العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

التناغم بين النعمة والجهاد

‏العظة التاسعة من العظات الخمسون

[في أن مواعيد الله ونبؤاته تعمل عبر امتحانات وتجارب شتى ،
وأننا بملازمتنا لله وحده نخلص من تجارب الشرير] 

[أ] عمل النعمة عمل طويل الأمد

1- إن فعل نعمة الله الروحي العامل في النفس إنما يتم في أناةٍ كثيرة وحكمة وتدبير سري ( مستيكي )[1] للعقل ، فيما يجاهد الإنسان بصبر كثير على مدى زماني وأمد طويل ، وحينذاك يتجلى فيه فعل النعمة كاملاً. وذلك بعد أن يتبرهن ، عبر امتحانات كثيرة، أن نيَّة إرادته الحرة قد أرضت الروح القدس وأظهرت على مدى الزمان تزكية وصبراً. وسنبرهن على هذا المنهج بأمثلة جلية من الكتب الموحى بها من الله

 2- فهذا الذي أقوله يتفق وما حدث ليوسف ، فكم تقضَّى من الزمان والوقت قبل أن تكمُل مشيئة الله المحتومة من جهته وتتم أحلامه ؛ وبأية أتعاب وشدائد وضيقات قد امُتحن أولاً. وصبر عليها جميعاً بنبل ، بل وفي جميعها وُجد عبداً لله مُزگی وأميناً، وحينذاك غدا ملگا على مصر وأطعم ذويه وتمت نبؤه أحلامه وتحقق قصد الله بعد زمان وتدبير كثير بحسب ما قيل.

3- وهكذا بالنسبة لداود أيضاً، فقد مسحه الله ملكاً على يدي صموئيل النبي[انظر 1صم16: 13]، وبعدما مُسح فر هارباً مُطارداً من وجه شاول الذي كان يبتغي قتله[انظر 1صم19: 11] . فأين مسحة الله ؟ وأين موعده الذي بات وكأنه وشيك الحدوث؟ فإنه بعد أن مُسح ضُيق عليه بشدة وأقام في القفار معوزاً حتى إلى الخبز ، وهرب إلى الأمم بسبب قصد شاول من نحوه . وهكذا فإن ذاك الذي مسحه الله ليصير ملكاً قد وُجد مُكتنفاً بضيقات هذا عددها ، ولبث يُمتحن زماناً طويلاً مُضيقاً عليه ومجرباً ؛ ولكنه كان متأنياً في كل هذا ، لأنه قد آمن بالله مرة وبلا رجعة ، متيقناً في نفسه قائلا : “إن ما صنعه بي الله. بمسحه إياي بواسطة النبي ، وما تكلم به الله أن يتم بي ، لا بد أن يتحقق لا محالة” . وأخيراً، وبعد تمهل طويل تمت مشيئة الله ، وملك داود بعد تجارب كثيرة ، وحينذاك ظهرت كلمة الله ، وتبرهن أن المسحة التي صارت بواسطة النبي ثابتة وحقة .

4- وبالمثل أيضا كان الأمر مع موسی ، فلقد سبق الله وعرفه وسبق فعينه ليكون قائداً ومخلصاً لشعبه ، فجعله ابناً لابنة فرعون[انظر خر2: 10] ، وتربى وسط غنى ملوكي ومجد وتنعم ، وتهذب بكل حكمة المصريين[انظر أع7: 22] ، ولما شب عن الطوق وكبر[ في الإيمان][وردت فقط في ال PG 34,533 C ) PG )] ، جحد كل تلك الأمجاد وفضل بالأحرى المذلة وعار المسيح – بحسب قول الرسول – عن أن يكون له” تمتع وقتي بالخطيئة » [عب11: 25] . فكم من الزمان لبث هارباً من مصر وعاش راعياً، وهو ابن ملك قد نشأ وسط رغد ورفاهية ملوكية هذا مقدارها ؟! وهكذا أخيراً ، وبعد أناةٍ كثيرة ، وُجد مُزگی لله وأميناً، إذ قد صبر على تجارب كثيرة ، فصار مخلصاً وقائداً بل وملكاً على شعب إسرائيل ، بل وتعين من الله إلهاً لفرعون [انظر خر7: 1] ، فبواسطته ضرب الله مصر ، وبواسطته أظهر الله عجائب عظيمة لفرعون ، وأخيراً أغرق المصريين في البحر[انظر خر14: 28] . فانظر إذا بعد كم من الزمان أُظهرت مشيئة الله ، وبعد كم من الامتحانات والشدائد الكثيرة تم قصده .

