كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار

المكسب والخسارة في تجارة بولس الرسول الرابحة

 

احتلت فلسطين قديماً موقعاً جغرافياً هاماً ، جعلها ملتقى لطرق التجارة في القرن الأول الميلادي . فمن الجنوب يحدها مصر ، ومن الشمال بلاد ما بين النهرين. لذلك كانت معبراً رئيسياً للتجارة وممراً هاماً للجيوش والقوافل. ففي زمن العهد القديم كانت تتم معظم الأنشطة التجارية داخل المدن وخاصة الموانئ والمدن الواقعة على طرق القوافل.

أما في زمن العهد الجديد فقد تقدمت طرق التجارة وتعقدت العمليات التجارية بين فلسطين والعالم الروماني ، وذلك بسبب دخول مدن البحر المتوسط تحت سيطرة الدولة الرومانية بعد غزو الإسكندر الأكبر لهذه المدن. وتبع ذلك نمو سريع واتساع للمدن وتغلغل الثقافة واللغة اليونانية فيها. وبدأت هذه المدن تعتمد على التجارة كمصدر أساسي للدخل ، بعد أن كان اعتمادها الأساسي على الزراعة.

وفي إحدى هذه المدن التجارية ، وهي طرسوس التي كانت تقع في جنوب شرق آسيا الصغرى ، ولد القديس بولس ، وكان لطرسوس شهرتها كمركز ثقافي وتجاري. وقد هيأت هذه المدينة لبولس الرسول الفرصة لتعلم اللغة اليونانية الدارجة، وهي اللغة التي كان يتكلم بها السواد الأعظم من الشعب وخاصة في التعاملات التجارية.

كان بولس فريسياً ، متبحراً في الشريعة اليهودية . فقد درس في أورشليم على يدي غمالائيل معلم الناموس ( أع 34:5). وكان يتحتم على كل من يدرس الشريعة أن يمارس حرفة يدوية ليعول بها نفسه ، ولم يكن مسموحاً لمعلمي الشريعة أن يتاجروا بمهنة التعليم ، حتى غمالائيل نفسه كان يعمل في صناعة الآلات ، أما بولس فقد تعلم مهنة صناعة الخيام ( أع 3:18).

وكان بعد ظهور الرب يسوع لبولس في طريق دمشق ، أن حدث تحول جذري في حياة بولس . وبدلاً من مهنة صناعة الخيام ، صار بولس « بنّاء حکیماً » ( 1کو10:3) يبني النفوس لحساب ملكوت الله. وكما استعمل الرب يسوع تشبيهات وأمثالاً من حياة الناس ليشرح لهم أسرار ملكوت السموات ، استعمل بولس الرسول بعض ألفاظ لغة المال والتجارة ليصف علاقته الجديدة بالمسيح.

ففي رسالته إلى أهل فيلبي ( 7:3و8 ) يقول : « ما كان لي ربحاً ، فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة . بل إنّي أحسب كل شيء أيضاً خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع ربي ، الذي من أجله خسرت كل الأشياء ، وأنا أحسبها نفاية لكي أربح المسيح».

وكلمة ” ربح “ في اللغة اليونانية ( كيردوس ) ، تعبر عن ” المكسب أو الفائدة أو الربح “ ، وهذه الكلمة لم ترد في العهد الجديد إلا على لسان بولس الرسول ، كما أنها لم ترد في الترجمة السبعينية للعهد القديم على الإطلاق :
+ « لأنّ لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح » ( في 21:1) .
+ « فإنّه يوجد كثيرون مُتمردين … الذين يجب سد أفواههم ، فإنّهم يقلبون بيوتاً بجملتها ، معلمين ما لا يجب ، من أجل الربح القبيح » ( تي 10:1و11).

والفعل من هذه الكلمة ( كيردينو ) بمعنى يكسب أو يربح أو يسلم من ( الضرر ) فقد ورد في العهد الجديد 16 مرة.

أما الكلمة اليونانية للفظ ” خسارة “ فهي ( زيميا ) وهي تعني ” خسارة أو ضرر أو أذى أو تلف “ ، وهو المعنى المضاد لكلمة ” ربح “ . وفي لغة التجارة تعني : إما خسارة في المال ، أو في الممتلكات . ولم ترد هذه الكلمة أيضاً في العهد الجديد إلا على لسان بولس الرسول :
+ « جعل بولس ينذرهم قائلاً : « أيها الرجال ، أنا أرى أن هذا السفرعتيد أن يكون بضرر وخسارة كثيرة ، ليس للشحن والسفينة فقط ، بل لأنفسنا أيضاً » ( أع 10:27 ؛ وأيضاً أع 21:27 ) . والفعل منها هو ( زيميوأو ) بمعنى ” يخسر أو يتأذى أو يعاقب “ فقد ورد في العهد الجديد ست مرات ”

القديس بولس يراجع حساباته:

أخذ القديس بولس في رسالة فيلبي ( 5:3و6) يعدد منجزاته وميراثه. ومن الناحية النظرية لا يمكن أن يفقد هذه الأمور مثلما تُفقد البضائع في البحر مثلاً . لكن بولس كان يعلم أن هذه الأشياء قد فقدت قيمتها ، بمعنى أن كل ما كان يظن أنه غال وثمين وله قيمة عنده ، فقد قيمته ولم يعد يساوي شيئاً أمام عظمة “معرفة المسيح”. لقد أكد بولس الرسول على هذا المعنى في سلوكه وفي خدمته . وكما قال الرب يسوع : « لأنه حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضاً » ( مت21:6) ، فقد وجد بولس كنزه الثمين في ” معرفة المسيح“. وأصبح كل ما له قيمة هو ” في المسيح “ ، وليس في المنجزات والمواريث .

ويبدو أن معارضي بولس ( في 2:3) كانوا قد قدموا وثائق مؤهلاتهم لكنيسة فيلبي ، وقد أشاروا إلى جنسيتهم اليهودية للتأكيد على أفضليتهم. وهنا قال لهم بولس إذا كان الآخرون قد قدّموا كشفاً يتضمن ” أصول ممتلكاتهم “ ، فيجب عليه هو أيضاً أن يذكر حساباته ، ومنها سيتضح أنه في حوزته ما يفوقهم. ففي خانة “الدائن” من كشف حسابه يذكر أنه :
1. مختون في اليوم الثامن : أي يهودي من دم نقي يحافظ على عهد إبراهيم أبي الآباء .
2. من جنس إسرائيل : أي عضو في الجماعة التي لها الوعود والعهود والمواعيد والاشتراع .
3. من سبط بنيامين : السبط ذو السمعة الطيبة الذي خرج منه أول ملك على إسرائيل .
4. عبراني من العبرانيين : أي أن أصوله ترجع إلى إبراهيم أول من دعي عبرانياً ( تك 13:14 ) .

5. فريسي : أي من الجماعة التي أفرزت نفسها لأجل دراسة وحفظ شريعة الله .
6. غيور : حتى إنه اضطهد الكنيسة الأولى في أورشليم لأنها حادت عن تعليم موسى باتباعها تعليم المسيح

7. بار شرعاً : ففي عيني نفسه هو بلا لوم أمام الشريعة.

ولكن عندما وضع بولس الرسول هذه المميزات أمام عظمة معرفة المسيح ، أحس أنها لا تساوي إلا نفاية . فلم يعد لهذه المميزات أو المكاسب قيمتها لديه مثل ذي قبل. فهو لم يعد يناضل من أجلها ، كما أنه لم يرد أن يستثمرها لتحقق له عائداً أفضل. ولكنه قبل بسرور أن يشطبها من كشف حسابه . لقد عثر بولس على ” لؤلؤة واحدة كثيرة الثمن ، فمضى وباع كل ما كان له واشتراها “ ( مت 46:13).

يحاول الإنسان أن يستثمر أمواله في البنوك وفي شركات توظيف الأموال على هيئة أسهم أو سندات. وعندما تنخفض قيمة الأسهم ، تنخفض بالتالي قيمة الفوائد عليها . وصاحب الأسهم لا يفقد الأسهم نفسها عندما تنخفض قيمتها ، فهو ما زال مالكاً لها ، ولكن قيمتها قد تناقصت عنده.

وبالمثل كان بولس ما يزال يملك مميزاته اليهودية ، ولكنه صار يعدها صفقات خاسرة في مقابل اللؤلؤة الكثيرة الثمن التي حصل عليها . ويمكننا أن نعدد مرة أخرى أسهم بولس السابقة ولكن بمفهوم اليوم . فهو كان ينتمي إلى عائلة عريقة ، وكان لأسرته شهرة وصيتُ حسن ، كما أنه حاصل على أعلى الشهادات الجامعية ويجيد عدة لغات أجنبية ، وله وزنه في المجتمع وفي المحافل الدولية . بل إنه كان في نظر نفسه وفي نظر الجميع رجل البر والتقوى وصاحب الأعمال الجليلة.

ولكنه عندما قارن هذا التراث وهذه المكاسب أمام معرفة المسيح ، وجد أنها كلها تعد نفاية ولم يعد لها قيمة عنده . وعندما تناقصت قيمة هذه المؤهلات ، كان عليه أن يتاجر في مجال آخر يدر عليه عائداً أفضل ، وهذا المجال هو معرفة المسيح . والمقصود ليس معرفة المسيح العقلية التي يستقيها من الكتب والمحاضرات ، بل معرفة المسيح الاختبارية التي يحصل عليها من طول العشرة مع الله والحديث . ، معه . المعرفة التي جعلت بولس الرسول يصرخ قائلاً : « لأعرفة ، وقوة قيامته ، وشركة الامه ، متشبهاً بموته ، لعلي أبلغ إلى قيامة الأموات » ( في 3 :10و11).

لقد وضع حياته الماضية كلها في كفة ميزان فوجدها لا تزن شيئاً ، فعدها نفاية . ثم وضع معرفة المسيح في الكفة الأخرى فوجدها تساوي الحياة الأبدية : « وهذه هي الحياة الأبدية : أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويصوع المسيح الذي أرسلته » ( يو 3:17). لذلك كان بولس حكيماً جداً عندما قال : « لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً » (1كو 2:2).

لقد صلّى الرب يسوع من أجل تلاميذه حتى يعرفوا الله ، وأيضاً ليس المقصود هنا المعرفة العقلية ، بل المعرفة الحياتية التي يسكن فيها الرب يسوع داخل القلب : « وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ، ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به ، وأكون أنا فيهم » ( يو 26:17 ) .

إن هناك مقياساً هاماً نعرف به إن كنا قد عرفنا الله المعرفة الحقيقية أم المعرفة العقلية ، هذا المقياس يلخصه لنا القديس يوحنا الرسول في كلمة واحدة : المحبة ، محبة الله ومحبة القريب :
+ « وبهذا نعرف أننا قد عرفناه إن حفظنا وصاياه ، من قال : قد عرفته وهو لا يحفظ وصاياه ، فهو كاذب وليس الحق فيه . وأما من حفظ كلمته ، فحقا في هذا قد تكملت محبة الله » ( 1 يو 3:2-5 ) .
+ « أيها الأحباء ، لنحب بعضنا بعضاً ، لأنّ المحبة هي من الله ، وكل من يحب فقد ولد من الله ويعرف الله ، ومن لا يحب لم يعرف الله ، لأنّ الله محبة » ( 1 يو 7:4 و8).

لقد كان بولس الرسول كصانع خيام يعرف قيمة عمله ومقدار المال الذي يجب أن ينفقه على العمل ليدر عليه ربحاً . وقد أدرك أن الأصول التي عليه أن يستثمرها لتحقيق الربح ليست ثابتة على الدوام . فالأصول القديمة أصبحت نفاية ، أما الأصول الجديدة ذات القيمة الثابتة العظيمة فهي : « فضل معرفة المسيح يسوع ربي».

لقد لخص القديس غريغوريوس الناطق بالإلهيات كل هذه المعاني ، ذاكرًا ما يخص الأصول القديمة ، مقارئًا إياها بمعرفة المسيح التي تؤول إلى الخيرات السماوية الإلهية :
[ما هذا السر الجديد الذي يخصني ؟
إني صغير وعظيم ، حقير وسام ، مائتُ وغير مائت ، أرضي وسماوي ،
الأولى مع العالم السفلي ، والأخرى مع الله
الأولى مع الجسد ، والأخرى مع الروح .
ينبغي أن أدفن مع المسيح وأقوم معه ،
أن أرث معه وأصير ابناً لله ، بل وأصير الله نفسه![1]
هذه هي غاية السر الأعظم من نحونا .
هذا هو ما يريده لنا الإله الذي تأنس وافتقر من أجلنا ،
لكي يقيم الجسد ويفتدي الصورة ، ويجدد خلقة الإنسان ،
لكي نصير نحن جميعاً واحداً في المسيح ( غل 3 : 28 ) ،
الذي قد صار بالتمام « الكل في الكل » ( كو 3 : 11 )
فينا جميعاً بكل كيانه ،
حتى لا يكون فينا فيما بعد ذكر ولا أنثى ( غل 3 : 28) ،
بربري ، سگيثي ، عبد ، حر ( کو 3 : 11 ) التي كلها صفات الجسد ،
بل لا نعود فيما بعد نحمل في ذواتنا إلا الشكل الإلهي ،
الذي به وله قد خلقنا ، بل وتشكلنا وتطبعنا ،
لدرجة أننا لا نعود فيما بعد نُعرف إلا بهذا الشكل وحده ]”. 

لقد تعددت صفاتنا قبلاً قبل معرفة المسيح ، كأحرار وعبيد ، ذكور وإناث ، يهود وأمم ، أغنياء وفقراء ، متعلمين وأميين ؛ لكن بعد معرفة المسيح يسوع ربنا ، أصبحت كل هذه الصفات ثانوية ، لأننا أصبحنا متحدين بمصدر الغنى الحقيقي ، الذين سنصير مثله ، لأننا سنراه كما هو (1يو3 : 2).


  1.  be joint heir with Christ , become the son of God , yea , God Himself .
التاج والإكليل كتب أنبا إبيفانيوس جمر نار 
كتاب مفاهيم إنجيلية
المكتبة المسيحية

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى