عظات حول التطويبات للقديس غريغوريوس النيصي
التطويبة السابعة
طوبى لفاعلي السلام
1 في بناء الخيمة المقدسة، في خيمة الشهادة التي صنعها المشترع (موسى) من أجل بني إسرائيل بحسب النموذج الذي دله الله عليه ، على الجبل (خر25: 9)، كل ما وجد في داخل محيط الحبال ، كان مقدسا، مكرسا. ولكن بالنسبة إلى القسم الداخلي، الداخلي، ما كانوا يدخلون إليه. كان محرما عليهم الاقتراب منه. فدعوه قدس الأقداس. وأظن أنهم كانوا يدلون وهم يضعون هذه العبارة المركزة ، أنّ هذا المكان يشارك في القداسة بشكل يختلف عن سائر الأمكنة : بقدر ما المكرس، المقدس، يتفوق على العادي، الدنيوي. فهذا المكان المحرم كان أكثر قداسة وأكثر طهارة من المكان المقدس الذي على كان يحيط به.
قدس أقداس سر الله
وبالصورة عينها، أظن، في التطويبات التي سبق وقدمت لنا على الجبل، كل ما سبق وثبته كلام الله هو مكرس، مقدس. ولكن ما يطرح نفسه الآن لتفسيرنا هو، في الحقيقة، ما لا يمكن الوصول إليه ، هو قدس الأقداس لأنّه إن كانت «رؤية الله» خيرا لا يمكن تجاوزه ، أن نصير «ابن الله» يتفوق إطلاقا على كل سعادة. أية ألفاظ تصور ذلك؟ أية موصوفات يستطيع معناها أن يفهمنا مثل هذا الوعد، مثل هذه الموهبة؟ فكل ما يستطيع المفكر أن يتصوره يتجاوز إطلاقا كل ما يريد هذا النص أن يبينه : هل تسمي «الصالح»، «الثمين»، «الرفيع » ما وعدنا به في هذه التطويبة؟ فما تريد أن تبينه هو أكبر مما تقوله هذه الألفاظ : فالنجاح يتجاوز التمني. والموهبة تتجاوز الأمل، والنعمة تتجاوز الطبيعة.
الإنسان أمام الله
القديسين في وسعي فمن هو الإنسان، حين نقابله بالطبيعة الإلهية؟ ومن أي من أن أستعير كلمات الاحتقار للجنس البشري؟ حسب إبراهيم: «تراب ورماد» (تك18: 27). حسب إشعياء : «العشب» (إش 40: 6). حسب داود، حتى لا عشب، بل «مثل العشب» (مز37: 2). قال إشعياء : «كل بشر هو عشب»، وداود «الإنسان هو مثل العشب». وحسب سفر الجامعة : «باطل» (جا1: 2). وحسب بولس الرسول : «شقاء» (1کو15: 19). فالألفاظ التي استعملها الرسول ليدل على نفسه، يستعملها ليدل على شقاء مجمل الجنس البشري:
من هو الله؟
إذا، هذا هو الإنسان. والله، من هو إذن؟ آه ، كيف أتكلم عمّا لا نستطيع أن نراه، عما لا تستطيع الأذن أن تدركه ولا القلب أن يفهمه؟ أية لغة تتيح لي أن أعلن طبيعته؟ من هذا الخير، أي مثل يسعني أن أجد في مجال ما هو معروف؟ أية لغة جديدة أستنبط لأدل على ما لا يقال وعلى ما لا يُعبر عنه؟
سمعت الكتاب الملهم وطروحاته العظيمة حول طبيعة العلي. ولكن ما هذا تجاه هذه الطبيعة بالذات؟ فالكلمة تفوهت بما أقدر أن أفهم ، ولكنّها لم تستنفد وساعة الموضوع.
إن الذين يتنشقون يمتصون الهواء، كل واحد بحسب إمكاناته الخاصة : هذا أكثر وذاك أقل. ومع ذلك، فالذي يمتلك إمكانية تنشقية أكبر لا يمتص هذا العنصر (أي الهواء) كله : هو امتص من كل الهواء ما أتاحت له إمكاناته، والباقي كله يلبث هنا. وبالطريقة عينها، حين الكتاب المقدس يتكلم عن الله في الطروحات التي يعطينا أولئك الذين ألهمهم الروح القدس، فهم يفعلون بقدر فهمنا مع طابع رفيع وعظيم متجاوزا كل عظمة. ولكن فهمنا هذا لا يدرك العظمة الحقيقية. «من قاس السماوات بالشبر وكال مياه البحر بكفه وكل الأرض بكيلة؟» (إش40: 12). أننظر نبل هذا الوصف لقدرة لا يمكن الكلام عنها. ولكن ما هذا تجاه الواقع؟ بالتأكيد هو جزء من عمل الله تعبر مثل هذه الاستعارات العظيمة التي نجدها في نص النبي. أما القدرة عينها التي منها خرج هذا العمل – لئلا نتكلم على الطبيعة التي صدرت منها هذه القدرة ! – فما عبر عنها، لأنه ما كان قادرا بأن يفعل.
ولكنّه يوجه كلامه أيضا إلى الذين يفترضون افتراضات، فيتمثلون الألوهة انطلاقا من شيء آخر. فيكتب أحدهم وكأن كلامه خارج من فم الله. وهذا ما يقول: «بمن تستطيع أن تقابلني، يقول الرب؟» (18) هي النصيحة عينها التي يتضمنها سفر الجامعة في ألفاظ خاصة به : «لا تستعجل لتتكلّم أمام وجه الله. فالله هو في السماء، فوق، وأنت على الأرض تحت» (جا5: 1). وهكذا بين، كما أظن، عبر المسافة التي فيها تبتعد العناصر الواحد عن الآخر، وبأي قدر تتجاوز الطبيعة الإلهية الأفكار الأرضية.
ابن الله
بهذا الشيء الذي هو جميل جدا وعظيم جدا، الذي لا يصل إليه النظر ولا الأذن، ولا الفكر، يتحد به الإنسان الذي يعتبر بلا قيمة وسط الكائنات. هو الرماد والعشب والباطل، ومع ذلك يتحد به اتحادا حميما : اعتبر ابنا بفم إله المسكونة. فماذا نستطيع أن نجد من لياقة لنؤدي الشكر على هذا الإحسان؟ أية لغة، أي عقل، أية حركة تفكير تساعد على الاحتفال بهذا الفيض الفائض من النعمة؟ فالإنسان يخرج من طبيعته : من مائت يصبح لامائتاً. من الفاسد إلى اللافاسد. من العابر إلى الأبدي. وبمختصر الكلام، من إنسان، يصبح الله، لأن الإنسان الذي حسب أهلاً لأن يكون ابن الله، يمتلك، بكل تأكيد، في ذاته ، كرامة الله أبيه ويمسي وارث جميع الخيرات الأبدية. يا لجودة غنى المعلم الإلهي! يا للكف المفتوحة بوساعة! يا لليد العظيمة ! بأي عظمة هي هذه الموهبة، موهبة الكنوز الخفية ! فإلى وضع يكاد يكون مجيدا مثل المجد الخاص يقود حب الله للإنسان طبيعتنا التي خسرت كرامتها بالخطيئة. فإذا كان الله أعطى البشر بأن يتحدوا بطبيعته الخاصة اتحادا حميما، فماذا نجد هنا، بفضل علاقة القرابة هذه، سوى الوعد بمجد يشبه مجده؟
بأي ثمن؟
2 إذا، ما هو الثمن؟ بل ما هي المحنة؟ قال : فاعل السلام سوف يكلل بنعمة التبني. ويبدو لي أن المهمة التي لها يعدون بأجر عظيم جدا، تشكل في ذاتها هدية أخرى. فبين الأشياء التي نسعى للحصول على التنعم بها خلال حياتنا، ما من شيء أعذب للبشر من حياة هادئة. فكل بهجات الحياة التي يمكن أن نعددها، بحيث تكون سارة لنا، تحتاج إلى السلام. فإن كان لنا كل ما هو ثمين في الحياة من غنى وصحة وزوجة وأولاد وبيت وأهل وخدم وأصدقاء، الأرض والبحر كلاهما يغدقان غناهما الخاص. الحدائق، الصيد، الحمامات ، ميادين الرياضة والجمباز. أماكن المتعة للجميع وأماكن التسلية للشبيبة. وكل ما نستنبط من أجل اللذة. ونضيف على كل هذا لذة العروض التمثيلية، وحفلات الموسيقى، وسائر التسليات التي بفضلها يستطيع الناس المترفهون أن يتمتعوا بالحياة. إذا كان لنا كل هذا، ولكن لا هذا الخير الذي هو السلام، فأي ربح يكون لنا إذا الحرب منعتنا من التمتّع بهذه الخيرات؟ إذا، هذا السلام مدعاة للرضى للذين يشاركون فيه ، وهو يعطي حلاوة لكل ما هو ثمين في هذه الحياة.
حسنات السلام
وأكثر من هذا. فإن أصابنا أي شقاء بشري، ساعة نكون في السلام، فمزيج الشقاء مع خير ما، يجعله أسهل لكي نتحمله. ولكن إن ألقت الحرب بثقلها على حياتنا، نصبح مجمدين في شكل من الأشكال، في هذا النوع من مناسبات الكآبة، لأن التعاسة العادية تتجاوز بالعذاب الصعوبات الخاصة.
ويقول الأطباء بالنسبة إلى انفعالات الجسد: إذا أصاب مرضان في الوقت عينه، ذات الجسد، نشعر فقط بالأكثر خطرًا. فنكون هكذا وكأننا لا نحس بالوجع الذي هو أقل أهمية، لأنه مخفي بالعذاب المسيطر الذي يغطيه. وكذلك شرور الحرب حيث تكثر الآلام وتكثر فتُعد الأفراد لعدم الإحساس بشقاواتهم اثنان الخاصة.
شرور الحرب
ولكن إن أمسك النفس بعض تجمد يجعلها لا تشعر بالشقاوات الفردية، بعد أن ضربتها إصابات شقاء الحرب العادي، فكيف تحتفظ بالإحساس باللذة؟ ها هي الأسلحة والجياد، والحديد المسنون والبوق الذي يلعلع . الفيالق حاملة الرماح، والتروس المرصوصة الواحد قرب الآخر، والخوذات بريشها الذي يتحرك بشكل مرعب، والصدامات والـتـدافـعـات والاختلافات والقتالات والمجازر والهروبات والملاحقات وتأوهات الجرحى وصرخات الحرب والأرض التي سقتها أمواج الدم. والأموات المداسون بالأرجل. والجرحى المتروكون على الأرض وكل القساوات التي ترافق الحرب. في مثل هذه الأوضاع هل نستطيع يوما أن نميل بفكرنا نحو تذكر السعادة؟ ولكن إذا تقدم إلى الفكر تذكر سعيد، أولا يضاف إلى شقاء حاضر تذكر الذين أحببنا فيعود إلى فكرنا؟ إذا، ذاك الذي يعطي الأجر، فإذا لبثنا بمنأى عن الشر الذي هو الحرب، يهبنا هو عطيتين: العطية الأولى هي الثمن، والثانية هي المحنة عينها.
ثمن السلام
لهذا، وإن لم يكن الرجاء وعد شيئا لمثل هذا الموقف، فالسلام يفضل على كل شيء في ذاته وبسبب من ذاته . وهو أهل لأن نبحث عنه بحرارة كبيرة، على الأقل بالنسبة إلى الناس العقال ! والحال أنه يسعنا أن نتعرف إلى فيض حب الله للبشر حين يعطي أطيب مجازاة ، لا للألم والعرق، بل للشعور بالرفاه في شكل من الأشكال وبالمسرة والرضى. فبالحقيقة، إن علة الفرح الرئيسية هي السلام الذي يريده الله في الجميع حضورا كبيرا جدا بحيث لا يحتفظ به إنسان له وحده، بل يتقاسم الزيادة مع أولئك المحرومين منه.
3 قال : «طوبى لفاعلي السلام». ففاعل السلام هو الذي يعطي السلام للآخرين. ولا يسعنا أن نقدم للآخرين ما لا نمتلكه في ذاتنا. إذا ينبغي أولاً أن يكون الإنسان ذاته، مملوءا من خيرات السلام فيقدمها بعد ذلك للذين هم محرومون من مثل هذا الكنز.
ما هو السلام؟
لا نفرض على كلامنا تعبا نافلاً من أجل تفحص عميق ! يكفينا ، للبلوغ إلى امتلاك خير، فهم مباشر للنص. «طوبى لفاعلي السلام». كثيرة هي الأمراض التي تقدم لها هذه الكلمة (الإلهية)، الدواء بشكل موجز. فهذا اللفظ الإجمالي، وهذه الكلمة العامة تضم جميع الحالات الخاصة. إذا، ما هو السلام؟ ذاك ما ينبغي أولاً أن نتصوره.
وهل السلام شيء آخر سوى استعداد المحبة تجاه من يشبهنا؟ إذا ماذا نستطيع أن نتصور ما يعارض السلام؟ البغض، الغضب، السخط ، الحسد، الحقد، الخبث وشقاء الحرب : هل نرى ما هو عدد الأمراض التي تجد علاجا في لفظ واحد؟
فالسلام يقاتل أيضا كلاً من هذه الشرور التي عددناها، فيزيل الشرّ بمجرد حضوره. فحين تحل الصحة محله يزول المرض. وحين يظهر النور لن يبقى بعد ظلام. وكذلك حين يتجلّى السلام تنحل كل الانفعالات التي تعارضه.
أما عظمة هذا الخير، فأظن أنه لا يفيد بشيء أن أعرضها أنا في هذه العظة. لنفكر بشكل شخصي في ما هي الحياة لدى الذين يداومون على علاقات متبادلة من الشك والبغض: فصدق الحياة تكون لهم مشؤومة، وكل ما يتعلق بالواحد تجاه الآخر مبغضا. فمهم يكون صامتا ونظرهم معاديا. أغلقوا أذنهم على صوت الذي يبغضهم والذين يبغضونهم. كل من الاثنين يحب ما لا يحبه الآخر. ومقابل هذا يحسب خصمًا أو عدوا ما يجد فيه عدوه لذته.
الغضب يبلبل السلام
4 كما أن النباتات ذات العطور تملأ الهواء الذي يجاورها بذات العطر اللذيذ، فالله يريد بإفراط أن تكثر فيك نعمة السلام، بحيث تكون حياتك دواء لمرض الآخرين. وعن عظمة هذا الخير نستطيع أن نكون فكرة أكثر دقة، إذا حسبنا الشقاوات الواجبة لكل الانفعالات التي يولّدها سوء النية في النفس. من يسعه أن يعرض بشكل لائق هذا الانفعال الذي هو الغضب؟ أي كلام يصف بشاعة مثل هذا المرض؟ هي انفعالات شيطانية نراها مكشوفة لدى الذين هم في قبضة الغضب. لنفكر، في موازاة هذا، بالانفعالات التي يسأل عنها الشيطان والغضب: أي فرق بين الاثنين؟ فعين صاحب الشيطان هي ضائعة ، محتقنة بالدم، ولسانه مدلى، وصوته يقدح برئة أبحة. هذه المظاهر مشتركة بين الغضب والامتلاك الشيطاني. من حركات عنيفة بالرأس واضطراب مجنون من اليدين وارتجاف الجسم كله وقدم غير ثابتة. هذان المرضان هما موضوع وصف واحد في المصطلحات التي استعملنا.
ونلاحظ الاختلاف الوحيد بين هذا (الغضب) وذاك (إبليس) بقدر ما الأول هو شر نخضع له بملء إرادتنا. أما الآخر فينقض ضد إرادتنا على الذين يظهر عندهم. والحال ، كم هو أهل للشفقة ذاك الذي يكون في شقاء اندفع بذاته نحوه، فيتألم من شيء يعارض انتظاره ! والمشهد الذي يقدمه المرض الشيطاني لا يمكن إلا أن يحرك الشفقة. ولكن ما إن نرى الغضب الجامح حتى نقتدي به، لأننا نتأسف إن لم نتجاوز انفعالنا الخاص ذاك الذي سبق له وأصيب بهذا المرض. وحين يعذب الشيطان جسد يعذب ، ينحصر الشر في الحركة الفوضوية في يدي الممسوس. ولكن أي عنف يعطي الجسد شيطان الغضب. وحين يفرض الانفعال سلطته، والدم الذي يحيط بالقلب يبدأ بالغليان، ساعة المرّة السوداء، كما يقال التي هي نتيجة الحالة الغضبية، تنتشر في كل موضع ، في الجسم، عندئذ يشد ضغط البخارات الباطنية على جميع الأعضاء الحسّاسة في الرأس. تجحظ العينان. وترشقان موضوع الغضب نظرة مضمخة بالدم تشبه نظرة التنين. واللهاث يضغط على الصدر. وتنتفخ عروق الرقبة. وبما أن أنبوب التنفس ينضغط ، يصبح الصوت ، بسهولة، قادحًا. والشفتان، بتأثير من هذه الميزة الباردة التي تنتشر، تصبحان جامدتين وسوداوين. ويصعب عليهما أن تتحركا لتبتعدا وتنغلقا بشكل طبيعي، بحيث لن يسعهما أن تحفظا في الفم نفسه ما يفيض من اللعاب، فتتركانه يفلت، في الوقت عينه، مع الكلمات، لأنّ منسوب الكلام الذي أضحى عنيفا يجعل البائس يزبد. عندئذ نستطيع أن نرى اليدين يحركهما المرض. وكذلك الرجلان. والحركة التي تسيطر على هذه الأعضاء لا تبقى عقيمة كما عند المتشيطنين، بل تسبب الشقاء للغضوبين الذين تصل بهم الأمور إلى القتال بالأيدي بسبب المرض. فهجوم الخصوم ينطلق مباشرة نحو الأعضاء الحسّاسة جدا. وإذا في القتال تصل الأمور بالجسد، أن يكون في متناول الفم ، فالأسنان ذاتها لن تبقى عديمة النشاط. ولكن كما نرى ذلك عند الوحوش، تنغرز في لحم الخصم. ومن يحصي بالتفصيل جميع الشرور التي يولدها الغضب؟
إذا، ذاك الذي يمنع مثل هذه الفظاعة، يستحق حقا أن ندعوه سعيدا وأهلاً للكرامة، بسبب أهمية الخدمة التي يؤدي. فإن كان من ينجي الإنسان من أي تعب جسمي، يستحق الإكرام بسبب هذا العمل الصالح، فكم بالأحرى ذاك الذي حرر النفس من هذا المرض يعتبره الناس العاقلون أنه محسن إلى الحياة. فبقدر ما النفس تتفوق على الجسد، بقدر ذلك ذاك الذي يشفي النفوس هو أكثر إكراما من الذين يعتنون بالأجساد.
الشرور الأخرى
5 لا يتخيلن إنسان أنه، بين الشرور التي ينتجها البغض، يكون الغضب البغيض هو الآخر في نظري : يبدو لي أن الحسد والتخفي انفعال أخطر بكثير من الانفعال الذي أشرت إليه الآن. فبقدر ما هو خفي هو أخطر مما هو ظاهر. نحن نحذر أكثر من الكلاب التي لا يشار إلى عنفها بالنباح أو بالهجمة وجها لوجه، بل تلك التي تبدو وادعة ومدجنة فتنتظر الوقت الذي يكون فيه انتباهنا مشتتا. ذاك هو الحسد، التخفي، لدى أناس يغذي الحقد باطنهم وعمق قلبهم، مثل نار خفية، ساعة يتخفون فيوفقون بين ظاهرهم والصداقة.
الحسد
إذا كانت النار مخفية تحت القش، فهي تحرق أولاً وترمد كل ما تلامس داخل الكدسة. لا يرتفع أي لهيب منظور ولكن يخرج دخان لاذع، مضغوط بعنف من الداخل. ولكن إذا ما حركت الدخان نسمة، عندئذ ينتعش اللهيب مضيئا واضحا. وبالشكل عينه يلتهم الحسد القلب من الداخل كما النار تلتهم تلة من القش. وخجلاً، يخفي المرض دون أن يكون قادرًا أن يخفيه تماما. ولكن مثل دخان حاد، تظهر مرارة الحسد في المواقف التي ترافق المظهر الخارجي. فإن أصاب شقاء ذاك الذي نحسده ، عندئذ ينكشف مرضنا حين نستقبل بفرح ولذة، متاعب العدو. وما يخون العاطفة المخفية، ما دامت غير منظورة، هي إشارات ظاهرة على الوجه. فالعلامات القاتلة في اليأس تمسي مرارا علامات حريق الحسد: عينان جافتان، غارزتان تحت حاجبين منشفين. جفن عابس. وبدل اللحم نرى العظام… وما هو سبب هذا المرض؟ الحياة بلا هم لدى أخ أو قريب أو جار. تلك هي أذايا من نوع آخر نشتكي من غياب اللاحظ أمام إنسان نجاحه يؤلمنا. هذا لا يعني أننا نلنا من لدنه ضررا نعتبره جورا، بل لأنه في الازدهار ما اقترف أي جور…
أي شعور، أيها التعيس ! قد أقول له. ماذا أصابك لتحترق هكذا فترمي نظراً مراً على ازدهار جارك؟ أية حجة تستطيع أن تطلب؟ أهو جميل؟ أهو متكلم؟ أهو من محتد رفيع؟ هل بلغ إلى وظيفة تجعله لامعًا في كرامته؟ وعلاوة على ذلك، هل يمتلك وفرة الخيرات؟ هل كلماته محترمة بسبب حكمته؟ هل هو محور جميع الأنظار بسبب أعماله الصالحة؟ هل أولاده هم سبب فرحه؟ هل زوجته سعادته؟ هل الناس الذي يؤمون داره يجعلونه معروفا؟ لماذا يلج كل هذا قلبك مثل رأس حربة؟ تضرب كفا بكف. أصابعك تتشنّج. تفكيرك يؤلمك. تطلق تأوهات عميقة، معذبة. وصارت بغيضة لك لذة الاستقبالات. مائدة مرة. منزلك كئيب. تميل أذنك بسهولة إلى من يهشم الإنسان السعيد. ولكن إن قيل عنه قولاً مستقيما، تنغلق عليه أذنك. وفي مثل هذه الحالة النفسية، لماذا تخفي مرضك تحت حجاب من التخفي؟ لماذا تجعل قناع الصداقة في تصنع من الطيبة؟ لماذا تستقبله بأقوال محببة. وتتمنى له الفرح والصحة حين تطلق في سر نفسك لعنات معاكسة؟ هكذا كان قايين الذي اغتاظ حين رأى هابيل يرضي الله. فالحسد في قلبه، شجعه على القتل، ولكن الخبث كان الجلاد : إذ اتخذ وجها محبا ولطيفا، أخذه إلى البرية، بعيدا عن أي حضور قد يصل إليه والداه (تك 4).
عمل السلام
فذاك الذي ينقذ الحياة البشرية من مثل هذا المرض، والذي بالطيبة والسلام، يضم الرباطات بين الزملاء، ويقود الناس إلى الصداقة والتوافق، أما يعمل عمل القدرة الإلهية، فيطرد الشر من الطبيعة البشرية ليدخل مكانه التشارك في الخير؟ لأجل هذا، يدعى فاعل الخير ابن الله، لأنه يقتدي بالإله الحقيقي الذي يمنح نعمه للحياة البشرية.
6 إذا، «طوبى لفاعلي السلام، لأنّهم أبناء الله يدعون». فمن هم؟ هم أولئك الذين يقتدون بحب الله للبشر، هم من تدل حياتهم على الطابع الخاص بالعمل الإلهي. فالرب مانح هذه الخيرات يدمر كل ما هو خارج الخير وغريب عنه ويعيده إلى لاشيء. هذه الأعمال هي التي تفرضها شريعته عليك أنت أيضا : ترذل البغض، توقف الحرب ، تزيل الحسد، تطرد القتال، تدمر الخبث، تطفئ في نفسك الحقد الذي يحرق، على مهل، قلبك. وتدخل محل كل هذا جميع الصفات التي تعارضها، فتزيل على التوالي الرذائل المعاكسة.
ثمار السلام
كما أن مغادرة الظلام تدل على مجيء النور، فكل من هذه الرذائل تترك المكان لثمر الروح : الحب، الفرح، السلام، الطيبة ، الصبر. كل الخيرات العديدة التي قدم لائحة فيها بولس الرسول (غل5: 22-23). فكيف لا يكون سعيدا ذاك الذي يوزع الهبات الإلهية؟ الذي يقتدي بسخاء الله؟ ذاك الذي، بخيراته الخاصة ، يتلاقى وجود الله؟
ولكن قد تكون هذه التطويبة تطلعت إلى أبعد من خير الآخرين. فاسم فاعل السلام، في رأيي، يليق بشكل خاص، بذاك الذي يعيد إلى السلام والوفاق، الصراع الذي تتواصل فيه بين البدن والروح ، هذه الحرب الداخلية، الطبيعية، حين شريعة الجسد، التي تحارب شريعة الروح، لا تمتلك قوة، بل تخضع لسيادة سامية وتدخل في خدمة الوصايا الإلهية.
ولكن لا نمض بشكل خاص ونظن أن الكلمة تدعونا لأن نتطلع إلى حياتين مختلفتين لدى الذين أصلحوا سلوكهم : بعد أن هدم جدار الشر الذي كان يقسم داخل النفس، تذوب وجهتا الحياة المجتمعتان في مزيج خلاصي، في وجهة واحدة. وبما أن الإلهي – كما نظن – هو نقي، بلا مزيج وبلا شكل، حين يخرج الإنسان من استعداده المضاعف، بفضل مثل هذا النتاج من السلام، ويعود بكليته إلى الخير، يضحي، هو أيضا، بسيطا، بدون شكل، وواحدا بالحقيقة ، بحيث يمسي المنظور شبيها بالخفي والخفي شبيها بالمنظور. عندئذ تأخذ هذه التطويبة، حقا، كل قوتها. وينال مثل هؤلاء الناس – في معنى خاص – اسم أبناء الله، وهم الذين أعلنوا سعداء بحسب وعد ربنا يسوع المسيح، الذي له المجد إلى دهر الدهور. آمين.