الشر المخاتل الملازم لنا – بل تسلم ذاتها بالتمام لكلمة الرب، وتنفك من كل رباط خارجي بأقصى استطاعتها وإرادتها، وتعطي ذاتها بالكامـل للرب، وهكذا تتمكن بسهولة من اجتياز الجهـادات والأتعاب والشدائد. لأن الإنسان إما أن يعان من الأشياء التي يحبها وإما أن يثقـل منهـا؛ فإن كان أحد يحب شيئا من هذا العالم، فهذا الشيء عينه يصير له ثقلا وأغلالا تجذبه إلى أسفل ولا تدعه ينطلق إلى فوق نحو الله؛ أما إن كان أحد يحب الرب ووصاياه، فمن ذلك يعان ومن ذلك يخفت حمله، وتغدو وصايا الرب سهلة بالنسبة له، لأن محبته للرب تحفظه بالتمام وترجح كفته نحو الصلاح، بل وبالأكثر تخفف ومون كل قتال وكل شدة، وبواسطة القدرة الإلهية تصدع العالم مع ما فيه من قوات الشر التي تصطاد النفس وتوثقها في قعر العالم بفخاخ شتى الشهوات. وهكذا فإن مثل هذه النفس تنحـل مـن هـذه الشهوات بإيمانها الخاص واجتهادها الكثير، وبواسطة المعونة العلوية تؤهل للملكوت الأبدي حيث وضعت محبتها. فلأن النفس قد أحبت هذا الملكوت بالحق، بإرادتها الخاصة، ونالت المعونة من لدن الرب، فإنها لا تسقط من الحياة الأبدية.

[د] تكريس كل المحبة للرب وحده

أن بيتا ولكـى نــرهـن مـن الأمـور الـظـاهرة كيـف أن كثيرين يهلكـون بمحـض مشيئتهم، فيغرقون في البحر أو يمسكون في السبي؛ فلتفترض معي اندلعت فيه النيران، فمن كان يبتغي أن ينجو بنفسه، فحالما يستشعر الحريق يهرب عاريا تاركا خلفه كل شيء، فلأنه أراد أن يقتني نفسه وحدها خلص؛ لكن إن كان هناك إنسان آخر يريد أن يأخذ شيئا ما من البيت: آنية أو ثيابا أو أي شيء آخر، فإنه يدخل لكي يحمله، وفيما هو يحمله تكـون النيران قد التهمت البيت فتحبسه في الداخل ويحترق. فانظر إذا أنه بمشيئته الخاصة ومن أجل محبة ما – إذ قد أحب شيئا زائلا بخلاف نفسه – قد هلك في النيران. وبالمثـل أيضا في البحر، لو أن قوما قد طغت عليهم الأمواج وانكسرت بهم السفينة، فمن يخلع ثيابه وينزل عاريا في الماء راغبا فقط في أن ينجو بنفسه، فإنه يحمل بواسطة الأمواج ويسبح فوقها كونه غير مثقل بشيء، فيتمكن من عبور هذا البحر المر وهكذا يقتني نفسه؛ ولكن إن كان هناك إنسان آخر يريد أن ينجو محتفظا بشيء من ثيابه، ظانا أنه بمقدوره أن يسبح ويعبر البحر لابسا شيئا من ثيابه التي حملها معه، فإنّ تلك الثياب بعينها التي أخذها معه تثقله إلى أسفل وتغرقه في لجة البحر، وهكذا فإنّه من أجل ربح بخس يهلك ولا يقتني نفسه، فها أنت ترى أنه بمشيئته الخاصة قد أسلم إلى الموت. فلتفترض معي أيضا أن صوت غرباء قد شمع مقبلا، فهناك من يهرب في الحال دون تأخير بمجرد سماعه الصوت ويخرج عاريا[2]، ولكن هناك أيضا من يتلكأ في الهروب، إما لأنه لا يصدق أن الأعداء قادمون، أو لأنه يهوى أشياء من مقتنياته ويريد أن يحملها معه، فيأتي الأعـداء ويمسكونه ويأسرونه إلى أرض هؤلاء الغرباء حيث يستعبد قهرا، فها أنت ترى أنه بمشيئته وبسبب رخاوته وعدم شجاعته وبسبب محبته لشيء ما، قد اقتيد إلى الشبي. هكذا بالمثل أيضا الذين لا يتبعون وصايا الرب ولا ينكرون ذواتهم ولا يكرسون حبهم للرب وحده، بل هم مكبلون باختيارهم بربط الأرض، فمتى جاءت النار الأبدية، فإنهم – وقد وجدوا في محبة العالم – يحترقون، ويغرقون في بحيرة الشـر الـمرة، ويسبون من قبل القبائل الغريبة أي أرواح الشر، وهكذا يهلكون.

فإن كنت تريد أن تتأمـل مـن الكتب المقدسـة الـمـوحى بهـا مـن الله استقامة المحبة الكاملة نحو الله، فانظر إلى أيوب كيف أنه تعرى – إن جاز القول – من كل ما يملك: من بنيه وأمواله ومواشيه وعبيده وباقي ما يملكه، وكيف أنه هرب متجردا من كل شيء وخلص نفسه، بل حتى ثوبه نفسه تخلى عنه وألقاه للشيطان، وما نبس بكلمة تجديف أمام الرب، لا في قلبه ولا بشفتيه، بل على العكس بارك الرب قائلا: «الرب أعطى، الرب أخذ، كما استحسن الرب هكذا صار، فليكن اسم الرب مباركا» (أي 1: 21 س) ، فرغم أنه كان يظن أن له مقتنيات كثيرة، إلّا أنّه لما امتحن من الرب ظهر أنه لا يملك سـوى الله وحده. كذلك بالمثـل أيضا إبراهيم، حينما أمر من الرب أن «الخرج من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك» (تك 12: 1)، فللحال تعرى – إن جاز القول – من كل شيء: من وطنه وأرضه وأقاربه ووالديه، وتبع قول الرب. ثم بعد ذلك أتت عليه امتحانات وتجارب كثيرة: فمن جهة أخذت امرأته، ومن جهة أخرى عاش في أرض غريبة وتعرض للظلم، ولكن خلال هذا كله تبرهن أنه يحب الله وحده فوق كل شيء. بل وأخيرا بعدما اقتنى – بموعد، وبعد سنين كثيرة – ابنه الوحيد الذي طالما اشتاق إليه، وطلب منه أن يقدم هذا الابن ذبيحة، قدمه هو بنفسه بعزم، متجردا من ذاته ومنكرا إياها بالحقيقة، فبرهن بواسطة تقديمه لوحيده أنه لم يحب أي شيء آخر بخلاف الله. لأنه إن كان هكذا قد بعزم تخلى عن ذاك، فكم بالأحرى جدا إن أمر بأن يتخلى عن باقي ما يملك، أو بأن يوزعـه دفعة واحـدة على الفقراء، فإنّه بكـل استعداد وعـزم كـان سيفعل هذا. أترى استقامة المحبة الكاملة الطوعية نحو الله؟

هكذا أيضا الذين يريدون أن يصيروا ورثة مع أولئك، يتحتّم عليهم أن لا يحبوا أي شيء بخلاف الله، لكي إذا ما امتحنوا، وجدوا لائقين ومزگين وصائنين لمحبتهم الكاملة نحو الرب. مثل هؤلاء لهم القدرة أن يجتازوا الجهاد حتى النهاية، هؤلاء الذين – بإرادتهم – قد أحبوا الله وحده على الدوام، وفكوا ذواتهم من كل محبة عالمية. وقليلون جدا هم الذين يوجدون حاملين لمثل هذه المحبة، ومغرضين عن جميع ملذات العالم وشهواته، وصابرين بطول أناة على هجمات الشرير وتجاربه. لكن هل لأنّ كثيرين من الذين يعبرون الأنهار ينجرفون بالمياه، لا يوجد تبعا لذلك من يعبر الأنهار الموحلة التي لشهوات العالم المختلفة ولتجـارب أرواح الشـر المتنوعة؟ وهل لأن شفنا كثيرة في البحر تطمـو فوقهـا الأمـواج فتغرق، لا يوجد بالتالي بعض منها وقد عبر واجتاز فوق الأمواج وبلغ ميناء السّلام؟ إنما الحاجة ماسة كل حين إلى إيمان عظيم، وطول أناة، وجهاد، وصبر، وأتعاب، وجوع وعطش إلى الصلاح، وعزيمة قاطعة، ولجاجة، وإفراز، وفهم.

ـ] المجد مُذخر في الصبر على الشدائد

فإن سـواد النـاس يبتغـون نـيـل الملكـوت بـلا أتعاب ولا جهـادات ولا أعـراق، وهـذا أمر مستحيل. فمثلما يحدث في العالم أن يذهب رجـال ليشتغلوا عند إنسان غني، في الحصادأو في عمل آخر لكي يحصلوا على ما يقيمون به أودهم، فإنه يوجد بينهم أيضـا قـوم متكاسلون في أنفسهم ومتراخون وبطالون لا يجتهدون كما يجب ولا يشتغلون كما يليق. فهؤلاء، وهم لا يتعبون في بيت ذلك الرجل الغني ولا يجتهدون، يرومون أن يحصلوا على أجر مساو لأجر أولئك الذين يشتغلون بنشاط وعـزم ماض وبكل قوقهم، كما لو كانوا هم أيضا قد أتموا عملهم؛ هكذا بنفس الطريقة حينما نقـرأ نحن أيضا الكتب المقدسة ونرى كيـف أنّ هذا الصديق أو ذاك قـد أرضى الله، وكيف صار خليلا لله أو كليما له، بل وكيف صار جميع الآباء أحباء الله وورثة له، كم صبروا على الشدائد، وكم تألموا من أجل الله، وكم سلكوا بشهامة وجاهدوا؛ فنحن نطوبهم ونبتغي الحصول على هبات وكرامات كتلك التي حازوها، ونتوق باشتهاء أن ننال تلك المواهب المجيدة، ونحن متغافلون عن أتعابهم وجهـاداتهم وشدائدهم وآلامهم. فبينما نرغب باشتياق لأن ننال كراماتهم وأمجادهم التي أعطيت لهم من الله، لا نتقبل أتعابهم وآلامهم وجهاداتهم!

ولكني أقول لك إن كل الناس يرغبون في ذلك ويشتاقون إليه، وحتّى الزواني والعشارون والظالمون يرغبون أيضا في أن ينالوا الملكوت بسهولة وبلا أتعاب ولا جهـادات! فمـن أجـل هـذا يوجد على طول الطريق تجـارب وامتحانات كثيرة وشدائد وجهـادات وأعـراق، حتى يكونوا ظـاهرين أولئك الذين أتوا إلى الرب بالحق وحتى الموت، وأحبوه وحده مـن كـل نيتهم ومن كل قدرتهم، ولم يكن لديهم أي شيء آخر مشتهى إلى جوار محبتهم له. بسبب هذا أيضا، فإنّهم بعدل يدخلون إلى ملكوت السماوات، لأنهم قد أنكروا نفوسهم كقول الرب، وأحبوا الرب وحده أكثر من حياتهم الخاصة. فلأجـل هـذا سيكافأون عن محبتهم الفائقة بالهبات السماوية الفائقة. فإنّ المواعيد والمجد والحصول الكامل على الخيرات السماوية إنّما هو مكنون في الشدائد والآلام والصبر والإيمان، كاختباء الثمر في البذرة التي تلقى في الأرض؛ أو كمثل الشجرة التي تخصب بشيء من السباخ و تنمو وسط القاذورات، ولكنها فيما بعد تظهر وقد اكتست بالبهاء والمجد والثمر المتكاثر؛ هكذا أولئك، إن لم يجتازوا تلك الأمور المستوجبة الهـوان والإفناء، فلن يظهروا مزدانين بالجمال والمنظر البهيّ والثمر المتكاثر، كما يقول الرسول: «بضيقات كثيرة نتمكن من أن ندخل ملكوت السماوات» (أع 14: 22  – حسـب النـص)، وكمـا يقـول الـرب: «بصبركم اقتنـوا أنفسكم» (لو 21: 19)، وأيضا: «في العالم سيكون لكـم ضيق» (يو.(33 :16

لذلك فالحاجة ماسة إلى تعب واجتهاد ويقظة وحـذر كثير، وإلى لجاجة وعزيمة ماضية في السؤال إلى الرب، حتى يمكننا أن نعبر فخاخ الشهوات الأرضية وأشـراك اللذات وعواصـف العـالم، ونفلـت مـن هجمات الأرواح الشريرة، وندرك جيدا بأية يقظة وسهر في الإيمان والمحبة اقتنى القديسون في نفوسهم، منذ الآن، الكنز السماوي أي قوة الروح القدس الذي هو عربون الملكوت. فإن الطوباوي بولس الرسول يحدثنا عن هذا الكنز السماوي الذي هو نعمة الروح القدس، فلئن كان يقر بالشدائد الثقيلة جدا إلّا أنّه في الوقت نفسه يرينا ماذا ينبغي لكل منا أن يطلب من ورائها وما الذي يلزم أن نقتنيه، إذ يقول: «لأننا نعلم أنه إن نقض بيت خيمتنا الأرضي، فلنـا بنـاء من الله، بيت غير مصنوع بيد، أبدي، في السماوات» (2کو 5: 1).

