كتاب مفاهيم إنجيلية للأنبا إبيفانيوس أسقف ورئيس دير أنبا مقار
جمر نار
بعد أن شرح القديس بولس الرسول ، في رسالته إلى أهل رومية ، حقائق الإيمان العظمى ، وعلاقة الناموس بالنعمة ، كتب في الأصحاح الثاني عشر توصيات هامة لما يجب أن يكون عليه السلوك المسيحي ، وما هو مفهوم الحب والسلام في المسيحية . ولكن في الآية العشرين من هذا الأصحاح ، وخاصة في نصفها الثاني ، أورد آية اقتبسها من سفر الأمثال ( أم 25 : 22 ) ، حيّرت الكثير من الشراح في تفسيرها ، لما يبدو عليها من تناقض مع مفهوم بولس الرسول ، ومفهوم المسيحية عموماً ، لوصية محبة الأعداء . يقول بولس الرسول :
+ « لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء ، بل أعطوا مكاناً للغضب ، لأنّه مكتوب : لي النقمة أنا أجازي يقول الرب . فإن جاع عدوك فأطعمه ، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه. لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير » ( رو 12 : 19-21 ).
يبدأ الأصحاح الثاني عشر بعبارة : « فأطلب إليكم » ، كاستجابة لنعمة المسيح التي شرحها لهم في الأصحاحات السابقة ، فيطلب منهم أن يقدموا أجسادهم « ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله » . ثم في الفقرة التالية ( 12 :8-3) يشرح لهم مفهوم الذبيحة الحية ، وما يجب عليهم من احترام المواهب المختلفة المعطاة لكل واحد منهم ، والتي برغم تنوعها ، فإنها تثري الكنيسة ، وتجعل من الجميع جسداً واحداً للمسيح.
وفي الفقرة التالية ( 12 : 9-13 ) يضع بولس الرسول الأساس الذي ينبغي أن يقوم عليه بناء الجماعة ، وذلك في صورة 13 وصية ، وصايا تؤدي إلى حياة الجماعة ونموها في المحبة :
المحبة فلتكن بلا رياء ، كونوا كارهين الشر، ملتصقين بالخير ، وادين بعضكم بعضاً بالمحبة الأخوية ، مقدمين بعضكم بعضاً في الكرامة ، غير متكاسلين في الاجتهاد ، حارين في الروح ، عابدين الرب ، فرحين في الرجاء ، صابرين في الضيق ، مواظبين على الصلاة ، مشتركين في احتياجات القديسين ، عاكفين على إضافة الغرباء.
وفي الآيات التي تلي ذلك ( 12: 14-17) يورد أيضاً مجموعة من الوصايا ، الامتثال لها وإطاعتها يجعل الجماعة تعيش في سلام ، سلام مع نفسها ومع الآخرين:
باركوا على الذين يضطهدونكم ، باركوا ولا تلعنوا ، فرحاً مع الفرحين ، وبكاءً مع الباكين . مهتمين بعضكم لبعض اهتماماً واحداً ، غير مهتمين بالأمور العالية ، بل منقادين الى المتضعين ، لا تكونوا حكماء عند أنفسكم ، لا تجازوا أحداً عن شر بشر ، معتنين بأمور حسنة قدام جميع الناس.
ثم في الآية ( 18 ) يجمل الأمر بالوصية التي تحقق سلام الجماعة كلها : « إن كان ممكناً فحسب طاقتكم سالموا جميع الناس». إن القوة الدافعة في رسالة رومية التي تغذي كل الآيات ، وخاصة الآيات ( 19-21 ) ، والتي بدونها يحدث انقسام وخلل في كنيسة رومية ، هي مثال المسيح الواضح في الآية ( 5 : 10 ) : « لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه» ، فنحن لم نكن أبراراً ولا قديسين لذلك استحققنا موت المسيح من أجلنا ، بل كنا أعداء عصاة متمردين ، وجميعنا أعوزنا مجد الله ؛ ومع ذلك مات المسيح من أجلنا. فماذا سيكون موقفنا من أعدائنا بعد أن نلنا المصالحة مع الله؟
وتستمر الرسالة إلى أهل رومية في تقديم النصائح التي تحث الجماعة أن تعيش معاً في اتفاق وانسجام واحد. ففي الأصحاح الثالث عشر يحثهم أن يعيشوا في سلام مع السلطات المدنية، وفي الأصحاحين الرابع عشر والخامس عشر يحد من التوتر الناشئ بين اليهود والأمم من حيث أنواع المأكولات ومفهوم الطاهر والنجس ، ثم يختم الرسالة بتحية لكل أفراد الكنيسة الذين يعيشون معاً في سلام ومحبة.
وعندما نأتي إلى الآيات ( 12 :19-21) والتي يتكلم فيها بولس الرسول عن السلام بين الجماعة : « لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء … لا يغلبنك الشر بل اغلب الشر بالخير» ، لا نفاجئ بهذه الآيات ، فهذه هي النتيجة الحتمية لكل تعاليم بولس الرسول خلال كل الرسالة ، بل وهي أيضاً صدى للعظة على الجبل على فم الرب يسوع : « أحبوا أعداءكم . باركوا لأعنيكم . أحسنوا إلى مبغضيكم » ( مت 5: 44 ) . وهذا هو الميزان الذي بواسطته نعلم هل الكنيسة ، أية كنيسة ، هي كنيسة حية تسير حسب تعاليم الرب يسوع والرسل الأطهار ، أم حسب الآية : « فإذا كنتم تنهشون وتأكلون بعضكم بعضاً ، فانظروا لئلا تفنوا بعضكم بعضاً » ( غل 5: 15).
+ والآن نأتي إلى الآية العشرين : « فإن جاع عدوك فأطعمه ، وإن عطش فاسقه. لأنك إن فعلت هذا تجمع جمر نار على رأسه » . بينما النصف الأول من الآية يتمشى تماماً مع تعاليم بولس الرسول في باقي الرسالة ، فإن النصف الثاني يمثل صدمة أو حجر عثرة أمام الكثيرين . فهل جمع جمر نار ووضعه على رأس العدو يمثل نوعاً من المحبة أو الشفقة عليه ؟ لأول وهلة تبدو الإجابة بالنفي . فالمفهوم هنا يعني نوعاً من الانتقام من العدو ، بينما النصف الأول من الآية يتوافق مع مثل الدينونة الأخير الذي طالبنا فيه الرب يسوع بعمل الرحمة مع الجميع ، الذين أسماهم إخوته الأصاغر ( مت 25 : 40).
لقد هاجمت الكنيسة الأولى مفهوم الانتقام الشخصي من العدو باتجاهين في تفسير هذه الآية . الاتجاه الأولى ويظهر في كتابات بعض الآباء مثل القديس يوحنا ذهبي الفم ، وهو يشرح أنه إن صنعت خيراً مع العدو ، واستمر هو في عداوته ، فإن هذه الاستمرارية تعرضه في النهاية لحكم الله العادل في الدينونة ، وكأنك بذلك تؤكد قضاء الله في اليوم الأخير . ونجد تلميحاً لمفهوم جمر النار على رأس العدو في سفر عزرا الرابع ، وهو من الأسفار الأبوكريفا اليهودية : [ لا يقل الخاطئ إنه لم يخطئ ، لأن الله سوف يحرق جمر نار على رأس من يقول أنا لم أخطئ أمام الله وأمام مجده ] (4عز 16: 53) . وهناك تشبيه مجازي في سفر المزامير يحمل نفس المعنى : « ليسقط عيله جمر ، ليسقطوا في النار وفي غمرات فلا يقوموا » ( مز 140 :10).
يعزز سياق الآيات هنا هذا التفسير بعض الشيء . ففي أول الآيات يطلب بولس الرسول من المؤمنين ألا ينتقموا لأنفسهم ، بل يتركوا الانتقام لحكم الله . فعليك أن تصنع الخير مع العدو ، وأن تترك لله الحكم عليه . ومشكلة هذا التفسير أنه لا يتمشى تماماً مع مفهوم محبة الأعداء . فأنا لا أصنع الخير لعدوي حتى أصب على رأسه غضب الله ، ولا أقدم المعونة لمن يكرهني لأكون سبباً لدينونته .
+ الاتجاه الثاني للتفسير نجده عند أوريجانوس وأغسطينوس وجيروم وبيلاجيوس . وحسب رأي هؤلاء فإن حرق جمر النار على رأس العدو تعبير عن الخزي والخجل الذي يصيب عدوك عندما تصنع معه خيراً. إن رد الإساءة بالإحسان يؤدي بالضرورة بمن سنعت بهم خيراً بمراجعة موقفهم ، ومن ثم يقودهم ذلك إلى التوبة. يرد نفس هذا الشرح في تعاليم اليهود الرابيين على سفر الأمثال ( أم 25 : 21-22) ، وهي الآيات التي اقتبسها بولس الرسول هنا في رسالة رومية : « إن جاع عدوك فأطعمه خبزاً ، وإن عطش فاسقه ماء ، فإنك تجمع جمراً على رأسه ، والرب يجازيك » . وأهمية هذا التفسير إنه يتوافق مع سياق الرسالة ، كما أنه لا يتعارض مع مفهوم محبة الأعداء عموماً في المسيحية .
+ في بداية القرن العشرين ، ونتيجة للأبحاث الجيولوجية الخاصة بالكتاب المقدس ، تم إلقاء بعض الضوء على تفسير آيتي رسالة رومية وسفر الأمثال . فيرى بعض العلماء أن آيات سفر الأمثال ( 25 : 21-22 ) تعكس بعض مظاهر الحياة في مصر القديمة . فالآية التالية مباشرة « ريح الشمال تجلب المطر » ( أم 25 : 23 تفسيرية ) تنطبق على حالة الطقس في مصر وليس في فلسطين.
فمن الممارسات الشعبية في مصر القديمة، عندما كان يخطئ أحد الأشخاص في حق آخر ، كان المخطئ يضع جمر نار في إناء فخاري ويحمله على رأسه ويذهب به إلى الشخص الذي أخطأ في حقه . وجمر النار هنا ليس تعبيراً عن الخزي والخجل الذي يدفع للتوبة ، كما في تفسير أوريجانوس وأغسطينوس ، ولكنه رمز للتوبة. وقد نشر عالم المصريات Siegfried Morenz بحثاً عن هذه العادة التي كانت متبعة في مصر القديمة، كما اكتشف العلماء الأواني الفخارية التي كانت تستعمل في حمل جمر النار على الرأس. فيكون المقصود من هذه الآية حسب هذه الأبحاث أنك إن فعلت خيراً مع عدوك ، فإن هذا الخير سوف يقوده إلى التوبة ، وكتعبير عن هذه التوبة ، فكأنه سيحمل على رأسه جمر نار كرمز لانتهاء هذه العداوة والبدء في حياة جديدة يسودها الود والمحبة.
وبغض النظر عن التفسير الحرفي لهذه الآيات ، فإننا نعلم أن كل وصية في الكتاب تحمل معها قوة على التنفيذ . وقد اختبر آباؤنا قوة هذه الآيات، وكانوا يقومون بعمل الخير مع كل من يقصدهم حتى ولو كان يحمل لهم روحاً عدوانية. وقد اختبروا جميعاً قوة التغيير التي يحدثها فعل الخير في الآخرين، أكثر مئات المرات من قوة الإقناع أو المجادلة ، بل وأكثر أيضاً من محاولة الدفاع عن النفس ولو حتى بالطرق المشروعة.
وقد أورد لنا كتاب بستان الرهبان هذه السيرة : يُحكى عن راهب مجاهد إنه في وقت أتاه اللصوص وقالوا له : « جئنا لنأخذ جميع ما في قلايتك » ، فقال لهم : « خذوا ما شئتم أيها الأولاد » . فلما أخذوا جميع ما وجدوه مضوا ونسوا مخلاة مستورة بخوص ، فلما نظرها الشيخ أخذها وخرج يخطر وراءهم وهو يصيح ويقول : « يا بني ، خذوا ما قد نسيتم » . فلما رأوا ذلك منه عجبوا من دعته وسلامة قلبه ، وردوا كل ما أخذوه إلى قلايته . وقال بعضهم لبعض : « بحق إن هذا رجل الله » ، وكان ذلك سبب توبتهم وتركهم ما كانوا عليه من اللصوصية.
كما يقص علينا أيضاً بستان الرهبان هذه القصة: قصد الأب يوحنا الفارسي أناس أشرار خبثاء ، فأخذ ماء في طست وغسل أقدامهم ، فما كان منهم إلا أن احتشموا من إكرامه لهم ، فتابوا.
قدم لعدوك كأس ماء بارد وأظهر له المحبة المسيحية الحقيقية ، بدلاً من مناقشته في عداوته وتخطئة وجهة نظره . ومن أعطاك الوصية قادر أن يعطيك معها بركة طاعة الوصية . فإن جاع عدوك فأطعمه خبزاً ، وإن عطش فاسقه ماء ، لإنك إن فعلت ذلك ، فسوف تقوده إلى التوبة وتكون بذلك قد ربحت أخاك الذي أمرك الإنجيل أن تحبه ، حتى ولو كان غريباً عن جنسك.
وكما يقول الأب متى المسكين في تفسيره لرسالة بولس الرسول لأهل رومية:
[أنا أطعم كل جائع في شخص المسيح وكأنه المسيح ، وأسقي كل عطشان في شخص المسيح وكأنه المسيح ، لأني أحمل روح المسيح وحبه المجاني الذي أحبني به وأنا كنت عدواً له . إن الإنسان المسيحي لابد أن يعلن عن روح المسيح الذي فيه . فمن جهة عدوي أنا أظهر له روح المسيح الذي في بحبي وإطعامي له وسقيه ، إلى هذا الحد أنا أكرز وكل ما أرجوه أن عدوي يحس بروح المسيح الذي في].[1]
- الأب متى المسكين : شرح رسالة القديس بولس الرسول إلى أهل رومية ( 1992) ، ص574
المكسب والخسارة | كتب أنبا إبيفانيوس | السيدة المختارة |
كتاب مفاهيم إنجيلية | ||
المكتبة المسيحية |