يونان النبي وأهل نينوي – للقديس يوحنا ذهبي الفم

 

ان إجتماعنا اليوم يكتسي ببهاء خاص، ولم يكن اجتماعنا قط غير مكتس بهذا البهاء لأي شئ نستطيع أن نُعزي هذا؟.. أسألكم أإلى الصوم؟.. ليس إلى الصوم الذي تعودنا أن نحياه، لكن الذي قد أوشك الآن (على أن يبدأ)، فهو يجمعنا في البيت الأبوي. وهو يقتاد المؤمنين الذين لا يظهرون دائماً نفس الحماس لأمهم (الكنيسة).

ولو أن الرجاء الوحيد المرتقب من هذه الفترة يكفي يبث فينا مثل هذا الحماس (الروحي) فكم ستنتعش تقوانا لو كان هذا الصوم مفتوحاً (أي دائماً)؟.

إن سلوكنا تجاه الصوم والكنيسة يشبه بالتقريب تصرف مدينة يعلن فيها أن أميراً مهيباً سيزورها، فتطرد عنها كل فتور وتظهر في أوج نشاطها، ولكني أخشى لئلا تولد فيكم هذه المقارنة الخوف، فليس الصوم هو الذي ينبغي أن نحافه بل الشياطين.

❈ مغزي الصوم 

انه يكفي أن يقدم الصوم إلى أحد المصروعين بالشياطين، لكي في الحال يتجمد ويصير عديم الحركة مثل الصخر، إذ يتقيد بالخوف الذي يسببه الصوم، وأنتم تلاحظون رد الفعل هذا مضاعفاً لو أقرنتم الصوم بالصلاة، لأن المسيح علمنا أن الشيطان لا يخرج إلا بالصوم والصلاة (‏مت١٧‏:‏ ٢١)، وايضاً يجب أن نخص الصوم باستقبال مناسب، أي بحماس وجدية وليس بخوف، لأنه يطرد أعداء خلاصنا، ويثير خوفاً عظيماً لمن يفسدون حياتنا (أي الشياطين).

لكن إذا لم يكن للصوم شئ من المهابة، فاحترسوا لئلا تسقطوا في السكر والإفراط، لأن هذه التجاوزات باسعبادنا وتسليمنا –خلواً من أي دفاع- لطغيان الرذيلة كما لقوة رديئة النية.

إن الصوم بالمقابل يحررنا من قيود العبودية، ويضع نهاية لهذا الطغيان ويستعيد لنا حريتنا الأصلية، حيث أنه يحارب أعدائنا ويحررنا من عبوديتنا ويمنحنا حريتنا.

أي إثبات اكثر وضوح تنتظرونه أيضا من حسنات الصوم تجاه الجنس البشري؟

❈ الصوم يحمينا كدرع 

هل تريدون أن تعرفوا في أي شئ يكون الصوم موضع مجد وأداة للحماية وأمان للبشر؟ فقط تأملوا في الحياة التقوية المثيرة للإعجاب التي للمتوحدين.

هؤلاء الرجال الذين هربوا من اضطراب العالم ليلتجئوا لقمة أحد الجبال، وعاشوا هناك في مغاير في عزلة وهدوء كما في ميناء سلام،

هؤلاء الرجال الذين تبنوا الصوم كرفيق لهم على مدى كل حياتهم، وقد حولهم الصوم هكذا إلى ملائكة، ورفعهم إلى ذروة الحكمة،

لكن لا تظنوا أن هذه الأعاجيب محفوظة فقط لهؤلاء المتوحدين، بل لكل سكان مدننا الذين إن مارسوا الصوم يمكن لهم أيضاً أن ينالوها.

موسى وايليا هذان النبيان، عمودا العهد القديم اللذان كان لهما دالة عظيمة عند الرب، كانا يرجعان للصوم كلما أرادا لقاء الله والتحدث اليه، وكان الصوم يرفعهما بيده حينئذ إلى الله.

لأجل هذا فإن الله أيضاً قد سارع بوضع الانسان الذي خلقه في البدء تحت وصية الصوم وأوكل إلى الصوم خلاصه كما إلى أم ممتلئة عطفاً أو كما إلى سيد نبيل.