[و] المجد مرهون باقتناء الروح القدس

7 – فينبغي لكـل واحـد إذا أن يجاهـد ويسعى في أثـر جميع الفضائل ويقتني الإيمان حتى يحظى بذلك البيت. لأنه إن كان بيتنا الجسدي ينقض فلـن يـكـون لنا بيت آخر تأوي إليه نفوسنا، لذلك فهو يقول: «وإن كنّا لابسين، فلن توجد عراة» (2کو 5: 3)، أي عراة من شركة الروح القدس والخلطة معه، تلك الشركة التي فيهـا وحـدها يمكن للنّفس الأمينة أن تجد راحتها. من أجل هذا، فإنّ المسيحيين – الذين هم مسيحيون بالحق والفعل – يثقون ويفرحون بأن ينطلقـوا مـن الجـسـد، لأنهـم حـائزون على ذلك البيت غير المصنوع بيد، الذي هو قوة الروح القدس الساكنة فيهم. لذلك وإن كـان بيتهم الجسدي سينحل إلا أنهـم لا يخافون، لأنّ لهـم البيـت السماوي الذي للروح القدس، ولهم ذلك المجد الذي لا يفنى، ذلك المجد الذي سوف يبني البيت الجسدي يوم القيامة ويمجده، كما يقول الرسول: «الذي أقام المسيح من بين الأموات سيحيي أجسادكم المائية أيضا بروحه الساكن فيكم» (رو 8: 11)، وأيضا: «لكي تظهر حياة يسوع أيضا في جسدنا المائت» (2کو 4: 11)، وأيضا: «لكي يبتلع المائت من الحياة» (2کو 5: 4).

8 – فلنجاهدن إذا بالإيمان والسيرة الفاضلة، لكي نقتني ذلك الثوب، حتى إذا مـا خلعنـا الجسد لا توجـد غـراة، إذ لا يكون هنـاك مـا يمجد أجسادنا في ذلك اليوم. لأنه بقدر ما يؤهل كل إنسان بالإيمان والجهاد ليصبح شريكا للروح القدس، سيتمجد جسده أيضا في ذلك اليوم، فإنّ ما تكنـزه النفس في داخلها منذ الآن سوف يستعلن حينذاك ويظهر خـارج الجسد. فكما أن الأشجار بعد أن تكون قد اجتازت الشتاء، تسخن بفعل قوة غير منظورة تأتيها من الشمس والرياح، وتخرج من باطنها وتنبت كساء من الأوراق والأزهار والثمار؛ وكما أن زهر العشب في ذلك الوقت أيضا يطلع من داخل أعماق الأرض فتتغطى به الأرض وتكjسى، وتصير المراعي كالزنابق التي قال عنها الرب إنه: «ولا سليمان في كل مجده كان يلبس كواحدة منها» (مت 6: 29)؛ فهذه كلهـا مثـالات ورمـوز وصور للمسيحيين في القيامة.

9 – هكذا أيضا بالنسبة لكـل النـفـوس التي تحب الله، أي المسيحيين الحقيقيين، فإنّ الشهر الأول لهم هو شهر “كسانثيكس”[3] الذي يقال له أبريل، وفيـه يوم القيامة[4] حيث يخرج مجـد الـروح القـدس مـن داخـل أجساد القديسين بفعل قوة شمس البر، فيكسوها ويسربلها، ذلك المجد الذي سبق واقتنوه مخفى داخل نفوسهم. فإن ما يقتنيه الإنسان الآن هو الذي سوف يندفق إلى خارج جسده حينذاك، لذلك فإنه يقول: «فليكن هذا الشهر رأس شهور السنة» (خر 12: 2)، فهو يحمـل الفـرح لـكـل الخليقة، ففيه تتسربل الأشجار العارية وتتفتح الأرض، وهو يجلب الفـرح لكل الأحياء والبهجة للجميع. هذا هو شهر كسانثيكس رأس شهور المسيحيين، الذي هو زمان القيامة، الذي فيه ستتمجد أجسادهم بنور يوصـف قـد سبق وسكن فيهم منذ الآن، الذي هو قوة الروح القدس، والذي سيصير لهم حينذاك ثوبا ومأكلًا ومشربا وبهجة وفرحا وسلاما ولباسًا وحياة أبدية، ذلك لأنّ الله(1)، الذي قد صاروا أهلا لقبوله منذ الآن، لا روح هو عينه سيصبح آنذاك بماء لمعانهم وزينتهم السماوية.

10 – فكم ينبغي إذا لكل منا أن يؤمن ويجاهـد ويسعى في كل سيرة فاضلة، ويترقب في رجاء وصبر كثير أن يؤهل منذ الآن لنيل القـوة. من السماء ومجد الروح القدس في داخل نفسه، حتى إذا ما انحلت أجسادنا يكون لنا ما يعطينا ويخيينا، إذ يقول الرسول: «إن كنا لابسين، فلن نوجد عراة» (2کو 5: 3)، وأيضا: «سيحيي أجسادنا المائتة بروحه الساكن فينا» (رو 8: 11 – حسب النص). فإن الطوباوي موسى قد أرانا – بواسطة مجد الروح القدس الذي سطع على وجهه، فلم يستطع أحد من النـاس التفرس فيـه – أرانا مثالا في كيف أن أجساد المستحقين سـوف تتمجد في قيامة الأبرار بذلك المجد الذي تستحق اقتناءه منذ الآن نفوس القديسين والمؤمنين في الداخل في الإنسان الباطن، لأنه مكتوب: «ونحن جميعا، بوجه مكشوف – أي بالإنسان الداخلي – ننظر كما في مرآة إلى تجد الرب، فتتغير إلى تلك الصورة عينها من تجد إلى مجد» (2کو 3: 18 حسب النص)، وبالمثل أيضا يقول: «وكان (موسى) هناك أربعين يوما وأربعين ليلة، خبزا لم يأكل، وماء لم يشرب» (خر 34: 28). فإن طبيعة الجسد لا قدرة لها أن تحيا أمدا مثل هذا دون خبز إلا إذا كانت تتناول من قوت آخر روحاني، ذلك القوت الذي تتناوله منذ الآن نفوس القديسين، بطريقة غير منظورة، من لدن الروح القدس.

11 – وهكذا فإن موسى الطوباوي قد أرانا، من وجهتين، أي مجد نوراني وأي قوت روحاني مـن عنـد الـروح القدس سوف يصير للمسيحيين الحقيقيين في القيامة، ذلك المجد الذي أقلـوا لـه سـرا منذ الآن. مـن أجـل ذلك، فإن هذا المجـد سـوف يظهـر آنذاك على أجسادهم. فلأن هؤلاء القديسين قد اقتنوا ذلك المجد منذ الآن في داخل نفوسهم، فإنّه – كما سبق وقلنا – سيكسو أجسادهم المجردة ويسربلها ثم يختطفها إلى السماء، وفي النهاية سوف نستريح، جسدا ونفسا، مع الرب في ملكوته إلى الأبد. فإن الله لما خلق آدم لم يصنع له أجنحة جسدية مثل الطيور، لأنّه قد سبق وأعد له أجنحة الروح القدس، التي هو عتيد أن يمنحها له في القيامة فتجعله خفيفا وتختطفه حيث يريد الروح القدس، تلك الأجنحة التي غدت نفوس القديسين أهلا لاقتنائها منذ الآن حتى تحلّق بعقلها في السماويات. فإنّ للمسيحيين عالما آخر، ومائدة أخرى، ولباسا آخر، ولذة أخرى، وشركة أخرى، واهتمامـا آخـر، ومـن أجـل هـذا فـإنهم يفوقـون كـل بـني البشر. وهـم قـد صـاروا أهـلا لنيـل هـذه الأمـور منذ الآن في داخـل نفوسهم، بواسطة الروح القدس. مـن أجـل هـذا، ففي القيامـة سـتغدو أجسادهم مستحقة لخيرات الروح القدس الأبدية، وستمتزج بذلك المجد الذي سبقت نفوسهم واختبرته منذ الآن.

12 – فينبغي لكل منا إذا أن يجاهد ويتعب ويجتهد في سائر الفضائل، وأن يؤمن ويسأل الرب أن يكون إنسانه الباطن شريكا منذ الآن لذلك المجد، وأن تكون لنفسه شركة في قداسة الروح القدس تلك، لكي إذا ما تطهرنا من أدران الشر يكون لنا في القيامة ما يستر أجسادنا المقامة المجردة ويغطي عورتنا ويحيينا ويريحنا في ملكوت السماوات إلى الأبد. فإن المسيح مزمع أن ينزل من السماوات، بحسب الكتب المقدسة، ويقيم كل بني آدم الذين رقدوا منذ الدهر، ويوقف الكل في قسمين. أما أولئك الذين لهم سمته الخاصة أي ختم الروح القدس، فسوف يدعوهم كخاصته ويوقفهم عن يمينه، فيقول: «خرافي الخاصة تسمع صوتي» (يو 10: 27)، وأيضا: «أنا أعرف خاصتي، وأعرف من خاصتي» (يو 10: 14). وحينئذ تتسربل أجساد هؤلاء بمجد إلهـي مـن أجـل أعمالهم الصالحة، ويمتلكون بمجـد الـروح القدس، ذلك المجـد الـذي سبق واقتنـوه منذ الآن في نفوسهم. وهكذا إذ يتمجدون بالنُور الإلهي، ويختطفون إلى السماوات «لملاقاة الرب في الهواء» كما هو مكتوب، «تكون كل حين مع الرب»، الذي معه سنملك إلى الدهور التي لا نهاية لها، آمين.

  1. من الشائق جدا معرفة أن هذا التعبير = ميزان القلب، وهو التسمية التي أطلقها الشاروبيم على برية أنبا مقار بعدما قاس قلبه فأضحت تُدعى برية شيهيت ميزان القلوب، هو خاص جدا للأنبا مقار، بحيث إنه بالبحث في مجموعة TLG بالكامل – وهي تحوي جميع الكتابات اليونانية بدءا مما كتبه الفلاسفة والعلماء الإغريق عدة قرون قبل المسيح، وعبورا بآباء الكنيسة الذين كتبوا باليونانية، وحتّى بدء العصور الوسطى – لم يوجد إلا ثلاثة مواضع ورد فيها هذا التعبير، وجميعها للقديس أنبا مقار انظر: 118.Amel. Hist. Monast. p.
  2. في هذه الأمثلة الثلاثة، يشير أنبا مقار إلى أن الإنسان الذي يريد الخلاص عليه أن يتعرى من كل شيء. ونجد هذه الإشارة عينها أيضا في قول له شهير: “كمثل إنسان إذا دخل الحمام، إن يخلع. عنه ثيابه لا ينعم بالاستحمام، كذلك الإنسان الذي أقدم على الرهبنة ولم يتعر أولا من كل اهتمام العالم وجميع شهواته وملذاته، فلن يستطيع أن يصير راهبا، ولن يبلغ حد الفضيلة، ولن يمكنه كذلك أن يقف قبالة جميع سهام العدو التي هي شهوات النفس“(بستان الرهبان – قول ٢٠٤).
  3. وهـو أحـد الشهور اليونانية، وقد ذكر ثلاث مرات في الكتاب المقدس (٢مك ١١: ۳۰، ۳۳، ۳۸)، ويقابل شهر نيسان (مارس/أبريل). ونيسان هو رأس شهور السنة الدينية عند اليهود حيث خرجوا فيه من مصر، وهو أيضا بداية فصل الربيع حيث تتفتح الأرض وتكتسي الأشجار بالأزهار والثمار، كما ستكتسي أجساد الأبرار في القيامة – بحسب أنبا مقار – بمجد الروح القدس.
  4. حرفيا: “وهو يوم القيامة”. وهذه العبارة “يوم القيامة في هذا السياق تشير إلى يوم قيامة الصديقين، ولكنّها لا تخلو كذلك من إشارة غير مباشرة إلى يوم قيامة الرب (عيد القيامة)، والذي دائما يقع في هذا الشهر. والمعنيان متّصلان لأن قيامة الرب هي الباكورة والأصل لقيامة الصديقين. (عن أحد آباء الدير)

 

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى