كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

الامتحان والتزكية

“اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا
تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ،     
عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ      
يُنْشِئُ صَبْرًا.”ا (يع
1: 2، 3).


في رسالة القديس بطرس الرسول الأولى، يناشد الرسول المؤمنين المتغربين في مدن ومقاطعات آسيا الصغرى أن يثبتوا في التجارب والضيقات التي تأتي عليهم، غير متخلين عن فرحهم وبهجتهم بالرب، ناظرين إلى الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل المحفوظ لهم في السموات. وبالرغم من أن إيمانهم سوف يجوز الامتحان – وأي امتحان – امتحان بالنار، إلا أن تزكية هذا الإيمان سوف تؤول إلى المدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيح. وسبب الثقة التي يتكلم بها الرسول نابعة من إيمانه أنهم: “بقوة الله محروسون، بإيمان، لخلاص مستعد أن يعلن في الزمان الأخير” (1بط 1-8) فما هو قصد الرسول من هذه الكلمات: “التجربة، والامتحان، والتزكية”؟ وهل هناك فرق بين التجربة والامتحان؟

يوجد فعلان في العهد الجديد بلغته اليونانية يعطيان معنى: “يمتحن أو يختبر أو يجرب”، وينبغي التمييز بينهما لأنهما يشيران إلى نوعين مختلفين من الامتحان:
الفعل الأول:  (دوكيمازو):
ورد هذا الفعل ٢٣ مرة في العهد الجديد، ترجم فيها إلى: “يمتحن، يختبر، يميز، يستحسن”. أما مشتقات هذا الفعل من الصفات والأسماء فقد وردت ١٥ مرة ترجمت فيها إلى: “تزكية، اختبار، برهان، امتحان”.
ومن المفيد الرجوع إلى استعمالات هذا الفعل في النصوص اليونانية الكلاسيكية، وفي العهد القديم في ترجمته اليونانية المعروفة بالسبعينية لتكوين معنى دقيق له.

في مخطوط يرجع تاريخه إلى عام ١٤٠ قبل الميلاد، يرد احتجاج على اعفاء بعض الأطباء الذين “نجحوا في الامتحان” من تأدية الخدمة العسكرية”. وعبارة “نجحوا في الامتحان” هي ترجمة للفعل دوكيمازو. من هذا النص يتضح لنا معنى هذا الفعل، فهو يشير إلى عملية امتحان أو اختبار لشخص ما أو لشيء ما من أجل قبوله أو التصديق على صلاحيته. فهؤلاء الأطباء قد جازوا الامتحان فتأهلوا للحصول عل شهادة ممارسة المهنة.

نفس هذا الفعل يرد في العهد القديم في سفر أيوب: “لأن الاذن تمتحن الأقوال، كما أن الحنك يذوك طعاماً” (أي34: 3)، بمعنى أن الاذن تميز معنى الكلمات ومدى صدقها. ويصف إرميا النبي الله أنه: “مختبر الصديق، ناظر الكلى والقلب» (إر20: 12)، والله لا يختبر الصديق الا لكي يزكيه.

وترد الصفة من هذا الفعل عدة مرات في العهد القديم لتعطي معنى النجاح والاستحسان بعد اجتياز الاختبار، لذلك فهي تستعمل عادة لاختبار المعادن والنقود للتأكد من عدم زيفها:

+«فسمع إبراهيم لعفرون، ووزن إبراهيم لعفرون الفضة التي ذكرها في مسامع بني حث. أربع مئة شاقل فضة جائزة عند التجار” (تك 23: 16).

+ «ولمذبح البخور ذهباً مصفى بالوزن، وذهبا لمثال مركبة الكروبيم الباسطة أجنحتها المظللة تابوت عهد الرب» (1 أخ 28: 18).

+ «وعمل الملك كرسياً عظيماً من عاج وغشاه بذهب خالص» ( أي 2 أخ 9: 17).

+ ” كلام الرب كلام نقي، كفضة مصفاة في بوطة في الأرض، ممحوصة سبع مرات» (مز 6:12).


الفعل الثاني: (بيرازو):
وقد ورد هذا الفعل في العهد الجديد ٣٨ مرة، ترجم فيها إلى: “يجرب، يمتحن، يحاول، يشرع”. وأما الاسم منه (بيرازموس) فقد ورد ٢١ مرة وترجم فيها إلى: “تجربة، امتحان”.

يحمل هذا الفعل أساساً معنى الاختبار أو الامتحان، ولكن بالمعنى العدائي أو السلبي. فقد ورد في كتابات المؤرخ هيرودوت بمعنى: “يفحص المدينة ليرى إمكانية فتحها والاستيلاء عليها”. كما ورد في كتابات المؤرخ بلوتارخ بمعنى: “يهيج الأصدقاء ضد قيصر”. وفي معناها الشائع فهي تستعمل في امتحان أو تجربة الأشخاص عندما يكون هناك نوع
من الشك أو عدم الثقة”، كما أنها تستعمل في امتحان الأشخاص وتجربتهم عمداً، وذلك بغرض اكتشاف النوايا الطيبة أو الشريرة، ولمعرفة نقاط الضعف والقوة فيهم.

يتضح هنا الفرق بين الكلمتين، فالكلمة الأولى تستعمل عادة لاختبار أو امتحان الشخص لإثبات أهليته وصلاحيته والتحقق من جاحه. أما الكلمة الثانية فتستعمل لامتحان الشخص وتجربته، إن لم يكن بغرض رسوبه في الامتحان، فعل الأقل بغرض اكتشاف نواحي الضعف أو القوة فيه.
الكلمة الأولى (دوكيمازو) تستعمل عادة لله، ولكنها لا تستعمل على الإطلاق للشيطان، فالشيطان لا يجرب أو يختبر الإنسان من أجل تزكيته أو استحسان عمله، بل من أجل إسقاطه والتحقق من فشله. أما الكلمة الثانية (بيرازو) فإنها تستعمل أحيانا لله، ولكن فقط بمعنى اختبار الله للإنسان لاكتشاف ما هو صالح أو رديء في الإنسان. وهذه الكلمة هي التي استعملت للشيطان في جميع المواقف التي جرب فيها الإنسان، أو عندما جرب الرب يسوع في تجربته على الجبل.
أحيانا تستخدم الترجمة العربية كلمة واحدة لترجمة هاتين الكلمتين، لذلك لزم التمييز بينهما لمعرفة المعنى الحقيقي للآية، وسنورد هنا بعض الأمثلة لتوضيح المعنى.
ففي انجيل القديس لوقا (١٩:١٤) يرد مثل الإنسان الذي صنع عشاء وأرسل لإحضار المدعوين. فبدأ المدعوون يستعفون، وقال أحدهم: «إني اشتريت خمسة أزواج بقر، وأنا ماض لأمتحنها». لم يذهب هذا الرجل ليمتحن الأبقار ليعرف نواحي الشر أو الخير فيها، أو أنه ذهب ليمتحنها لعلها ترسب في الامتحان. لكنه كان يقصد أنه ذهب للتأكد
من حسن البضاعة التي اشتراها. لذلك نجد الفعل المستخدم هنا هو دوكيمازو، وهذا المثل يوضح تماماً المعنى المقصود من الفعل دوكيمازو.

وفي إنجيل القديس يوحنا (٦:٦)، عندما رأى الرب يسوع أن جمعاً كثيراً مقبل إليه، طرح سؤاله على فيليس الرسول: “من أين نبتاع خبراً ليأكل هؤلاء؟». ثم يستكمل الإنجيل قوله: «وإنما قال هذا ليمتحنه». لم يمتحن الرب يسوع فيلبس لكي يستحسن إجابته أو يزكي كلامه، لأن إجابته أثبتت أن إيمانه كان ما زال قاصراً: “لا يكفيهم خبر بمئتي دينار لتأخذ كل واحد منهم شيئا يسيراً”؛ بل امتحنه ليعرف هل عنده إيمان أم لا، وليكتشف فيه مدى البصيرة التي نالها من طول عشرته للمعلم، وهل ما زالت نظرته أرضية أم أنه يؤمن بقدرة المسيح على إتيان المعجزة. لذلك نجد أن الفعل المستعمل هنا هو بيرازو.

ويصف بولس الرسول كيف سيُمتحن عمل المؤمنين بالنار في اليوم الأخير. فبعد أن شرح كيف أنه كبناء حكيم وضع الأساس – الذي هو يسوع المسيح – وأنه على كل إنسان أن يبني عل هذا الأساس، أوضح أنه أمام كرسي المسيح ستستعلن النار عمل المؤمنين: «وستمتحن النار عمل كل واحد ما هو» (١ كو ١٣:٣). امتحان النار للعمل المبني والمؤسس على يسوع المسيح ليس امتحاناً من أجل رسوب المؤمن أو التحقق من فشله، بل لتزكيته وقبوله في عين الله: “نعما ايها العبد الصالح والأمين … أدخل إلى فرح سيدك» (مت ٢١:٢٥). فطالما أن هذه الأعمال هي بالروح القدس معمولة، فإن امتحانها بالنار تزكي صاحبها أمام كرسي المسيح. لذلك يستخدم الرسول هنا الفعل “دوكيمازو” وليس “بيرازو”.
وعندما يقدم بولس الرسول التصح لمؤمني كنيسة تسالونيي قائلاً: «امتحنوا كل شيء. تمسكوا بالحسن» (1تس ٢١:٥)، فهل يقصد الرسول هنا أنه على المسيحي أن يجرب كل شيء ويتمسك بما يراه حسنا؟ فهل نجرب الشرور والخطايا والتعديات لنعرف أنها غير صالحة، فنبتعد عنها؟ بمعنى هل نمتحنها لتعرف ما بها من خير أو شر؟ الرسول لم يستعمل هنا الفعل بيرازو، بل استعمل الفعل دوكيمازو، الذي معناه الأساسي امتحان
الشيء لتزكيته، وبالتالي استحسانه والتمسك به، أي امتحان أو اختبار كل الأشياء الصالحة والمفيدة، وتزكيتها لاختيارها والتمسك بها. وهو نفس المعنى الذي أورده بولس الرسول في الآية: «طوبى لمن لا يدين نفسه في ما يستحسنه» (رو 22:14)، أي فيما يختبره ويمتحنه فيتزكي أمامه وأمام الله ويرضى عنه ضميره. فالكلمة “يستحسن” هنا هي ترجمة للفعل دوكيمازو.

ومما يزيد معنى الفعل دوكيمازو وضوحاً استخدام بولس الرسول له مرتين في آية واحدة: “بل كما استُحسنَّا من الله أن نؤتمن على الإنجيل، هكذا نتكلم، لا كأننا نرضي الناس بل الله الذي يختبر قلوبنا” (1تس 2: 4). فالله اختبر أو امتحن قلب بولس، فتز;ى أمامه، فاستأمنه على الكرازة بالإنجيل. ولم يكن قصد الله من امتحان بولس معرفة هل يصلح بولس للكرازة أم لا، وهل لديه الاستعداد لطاعة الإنجيل والخضوع لتوجيهات الله، أم أنه ما زال متمسكاً بفريسيته وعوائده القديمة، لأن الله سبق وشهد عن بولس أن: «هذا لي إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك وبني إسرائيل» (أع ١٥٠٩). لذلك كان بولس الرسول يفتخر أن الله الذي امتحنه هو الذي زكاه للرسولية: «بولس، رسول لا من الناس ولا بإنسان، بل بيسوع المسيح والله الآب» (غل١:١).
نجد عكس حالة بولس الرسول تماماً في بعض الأشخاص الذي ادعوا أنهم رسل وذهبوا للكرازة في كنيسة أفسس، فكان على أسقف هذه الكنيسة أن يمتحن أو يختبر أولئك الأشخاص ليتحقق من صدق رسوليتهم لكنهم للاسف رسبوا في الامتحان وتحقق كذبهم، لذلك مدح الله أسقف هذه الكنيسة وشهد له: «أنا عارف أعمالك وتعبك وصبرك، وأنك لا تقدر أن تحتمل الأشرار، وقد جربت القائلين إنهم رسل وليسوا رسلا، فوجدتهم كاذبين» (رؤ 2:2). وبالطبع فإن الفعل المستعمل هنا هو بيرازو، لأن المسألة لم تكن تزكية أشخاص، بل اختبار اناس مدعين، ويرتكن امتحانهم إلى عدم الثقة، ويحتاج الأمر إلى التحقق من صدقهم أو كذبهم.

نفس هذا الموقف السلبي نجده في تعامل بني إسرائيل مع الرب في البرية، ففي جميع تعاملاتهم معه، كانوا يحاولون أن يثبتوا فشل الله في التعامل معهم، وعدم إمكانيته في احتواء هذا الشعب وتحقيق رغباتهم.
لذلك صرح الرب قائلاً عنهم: «إن جميع الرجال الذين رأوا مجدي وآياتي التي عملتها في مصر وفي البرية، وجربوني الآن عشر مرات، ولم يسمعوا لقولي» (عد ١٤: ٣٣). طبعا الفعل المستعمل هنا هو (بيرازو)، لأنهم جربوا الله ورفضوا مشورته من جهتهم.

والآن نعود إلى رسالة القديس بطرس الرسول. يقول الرسول: “… الذي به تبتهجون، مع أنكم الآن – إن كان يجب – تحزنون يسيراً بتجارب (بيرازموس) متنوعة، لي تكون تزكية (دوكيمون) إيمانكم، وهي اثمن من الدهب الفاني، مع أنه يمتحن (دوكيمازو) بالنار، تُوجد للمدح والكرامة والمجد عند استعلان يسوع المسيج» (١ بط ٦:١و٧).

هنا التجارب التي يتكلم عنها الرسول تأتي عل المؤمنين لتمتحنهم وتبلوهم لتعرف ما بهم من خير ومن شر. وهذه التجارب عادة ما يسوقها علينا المجرب، لذلك يقول لهم الرسول إنها تسبب لهم بعض الحزن المؤقت: «إن كان يجب – تحزنون يسيرا». وهذه التجارب هي التي أوصانا الرب يسوع أن نسهر ونصلي حتى لا ندخل فيها: “ولكن الله أمين، الذي لا يدعنا نجرب فوق ما نستطيع، بل يجعل مع التجربة أيضا المنفذ، حتى نستطيع أن نحتمل” (١ كو ١٣:١٠).

أما امتحان الإيمان هنا فهو امتحان بالنار، وهو ليس لفشل المؤمنين، بل لتنقية إيمانهم وتزكيته كما تنقي النار الذهب وتصفيه. لذلك يقول بطرس الرسول إن الإيمان يُمتحن (دوكيمازو)، لكنه يتزكى (دوكيمون) فيؤول إلى مدح المؤمنين وكرامتهم ومجدهم عند استعلان يسوع المسيح.

الكرازة كتب أنبا إبيفانيوس سفير يسوع المسيح  
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى