كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار
التطهيرات
للأنبا إبيفانوس أسقف ورئيس دير القديس أنبا مقار
الطهارة والقداسة مطلب أساسي من مطالب الله للإنسان، سواء في العهد القديم أو العهد الجديد. ففي العهد القديم يخاطب الله شعبه المختار قائلا: «وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وامة مقدسة» (خر 19 :6)، “كونوا قديسين لأني أنا قدوس” (لا 11: 45، 19: 2). وفي العهد الجديد يؤكد الله مطالبته لنا بالقداسة: «لكي نشترك في قداسته» (عب 12: 10)، “لأن هذه هي إرادة الله: قداستكم» (1تس4: 3).
مفهوم “الطاهر والنجس” عند الشعوب البدائية:
تستند ممارسة طقوس التطهير في كثير من المجتمعات القديمة على فكرة التمييز بين ما هو طاهر وما هو نجس. وكان الكثير من الشعوب البدائية يعتقدون بوجود قوى غامضة تحل في النبات أو الحيوان أو حتى الجماد، مما يجعلها ضارة أو مؤذية للإنسان. ومن هنا بدأ التمييز بين الأشياء المحرمة أو النجسة، والأشياء المحللة أو الطاهرة. وهذا هو ثمرة الأكل من الشجرة المحرمة: شجرة معرفة الخير والشر. فبعد أن كان كل شيء طاهراً للإنسان عندما خلقه الله لينعم به، صارت الخليقة في عيني الإنسان ذات وجهين: طاهر ونجس …
مفهوم “الطاهر والنجس” في العهد القديم:
تختلف نظرة الشعب العبراني في التمييز بين ما هو طاهر وما هو نجس عن نظرة كثير من الشعوب البدائية القديمة، لأن الله في تعامله مع شعب إسرائيل في وضعه البدائي وإدراكه الحسي المرتبط بطبيعته الجسدية، وضع لهم أحكاماً وفرائض ووصايا تتعلق بالتمييز بين الطاهر والنجس، بنيت أساساً على اعتبار كل عبادة غير عبادة الله نجسة، وكل من يعبد إلهاً غير الله فهو نجس، وكل ما تمارسه الشعوب الوثنية من عادات وتستعمله في عباداتها فهو نجاسة وهو محرم على شعب الله، حتى إن الله كان يحرم كل مدنهم وغنائمهم في الحرب، فكان يأمر شعبه أن يحرقها بالنار. لذلك كان العبراني ينظر إلى كل الأشياء أو الممارسات التي تهدد كيانه الديني أو الاجتماعي على أنها نجسة له. فعلى سبيل المثال، كانت الحيوانات التي تقدم ذبائح لآلهة غريبة تعتبر نجسة. فكان العبرانيون يعتبرون الخنزير نجساً – بالرغم من أن بعض الشعوب الأخرى المجاورة كانت تقدسه مثلما كان في بابل وقبرص وسوريا – وربما يرجع ذلك لأنه كان يقدم بكثرة كذبيحة للآلهة الوثنية.
طقوس التطهير في العهد القديم
بالرغم من أن كثيراً من طقوس التطهير والتفريق بين النجس والطاهر لها أصول قديمة وتاريخ طويل، إلا أنها أخذت شكلها الديني بعد تأسيس الكهنوت اللاوي. وصار مفهوم الطهارة هو الابتعاد عن الأشياء التي حرمها الله في الشريعة، والتي وصفها أنها: “مكرهة للرب” (لا 7: 21 ، 11: 10). وكان على الإنسان العبراني الذي يريد أن يتطهر أن يجوز سلسله معقدة من طقوس التطهير تبدأ بعزله عن الجماعة فترة محددة، يقوم بعدها بتقديم ذبيحة دموية في الهيكل. أما المادة التي كان يتطهر بها فكانت تتمثل في الماء كعنصر للاغتسال والنقاوة الجسدية الخارجية، والدم الذي يرش على المتطهر من دم الذبيحة التي يقدمها. وأحيانا كانت تستعمل النار في تطهير الأشياء والأدوات التي كانت تحتاج إلى تطهير.
مفهوم “الطاهر والنجس” في العهد الجديد:
يستعمل كتاب العهد الجديد الفعل “يطهر” (كاثاريزو) ومنه الصفة “طاهر” (كاثاروس)، وهما نفسى الكلمتين اللتين استعملتهما الترجمة السبعينية للعهد القديم. ولكن ما مدى تشابه المعاني في كلا الحالتين؟ يمكننا أن نتعرف بسهولة عل موقف العهد الجديد من التطهيرات الطقسية اليهودية ومن مفهوم “الطاهر والنجس” من هذا الموقف الذي واجه فيه الرب يسوع الكتبة والفريسيين. فقد “اجْتَمَعَ إِلَيْهِ الْفَرِّيسِيُّونَ وَقَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ قَادِمِينَ مِنْ أُورُشَلِيمَ. وَلَمَّا رَأَوْا بَعْضًا مِنْ تَلاَمِيذِهِ يَأْكُلُونَ خُبْزًا بِأَيْدٍ دَنِسَةٍ، أَيْ غَيْرِ مَغْسُولَةٍ، لاَمُوا. لأَنَّ الْفَرِّيسِيِّينَ وَكُلَّ الْيَهُودِ إِنْ لَمْ يَغْسِلُوا أَيْدِيَهُمْ بِاعْتِنَاءٍ، لاَ يَأْكُلُونَ، مُتَمَسِّكِينَ بِتَقْلِيدِ الشُّيُوخِ.”(مر ٧: ١-٧). هنا أوضح لهم الرب يسوع بكل جلاء أن “لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ خَارِجِ الإِنْسَانِ إِذَا دَخَلَ فِيهِ يَقْدِرُ أَنْ يُنَجِّسَهُ، لكِنَّ الأَشْيَاءَ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُ هِيَ الَّتِي تُنَجِّسُ الإِنْسَانَ… أَنَّهُ مِنَ الدَّاخِلِ، مِنْ قُلُوبِ النَّاسِ، تَخْرُجُ الأَفْكَارُ الشِّرِّيرَةُ…” (مر ٧: ١٥ و٢١). وكان هذا الكلام بمثابة تغيير كفي للمفاهيم اليهودية خصوص الطاهر والنجس من الأطعمة، حتى إن التلاميذ قالوا للرب: “أتعلم أن الفريسيين لما سمعوا القول نفروا؟ … أتركوهم. هم عميان قادة عميان» (مر ١٥: ١٢ و١٤).
ويأتي تطبيق هذا الكلام في الرؤيا التي رأها بطرس الرسول عندما كان جائعاً: «فَرَأَى السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِنَاءً نَازِلاً عَلَيْهِ مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ … وكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ الأَرْضِ وَالْوُحُوشِ وَالزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. وَصَارَ إِلَيْهِ صَوْتٌ:«قُمْ يَا بُطْرُسُ، اذْبَحْ وَكُلْ». فَقَالَ بُطْرُسُ:«كَلاَّ يَارَبُّ! لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئًا دَنِسًا أَوْ نَجِسًا». فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضًا صَوْتٌ ثَانِيَةً:«مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ!» (أع ١٠:١٠-١٥).
لقد احتدم النقاش في الكنيسة الأولى حول مدى التزام المؤمنين الجدد بحفظ ما أمرت به الشريعة اليهودية من طقوس التطهير والاغتسالات الجسدية وحفظ السبت والختان والمحلل والمحرم من الأطعمة. ولكن مجمع أورشليم بقيادة الرسل طلب من المؤمنين الامتناع فقط عن كل ما ذبح للأوثان والمخنوق والدم والزنا (أع ١٥: ٢٠ و٢٩). وبذلك رفع عن عاتقهم متطلبات الناموس التي أوضح القديس بطرس أنه “لم يستطع آباؤنا ولا نحن أن نحمله» (أع ١٠:١٥).
لذلك كتب القديس بولس لأهل رومية قائلا: «إِنِّي عَالِمٌ وَمُتَيَقِّنٌ فِي الرَّبِّ يَسُوعَ أَنْ لَيْسَ شَيْءٌ نَجِسًا بِذَاتِهِ، إِلاَّ مَنْ يَحْسِبُ شَيْئًا نَجِسًا، فَلَهُ هُوَ نَجِسٌ… كُلُّ الأَشْيَاءِ طَاهِرَةٌ، لكِنَّهُ شَرٌّ لِلإِنْسَانِ الَّذِي يَأْكُلُ بِعَثْرَةٍ.» (رو ١٤: ١٤ و٢٠).
المفهوم الروحي للتطهيرات في العهد الجديد:
لقد أوضح الرب يسوع أن الطهارة الخارجية لا تفيد، ولا تؤكدها طقوس التطهيرات والاغتسال، بل منبعها الحقيقي هو قلب الإنسان. فأنقياء القلب هم الذين يرثون ملكوت السموات (مت ٥: ٨). فنقاوة القلب تسمو بلا قياس على الاغتسالات الجسدية التي كان ينادي بها الفريسيون. لذلك نجد كتابات العهد الجديد تركز عل الطهارة الداخلية أكثر من التطهير الخارجي. وقد أبانت الوسائل التي بها يتطهر الإنسان، وهي الكلمة والماء والدم.
أ. الكلمة: كانت عملية التطهير جزءاً من رسالة الرب يسوع الذي طهَّر تلاميذه بكلمته المحيية: «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به» (يو ١٥: ٣). لذلك كان إيمان الامم بكلمة الكرازة كفيلاً بأن يطهرهم ويجدد إنسانهم الداخلي. وهذا ما أوضحه القديس بطرس في مجمع أورشليم:”…اخْتَارَ اللهُ بَيْنَنَا أَنَّهُ بِفَمِي يَسْمَعُ الأُمَمُ كَلِمَةَ الإِنْجِيلِ وَيُؤْمِنُونَ… وَلَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ بِشَيْءٍ، إِذْ طَهَّرَ بِالإِيمَانِ قُلُوبَهُمْ.” (أع 15: 7-9).
ليس ذلك فقط، بل والطعام نفسه يتقدس بكلمة الله. نرى ذلك واضحاً في رسالة بولس الرسول إلى تيموثاوس:”… أطعمة قد خلقها الله لتتناول بالشكر … لأن كل خليقة الله جيدة، ولا يرفض شيء إذا اخذ مع الشكر، لأنه يقدس بكلمة الله والصلاة» (١تي ٤: ٣-٥).
ويشرح القديس كيرلس الكبير دور الكلمة في التطهير في مقابل الاغتسالات اليهودية في تفسيره للآية: «أنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به» (يو 15: 3) عل لسان المسيح قائلاً:
[هلموا اطرحوا عنكم ثقل العوائد الباطلة وفساد هذا العالم، وكونوا مستعدين لثثمروا ثماراً مرضية لله. جنبوا أنفسكم شرائع اليهود الباطلة وغير النافعة ولا تلتفتوا إليها بعد ذلك. فكلمتي قد طهرتكم، لذلك لا تخضعوا حياتكم بعد لناموس موسى أو لأية شرائع أخرى. لا تظنوا أن قداستكم تنبع من الأكل أو الشرب أو الاغتسالات، ولا حتى من الذبائح الكفارية. لكن ثقوا أنكم متأسسون عل إيمان ثابت، وجدُّوا حتى ترضوا الله بأعمالكم الصالحة …
إن الإسرائيليين عندما آمنوا بي، والتصقوا في كما الأغصان في الكرمة، فقد نالوا نقاوة الذهن بواسطة كلمي، عندئذ لم يتركوا أنفسهم لخدمة “الحرف” مرة أخرى، ولم يفتشوا بقلوبهم عن “الظل والمثال”. لكنهم عملوا ثمار خدمة الله الحقيقية والروحية. لأن الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغ أن يسجدوا (يو ٤: ٢٤)].
ب. الماء: وكما كان الماء في القديم وسيلة للطهارة الخارجية، فقد أصبح ماء المعمودية في العهد الجديد، وسيلة لتطهير الإنسان وولادته من جديد خليقة جديدة مطهرة ومقدسة، وذلك لأنه لم يعد ماءً ساذجاً، بل صار يحمل قوة الكلمة والروح القدس: «أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضًا الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا، لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ» (أف ٥: ٢٥ و٢٧). ولم يعد دور الماء مجرد إزالة أوساخ الجسد بل تنقية الضمير ونقل مفاعيل قيامة المسيح إلينا: «الذي مثالة يخلصنا نحن الآن، أي المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد، بل سؤال ضمير صالح عن الله، بقيامة يسوع المسي» (1بط 3 :21).
ويوضح القديس أغسطينوس أنه ليس الماء في حد ذاته هو الذي يمنح التطهير، بل قوة الكلمة الحالة على الماء، ففي تفسيره لإنجيل يوحنا (١٥: ٣) يقول:
[«أنتم الآن أنقياء بسبب الكلمة التي كلمتكم بها»، لماذا لم يقل: “أنتم أنقياء بسبب المعمودية التي بها اعتمدتم”، بل: «بسبب الكلمة التي كلمتكم بها»؛ إلا لأنه في الماء أيضاً الكلمة هي التي تنقي. أقص الكلمة فلا يكون الماء أكثر أو أقل من ماء. فالكلمة تضاف إلى عنصر الماء فينشأ السر، وكأن الماء نفسه صار بمثابة كلمة مرئية. والرب قال أيضا في هذا المعنى عندما كان يغسل أرجل تلاميذه: «الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه، بل هو طاهر كله» (يو ١٣: ١٠) ومن أين للماء بهذه الفاعلية المتسعة، إذ حالما يلمس الجسد تتطهر النفس، إلا بعمل الكلمة وذلك ليس بمجرد نطقها ولكن بالإيمان بها].
ج. الدم: وكما كان الدم في القديم وسيلة لطهارة الجسد، صار دم المسيح وسيلة للتطهير والتقديس وغفران الخطايا: “لأنه إن كان دم ثيران وتيوس … يقدس إلى طهارة الجسد، فكم بالحري يكون دم المسيح، الذي بروح أزلي قدم نفسه لله بلا عيب، يطهر ضمائركم من أعمال ميتة لتخدموا الله الحي” (عب ٩: ١٣ و١٤). لذلك يوصينا يوحنا الحبيب قائلا: «إن سلكنا في النور كما هو في النور، فلنا شركة بعضنا مع بعض، ودم يسوع المسيح ابنه يطهرنا من كل خطية» (١ يو ١: ٧).
لأجل ذلك يصلي الكاهن في القداس الإلهي قائلا:
[اجعلنا مستحقين كلنا يا سيدنا أن نتناول من قدساتك (جسدك المقدس ودمك الكريم) طهارة لأنفسنا وأجسادنا وأرواحنا].
يبقى لنا أن نتمسك بهذه الوسائط للتطهير والتقديس، فهي قادرة على ملء قلوبنا بالثقة في نوال الملكوت المعد لنا، متمسكين بالرجاء الذي لا يخزى لأن الذي وعد هو أمين: «فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ… لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِق فِي يَقِينِ الإِيمَانِ، مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ. لِنَتَمَسَّكْ بِإِقْرَارِ الرَّجَاءِ رَاسِخًا، لأَنَّ الَّذِي وَعَدَ هُوَ أَمِينٌ.» (عب ١٩:١٠-٢٣).
اللهم ارحمني أنا الخاطئ | كتب أنبا إبيفانيوس | أولاد إبراهيم |
كتاب مفاهيم إنجيلية | ||
المكتبة المسيحية |