نعم ، إذا نظرتم إلى هذه الوصية: “مِنْ جميعِ شَجَرِ الجَنَّةِ تأكُلُ أكلاً، وأمّا شَجَرَةُ مَعرِفَةِ الخَيرِ والشَّرِّ فلا تأكُلْ” (‏تك ٢‏:‏ ١٦، ١٧). فهل تتعرفون وتميزون هنا وصية الصوم؟ إن كان الصوم قد ظهر كضرورة في الفردوس، فهو بالأولى ضروري جداً خارج الفردوس، وإن كان ثميناً ليمنع جرح، فكم بالأولى تزداد أهميته في حالة حدوث الجرح، وإن كانت أهواءنا آنذاك نائمة ومع ذلك تسلحنا بأسلحة مقتدرة فكم بالأولى الآن تكون هناك حاجة ماسة جداً وقد أُسلِمنا إلى حرب شرسة ضد الأهواء مع الشياطين.

لو كان آدم قد أصغى إلى النهاية لهذا الصوت، لما سمع اطلاقاً هذه الكلمات “لأنَّكَ تُرابٌ، وإلَى تُرابٍ تعودُ” (‏تك٣‏:‏ ١٩)، وهو إذ قد تعدى هذه الوصية لذلك فهو لم يعد يعرف إلا الموت والتعب والعذاب واليأس وحياة أكثر إيلاماً من الموت ومزروعة بالأشواك والحسك والكدر والتعب وضيقات آخرى لا تحصى.

❈ مثال أهل نينوي 

وهكذا رأينا كيف عاقب الله من رذل الصوم، ولكن لنرى الآن كيف يظهر رضاه لمن يحترم الصوم، وكما أنه لم يتردد عن أن يضرب بالموت كعقوبة لمن احتقر الصوم، فإنه أيضاً يعيد إلى الحياة كل من يخضع نفسه للصوم ولكي يبدد شكوككم من نحو فضيلة الصوم، فقد جعله قادراً على الغفران للمجرمين المدانين للموت واقتادهم حينئذ إلى الحياة مع أن حكم الموت قد صدر والتنفيذ كان موشك.

هذه الأعجوبة لم يصنعها الصوم لشخص أو أثنين أو حتى لعشرين، ولكن لشعب مدينة بأكملها – لأهل مدبنة نينوى، تلك المدينة العجيبة والعظيمة، قد صدر الأمر باستئصالها من أساسها ليهوي بها في عمق الجحيم، وصارت مهيأة لاستقبال ضربة قاتلة ستنقض عليها – ضربة تليق بقوة السماء، ولكن لنسمع القصة من الأول:

“وصارَ قَوْلُ الرَّبِّ إلَى يونانَ بنِ أمِتّايَ قائلاً: قُمِ اذهَبْ إلَى نينَوَى المدينةِ العظيمَةِ” (‏يو١‏:‏ ١، ٢) إن الله من البداية قد ثار على عظمة المدينة لكي يتأثر النبي، لأن الله قد سبق ورأى مشروع هروب النبي، وهذه هي الرسالة التي كلفه بها: “بَعدَ أربَعينَ يومًا تنقَلِبُ نينَوَى” (يون 3: 4 – بحسب السبعينية).

يا رب لماذا أخبرت مقدماً بالشرور التي ستنزلها بالمدينة؟

لكي لا تتحقق تهديداتي.

وهذا أيضاً لكي يقينا جهنم التي يهددنا بها، فهو يقول: اخشوا تهديدي إن كنتم لا تريدون أن تقع عليكم ضرباتي.

هذا لكي تدركوا عظم فضيلة هؤلاء البرابرة – أقصد أهل نينوى، هؤلاء الذين كان يكفيهم ثلاثة أيام لكي يسكنوا الغضب الالهي الذي سببته خطاياهم، وأيضاً لكي تتعجبوا من صلاح الله الذي اكتفى بتوبة ثلاثة أيام لتكفر عن خطايا لا تعد من الكثرة.

لكن هل تظنوا أن أي انسان متكاسل ومهمل يمكن له أن يصل لنتائج باهرة حتى إن كرس وقت طويل للتوبة؟ إن كسله سيكون عقبة في طريق تصالحه مع الله، إلا أن الخاطي الذي ينهض ويظهر حماس عظيم يستطيع بفضل قوة توبته أن يمحو في وقت قصير خطايا متراكمة من سنوات طويلة مضت.

وأيضاً ألم ينكر بطرس الرسول الرب ثلاث مرات؟ ألم يكن مستعد للقسم في المرة الثالثة؟ ألم يجفل أمام كلمات جارية حقيرة؟ فهل كان عليه أن يجاهد سنوات عديدة لكي يتوب؟ .. إطلافاً فقد قام في نفس الليلة التي سقط فيها، لقد أدركه المرض ولكنه استعاد صحته بسرعة، كيف تحقق هذا؟، لقد بكي وانتحب ودموعه لم تكن مظهرية بل كانت نابعة من عمق قلبه بندم صادق والإنجيل ذكرها هكذا: “وبَكَى بُكاءً مُرًّاً” (‏مت٢٦‏:‏ ٧٥)، حقاً فقد كان سقوطاً مريعاً، وهل يوجد خطية أكثر شناعة من الإنكار؟، ولكن بالرغم من شناعة هذه الخطية، فقد استعاد كرامته وسط التلاميذ، ونحن نرى في شهادة الرب لحب بطرس له شئ مميز، فهي تظهر ضمناً حبه الشديد للرب أكثر من سائر الرسل، إذ قال الرب له: “ياسِمعانُ بنَ يونا، أتُحِبُّني أكثَرَ مِنْ هؤُلاءِ؟” (‏يو٢١‏:‏ ١٥)، وهل يوجد سؤال غير هذا يستطيع أن يدلنا على حبه الشديد للرب؟

❈ التوبة تمحو كثرة من الخطايا         

لكن هل تظنون أن الله كان له من الأسباب الوجيهة ليغفر لأهل نينوى متذرعاً بوثنيتهم وجهلهم؟ “ولكن العبد الذي لا يَعلَمُ إرادة سيده ويَفعَلُ ما يَستَحِقُّ ضَرَباتٍ، يُضرَبُ قَليلاً” (‏لو١٢‏:‏ ٤٨).

وإن كان هذا شيئاً لا تصدقونه فالله يقدم لكم هذا المثال الأخير لبطرس ذاك العبد الذي كان يعرف بالضبط إرادة سيده، وهوذا أنتم ترون أي مكانة استعادها من جديد بالرغم من شتاعة سقطته، وأخيراً أرجو ألا تقعوا في اليأس عندما تخطئون ، فهذا اليأس هو شئ أسوأ من السقوط، هو المرعب بل إن عدم القيام من السقوط هو المرعب بالأكثر.

إن بولس الرسول أيضاً قد تأسف وأعلن متمرراً أن هذا الفتور (يقصد اليأس) جدير بالحزن الكثير “لأنِّي أخافُ إذا جِئتُ اليكمَ ….. أنْ يُذِلَّني إلَهي عِندَكُمْ، إذا جِئتُ أيضًا وأنوحُ علَى كثيرينَ مِنَ الذينَ أخطأوا مِنْ قَبلُ ولم يتوبوا عن النَّجاسَةِ والزِّنا والعَهارَةِ التي فعَلوها.” (‏٢كو ١٢‏:‏ ٢٠، ٢١) لكن أليس الصوم هو أكثر فترة مناسبة للتوبة.

لكن لنرجع إلى يونان، فبعد أن سمع ما طلبه الله منه نزل إلى يافا ليهرب إلى ترشيش من وجه الرب ..

❈ إلى أين تهرب يا يونان؟

ألا تذكر كلمات النبي: “أينَ أذهَبُ مِنْ روحِكَ؟ ومِنْ وجهِكَ أين أختَفي؟” (‏مز١٣٩‏:‏ ٧)

أ إلى الأرض؟ ولكن: “للرَّبِّ الأرضُ ومِلؤُها” (‏مز٢٤‏:‏ ١

أ إلى الهاوية؟ ولكن: “إنْ فرَشتُ في الهاويَةِ فها أنتَ” (‏مز١٣٩‏:‏ ٨

أ في السموات ولكن: “إنْ صَعِدتُ إلَى السماواتِ فأنتَ هناكَ” (‏مز١٣٩‏:‏ ٨

إذاً إلى البحر؟ ولكن: “فهناكَ أيضًا تهديني يَدُكَ” (‏مز١٣٩‏:‏ ١٠).

لذلك فإن المأزق الذي وقع فيه يونان لا يختلف في شئ عما نقع فيه حينما نخطئ، فكل سقطة (خطية) تدفعنا لنوع من الجنون، وهكذا كل من يعانون من الإضطراب العقلي، أو السكارى يفقدون رشدهم ويغامرون متحدين العقبات التي توجد في طريقهم، لذلك إن وجد جرف أو هوة عميقة يسقطون فيها بلا تردد، وبنفس الطريقة فإن كل الذين يخطئون يتعثرون مشابهين السكارى إذ هم سكارى بشهواتهم الآثمة ولا يريدون أن يتمموها ولم يعودوا يشعرون لا بالحاضر ولا بالمستقبل.

❈ تجربة يونان 

أتهرب من الرب يا يونان؟ 

حسناً انتظر فبعد قليل تعلمك الأحداث ما لم تستطيع أن تتعلمه حتى من تواريك في عرض البحر ومراحم الله هي التي ستتولى هذا الأمر.

ما أن صعد يونان للسفينة حتى هاج البحر، تخيلوا خادم أمين وجد أحد رفقائه في العبودية هاراً بعد أن اختلس جزءاً من ثروة سيدهما، انه سيبذل كل جهده ليتعقب رفيقه دون تواني ويقتاده لسيده دون أن يسبب أي مضايقات لمن قد أووا رفيقه الهارب لديهم.

إن البحر يشبه هذا الخادم، فإذ قد فوجئ وعلم بهرب يونان، لذلك في الحال وضع البحارة في إشكال عظيم إذ قد هيج عليهم أمواجه بعجيج شديد وهددهم ليس بأن يقتادهم إلى محكمة، بل بأن يبتلع السفينة وكل ما فيها إن لم يسلموا له رفيقه في العبودية.

فماذا فعلوا البحارة حينئذ؟

لقد طرحوا كل الأمتعة التي كانت في السفينة إلى البحر، ولكن البحر لم يهدأ، لأن الثقل الحقيقي الذي هو النبي الهارب كان لا يزال موجوداً في جوف السفينة، وكان ثقيلاً جداً ليس بأثقال الأوزان التي نتعامل بها، بل بثقل خطيته، لأنه لا شئ أكثر ثقلاً وأصعب حملاً من خطية عدم الطاعة ..

وعن ثقل الخطية يقول لنا زكريا النبي انها تشبه الرصاص، وداود النبي يكتب: “لأنَّ آثامي قد طَمَتْ فوقَ رأسي. كحِملٍ ثَقيلٍ أثقَلَ مِمّا أحتَمِلُ” (‏مز٣٨‏:‏ ٤).

والمسيح أيضاً يهتف جاذباً انتباه الخطاة قائلاً: “تعالَوْا إلَيَّ ياجميعَ المُتعَبينَ والثَّقيلي الأحمالِ، وأنا أُريحُكُمْ” (‏مت١١‏:‏ ٢٨)

لم يعد إذاً هناك أدنى شك في أن خطية يونان قد جعلت السفينة ثقيلة وتكاد تغرق، ولكن يونان كان نائماً نوماً عميقاً، ليس نوم خدوء البال اللذيذ ولا نوم الراحة الشامل ولكن نوم الضيق الشديد واليأس العظيم، لأن خدام الله يلمحون ويميزون بسرعة خطاياهم، وهذا كان حال يونان الذي بمجرد أن أخطأ أدرك خطورة خطيته، وهذه احد خصائص الخطية أنها تولد آلام وضيق في النفس التي أعطت ذاتها للخطية معاكسة بذلك الناموس الطبيعي، وبينما أن ولادة طفل تضع نهاية لآلام أمه، فالخطية بالعكس تبدأ آلامها الفظيعة لحظة ولادتها في القلب.

❈ قضية يونان 

ماذا فعل حيننئذ رئيس النوتيه ؟ 

لقد ذهب إلى يونان وقال له: “قُمِ اصرُخْ إلَى إلَهِكَ” إذ أن رئيس النوتية عرف بالخبرة أن هذه العاصفة لم تكن عاصفة عادية، ولكنها واحدة من ضربات الله، هذا فضلاً عن أن هيجان البحر كان شديداً جداً ويصعب على الجهود البشرية أن تسيطر عليه، ومهارة رئيس النوتية مع فريقه لم تجدي نفعاً هنا لأن ما هو حادث كان فعل ربان آخر قوته لا بهائية ويمسك بيده تدبير العالم أجمع، لذلك كان ينبغي النجدة أن تأتي من فوق.

وأيضاً فإن النوتية قد توقفوا عن التجديف ونشر القلاع وربط أجزاء السفينة بالحبال وسائر هذه الأمور وأوقفوا عمل كل شئ ورفعوا أيديهم نحو السماء يتضرعون إلى الله، ولما لم يظهر لهم أي تحسن في حالة الجو اتجهوا لإلقاء القرعة لمعرفة بسبب من هذه البلية.

ومع أن القرعة وقعت على يونان إلا أن رفقاؤه لم يتجهوا في الحال إلى القائه في البحر، بل حولوا السفينة لمحكمة بالرغم من البحر الهائج والارتباك الذي كانوا غارقين فيه، وبدا وكأنهم وكأنهم ينعمون بهدوء كامل ووحهوا الاتهام ليونان وسمعوا دفاعه.

وقد افتتح التحقيق بتدقيق شديد كما لو أن قرارهم النهائي كان من الضرورة أن يأخذ هذه الصبغة الرسمية حتى يخال للمرء أنه واقف فعلاً أمام هيئة محكمة .. ماهو عملك، ومن أين أتيت؟ ما هي أرضك ومن؟ أي شعب أنت؟ ولو أن البحر الهائج كان يصرخ ضده، والقرعة أقرت ذلك بمنتهى الوضوح .. بالرغم من هذه الشهادات الدامغة لم يتوقفوا عن تقصي الحقيقة كما لو كانوا بالفعل محكمة عادية .. فالبحارة المنعوتين بالجهل والوثنية احترموا السبل المعتادة للقضاء، وذلك بأن سمعوا اعتراف المشكو عليه بخطأ ما أمام أبواب محكمتهم، وبعد أن سمعوا الاتهام يسمعون الشهود ويفحصون أدلة الاتهام، كل هذا وسط الرعبة التي ألقتها عليهم العاصفة المخيفة المحيطة بهم، فالبحر بالكاد يسمح لهم أن يلتقطوا أنفاسهم، فهيجانه عنيف وأمواجه تهدر بلا توقف بصوت عجيجها.

يا أحبائي الأعزاء يحق لكم أن تتساءلون لماذا تصرف النوتية هكذا بحذر شديد مع النبي؟ إنه الله هو الذي أوحى اليهم بذلك، وهو يريد أن يعلم النبي درساً في الرأفة والوداعة عن طريق النوتية، وكأنه يقول له: تمثل بهؤلاء البحارة الذين رغم جهلهم (ووثنيتهم) فإنهم يحترمون حياة شخص لا يعرفوه، وقد حاولوا باستماتة أن يجنبوه الموت، أما أنت فعلى العكس قد تخليت عن المهمة التي أوكلتها اليك لإنقاذ مدينة بأكملها مع سكانها الذين لا يُعَدّون من الكثرة.

