كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

السيدة المختارة

تتميز رسائل العهد الجديد، وخاصة رسائل بولس الرسول، أنها تبداً أولاً بتعريف الكاتب بنفسه ثم تذكر أسماء المرسّل إليهم، وهو نفس الأسلوب الذي كانت تتبعه أغلبية الرسائل اليونانية القديمة. أما رسالتا يوحنا الثانية والثالثة فيشذان عن هذه القاعدة، فهما يذكران لقب الراسل (الشيخ) دون أن يذكرا اسمه. وإن كانت رسالة يوحنا الثالثة تذكر اسم المرسّل إليه وهو غايس الحبيب (3يو1)،‏ فإن الرسالة الثانية تختلف أيضاً في شيء آخر، إذ أنها لا تذكر اسم المرسّل إليهم صراحة؛ بل تذكر اللقب فقط (السيدة المختارة). فمَنْ هي هذه السيدة المختارة؟

شغل موضوع السيدة المختارة وأولادها، الذين أرسل لهم القديس يوحنا رسالته، كثيراً من آباء ومفسري الكتاب المقدس منذ العصور المسيحية الأول. وابتداءً من العلأمة كليمندس الإسكندري في القرن الثالث الميلادي، فقد أكّد بعض المفسّرين القدامى أن السيدة المختارة كانت سيدة ذات نفوذ في كنيسة أفسس في أسيا الصغرى. بَيْدَ أن كثيراً من المفسرين في العصر الحديث يميلون إلى الاعتقاد أن عبارة السيدة المختارة ما هي إلا لقب توددي يُطري به الشيخ جماعة من المؤمنين كانت مقيمة في نواحي أسيا الصغرى.

ويرجع سبب تباين الآراء بين الآباء والمفسرين حول شخصية السيدة المختارة إلى ما تحمله العبارة اليونانية  من عدة معان مختلفة. فالكلمة الأولى  تعني ”مختارة أو نبيلة أو شريفة” وهي تأت كصفة لأحد الأشخاص، كما يمكن إطلاقها كاسم
علم ”اكلكتي“ أي ”مختارة”. والكلمة الثانية تعني ”سيدة” وهي تأت أيضاً كصفة؛ ولكن يمكن أيضاً أن تأتي كاسم علم “كيريه”؛ وهكذا وردت في الترجمة البيروتية: ”آلشَّيْخْ إلى كِيريَة الْمختارَة”.

هناك خمسة آراء مختلفة اقترحها الشرّاح والمفسرون لتلك العبارة. يُنسب الرأي الأول للعلامة كليمندس الإسكندري، وقد وافقه بعض الشرّاح في ذلك الرأي، وهو أن السيدة المختارة هي شخصية حقيقية ذات نفوذ كانت تعيش في منطقة أسيا الصغرى، وقد ترجموا هذه العبارة إلى ”السيدة مختارة”. وكان يعتقد العلامة كليمندس أن رسالة يوحنا الثانية قد كُتبت إلى (سيدة بابلية تسمى مختارة ”اكلكتي” وأن هذه السيدة ترمز إلى اختيار الله للكنيسة المقدسة)”.

هناك بعض الاعتراضات على هذا الرأي، ففي نفس الرسالة يقول الرسول: «يُسَلّْم عَلَيْكِ أَوْلادُ أَخْتِكِ الْمُخْتَارَةِ (اكلكتي)» (2يو13). فلو كانت كلمة ”اكلكتي“ تأتي هنا كاسم علم كما يقترح العلامة كليمندس، لكان هناك أختان لهما نفس الاسم (مختارة)» وهذا يبدو بعيد الاحتمال.
وأيضاً لو كانت الرسالة مرسلة إلى ”السيدة مختارة” فإن قواعد اللغة اليونانية تقتضي ورود أداة التعريف ”أل“ قبل كلمة سيدة، وهذا غير موجود في الرسالة، إذ أن عبارة ”سيدة مختارة” تأت بدون أداة تعريف. لذلك يرجّح العلماء أن كلمة مختارة هنا هي صفة وليست اسماً.

الرأي الثاني، وهو أكثر احتمالاً من الرأي الأول، إذ يرى أن يوحنا ”الشيخ” كتب هذه الرسالة لامرأة مسيحية تدعى ”كيريه” أي ”سيدة”. وقد خاطبها بكل احترام ملقَّباً إياها بالنبيلة أو المختارة ”اكلكتي“. وهناك إثباتات كثيرة من الأدب اليوناني القديم لشيوع اسم “كيريه”“ أكثر من اسم ”اكلكتي“.

ويواجه هذا الرأي اعتراضُ أيضاً؛ وهو عدم وجود أداة التعريف قبل الاسم. بالإضافة إلى ذلك، ففي الكتابات المسيحية الأولى كان من المألوف ذكر الأسماء الشخصية مُعرّفة بأداة التعريف مع تمييزها بأحد الألقاب المسيحية مثل: “غايس الحبيب” (3يو1)» و”بَرسِيسَ المحبوبة”.(رو12:16)، “روفس المختار في الرب”(16 :13).

الرأي الثالث، يرى أن المرسل إليها شخصية معروفة ومتميزة كانت موجودة في إحدى الكنائس التي كان يرعاها يوحنا “الشيخ” وهو لم يُرِدْ أن يخاطبها باسمها بل اكتفى بأن يلقبها بلقب احترامي ”إلى السيدة النبيلة”. ويرى كثيرٌ من المفسرين أنه في حالة لوكان المرسل إليه شخصاً معيناً يكون هذا الرأي هو الأكثر قبولاً من الرأيين الأولين.

وهذا اللقب كان من الألقاب الشائعة في الكتابات القديمة عامة كما في المراسلات المسيحية. وعدم ذكر أداة التعريف قبل اللقب يدعم هذا الرأي وخاصة في حالة عدم ذكر اسم المرسل إليه. وقد حاول البعض تخمين مَنْ هي هذه الشخصية؛ فمنهم مَنْ قال إنها العذراء القديسة مريم خاصة أن الرب يسوع كان قد تركها في رعاية تلميذه يوحنا الحبيب (يو 19 :27)؛ كما أن التقليد يؤكد أنها عاشت بقية حياتها في أفسس؛ وهو المكان الذي كرز فيه القديس يوحنا. والبعض الآخر يرى أنها مرثا أخت مريم ولعازر، وخاصة أن اسمها يعني ”سيدة” في اللغة الأرامية. وبالطبع هذه محض افتراضات وليس هناك ما يسندها من التقليد أو من كتابات الآباء.

الرأي الرابع، يميل إلى جعل ”السيدة المختارة” شخصية عامة اعتبارية. فالبعض يرى أن هذا اللقب يشير إلى الكنيسة الجامعة (جميع المسيحيين في أنحاء الإمبراطورية الرومانية). ولكن ذكر السلام الذي يرسله إليها ”أولاد أختها المختارة” (آية13)‏ يجعل هذا الرأي غير مناسب. فذكر أختين في نفس الرسالة يرجح إما أنهما شخصيتين حقيقيتين، أو كنيستين تخضعان لرئاسة الرسول؛ وهما يرسلان التحيات لبعضهما البعض، أكثر من كونهما شخصية أو كنيسة محلية ترسل السلام للكنيسة الجامعة. وقد حاول البعض تعديل هذا الرأي واعتبر أن
رسالة يوحنا الثانية كانت رسالة دورية مرسلة لعدة كنائس، ولكن الرسالة لا تحتوي على ما يوحي أنها كانت رسالة دورية مرسلة لعدة تجمعات مسيحية.

أما الرأي الأخير، والذي يحبذه كثيرٌ من الشرّاح والمفسرين في العصر الحديث، فهو أن لقب ”السيدة المختارة” كان رمزاً لإحدى الكنائس المحلية، وأولادها هم أعضاء هذه الكنيسة، والقديس يوحنا ”الشيخ” هو الأب أو المسئول الروحي عن هذه الكنيسة. ولأن الرسول كان يكتب لكنيسة معينة فلم يكن هناك من داع لأن يذكر اسم الكنيسة. والذي يرجّح أن المقصود بكلمة كيريه الكنيسة وليست امرأة بهذا الاسم، أن الرسالة تبدأ أولاً في مخاطبة المرسل إليهم بأسلوب المخاطب المفرده ثم تنتقل إلى المخاطب الجمع ثم تعود للمخاطب المفرد مرة أخرى.

أما استعمال الرسول لاسم مؤنث (كيريه) ليشير به إلى الكنيسة، فهناك كثير من الشواهد الكتابية التى استعملت مثل هذه الألقاب المؤنثة والتي رمزت بها إلى شعب الله. فإسرائيل دُعِيّت عذراء: «ارجعي يا عذراء إسرائيل» (إر31 :21)» كما سميت: «ابنة صهيون» (إر 23:6)» وامرأة متزوجة:”كما يتزوج الشاب عذراء يتزوجك بنوك (إش 62: 5)، كما دُعِيّت أيضاً: ”أماً ولها بنون“ (إش ‎54: 1-3)‏ و”أرملة مات رجلها“ (إش 4:54). وفي الرسالة إلى أهل غلاطية، يرمز بولس الرسول إلى أورشليم السمائية وأورشليم الأرضية بسارة وهاجر (غل 4: 21-31). وفي سفر الرؤيا وصفت بابل عدوّة الكنيسة بامرأة زانية قد أفسدت الأرض، كما وُصِفّت الكنيسة بامرأة هيأت نفسها لعرس الخروف وأعطيت أن تلبس بَزا نقيآ؛ لأن البز هو تبررات القديسين (رؤ 18و19).‏

وقد برع القديس بولس الرسول في وصف شعب الله بعروس المسيح لكي يقرّب إلى أذهان المؤمنين طبيعة العلاقة بين النفس البشرية وبين المسيح والواجبات المطالبة بها العروس من نحو عريسها: «فَإِنِّي أَغَارُ عَلَيْكُمْ غَيْرَةَ اللهِ، لأَنِّي خَطَبْتُكُمْ لِرَجُل وَاحِدٍ، لأُقَدِّمَ عَذْرَاءَ عَفِيفَةً لِلْمَسِيحِ.»(2كو11: 2). كما أنه وصف اتحاد الرجل بالمرأة في سر الزيجة باتحاد المسيح بالكنيسة (أف5: 27-32). وربما كان القديس يوحنا أيضاً يشير إلى هذه المفاهيم في رسالته الثانية وخاصة أنه كرر مثل هذه الأوصاف عدة مرات في سفر الرؤيا (أف 12: 1-6 ، 19: 7، 21: 2).

كما أن لوصف القديس يوحنا الكنيسة بلقب “مختارة” يعتبر من الأوصاف الهامة التي وصف بها الرسل الكنيسة. فالقديس بطرس الرسول في بدء رسالته الأولى يتكلم عن المتغربين العائشين في الشتات هنا على الأرض، ولكنهم في الحقيقة ينتمون إلى ”الجماعة المختارة”: “الْمُخْتَارِينَ بِمُقْتَضَى عِلْمِ اللهِ الآبِ السَّابِقِ، فِي تَقْدِيسِ الرُّوحِ لِلطَّاعَةِ، وَرَشِّ دَمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ (1بط 1:1و2).‏ وفي هذه الآية تتلخص عقيدة الاختيار ودور الثالوث القدوس فيها. وواضح أن المقصود ”بعلم الله الآب السابق“ هو علم الله الأزلي، والمقصود من استخدام حرف الجر (في) في عبارة ”في تقديس الروح“ لكي تفيد التكريس الكامل لله بواسطة الروح، الذي هو واسطة الاختيار. والمقصود من قوله ”للطاعة” باستخدام حرف الجر فلكي يشرح لنا الغاية النهائية من التكريس وتحقيق عمل المسيح الذبائحي في حياة المؤمنين.

والقديس بطرس يختارآية هامة من العهد القديم ليطبقها على شعب العهد الجديد ليثبت أن العهود والوعود التي أعطيت لشعب إسرائيل قديماً قد وجدت تحقيقها وكمالها في الجماعة المسيحية: “وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ “(1بط 2:9).فإن كان المسيح ”حجر مختار من الله وكريم“ (ابط1:2)» (1بط 4:2). فمن خلاله يصبح المؤمنون هيكلاً وجنساً مختاراً.

وفي ختام هذه الرسالة يرسل القديس بطرس السلام لهؤلاء المختارين من ”المختارة” التي في بابل، وهو نفس اللقب الذي يستعمله القديس يوحنا الرسول. ويرى بعض المفسرين أن المقصود ببابل هنا مدينة روما كما يرى البعض الآخر أنها مدينة بابليون القديمة بمصر، وفي كلا الحالين يكون الرسول قد رمز إلى الكنيسة المحلية في تلك المدينة باسم مؤنث وهو ”المختارة”.

كما أن القديس بولس الرسول أيضاً يدعو المؤمنين مختارين:”مَنْ سَيَشْتَكِي عَلَى مُخْتَارِي اللهِ؟ اَللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ.” (رو8: 33). وهو أيضاً يرى أن اختيار المؤمنين لم يتم داخل الزمن، لأن الله “كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ (في المسيح) قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ، (أف1: 4).

واختيار الله لنا قبل تأسيس العالم راجع لسبق معرفة الله لنا: “لأَنَّ الَّذِينَ سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ لِيَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ، لِيَكُونَ هُوَ بِكْرًا بَيْنَ إِخْوَةٍ كَثِيرِينَ.” (رو 8: 29) لذلك عندما دعا يوحنا الرسول الكنيسة بلقب ”مختارة” فهو إنما كان ليؤكّد على أن الله هو الذي اختار لنفسه الكنيسة، وهو الذي عيّن المؤمنين ليكونوا أولاداً له مشابهين صورة ابنه في القداسة والحق. وليس يوحنا الرسول إلا أداة في يد الله. كما يقول بولس الرسول: «فَإِنَّنَا نَحْنُ عَامِلاَنِ مَعَ اللهِ، وَأَنْتُمْ فَلاَحَةُ اللهِ، بِنَاءُ اللهِ…(نحن) خَادِمَانِ آمَنْتُمْ بِوَاسِطَتِهِمَا، وَكَمَا أَعْطَى الرَّبُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ….» (1كو3: 9و5).

 

أما عن المكان الذي كُتبت فيه ”رسالة يوحنا الثانية”؛ فيرى التقليد الكنسي أنها صدرت من إحدى ضواحي أفسس؛ المكان التقليدي الذي كرز فيه القديس يوحنا الرسول. ويعتقد معظم العلماء أنه كانت هناك مجموعة من الكنائس داخل البيوت التي كانت تقام فيها الخدمة في مدينة أفسس والضواحي التي حواليها، والتي كانت تخضع للتوجيه الروحي للقديس يوحنا. و”السيدة المختارة” كانت إحدى هذه الكنائس، و”أولادها الذين كان يوحنا الرسول يحبهم بالحق“ هم أعضاء هذه الكنيسة؛ أما ”أختها المختارة” في الكنيسة التي كتب منها القديس يوحنا رسالته. وربما تكون رسالتا يوحنا الأولى والثانية قد كُتبتا لنفس الكنيسة (1يو18:2و2يو7»‏ كيولا)» أما الرسالة الثالثة فقد كُتبت إلى غايس، الذي كان مسئولاً عن قيادة إحدى كنائس أفسس.

أما عن الزمان الذي كُتبت فيه الرسالة، فربما يكون ذلك في أيام حكم الإمبراطور دوميتيان، أي حوالي عام 98م وذلك لأن عدم ذكر اسم الكنيسة صراحة واستبداله بلقب السيدة المختارة يوحي بأنه كان هناك اضطهاد على الكنيسة في ذلك الزمان. وهو نفس الزمان تقريباً الذي كتب فيه يوحنا الرسول سفر الرؤيا.

لقد اختار الله كنيسته وقَدِّسَهَا، مُطَهِّرًا إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ، لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ. (أف5: 26و27)‏ وهو القادر أن يحفظها كـ ”سيدة مختارة” قادرة به أن ترتفع فوق أدناس العالم، جاذبة معها جميع أولادها المختارين الذين سبق الله فعينهم للحياة الأبدية.

جمر نار كتب أنبا إبيفانيوس موكب نصرة المسيح
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى