كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

الكرازة

يتكرر الفعل “يكرز” ومشتقاته في العهد الجديد أكثر من سبعين مرة. وهذا الفعل في أصله اليوناني (كيرسو) يعني “الإعلان أو المناداة”: أي إذاعة وإعلان حقائق محددة بواسطة مناد (كيركس). أما الحقيقة المعلنة أو الرسالة التي يتم الكرازة بها فتسمَّى ( كريجما).

وإذا أردنا أن نعرف معنى الكرازة أو الكريجما من أسفار العهد الجديد، علينا أن نستبعد من فكرنا مفهوم الكرازة بمعنى إلقاء عظة بليغة تخضع لقوانين الوعظ والخطابة، فليس هذا هو المقصود بالكرازة. فالعظة كأنت تسمى “هوميليا” وليس “كريجما”، وهي تُلقى عادة على مجموعة من المؤمنين، أما “الكريجما” فكانت تلقى على غير المؤمنين.

كذلك ليس “الكريجما” مجموعة من التعليم (ديداخي) أو النصائح الأخلاقية (باراكليسيس)، ولا مجموعة من التأملات والشروحات على بعض آيات الكتاب المقدس كما كان يحدث في المجامع. فهذه جميعها كانت تهتم بأسلوب الحياة وتنظيم العبادة داخل الجماعات المسيحية. أما الكرازة أو “الكريجما” فهي إعلان عن حقيقة مطلقة تبدو جديدة بالنسبة للخبرة البشرية، ولا يمكن أن تخرج هذه الحقيقة عن موضوع تجسد الرب يسوع وموته وقيامته، والخلاص الذي قدمه للبشرية إن تابت وآمنت بالإنجيل .

المسيحية لا تكرز بمبادئ أخلاقية أو بشرائع اجتماعية، فهذه كلها وليدة الحياة المسيحية وتأتي كنتيجة مترتبة على الكرازة، ولكن ليست هي الكرازة. المسيحية لا تكرز إلا بيسوع المسيح القائم من بين الأموات، الذي” ليس بأحد غيره الخلاص. لأن ليس اسم آخر تحت السماء، قد أُعطي بين الناس، به ينبغي أن نخلص”(أع 4: 12).

التعليم والكرازة

في كتاب العهد الجديد، وخاصة في الأناجيل الثلاثة الأولى، تتكرر كلمتا الكرازة والتعليم معا: “وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت» (مت 23:4، 35:9 ، 1:11). وكان مكان التعليم عادة داخل المجمع، أما الكرازة فكانت تتم في أي مكان في الخلاء .
كان التعليم يختص بتفسير الأسفار المقدسة أثناء الصلوات الطقسية في المجمع لكي يفهم المؤمنون الصلاة بصورة أعمق. أما الكرازة فكانت تمثل صراخ الكارز في الشوارع والقرى والبيوت. كان الكارز يذهب للجميع، للعشارين والخطاة، وكان يجذب انتباه أولئك الذين هم من خارج، والذين يُمنعون من حضور الصلاة مع الأبرار (لو ١٣:١٨)، فلمثل هؤلاء أيضاً جاءت دعوة الكرازة.

يذكر أيضا الكتاب المقدس أن الكرازة – كانت تتم في المجامع (أع 20:9). فيسوع عندما كان يعلم في المجامع لم يكن يقدم لهم تعاليم نظرية، ولم يكن يفسر لهم الكتب عل طريقة الرابيين، ولم يكن يخبر الحاضرين عما ينبغي أن يفعلوه. لقد كان تعليمه كرازة. كان يخبرهم عما تممه الله لهم في هذا اليوم: “إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكما” (لو ٢١:٤). كان تفسيره يمثل صرخة الكارز، وكان تعليمه عن مجيء ملكوت الله يتطلب قرارا، إما القبول أو الرفض. لذلك كانت كرازته تختلف تماما عن تعليم الرابيين في المجامع: “لأنه كان يعلمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة» (مت 29:7).

الإرسالية والكرازة:

يقول القديس بولس الرسول: «كيف يكرزون إن لم يرسلوا؟» (رو10: 15)، وهي عبارة قاطعة نفهم بها وظيفة الكارز. وليس من قبيل المصادفة أن تتكرر كلمتا الكرازة والإرسالية معا في العهد الجديد. فبدون تكليف وإرسال، لا يكون هناك كارز، وبدون كارز لا تكون كرازة. فالكرازة الحقيقية لا تتم عن طريق الكتب المقدسة بمفردها، بل عن طريق تطبيق معانيها تطبيقاً سليماً (لو4: 21).

لم يُرسل الله كتباً للناس، بل أرسل رسلاً. وباختياره من يقوم بمهمة خدمة الكرازة، أسس خدمة الكرازة في الكنيسة. وأثناء خدمة المسيح على الأرض كأن على الرسل فقط أن يقوموا بمهمة الكرازة (مت10: 7). وكان عليهم أن يتمموا كرازتهم في فترة محددة. وبعد قيامته من بين الأموات أعاد تكليف الرسل بمهمة الكرازة: “اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها» (مر16: 15)؛ «هذا أقامه الله في اليوم الثالث … وأوصانا الن نكرز للشعب» (أع 10: 40و42). لقد كانت وصية يسوع القائم من بين الأموات، الذي هو رب الجميع، أن يكرز التلاميذ ليس لليهود فقط، بل للخليقة كلها دون أدنى تمييز (كو1: 23).