5- بالمثل أيضا كان الأمر مع إبراهيم ، فلقد وعده الله منذ زمان بعيد أن ينعم عليه بابنٍ[انظر تك15: 4]، لكن لم يعطه في الحال بل تصرمت أعوام كثيرة أتت عليه خلالها امتحانات وتجارب ، أما هو فصبر متأنيا على كل ما أصابه ، وتیقن – بالإيمان – في نفسه قائلاً : “إن ذاك الذي وعد هو منزه عن الكذب وسوف يُتمُّ كلمته” [انظر رو4: 20 ،21] ، وهكذا إذ وُجد أميناً نال الموعد .

6- كذلك نوح أيضاً ، لما أمره الله – وهو ابن خمسمائة سنة – أن يبني الفلك[انظر تك6: 14]، معلناً له بأنه سوف يجلب طوفاناً على العالم ، لم يأتي الطوفان إلا وهو ابن ستمائة سنة ، فلقد تأنَّى مائة عام دون أن يساوره الشك هل یا تُری سیفعل الله ما قاله أم لا ، ولكنه تیقن بالإيمان ، مرة وبلا رجعة ، أن ما قد تكلم به الله ينبغي حتماً أن يتم . وهكذا إذ وجد مزگی في نيته بإيمان وصبر وأناة كثيرة ، خلص هو وحده مع بيته لأنه قد حفظ الوصية بنقاوة. 

 [ب] نار الحب الإلهي هدية النعمة

۷- لقد أوردنا هذه البراهين من الكتب المقدسة لكي نوضح أن فعل نعمة الله العامل في الإنسان ، وكذا موهبة الروح القدس التي صارت النفس الأمينة أهلاً للحصول عليها ، إنما يكملان بعد جهاد كثير وصبر كثير وطول أناة وتجارب وامتحانات ، إذ تكون النية الحرة قد تزگت بواسطة جميع الشدائد . فإذا لم تحزن النفس الروح القدس في شيء[انظر أف4: 30] ، بل صارت متوافقة النعمة بحفظها لجميع الوصايا ، فحينئذ تصير أهلاً للتحرر من الأهواء ، وتحظى بملء تبني الروح القدس وبالحكمة المُتحدث بها في سر[انظر 1كو2: 7] والغنى الروحي والفهم الذي ليس من هذا العالم ، والذي يصير المسيحيون الحقيقيون شركاء فيه ، ولأجله يصبحون مغايرين تماماً عن كل الناس العقلاء والفهماء والحكماء الذين لهم روح العالم [انظر 1كو2: 12] .

8- مثل هذا الإنسان يحكم في كل البشر ، كما هو مكتوب[انظر 1كو2: 15] ، فيعرف من أين يتكلم كل واحد وأين يقف وفي أية القامات هو ، بينما لا يستطيع أحد من أولئك الذين لهم روح العالم أن يعرفه أو يحكم فيه ، إنما يعرفه فقط صنوه الذي له نفس الروح السماوي الذي للاهوت ، كما قال الرسول : « قارنين الروحيت بالروحيات ، ولكن الإنسان النفساني لا يقبل الأمور التي لروح الله ، لأنها عنده جهالة … أما الروحي فيحكم في كل الأمور ، وهو لا يُحكم فيه من أحډ » ( 1کو2: 13- 15 ) . مثل هذا الإنسان يحسب كل أمور العالم المعتبرة فاخرة – أي غناه وتنعمه وكل متعته ، بل وحتى معرفته ، وكل أمور هذا الدهر – يحسبها كريهة بغيضة.

9- لأنه كما أن الإنسان المشتعل بالحمى الممسوك بها ، إذا ما قدمت له طعاماً أو شراباً ، وإن الأطيب مذاقاً، فإنه يعافه ويلقيه عنه کونه مشتعلاً بالحمى ومصاباً بها بشدة ؛ هكذا أيضا بنفس الطريقة أولئك المشتعلون بالشوق السماوي المقدس الجليل الذي للروح القدس ، والمجروحة نفوسهم بعشق محبة الله ، والمصابون بشدة من النار الإلهية السماوية التي جاء المسيح ليلقيها على الأرض ويريد اضطرامها عاجلاً[انظر لو19: 49]، والمتقدون غاية الاتقاد بالشوق السماوي الذي للمسيح ، فإنهم – – كما سبق وقلنا – يحسبون كل أمور هذا الدهر المعتبرة فاخرة وثمينة أنها مرذولة وبغيضة لأجل نار محبة المسيح التي تحصرهم[انظر 2كو5: 14] وتشعلهم وتؤججهم بانعطاف نحو الله وبالخيرات السماوية التي للمحبة – تلك المحبة التي لا يمكن لأي شيء سواء في السماوات أو على الأرض أو تحت الأرض أن يفصل مثل هؤلاء عنها ، كما شهد بولس الرسول قائلا : « من سيفصلنا عن محبة المسيح … إلخ » ( رو8: 35) .

[ج] تكريس التفس للرب والتصاقها به

۱۰- ولكن أحداً لا يمكنه أن يربح نفسه ويقتنيها أو يقتني كذلك محبة الروح السماوية[انظر رو15: 30] ما لم يتغرب عن جميع أمور هذا الدهر ، ويُگرس نفسه لطلب محبة المسيح ، ويصبح عقله خارجاً عن جميع الاهتمامات المادية والارتباكات الأرضية ، حتى يتسنى له أن ينشغل بكليته بالهدف الأوحد ، مُقوما هذه الأمور بحفظ جميع الوصايا ، وذلك حتى يكون كل اهتمام نفسه وبحثها وسعيها وشغلها الشاغل في أن تفحص عن الجوهر العقلي ، وكم يتعين عليها أن تزدان بحفظ وصايا الفضائل وبزينة الروح القدس السماوية وبالشركة في طهارة المسيح وقداسته ، حتى إذا ما ترك الإنسان كل شيء وقطع نفسه من جميع المعوقات المادية الأرضية وصار خارجاً عن أية محبة جسدانية أو أي تعلق بوالدين أو أقرباء ، لا يسمح لعقله بأن ينشغل أو يرتبك بأي شيء ، سواء كان رئاسة أو مجداً أو کرامات أو صداقات العالم الجسدانية أو أي اهتمامات أرضية أخرى .  بل إن عقله بكليته يأخذ على عاتقه الاعتناء والضيق في سبيل طلب الجوهر العقلي للنفس[2] ، ويصبر بكل كيانه في ترقب وانتظار لافتقاد الروح القدس ، كما قال الرب : « بصبرگم اقتنوا أنفسكم » ( لو21: 19) ، وأيضاً: « أطلبوا الملكوت ، وهذه كلها تزاد لکم » ( مت6 : 33 حسب النص ) .

11- فليجاهد الإنسان إذا وينتبه لنفسه على الدوام ، سواء في الصلاة أو الطاعة أو أي عمل يُعمل بحسب الله ، حتى يتمكن من الهروب من ظلمة القوات الشريرة . فإن العقل الذي لا يكف عن تفتيش ذاته وعن طلب الرب ، يتمكن من اقتناء نفسه ولو كانت قابعة في موت الأهواء ، وذلك بأن يستأسر ذاته كل حين بتغصب وغيرة نحو الرب ، وبه وحده يلتصق ، كما قيل : « مُستأسرین گل فكر إلى طاعة المسيح » (  2کو10: 5 ) . حتى بمثل هذا الجهاد والاشتياق والسؤال يُحسب العقل أهلاً لأن يصير مع الرب روحاً واحداً[انظر 1كو6: 17] ، بينما تستريح موهبة المسيح ونعمته في إناء النفس التي سبقت وهيأت ذاتها لكل عمل صالح ، ولم تزدر بروح الرب[انظر عب10: 29] بميلها لمشيئاتها الخاصة ومتاهات هذا الدهر أو أمجاده أو رئاساته أو أحكامها الخاصة أو ملذاتها الجسدية وارتباطها بالأشرار ومعاشرتهم.

12- فإنه لأمر مُشتهي أن تُگرس النفس ذاتها بكل كيانها للرب وتلتصق به وحده ، وتداوم على عمل وصاياه بلا نسيان ، وتگرم – -كما يليق – روح المسيح الذي افتقدها مراراً كثيرة وظلل عليها ، فتحسب أهلاً لأن تصير مع الرب روحاً واحداً ومزيجاً واحداً، كقول الرسول : “وأما من التصق بالرب هو روح واحد » ( 1كو6: 17 ) . أما إن كان أحد يسلم ذاته لاهتمامات أو مجد أو رئاسة أو يعبأ بكرامات بشرية ويبتغي مثل هذه الأمور ، وإن كانت نفسه تتلوث بأفكار أرضية وتمتزج بها ، أو تصير مُكبلة بأمور هذا الدهر وممسوكة فيها ، فحتى وإن اشتاقت مثل هذه النفس إلى أن تعبر وتهرب من ظلمة الأهواء التي قد أمسكت فيها بواسطة قوات الشر وتنحل منها ، فما تستطيع إلى ذلك سبيلاً لأنها قد أحبت مشيئة الظلمة سالكة فيها ، وما أبغضت أعمال الشر بالتمام .

13- فلنعد نفوسنا إذا لكي نأتي إلى الرب بكامل النية وتمام الإرادة ونصير تابعين للمسيح ، حتى نُتتم مشيئاته ونذكر جميع وصاياه لنعملها[انظر مز103: 18]. ولنفصل ذواتنا تماماً عن محبة العالم ، ونعلق نفوسنا به وحده ، ولنقتن في عقولنا الانشغال به والاهتمام به وطلبه هو وحده . حتى وإن كان بسبب الجسد [3] يقل انشغالنا بالوصايا وبطاعة الله ، فلا ينفصل ذهننا عن محبة الرب وطلبه والاشتياق إليه ، لكيما إذا جاهدنا بمثل هذا الفكر وسلگنا بغرض مستقيم في طريق البر وانتبهنا على الدوام لذواتنا ، ننال موعد روحه[انظر غل3: 14] وننجو بالنعمة من هلاك ظلمة الأهواء التي قد أصابت النفس ، فنغدو جديرين بالملكوت الأبدي ونؤهل للراحة مع المسيح إلى جميع الدهور ، ممجدين الآب والابن والروح القدس إلى الدهور ، آمین .

  1. μυστικὸς مستيکتي ليس لها مقابل دقيق في اللغة العربية ، فلا يكفي أن تُترجم “سري” ، وهي عادة تشير إلى خبرة روحية داخلية عميقة تؤول إلى الاتحاد بالله.
  2.  عبارة الجوهر العقلي التي وردت مرتين في هذه الفقرة ، نجدها مرات عديدة في رسائل القديس أنطونيوس ، وعلى الخصوص في السبع الأولى . وهي تعني : الطبيعة الروحية.  
  3. المقصود ضعف الجسد أو ضروریاته أو واجباته . 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى