إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون

 

“إن كنتم بالروح تُميتون أعمال الجسد فستحيون” ( رو 8 : 13)

المسيحي الحامل الروح القدس مدعو للنسك الجسدي ، ولكن ليس من مدخل جسدي ولا اعتماداً على الجسد ، لأنه يكون منطقاً مقلوباً أن نُخضع الجسد بالجسديات . فرق كبير وخطير بين أن نبدأ نقمع الجسد بالعزيمة والإرادة الجسدية ونضبط شهواته بالصوم والسهر وكل الوسائل المعروفة ؛ وبين أن نبدأ بالروح القدس واعتماداً عليه ودعوته للقيادة بالصلاة والاتضاع وتقديم واجبات المحبة والعبادة بالروح لله فتنفتح لنا سائر الأعمال ولكن من مدخل روحي بقيادة الروح.

الإنسان المسيحي يستحيل أن يقوى على صوم ذي فاعلية ويكون مقبولاً لدى الله ، إن لم يُشبع الروح أولاً من الوجود في حضرة الله ، ويرهن الجسد أولاً وقوفاً في الصلاة ، حتى يقدر أن يمسكه عن الأكل .  فالشبع الروحي وحده هو الذي يولد القدرة على الجوع الجسدي ليكون كذبيحة . هذه هي إماتة الجسد بالروح .

هكذا أيضا الإنسان المسيحي لا يستطيع أن يحب قريبه ، وبالتالي يستحيل أن يقوى على حب عدوه وذلك باصطناع الإرادة والتصميم والعزم الجسدي . فالفشل أقرب إليه من النجاح مائة مرة ، إذ يلزمه أولاً أن يحب الله من كل القلب والفكر والنفس والقدرة ، حتى لا يتبقى من الحب شيء للذات تطلبه لتتلهى وتتعظم . وهنا لا يعود المسيحي يحب الآخرين من حبه ولا من ذاته ؛ بل من حب الله المتدفق مجاناً ، يوزع ويبذر على الذي يستحق الحب والذي لا يستحق ، للصديق كما للعدو . فهو يأخذ مما ليس له ويبدد ، وكلما بدد يزداد له العطاء ويزداد حب الله له فيزداد حبه لله وكل الناس وأكثرهم الأعداء . هذه هي إماتة الجسد بالروح .

والعبرة ليست بالكلام ، فكل من ذاق ، أدرك الحقيقة وهتف بالمجد .  

هذه حتمية إلهية ووعد مغلظ ، لأن : “من يزرع لجسده يحصد فساداً ومن يزرع للروح فمن الروح يحصد حياة أبدية ” ( غل 6 : 8 ) . الوعد بالحياة  هنا ليس مستقبلاً كما جاء الفعل في المستقبل ؛ بل هو تركيز للتأكيد ، بمعنى إنكم مهما أمتم من الجسد فستحيون ، نعم ستحيون ! فالحياة هنا مستمدة ليس من إماتة الجسد بل من الروح الذي يخضع له الجسد ، من بر الله الذي انسكب بالإيمان على الذين أحبوا الله .

الإنسان المسيحي الذي مات مع المسيح وقام – أي نال البر بالفداء – صار الموت عنده صناعة وتجارة يدخل فيه بإرادته وبروحه ضامناً القيامة والحياة . لأن في كل إماتة يموتها توجد قيامة ؛ لأن المسيحي الذي مات مع المسيح مرة ، يموت كل يوم ، ولكن لا يسود عليه الموت ، بل من الموت يستخلص حياة.

والحياة التي نحياها الآن هي بعينها الحياة الأبدية الأخروية ، ولكن بالإيمان في عربون! والحياة الأبدية لا يسود عليها الموت بل إذا مسها الموت يتحول إلى حياة .

فإن كان الروح القدس الذي أقام المسيح من الأموات ساكناً فينا ؛ فمرحبا بكل إماتة للجسد حتى الموت . فالحياة مضمونة من عمق الموت الآن وفي المستقبل أيضاً .

عزيزي القارئ ، ليست هذه أفكارنا ولا حتى اختباراتنا الخاصة ؛ بل هي اختبارات الآباء القديسين الذين أحيوا الإنجيل بحياتهم ، ومارسوا أقوال الله الصادقة ، وسلموها لنا فاستلمنا وذقنا وتحققنا من صدقهم ومن صدق الإنجيل . 

فاصل

من كتاب الإنجيل في واقع حياتنا للأب متى المسكين

زر الذهاب إلى الأعلى