إنهم لم يسارعوا لتنفيذ ما قررته القرعة، أما أنت فلم تبد أي حزن أو شفقة على أهل نينوى وتريد أن توردهم للتهلكة، وبالرغم من الأمر الذي قد أعطيته لك لتذهب اليهم وتبلغهم ما أوصيتك به لتضعهم على طريق الخلاص فقد عصيتني، أما هؤلاء البحارة على الرغم من أنه لم يوجد من يهذبهم، فقد اجتهدوا أن يجنبوك عقوبة أنت تستحقها.

وبالحق فإن يونان عندما أدان نفسه وأقر بخطيته وبعد أن أتهم وفضح البحر أمره بالاضافة إلى القرعة، بالرغم من كل هذا فإن البحارة لم يحاولوا أن يتخلصوا منه بسرعة، بل بالعكس بذلوا كل ما في وسعهم لكي لا يسلموه للبحر المضطرب رغم ثبوت عصيان يونان ..

إن الأمواج بل بالحري الله مزمع أن يعطي يونان درساً آخر مستخدماً هذه المرة ليس البحارة بل الحوت: “خُذوني واطرَحوني في البحرِ فيَسكُنَ البحرُ عنكُمْ” لقد حاول البحارة الرجوع للبر بالسفينة ضاربين عرض الحائط بطلب يونان الأخير، ولكن العاصفة وقفت حائلاً ومنعتهم من ذلك.

❈ نينوي خلصت بالصوم 

لقد سمعتم قصه هرب النبي والآن اسمعوه وهو يقر بخطيته من عمق احشاء الحوت الذي ابتلعه، لأنه وإن كان يونان كإنسان قد خضع لهذه العقوبة، إلا أنه يخاطبنا بشهادته كنبي.

إن يونان قد ابتلعه حوت كبير بمجرد أن القي في البحر وهذا الحوت قد حفظه سالماً ليقتاده إلى الله.

ولقد عانى يونان من عنف الأمواج، ورعبه الحوت الشره الذي استقبله في أعماقه ونجا يونان وعاد للمدينة بعد أن تعلم الدرس الذي قدمته له الأحداث الخارقة للطبيعة.

ما أن وصل يونان للمدينة حتى أعلن حكم الله على المدينة كما يليق بخطاب ملكي يعلن عقوبة “بَعدَ أربَعينَ يومًا تنقَلِبُ نينَوَى”

لقد اصغي أهل نينوى بانتباه لإعلانه هذا، ولم يستخفوا اطلاقاً بالتهديد الذي يحويه هذا الإنذار، وفي الحال صام الرجال والنساء والعبيد والسادة والأمراء وعامة الشعب الشباب والكهول، الكل صام بل الحيوانات أيضاً أجبرت على الصوم في كل مكان يوجد مسوح ورماد ونحيب وزفير، وحتى الملك قد ترك عرشه وارتدى المسوح وتغطى بالرماد، وهكذا رُفِعَ الهلاك والعقاب الذي كان ينتظر المدينة.

لم يسمع من قبل أن يوجد ملك وثد بدل ثيابه الأرجوانية بالمسوح، ولكن ما عجز عنه الثوب الأرجواني قد نالته المسوح، وما لم يستطع التاج أن ينجزه أنجزه الرماد.

ألست أنا على صواب عندما أقول لكم لا تحافوا الصوم، بل خافوا السكر والإفراط؟ لأنه بالحق فإن الشراهة هي التي هزت أساسات هذه المدينة، والصوم هو الذي أعاد تثبيتها.

وبالمثل فإن الصوم هو الذي خلص دانيال حينما القي في جب الأسود وجعلها مثل حيوانات مستأنسة مع أن هذه الحيوانات المتوحشة كانت تغلى وتزيد في داخلها وعينيها تقدح بالدم، ولكنها مع ذلك لم تهاجم الفريسة الواقفة أمامها، وهذه الحيوانات كانت بطبيعتها وحشية، إلا أنها على الرغم من جوعها الشديد إذ أنها لم تأكل طيلة سبعة أيام، وكان يبدو عليها أنها كانت تطيع أمراً أملى عليها أن لا تهاجم النبي، وقد انصاعت لهذا الأمر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى