من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

أيستطيع أعمى أن يقود أعمى؟

الأصحاح السادس من إنجيل معلمنا لوقا البشير يبدأ بمثل يقدمه رب المجد: «أيستطيع أعمى أن يقود أعمى؟ أما يسقطان كلاهما في حفرة؟ انظر أيضاً (مت15: 14).

إذا صنع الأعمى هذا الفعل، كان إنساناً أحمق يصطنع لنفسه وظيفة ليس هو أهلاً لها. لقد كان يلزم لهذا الأعمى أن يفهم ذاته أولاً، وأن يعرف أنه أعمى، وأن يتبين عجزه عن أن يقود غيره. أما أن يبلغ به الأمر إلى أن يدعى لنفسه الحق في أن يقود غيره من العميان، فهذا برهان على غباوة هذا الإنسان، وبرهان على أنه لم يفقد العينين الظاهرتين فقط وإنما فقد البصيرة أولاً. وفقدان البصيرة شر من فقد العينين الظاهرتين.

إن أول فضيلة من الفضائل بل أول حلقة من سلسلة هذه الفضائل، أن يعرف الإنسان نفسه. ولو عرف الإنسان نفسه على حقيقته لاستطاع أن يعرف ما ينقصه، ليكمل به نفسه، ولاستطاع أن يوفر على نفسه طريقاً طويلاً هو طريق الضلال، فلا يسير في طرقات متعرجة وخط مسدود لا يؤدى إلى شيء.

إنما الإنسان الذي يريد حقاً أن يسير على هدى، والذي يريد أن يسير في طريق سليم يؤدى إلى الهدف من وجوده في هذه الحياة، يلزمه أولا أن يعرف نفسه… أن يدرس نفسه… أن يعرف أين هو… إن للنفس البشرية متاهات أعقد من متاهات اللابيرنت كما يقولون. إن النفس البشرية دولة في داخل الإنسان. طوبى لمن يستطيع أن يعرف طرقاتها… والمفروض أن لا يعرف نفس الإنسان إلا الإنسان نفسه… إنه يعرفها أكثر من غيره… وكما يقول الوحي «فإنه من من الناس يعرف أمور الإنسان غير روح الإنسان الذي فيه» (1كو2: 11).. هذا ما يقوله الرسول، وهذا هو المفروض أن يكون.

ولكن هل حقاً يعرف الإنسان نفسه؟ وهل يصدق هذا على كل واحد؟ إن من الناس من لا يعرف نفسه… وقليل من الناس من يعرف بعض ما في نفسه… إنما الأكثرية العظمى من الناس يعيشون خارجاً عن نفوسهم… تائهين عنها… بعيدين عنها… مشغولين عنها في أمور كثيرة خارج نفوسهم…

ما أعذبها كلمة سمعناها من رب المجد وهو يتكلم عن الابن الضال، بعد أن سار في ضلاله طويلاً، يقول عنـه الـرب يسـوع «فرجع إلى نفسه» (لو15: 17).. إنها عبارة غريبة… «رجع الابن الضال إلى نفسه».

إذن أين كان الابن الضال؟… لقد كان يعيش بعيداً عن نفسه… . وكأنه لم يكن نفسه… كان غير نفسه. ثم رجع إلى نفسه … كان تائهاً عن نفسه… وهذا تعبير صادق جداً، ينطبق علينا كثيراً، حينما يتيه الإنسان منا عن نفسه… و . وكأنه لم يكن نفسه… كان غير نفسـه… مشغولاً بالأسـرة… مشغولاً بالأب والأم… مشغولاً بالزوجة أو الزوج… مشغولاً بالعمل… …. مشغولاً بالأصدقاء… مشغولاً في متاهات الحياة التي لا تنتهى… مشغولاً بهذا كله عن نفسه… وإلى متى؟ بل وأحياناً يكون مشغولاً بخطايا الآخرين، وأخطاء الآخرين، ومشاكل الآخرين… ومن هنا يبدأ أن يدين الآخرين، ويحكم على الآخرين، وأن يشغل ساعات وأيام من حياته في إدانة غيره، والحكم على غيره… هذا هو الضلال بعينه… هذا هو التيهان خارج النفس… والضلال بعيداً عن النفس… إنما الابن الضال رجع إلى نفسه… أيستطيع أعمى أن يقود أعمى؟ هل يمكن هذا؟ كلكم تقولون: إنه مستحيل أن أعمى يقود أعمى… أن يكون الإنسان أعمي ويزعم لنفسه أنه يقود أعمى… إن الأعمى يطلب من آخرين أن يقودوه، أما أن يطلب هو أن يقود غيره وهو أعمى، فهذا دليل عمى القلب، لأنه لم يدرك أنه أعمى، ولا يعرف حقيقة نفسه، «ولا يعلم أنه هو الشقى والبائس والمسكين والأعمى والعريان» كما يقول في سفر الرؤيا (3: 17).. إن المسكين لا يعرف هذا… قد يكون أستاذاً في المعرفة… قد يكون حاصلاً على شهادة كبيرة تشهد له بأنه عملاق من عمالقة العلم، وإنه مفكر بين كبار المفكرين، وإنه من بين البارزين في المجتمعات… وقد يكون إنساناً ممن يطلبون رأيه في كافة الشئون العامة أو الخاصة… ومع ذلك فهذا الإنسان صاحب المعرفة الواسعة تنقصه معرفة هامة، هي معرفته لنفسه… 

متى ندرك أيها الأخوة والأبناء أهمية معرفة النفس؟ متى ندرك أن يكون الإنسان صادقاً مع نفسه، لا يخادع نفسه… لا يكذب على نفسه…؟! قد تكذب على الناس، قد تخدعهم بمظاهر أو بكلمات، فيرون فيك شيئاً غير الحقيقة… لكن الله لا يضحك عليه… وحتى الناس الذين تضحك أنت عليهم، سريعاً ما يكتشفون رياءك… ويعرفون من تصرفاتك العملية حقيقة نفسك… ويعرفون إنك «بائس وفقير ومسكين وأعمى وعريان»… 

أنت تدعى لنفسك إنه يمكنك أن تكون قائداً للعميان (رو2: 19). أيستطيع أعمى أن يقود أعمى؟ تقولون كلكم لا، لكن هذا هو الحاصل… هذا هو الواقع، إنه غير ممكن عقلياً ومنطقياً وحسابياً. لكنه ممكن عملياً، إنه موجود بالفعل في تصرفات الناس…

أما يسقطان كلاهما في حفرة؟!

يوجد أشخاص عميان ومع ذلك يأخذون مكان الصدارة ليعلموا آخرين…. إلى هؤلاء يقول الرب «أما يسقطان كلاهما في حفرة».

أية حفرة يارب؟… أية حفرة؟!… هـل هـى حفرة الفشـل؟ أم هـى حفرة الدمار؟ هل هي حفرة الهلاك؟ هل هي حفرة الخطيئة؟ أم هي حفرة ما بعد الموت؟ أم هي جهنم؟ في الـعـالـم السـفـلى حيث الـدود لا يمـوت والنـار لا تنـطـفـىء (متـ3: 12، (مر9: 43، 44)، (لو3: 17).

أعمى يقود أعمى، أما يسقطان كلاهما في حفرة؟.

أيها الأعمى ليتك تدرك حقيقة أمرك… ليتك تعرف من أنت… ليتك تشعر بما أنت فيه… ليتك تدرك نفسك… وقبل أن تدعى لنفسك أنك تستطيع أن تعلم غيرك أو تحكم على غيرك، أو تدين غيرك من الناس… ليتك تعرف من أنت… وتعرف مكانك وموقعك من الفضيلة، ومن التعليم. ليس التعليم كلاماً يرسل سهلا… إنما التعليم مثال يقدم، وقدوة ترسم أمام الناس ليتبعوها…

أيها الغبي، ادخل إلى أعماق نفسك، وادرس عيوبك وأخطاءك، وادرس تصرفاتك في كل مساء، وقبل أن تنام، راجع حسابك… واسأل ذاتك عما صنعت في هذا اليوم. فيم أصبت، وفيم أخطأت؟ ولماذا أخطأت؟ راجع حسابك في نهاية اليوم حينما تلجأ إلى مخدعك. اغلق أبواب الحواس جميعاً في هذا السكون… راجع تصرفاتك. راقب نفسك مراقبة دقيقة، حاسبها حساباً دقيقاً قبل أن تحاسب في اليوم الأخير، الذي لا تستطيع أن تصحح فيه حسابك… ولا تهمل نفسك… ولا تتملق نفسك… ولا تهادن نفسك… ولا تدفع عن نفسـك… إنمـا احـكـم على نفسك… «لأنه لو حاسبنا أنفسنا لمـا حـكـم علينا» (۱كو11: 31).. إنك أنت هو أول من يستطيع أن يحكم على نفسه… وحكمك على نفسك إذا كنت أميناً يكون أصدق من حكم الآخرين عليك، لأنك أنت تستطيع أن تدخل إلى أعماق نفسك، وتعرف من أنت، وتعرف دوافعك، وتعرف بواعث الأفعال… وكما يقول يشوع ابن سيراخ «لأن نفـس الرجـل قـد تخبر بالحق أكثر من سبعة رقباء يرقبون من موضع عال» (يشوع بن سيراخ37: 18) … امتحن نفسك… راقب نفسك… احكم على نفسك… راجع في كل يوم تصرفاتك… فحينئذ تعرف نقط الضعف، وتعرف نقط القوة… ويمكنك بفضل هذه المراقبة وهذه المحاسبة أن تبدأ بداية حسنة وبداية صحيحة، وأن تصحح من أخطاء الماضي بعد أن تكون قد عرفت أخطاءك على الحقيقة… وحينئذ تعرف على اليقين حكم الآخرين عليك ومدح الآخرين لك… هل هو مدح صادق… أم هو مدح كاذب… هل هو مداهنة… أم هو تملق… هل كانوا بالفعل صادقين… على أنه لن يكون أحد من الناس أصدق من ضميرك للحكم على شخصيتك… فالناس لا ينفعونك وقد لا يصدقونك، لأنهم في كثير من الأحيان يخافونك، ويخافون أن يقولوا لك رأيهم فيك لئلا تغضب…، ولئلا تنتقم…، ولئلا تحقد عليهم…، فأنت خير من يرى نفسه… وخير من يحكم على نفسه… وخير من يكون صادقاً. مع نفسه، إذا أردت.

إذا خلوت إلى نفسك خلوة روحية وأطفأت الأنوار، فحينئذ في الصمت وفي السكون، في . الصمت الرهيب وفي السكون العميق… يمكن أن تراجع نفسك… ويمكن أن تخرج من أعماقك ما هو مدفون فيها فحينئذ تعرف من أنت… وتعرف من أين تبدأ… وكيف تسير في طريق يؤدي بك إلى السلام وإلى الخير وإلى الفضيلة الحقة الصادقة.

ليس تلميذ أرفع من معلمه

ليس تلميذ أرفع (لو6: 40)، ولا أفضل، ولا أزيد، ولا أعلى. ولا أسمى من معلمه طالما أنه تلميذ، وطالما أن ذاك معلم، ولكن إذا نسي المعلم علاقته بالعلم، ونسى المعلم إنه هو أيضاً تلميذ لمستويات أعلى منه، أمكن للتلميذ يوماً أن يصل إلى معلمه. ولكن طالما كان التلميذ تلميذاً وكـان المعلـم معلماً، لا يمكـن في هـذه الحالـة أن يكون التلميذ أفضل من معلمه.

يقول الرب: «ولكن كل من صار كاملاً يصبح كمعلمه».

إذن الطريق مفتوح أمام التلميذ ليرتفع شيئاً فشيئاً في طريق الكمال وفي طريق المثل الأعلى… الطريق مفتوح إلى ما لا نهاية… «كونوا إذن كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات کامل» (متی ٥: ٤٨). مثلكم الأعلى في الكمال هو أبوكم السماوي… فيظل التلميذ يرقى في درجات المعرفة والفضيلة لأن مثله الأعلى مثل لا نهائي. هذا الطراز من التلاميذ الذي ينشد الكمال يظل دائماً تلميذاً ولا يسرع الخطى ليصير معلماً لغيره… يمكن أن يصبح يوماً كمعلمه… هذه التلمذة الطويلة هي التي تبلغ بهذا التلميذ إلى مستوى الكمال وتبلغ به إلى أن يصير كمعلمه أو مثل معلمه.

فإذا كان المعلم الأعظم هو المسيح، فمن منا يبلغ إلى هذا المعلم؟ لذلك قال رب المجد: «كمعلمه» أو «مثل معلمه» لذلك لن يصبح الإنسان أو التلميذ في درجة معلمه، حاشا! وإنما «مثل» معلمه أي على نظير معلمه… وبعبارة أخرى: تصير هناك أوجه شبه بينه وبين معلمه، ثم يزداد التشابه والتماثل بينه وبين معلمه، ومع ذلك يظل الفرق كبيراً بين التلميذ في أعلى درجاته، وبين المعلم الأعظم الذي جعل مثلنا الأعظم فيه «كونوا إذن كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات كامل» وكأن الرب يسوع يقول لتلاميذه، أنتم تلاميذي، أنتم أيها الإثنا عشر تلاميذي، وليس للتلميذ أن يكـون أرفـع من معلمه. ولكن يا أولادي أريكم طريقاً صاعداً… طريقاً مفتوحاً… يبلغ بكم إلى الكمال …أشجعكم على أن تسيروا في الطريق… ولا تتوقفوا عن طلب الكمال… لأن الكمال مطلب صعب… إذا بلغتم فيه مرحلة اشتقتم إلى مرحلة أبعد… فالطريق مفتوح أمامكم… فتشجعوا يا أولادي حتى تطلبوا الكمال في كل شيء. وإذا بلغتم إلى مرحلة اطلبوا التي بعدها… إذا حصلتم على نهاية مرحلـة اطلبـوا ما بعدها… ولابد أن تنالوا… «اطلبوا تعطوا، ابحثوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم» (مت7: 7). ليس الباب مغلقاً أمامكم… إنه مفتوح… اطلبوا الكمال إلى أبعد مدى… واجعلوا مثلكم الأعلى في الرب نفسه… إنه معلمكم الأعظم… المعلم بالألف واللام… الذي سيظل إلى الأبد هو معلمكم.

لماذا تنظر إلى القذي الذي في عين أخيك؟:

أيها الأعمى الذي لم تعرف نفسك، أريك كيف صنع العمى بعينيك الداخليتين… أريك كيف بلغ بك العمى… أتعرف لماذا تنظر إلى القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك أنت فلا تفطن لها؟ (لو6: 41) (انظر أيضاً مت7: 3). لماذا لا تنظر إلى الخشبة التي في عينك، بينما تنظر إلى القذى… إلى القشة الصغيرة الرفيعة التي لا تكاد أن ترى… لكن العين تحس بها لأنها تتأذى بها… وأما الخشبة الطويلة الكبيرة التي في عينك أنت فلا تفطن لها؟! كيف انقلبت المعايير أيها الإنسان في نظرك؟ فصار ليس لك مقياس ولا محك تميز به بين الخير والشر، بين الحق والباطل…؟ هذا هو عمي البصيرة… تفتش بالميكروسكوب عن أخطاء الآخرين، أما أخطاؤك أنت فأنت لا تراها… أنت تبررها… وتشرحها… وتدافع عنها… مظهراً نفسك أنك بطل وقديس وعظيم!.

أراك تصور الأخطاء التي أنت صنعتها على أنها أمور تستحق أن تمدح عليها… أراك تتملق ذاتك… وتحكم برفق على نفسك… بينما تحكم بقسوة على الآخرين… آه لو عرف الإنسان أن يكون منصفاً، منصفاً فقط، لو عرف أن يضع نفسه في موضع الآخرين، وعرف أن يكون عطوفاً على الآخرين…؟ أحياناً يرى الإنسان غيره يخطأ، فيقول: كيف هذا؟ كيف يخطأ هذا الرجل؟ إنه رجل كبير، كيف يحدث منه هذا العمل؟… إنه رجل معروف ومشهور، كيف يصنع هذا الفعل؟… هنا يبدأ وبإعجاب بنفسه، يقول: لو كنت مكانه لما وقعت في هذا الخطأ… فأنا أفضل منه… وهنا ينتقل من الإعجاب بنفسه إلى إحتقار لغيره… لقد سقط في هذا الضعف بطرس الرسول بحماسة بالغة. كان يقول لمخلصه ومعلمه «إن شك فيك الجميع فلن أشك أنا أبدأ، ولما قال الرب له: «إنك في هذه الليلة قبل أن يصيح الديك ستنكرني ثلاث مرات»، قال له بطرس «إننى ولو اضطررت أن أموت معك لن أنكرك» (مت26: 31-35)… وكانت بعد ذلك النتيجة المرعبة، إن هذا الذي زعم لنفسه إنه لن يشك أبدأ… وإنه الوحيد دون جميع التلاميذ الذي سيبقى مخلصاً وفياً لمعلمه… كانت النتيجة الأليمة أنه كان هو الذي أنكر سيده ولعن سيده، وحلف أنه لا يعرفه، وأصر على الإنكار ثلاث مرات كبيرة (مت26: 69- 75). ينطوي تحتها مرات أخرى صغيرة… ظل بطرس فترة طويلة في مرحلة الإنكار… هـذا الذي قال عن نفسه «إن شك فيك الجميع فلن أشك أنا أبدأ، ولذلك فإنه بعد قيامة المسيح له المجد، قال الرب له «يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر مما يحبني هؤلاء؟» فخجل بطرس، وقـال لـه «نعـــم يارب، أنت تعلـم أني أحبك» لكنه لم يستطع أن يقول أني أحبك أكثر مما يحبك هؤلاء، لأن الـواقـع المـرير أثبت له في أيـة حـفـرة قـد تـردى. قـال لـه الرب ثانيـة «يا سـمـعـان بـن يـونـا، أتحبني؟»… أنت قلت «إن شك فيك الجميع فلن أشك أنا أبداً»… وكأنه يقول له: يا سمعان بن يونا، أتحبني أكثر مما يحبني هؤلاء؟ فقال له «نعم يارب، أنت تعلم أني أحبك». قال له ثالثة: يا سمعان بن يونا، أتحبني… سأله الرب مرة ثالثة بنفس النغم المؤلم وهو يذكره بوعده الذي لم يف به… وكيف ميز نفسه عن غيره… وكيف ادعى لنفسه أنه في مرحلة أعلى من غيره… وأنه «إن شك فيك الجميع فلن أشك أنا أبدأ»… قال له ثالثة: يا سمعان ابن يونا، أتحبني أكثر مما يحبني هؤلاء؟ فكانت المرات الثلاث التي ردد فيها المسيح له المجد هذا السؤال بعينه، وبنفس النغم، على مار بطرس كأنه يذكره بالمرات الثلاث التي أنكر فيها بطرس معلمه، والتي فيها تردي في حفرة كأعمى… حفرة الشك… وحفرة الخطيئة… حفرة العار… أن ينكر معلمه… ويحلف إنه لا يعرفه… ويلعن معلمه… يقول الإنجيل: «فحزن بطرس لأنه قال له ثالثة: أتحبني… فقال له يارب: أنت تعلم كل شيء، أنت تعلم أني أحبك» (يو21: 15- 17).

ولماذا تنظر إلى القذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك أنت فلا تفطن لها (لو6: 41، 42)

لماذا تنظر إلى القذى الذي في عين أخيك وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. وكيف تقدر أن تقول لأخيك دعني يا أخي أخرج القذي في عينيك في حين أنك أنت نفسك لا ترى الخشبة التي في عينك أنت. يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك أنت، وعندئذ تبصر جيداً لتخرج القذي الذي في عين أخيك» (مت7: 3 – 5).

قبل أن تنظر إلى القذى في عين أخيك أخرج أولاً الخشبة من عينك حتى تصبح عينك صافية، وبالتالي قادرة على أن تنظر نظرة صحيحة إلى الأمور، وبها يمكن أن تميز، وأن ترى القذى الذي في عين أخيك، وتتبين أنها قذى بالنسبة إلى الخشبة التي في عينك وتضع الأمور في موضعها الصحيح بلا مبالغة. أما في أول الأمر فتقول في نفسك: ليس هذا قذى الذي في عين أخي ولكنه خشبة كبيرة… أخرج أولا الخشبة من عينك، وحينئذ تصير عينك قادرة أن ترى جيداً وبأمانة وصدق أن الذي في عين أخيك ليس خشبة إنما هو قذى. وأما الخشبة فهي في عينك أنت… كانت الخشبة في عينك أولاً ولما أخرجتها صرت قادراً على أن تقدر ظروف الآخرين. إذا رأى الإنسان منا أخاه يخطىء، فبدلا من أن يزدريه ويقول كيف يخطىء فـلان… لماذا لا يقول الواحد منا لنفسـه: أنا لا أعـرف ظـروف أخـي، ولا أعرف الأحوال التي أحاطت به، فلربما تكون له وجهة نظر أنا لا أعرفها أو لعل ظروفاً قاسية أحاطت به جعلته يضعف، فأنا لا أقسو عليه في ضعفه، وإنما أنظر إليه كمريض، أو كإنسان سقط في ضعف أنا قد أسقط فيه شخصياً؟! من يدري ربما أن خطأ أخي يرجع إلى أحد من حوله،… ربما سرق أخي من أجل سبب أ أنا لا أعرفه،… ربما وقع أخى في خطأ لسبب أنا لا أعلمه. وإذا عرفت أنا السبب لانتحلت له العذر… لو عامل الواحد منا الآخرين بهذه الرحمة وبهذه الشفقة… لو أنه نظر إلى الخطاة الآخرين هذه النظرة، نظرة المعلم الكبير نظرة الطبيب الحاني الذي قال عن الخطاة: «لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى» (مت9: 12 ، مر2: 17، لو5: 31). «لأني ما جئت لأدعو أبراراً بل خطاة إلى التوبة» (متی 9: ۱۳، مر2: 17). ، فإن هذه النظرة الحانية نظرة الإشـفـاق التي لمعلمـنـا ولسـيدنا، الذي لـم يأت ليـدين الناس بل ليخلص الناس (يوحنا 3: ۱۷). هی النظرة التي يجب أن تكون لي أنا الذي أزعم لنفسي أنني تلميذ لمعلمي، وأنني أتبع هذا المعلم، وأحمل اسمه على، وأسمى مسيحيا أحمل مباديء سیدی، وأحمل نظـرة سيدي. هـذه هي النظـرة الرحيمـة التي يجب أن أتطلع بها إلى الآخرين، لا لكي أستبيح بها الشر أو أستمرئه، حاشا، وإنما لأنصف بها الآخرين… فمن أقامك يا هذا على الناس قاضياً؟ قارن (لو12: 14). «من أنت حتى تدين عبد غيرك؟ إنه لمولاه يثبت أو يسقط» (رو14: 4). … من أنت حتى تدين عبد غيرك؟ لو كنت قاضياً لجاز لك كقاضي أن تدين المجرمين… لو كنت معلماً لجاز لك كمعلم أن تدين تلاميذك… لو كنت أباً لوجب عليك كأب أن تدين أولادك… لو كنت رئيساً لكان من اللائق بك كرئيس أن تدين المرؤسين إذا أخطأوا… ولكن لا تكن قاسياً، ولا تكن في أحكامك شديداً وظالماً… أنت لا ترضى أن يظلمك أحد، فلماذا ترضى أن تظلم غيرك؟!.

أخرج أولا الخشبة من عينك

یا مرائي، أخرج أولا الخشبة من عينك أنت، وعندئذ تبصر جيدا لتخرج القذى من عين أخيك (لوقا 6: 42 ، انظر أيضاً مت7: 5).

أخرج أولاً الخشبة من عينك وحينئذ تبصر جيداً أن ترى أن الذي في عين أخيك هو قذى. وعند ذاك يمكنك أن تخرج هذا القذى من عين أخيك… وليس من الفطنة أن تخرج القذى من عين أخيك لكي تتشفى في أخيك، أو أن تظهر عيوب أخيك وأن تعلن أخطاءه، وتفضح أعماله… لا …إن كنت خادماً لسيدك… إن كنت تلميذاً لمعلمك فانظر إلى أخيك نظرة الطبيب الذي يطلب شفاء المريض الذي لا يتشفى ولا يفضح، وإنما يطلب شفاء المريض بهذه النظرة الحانية العطوفة الودودة الخيرة… انظر إلى غيرك من أجل أن تكسب هذا الغير … من أجل أن تضمه إلى حظيرة الخلاص لأنك أنت كتلميذ لمعلمك تعمل مع سيدك ومعلمك… في نشر الخير وفي إشاعة الفضيلة بين الناس… وفى نشر ملكوت الله… فأنت تريد أن تكسب هذا الأخ الذي في عينه القذى لتعينه على أن يخرج القذى من عينه… فأنت وهو تكونان معاً لملكوت الله… وبهذا الأسلوب تكون قد كسبت عضواً جديداً ضم إلى ملكوت سيدك، وتكون خير إنسان يعمل في ملكوت معلمه…! ولماذا تدعونني يارب، يارب، ولا تعملون بما أقول (لو6: 46 قارن مت7: 21).

اسمعوا يا أولادي، هكذا يقول الرب، «لماذا تدعونني يارب يارب، وأنتم لا تفعلون ما أقوله لكم؟». «أحقاً أنتم أولادى؟ فلمـاذا لا تطيعونني؟ وكيف تدعون إنكم أولادي «الابن يكرم أباه والعبد يكرم سيده» فإن كنت أنا أباً فأين كرامتي، وإن كنت سيداً فأين مهابتی (مل1: 6). لماذا تقولون لي يارب يارب؟ أتخدعونني؟! لا، أنا لا يضحك على. إن عـينـي تـخـتـرقان أسـتار الظـلام «أنـا هـو فـاحـص الـكـلي والقلـوب» (رؤ2: 23 ، مز7: 9، إر11: 20 ، إر17: 10). لأعرف محتوياتها… فلا تخدعني يا ولدي ولا تظن إنك مخبـوء عنـي… أنـا أعـرفـك قبل أن تولد… قبل أن أصـورك في بطـن أمك عرفتك (إر1: 5) … أنا أعلم جلوسك وقيامك، أفطن لأفكارك من بعيد… وأعرف جميع طرقك… ليس كلمة في لسانك إلا وأنا أعرفها… من وراء ومن قدام أحطت بك، وجعلت يدى عليك… أين تذهب من روحي… و وإلى أين تفر من وجهي… عظامك لا تخفى عنی (مز138: 1 – 6). «فلماذا تدعونني يارب يارب، وأنتم لا تفعلون ما أقول». لا تظنوا أنكم بالكلام تدخلون ملكوت الله «ليس كل من يقول لي يارب يارب يدخل ملكوت السماوات، بـل ذلك الذي يعمل إرادة أبي الذي في السماوات» (مت7: 21). إن المحك الحقيقي على أنكم لى هو أن تعملوا إرادتي. أما إنكم تطيعون بالكلام فقط، فهذا كلام منبوذ لا أقبله، «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم يارب يارب ألم نكن نتنبأ باسمك، وباسمك صنعنا معجزات كثيرة، فعند ذاك أعلن لهم: إنى ما عرفتكم قط. اذهبوا عنى يا فاعلى الإثم» (مت7: 22، 23). 

ألهذه الدرجة يكون تنكر المسيح الرب حتى للذين ينادون باسمه؟! يقول الرب: من أنتم؟ إني لا أعرفكم. كيف هذا يارب؟ وعظنا باسمك، وعلمنا الآخرين باسمك، وأخرجنا شياطين باسمك، وصنعنا قوات ومعجزات كثيرة باسمك، كيف بعد هذا تقول لنا: اذهبوا عنى لا أعرفكم؟! . يجيب الرب قائلاً: إذا قلت إني لا أعرفكم، فمعناها إننى أنكر معرفتی بكم، ولا أعترف بأن لى علاقة بكم، وإن لكم علاقة بي. إن علاقتكم بي تسيء إلى، وتسيء إلى اسمى، وتسيء إلى صفات الخير التي أنا متصف بها. من أنتم؟ لا أعرفكم…

من أنتم؟ لا أعرفكم!

يا لقسوة هذا التقرير ومرارته! حتى الذين تعبوا، والذين حفيت أقدامهم في سبيل الخير، سيسمعون من الرب هذا الحكم الأليم: إني لا أعرفكم…

أيها العاملون في بيت الله، اذكروا الذين بنوا فلك نوح، وكانت أصوات مطارقهم على الخشب عالية… أنهم صنعوا فلك نوح، ولكنهم لم يدخلوه (تك6: 18) … غرقوا في المياه… وضاعوا وهلكوا… وذهبوا …. وذهبت معهم أتعابهم… وذهبت أعمالهم… وضاعوا وتحولوا إلى عفونة… أكل منها الغراب الذي أرسله نوح من فلكه (تك8: 7).

احترسوا يا أولادي من أن تكونوا كأولئك الذين بنوا فلك نوح ولم يخلصوا… ليس الخلاص أن تصيحوا باسم المسيح… ولا أن تقولوا إننا مسيحيون… إن الخلاص هو أولا أن تثبتوا عملياً إنكم للمسيح… «ليس كل من يقول لى يارب يارب يدخل ملكوت السماوات، بل ذلك الذي يعمل إرادة أبي الذي في السماوات» هو الذي يدخل ملكوت السماوات.

كل من يأتى إلى ويسمع كلامي ويعمل به أريكم من يشبه

إنه يشبه رجلاً بني بيتاً فحفر وعمق الحفر ووضع الأساس على الصخر حتى إذا انهمر السيل، لطم النهر ذلك البيت بعنف فلم يستطع أن يزعزعه، لأنه كان مؤسساً على الصخر. وأما الذي يسمع كلامي ولا يعمل به فيشبه رجلاً بني بيتاً على الرمل بغير أساس، فلطمه النهر بعنف فسقط على الفور، وكان خراب ذلك البيت عظيماً.

يا للكارثة العظيمة. لقد أقام هذا الرجل بيتاً عالياً، ورأى الناس البيت عالياً ولم يعلموا إنه على غير أساس، وإنه قائم على الرمل، ولفت نظرهم علوه وارتفاعه، ولربما أذهلهم جماله من الخارج، ولكنهم بقدر ما بهتوا لعلوه وارتفاعه بقدر ما صعقوا لسقوطه، عندما هبت عليه الرياح وسقطت عليه الأمطار وصدمته، فسقط وكان سقوطه عظيماً. نعم بقدر علوه وارتفاعه كان دوى سقوطه شديداً ورهيباً. ولماذا سقط؟ لأنه كان قائماً على الرمل، ولا أساس له.

يا أولادي، هذا هو حال الذين يسمعون كلامي ولا يعملون به «فليس الذين يسمعون الشريعة هم الأبرار عند الله، بل العاملون بالشريعة هم الذين ينالون البر» (رو2: 13).

أتظنـون أن الإيمـان يكفي للخلاص؟ حاشا! يقول مـار يعقوب الرسـول «ما المنفعة يا إخوتي إذا قال أحد أن له إيماناً من غير أعمال؟ أبوسع الإيمان أن يخلصه؟… الإيمان إن كان بغير أعمال فهو ميت في ذاته. وقد يقول قائل أنت لك الإيمان وأنا لي الأعمال، فأرني . إيمانك من غير أعمال، أما أنا فأريك بأعمالي إيماني(يع2: 14- 26). فالأعمال الصالحة هی البرهان الحق على صدق الإيمان. هي المحك الحقيقي لامتحان حقيقة الإيمان. 

الأعمال الصالحة في المسيح هي التي تبرر الإنسان وليس مجرد الإيمان. الأعمال الصالحة هی برهان طاعتنا لسيدنا ومحبتنا له. ومن دون الأعمال الصالحة نسيء لمسيحنا، ونسيء إلى ديانتنا، ويجدف على الله بسببنا… «وبهذا يعرف الجميع إنكم تلاميذى إذا كنتم تحبون بعضكم بعضاً» (يو13: 35). «يا أولادي، لا تكن محبتنا بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق وبذلك نعرف إننا من الحق»(1يو3: 18، 19). وبهذا تزينون تعاليم مخلصكم (تي2: 10)، وتبرهنون على أن هذه التعاليم سليمة وصادقة وكاملة.

يا أولادي، ضعوا أنفسكم أمام هذا الامتحان، راقبوا ذواتكم، امتحنوا أنفسكم: هل أنتم على الإيمان، اختبروا أنفسكم؟ (2كو13: 5). وبرهان صدق إيمانكم هو سيرتكم وسلوككم، وأعمالكم لا كلماتكم.

صلوا إذن أيها الأخوة والأبناء، واطلبوا من الله القوة والنعمة لكي تتغير سيرتنا وحياتنا وتتصحح أفكارنا.

ولننتهز فرصة الصوم الكبير المقدس لمراجعة الحساب، وفحص الضمير، ومراقبة الذات، وامتحان النفس. ولنسلك أمام إلهنا بتقوى وبفضيلة.

فإذا وقفتم في القداس فاطلبوا رحمة الله عليكم، واطلبوا رحمة الله على البشرية كلها، واطلبوا خلاص الله في الشعوب، ولنجدد عهودنا معه، ولنتقدم إلى المائدة الربانية، والوليمة السمائية التي أعدها الله لخلاصنا باستحقاق.

وليحفظ الرب حياتكم جميعاً، وليبارككم جميعاً بكل بركة روحية. وإنى أشكر الله لأننى رأيت هذه الكنيسة المقدسة قائمة بعد أن افتتحها قداسة البابا ووضع حجر الأساس فيها وأراكم وأرى هذا الشعب المبارك للمرة الثانية. فليبارك الله شعبه وخدام كنيسته إلى الأبد. له الكرامة وله السجود إلى الأبد. آمين.

زر الذهاب إلى الأعلى