قد يبدو شرط الإرسالية تقييداً لخدمة الكرازة، ولكنه يحمل في حقيقته تعزيزاً وتأييدا للكرازة. فصاحب الإرسالية يمد الكارز بالرسالة وبالسلطان عل تتميم الرسالة. فلم يكن الرسول يكرز برؤيته الخاصة أو باستكشافاته الشخصية، بل كان يكرز بما سمعه وبما عهد إليه أن يخبر به: «الذي أقولة لكم في الظلمة قولوه في النور، والذي تسمعونه في الاذن نادوا به عل السطوح» (مت10: 27). فبدون دعوة وإرسال تصبح الكرازة خداعاً واحتيالاً، إذ تصبح مناداة بأشياء ليست حقيقية، أي تصبح دعاية أكثر منها إرسالية.

المعجزات والكرازة:

يفتتح إنجيل القديس متى خدمة الرب يسوع هكذا: “وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلم في مجامعهم، ويكرز ببشارة الملكوت، ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب» (مت4: 23). وعندما أرسل يسوع تلاميذه أوصاهم أن «يكرزوا بملكوت الله ويشفوا المرضى» (لو9: 2). فإن كانت الكرازة – أية كرازة – إعلانا حقيقيا عن عمل الله، يكون الله هو المصاحب والساهر على عمله، ويتأكد ذلك بالمعجزات والعجائب التي يجريها عل أيدي رسله.

ليس للمعجزة أهمية في حد ذاتها، ولكن الأهمية ترجع إلى الرسالة المعلنة – “الكريجما”؛ وما الآيات والمعجزات إلا دليل على صدق هذه الرسالة: «وأما هم فخرجوا وكرزوا في كل مكان، والرب يعمل معهم ويثبت الكلام بالآيات التابعة» (مر16: 20)، «شاهدا الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس، حسب إرادته» (عب2: 4).

ولم تكن الجموع تنبهر بسبب العجائب التي كان يجريها الرسل، على غرار انبهارهم من أعمال السحر التي كانت تجرى باسم الآلهة اليونانية؛ بل اندهشت الجموع بالأكثر من التعليم والرسالة التي أعلنها التلاميذ. فبالنسبة للمؤمنين بـ “كلمة الله”، كانت المعجزة إثباتا لحضوره معهم. أما غير المؤمنين الذين أرادوا – لكي يؤمنوا – أن يروا آيات ومعجزات، فحتى المعجزات في هذه الحالة لم تجدهم نفعا، “لأن اليهود يسالون آية، واليونانيين يطلبون حكمة، ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً: لليهود عثرة، ولليونانيين جهالة!» (1كو1: 22و23).

مضمون الكرازة (الكريجما):

عندما ظهر الرب يسوع لتلاميذه بعد قيامته من بين الأموات، أوجز لهم كل مضمون الكرازة، وسلمهم الرسالة التي بنوا عليها بعد ذلك كرازتهم في جميع الأمم: “… لابد أن يتم جميع ما هو مكتوب عنَّي في ناموس موسى والأنبياء والمزامير … هكذا هو مكتوب، وهكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث. وأن يكرز باسمه بالتوبة ومغفرة الخطايا لجميع الأمم مبتدأ من اورشليم، وانتم شهود لذلك. وها أنا ارسل إليكم موعد أبي» (لو 46:24-49). هذا هو مضمون الكرازة، وعلى هذا الأساس كرز الرسل للمسكونة كلها:

أ. الله والمسيح:

في بدء كرازة الرب يسوع، نادى أنه قد اقترب ملكوت الله. أما بعد موته وقيامته فقد دخل عنصر جديد على كرازة الرسل، وهو شخص المسيح نفسه ورسالته. لم يتخل الرسل عن الكرازة بمجيء ملكوت الله (أع 12:8؛ 25:20)، لكن هذه الكرازة أخذت بعداً جديداً. فبشخص المسيح تأسس ملكه على الأرض، وبنعمته وبعمل الروح القدس صار هناك إمكانية لحلول ملكوت الله بين الناس.

وكأساس للكرازة بالمسيح لزم الكرازة بعقيدة وجود الله ووحدانيته، خاصة للأمم الوثنية التي اعتادت على عبادة آلهة كثيرة (أع17: 22 ؛ 1تس1: 9). وبدون شك كان في المقدمة الكرازة لكل الأمم: «بغنى المسيح الذي لا يُستقصى» (أف3: 8). وفي عبارة موجزة، كان شخص المسيح هو الموضوع الأساسي لكرازة الرسل. ففيلبس الشماس ذهب إلى السامرة «وكان يكرز لهم بالمسيح» (أع4:8). ولما تقابل مع الخصي الحبشي “بشره بيسوع» (أع 35:8). وبعد استشهاد إستفانوس، ذهب البعض إلى أنطاكية كانوا يخاطبون اليونانيين مبشرين بالرب يسوع» (أع20:11). ويحذر القديس بولس أهل كورنثوس من قبول أي إنسان يكرز لهم “بيسوع آخر” غير الذي كرز به (2كو11: 4). لأنه لما صار “الكلمة” جسداً، صار هو الإعلان الحقيقي عن الله: «الذي رآني فقد رأى الآب» (يو14: 9).

ب. موت المسيح والفداء:

لم ترتكن الكرازة بالمسيح إلى مفاهيم مجردة، لكن كما كرز المسيح نفسه، هكذا بدأ الرسل كرازتهم بإعلان “حقائق” وليس بالمناداة بشرائع أو بقوانين أخلاقية. وكانت أول حقيقة هي أن يسوع هو المسيح (المسيا). والحقيقة الثانية هي أن يسوع المسيح هو (المسيا) الذي تألم وصلب ومات وقام من بين الأموات.

ولم تكن الكرازة بالمسيح المصلوب من الأمور السهلة أو المحببة عل آذان السامعين، ذلك لأن الصليب كان عثرة لليهود، وجهالة لليونانيين. أما القديس بولس فقد اعتبر موت المسيح هو بؤرة الكرازة ومركزها الرئيسي، لأن به استعلن عمل المسيح الكفاري كمخلص لجميع الناس: «ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً» (١ كو 23:1)، «لأني لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً» (١ كو 2:2). ذلك لأن «كلمة الصليب» (18:1) هي نفسها “كلمة المصالحة” (2 كو5: 19) التي كرز بها بولس الرسول بغيرة وحماس. وقد أثبت بحسب خبرته الشخصية أن إنجيله هذا الذي كرز به هو «قوة الله للخلاص لكل من يؤمن” (رو16:1). لذلك شغل مفهوم فاعلية كفارة موت المسيح جزءاً هاماً من كرازة الرسل: « عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى، بفضة أو ذهب … بل بدم كريم، كما من حمل بلا عيب ولا دنس، دم المسيح» (1بط 1: 18و19).

جـ-  يسوع هو المسيح القائم من بين الأموات:

كانت حقيقة قيامة المسيح هي الحقيقة الأساسية، أو الألف والياء لكل كرازة الرسل. فبعد القيامة وحلول الروح القدس لم يستطع الرسل أن يتوقفوا عن الكرازة بيسوع المسيح (أع 42:5). وحقيقة أن “يسوع هو المسيح القائم من بين الأموات” تظهر بوضوح في كرازة بولس الرسول. ففي عظته التي ألقاها في مجمع تسالونيكي، أعلن أنه: «كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات، وأن هذا هو المسيح يسوع الذي أنا انادي لكم به» (أع 3:17). وفي مدينة كورنثوس شهد لليهود واليونانيين بالمسيح يسوع (أع 5:18)، ثم كتب لهم بعد ذلك يذكرهم أن الإنجيل الذي بشرهم به هو نفس الإنجيل الذي قبله: “أن المسيح مات من اجل خطايانا حسب الكتب، وانه دفن، وانه قام في اليوم الثالث حسب الكتب» (1 كو 15: 1-4). ويجب أن نتذكر أن الكرازة بقيامة يسوع تحمل معها أيضا البشارة أو الرسالة المفرحة لشركة المؤمنين في البركات المسيانية (أع 19:3-26)، وأيضا الشركة في القيامة العتيدة (1 كو 15: 22).

لقد كان من السهل على الرسل أن يكرزوا فقط بيسوع الممجد الجالس عن يمين الله، أو يكرزوا بمجموعة فضائل روحية ومبادئ أخلاقية على غرار معلمي اليونان. ولكن كما سلمهم الرب يسوع بعد قيامته الأساس الذي كان يجب عليهم أن يكرزوا به، هكذا كرزوا وهكذا نادوا بيسوع المسيح المصلوب القائم من بين الأموات.

وعلى نفس هذا الأساس بنت الكنيسة إيمانها، ووضعت ” قانون الإيمان” وأودعته صلواتها الليتورجية ليكون حافظاً لها في مواجهة البدع والهرطقات، ولكي يصبح أساساً يبني عليه كل مؤمن إيمانه وعقيدته:
“نؤمن بإله واحد…
وبرب واحد يسوع المسيح
هذا الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا.
نزل من السماء وتجسد من الروح القدس ومن مريم العذراء
وتأنس،
وصلب عنا عل عهد بيلاطس البنطي،
تألم وقبر وقام من بين الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب،
وصعد إلى السموات وجلس عن يمين أبيه.
وأيضا يأتي في مجده ليدين الأحياء والأموات…
وبالروح القدس الرب المحي، المنبثق من الآب…
وبكنيسة واحدة مقدسة جامعة رسولية،
ونعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا،
وننتظر قيامة الأموات وحياة الدهر الآتي”.

التبني كتب أنبا إبيفانيوس الامتحان والتزكية  
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى