القيامة حدث فوق الطبيعة

 

الحديث عن القيامة ، يا أحبائي ، ليس كالحديث عن الموت والصليب . فالموت حدث طبيعي ، ولكن القيامة حدث فوق الطبيعة وخرق لكل قوانينها . القيامة إلغاء للموت وإلغاء للزمن وإلغاء للألم . القيامة هي حياة أبدية لا يمكن أن تُحس بحواس الحياة الأرضية الزمنية، لكن إنما تُحس روحياً فقط ، وتبقى الحواس الجسدية متخلفة و في ذهول ، وهذا الذي يصفه الإنجيليون مراراً وتكراراً : أنهم رأوا وسمعوا ولم يصدقوا . لذلك نحن هنا أمام واقعة فائقة تتطلب إيماناً يفوق العقل والحواس ، لأنه لكي نُدرك القيامة لابد أن ندرك الحياة الأبدية ، ندرك اللامحسوس بالمحسوس ، ندرك الفائق على العقل بإيمان يتحتم أن يفوق العقل ، لكي تخضع الحواس ويخضع العقل فيرى ويؤمن.

لذلك لا يمكن أن نعتبر القيامة كالصليب حدثاً زمنياً؛ إنه “حدث إلهي” ، أو بالمعنى الكنسي إنه سر.

ولكن القيامة تمت في صميم الزمن أيضاً، في أول إشراقة الفجر والظلام باق حينما يبدأ النور يطارد الظلمة . فلقيامة المسيح براهين مادية وشهود عيان والقبر الفارغ واللفائف الموضوعة في مكانها ملفوفة على ذاتها ، ولكن تظل المفارقة هائلة بين البراهين المادية على القيامة كفعل إلهي فائق على المادة.

لذلك فكل هذه البراهين لم تكن كافية لبعض التلاميذ لكي يؤمنوا بالقيامة . ذلك لأنه لا يمكن البرهنة على القيامة التي قامها الرب ببراهين مادية خالصة . هذا أمر مستحيل ، ولم يلجأ إليها التلاميذ ولا بولس الرسول في محاجاته مع أهل كورنثوس على حقيقة القيامة التي سيقومها المؤمنون بالمسيح كما قام المسيح نفسه ، بل اكتفى بشهود العيان فقط ، أو بمعنى أدق اكتفي بإيمان الشهود.

القيامة سر وليست حدثاً تاريخياً. إنها مركز الإيمان المسيحي كله ، ولا يحتاج إلى برهان مادي . بل وحتى القبر الفارغ نفسه لا يقف شاهد للقيامة بحد ذاته لولا مؤازرة الإيمان الواعي أو بمعنى أوضح : مؤازرة : الاستعلان .

لابد للقيامة من شاهد لا يعتمد على عينيه ولا على القبر الفارغ ، ولا على المسيح نفسه وهو واقف أمام الأحد عشر !! القيامة أعظم جداً جداً من أي برهان مادي أو حسي أو ذهني.

والقيامة هي مركز المسيحية وبدؤها ، لم يصغها الإنحيل كمقولة إيمانية أو عقيدة لاهوتية ؛ بل يقدمها كظهور فعلي للمسيح الذي أقامه الله الأموات ، وأعلنه حياً بكل وضوح وتأكيد إيماني.

لذلك جاءت شهادة الشهود جميعاً خالية من أي محاولة بشرية من جانبهم لإثبات حقيقة القيامة ، ولكن اقتصرت شهادتهم جميعاً على تأكيد ما حدث ، تأكيد الرؤيا والاستعلان الذي اختبروه كعمل إلهي ، كفعل من أفعال الله الخارقة التي سيطرت تماما على حياتهم وفكرهم وحركتهم وكلامهم بل وعلى أكلهم وشربهم .

وبعضهم شكَّوا. هنا يضع الإنجيل القيامة في موضعها الصحيح ، إنها أعلى من كل الإمكانيات البشرية ، حتى التي للتلاميذ أنفسهم ! إذ لابد للإيمان بالقيامة أن ينفتح وعي الإنسان لقبول الحياة الجديدة نفسها ، حيث الإيمان بالقيامة يكون نابعاً من قوة الله على الحياة الداخلية للإنسان.

والقيامة عملية تحول عظمى في حياة المسيح ، نقلته من دائرة الحياة البشرية الزمنية ، وأدخلته في مُلكه الأبدي أي دائرة الحياة الأبدية الفائقة على الحياة البشرية ، من مسيح التاريخ إلى مسیح المجد الأبدي ؛ وذلك لكي يصير منظور و معلناً لا لجماعة تلاميذ قليلة سمعوه ورأوه في أيام خدمته . أيام حياته الزمنية القليلة التي عاشها على الأرض ، بل ليصير مستعلنا ومعروف لكل الناس على كل الأرض على مدى كل الدهور.

ولكن ، هل من وسيلة لكي نعيش نحن أيضا قيامة المسيح مع المسيح ؟

يا أحبائي ، يلزمنا جداً أن نكون واقعيين وصرحاء مع أنفسنا . يوجد ملكوتان : ملكوت الشيطان في العالم الخارجي لنا ، ثم ملكوت الله في داخل قلوبنا . ولابد من الانحياز الواضح لملكوت الله في داخل قلوبنا حتى ستعلن قيامة المسيح وتتحرك قلوبنا حركة الحياة الأبدية.

الانحياز لملكوت الله يُميت من القلب أي میل نحو ملكوت الشيطان ، النور يطرد الظلمة ، والحياة تلغي الموت ، والبر الأبدي يحطم ناموس الخطية ، والقيامة تلغي الألم .

الصراع مُر ولا يهدأ ، والخسارة أكيدة وبالمرصاد جسداً ونفساً وكرامة !! ولكن شكراً لله ، فهو صراع مع سلطان الهواء أمام سلطان الروح القدس، صراع ظلمة متخلفة إزاء نور قاهر ، والخسارة منحصرة في كل ما هو ترابي وزمني ، والربح مضمون بعهد أبدي.

فبمجرد إعلان الانحياز الكلي للمسيح بعزم وإصرار ، لا يعود صعباً على المسيح أن يعلن قيامته فينا ، لأن جحد الشيطان مع  أعماله معناه الانضمام إلى ملكوت الله ، فالخروج من الظلمة هو الوسيلة الوحيدة لرؤية الشمس .

آه ، ما أحوجنا إلى قلب تحرر من الخطية لنشهد قيامة المسيح ونعيش في نورها المبارك المبهج ولنرنم لها مدى الحياة .

لقد جحدنا الشيطان وولدنا في المعمودية للقيامة ، فهل نحن الآن لها ؟ وهل نحن نعيشها ؟ الأمر يحتاج إلى مراجعة شديدة.

الذين ذاقوا القيامة مع المسيح هؤلاء لهم صفات ولهم سلوك وحياة خاصة تكشف أنهم يحيون قيامة المسيح.

يا أحبائي ، إن أردنا أن نقبل قيامة المسيح ونعيش فيها ، لابد أن يلتصق قلبنا جداً بما هو فوق . لابد أن تخلو سيرتنا من أي شيء يكون ذكره مُعثراً أو قبيحاً كما يقول القديس بولس ، لابد أن نتوبخ بشدة حتى ينكشف النور ، لابد أن نكون قد متنا بالفعل عن العالم ومُلكه الفاني ، وختمنا وثيقة انضمامنا لمملكة المسيح ، واستعددنا لكل غرامة ، ونعيش فعلاً كأننا جُزنا الصليب والقبر ، حتى تبدأ حياتنا الجديدة مستترة في المسيح وقيامته. وتكون القيامة هي مركز حياتنا وتفكيرنا وحركتنا واهتمامنا وآمالنا.

وإن أردنا أن تكون القيامة هي مركز حياتنا يلزم أن نُغیر ذهننا ، نخلعه ، لنلبس فكر الإنسان القائم ، حيث نعيش معه لحظة بلحظة منتصرين وأعظم من منتصرين . 


  • الأب متى المسكين – عظة القيامة سنة ۱۹۷۹. 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى