حفظ القلب كأشد ما يكون الحفظ
العظة الثالثة والأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[عن تقدم الرجل المسيحي ، ذلك التقدم الذي كل قوته مرهونة بالقلب ،
كما يوصف هنا بطرق شتی]
[أ] المسيحيون يُضرمون من سراج اللاهوت فيهم
1- كما أنه من النار تُشعل سرج كثيرة ومصابيح متَّقدة ، لكن كل المصابيح والسرج تُضرم وتضيء من طبيعة واحدة ؛ هكذا المسيحيون أيضا يُضرمون ويضيئون من طبيعة واحدة – من النار الإلهية ، من ابن الله ، ويقتنون المصابيح المتقدة في قلوبهم ويضيئون أمامه وهم في الأرض كما هو أيضا ، لأنه يقول : « لأجل هذا مسحك الله إلهك بزيت الابتهاج » ( مز 44 : 8 س ؛ عب 1 : 9 ) . لذلك فقد دُعي هو المسيح ، لكي إذا ما مُسحنا بالزيت نفسه كما مُسح هو ، نصير نحن أيضا مسحاء ، من طبيعة واحدة – إن جاز القول – ومن جسد واحد ، لأنه يقول أيضا : « المُقدس والمُقدسون جميعهم من واحد » ( عب ۲ : ۱۱ ) .
۲ – فالمسيحيون إذا يشبهون ، من أحد الوجوه ، سرجاً لها زيت في ذواتها ، الذي هو ثمر البر، لكن ما لم تُشعل من سراج اللاهوت فيها ، فليست هي بشيء ؛ فال كان السراج الموقد بروح اللاهوت الحال فيه جوهرياً والمُضرم قلبه بحسب ناسوته. فكما لو أن هناك کیساً رديئاً ممتلئاً لآلئ ، هكذا المسيحيون أيضا ينبغي أن يكونوا مُذلين بحسب الإنسان الظاهر ومحتقرين[1] ، أما من داخلهم في إنسانهم الباطن فيقتنون اللؤلؤة الكثيرة الثمن[2] . لكن هناك آخرون يُشبهون « قبوراً مُبيضة » [3]، فمن الخارج مزخرفون وحسان جداً أما من الداخل « مملوؤون عظام أموات »[4] ورائحة نتنه جداً وأرواحا نجسة ، فهم أموات عن الله ومتسربلون بكل خزي ونجاسة وظلمة العدو.
[ب] الالتصاق الدائم بالرب يحرق الشياطين
3 – فإن الرسول يقول إن القاصر ، ما دام صغيراً ، فهو . « تحت أوصياء ووكلاء »[5] للأرواح الشريرة ، تلك الأرواح التي لا تريد للقاصر أن ينمو حتى لا يشرع – إذا ما أصبح « رجلاً كاملاً »[6] – في أن يتقصی عن نسبه ويطالب بسيادته . فينبغي للمسيحي أن يقتني ذكر الله في كل حين ، لأنه مكتوب : « تُحب الرب إلهك من كل قلبك » ( تث 6 : 5 ؛ مر 12: 30) ، لكي يحب الله ، ليس فقط حين يدخل موضع الصلاة ، بل حين يمشي وحين . يتحدث وحين يأكل يقتني ذكر الله وحبه وغرامه. لأنه يقول : « حيث يكون عقلك ، هناك يكون كنزك أيضاً» ( مت 6 : 21 – حسب النص ) . فإن ما يُربط به قلب أحډ ، وحيث تجتذبه شهوته ، فذاك هو إلهه ، فإن كان القلب في كل حين يشتهي الله ، فالله يكون رب هذا القلب . أما إن كان أحد بعد أن هجر الله وصار مُعدماً ولا مدينة له وصائماً، لا يزال مربوطاً بذاته أو بالأمور العالمية أو ببيته أو بمحبة والديه ، فحيث رُبط قلبه وسُبي عقله ، فذاك هو إلهه ، وفيما يوجد خارجاً من العالم من بوابته الواسعة ، يتسلل من الباب الجانبي ويسقط في العالم . وكما أن العيدان الملقاة في النار لا يمكنها أن تصمد قبالة قوة النار لكنها تحترق في الحال تماماً، هكذا أيضاً الشياطين إذا ما ابتغت أن تحارب إنسانا قد غدا أهلاً للروح القدس تُحرق وتُلتهم بقوة النار الإلهية . فقط ليكن الإنسان ملتصقاً بالرب في كل حين ، واضعا ثقته ورجاءه فيه . فلئن تكن الشياطين قوية قوة جبال من حديد ، فإنها تحترق من الصلاة مثل الشمع من النار ، غير أن جهاداً عظيماً منصوب للنفس في غضون هذا ، وحرباً ضدهم ، فهناك أنهار تنانين وأفواه أسود ونار مستعرة في النفس . وكما أن فاعل الشرور الذي بلغ ذروتها ، حين يسكر بروح الضلال أو يقتل أو يزني لا يشبع من الشر ؛ كذلك المسيحيون أيضا الذين اصطبغوا بالروح القدس يصيرون بلا خبرة في الشر . أما الذين يقتنون النعمة ولا يزالون بعد ممتزجين بالخطيئة ، فهؤلاء يكونون تحت خوف ويسلكون عبر مواضع مخيفة.
( ج ) وجوب التفحظ والحرص إلى النهاية
4 – لأنه كما أن التجار الذين أبحروا ولما يبلغوا الميناء بعد ، حتى وإن وجدوا ريحاً موافقة وبحراً هادئاً، يلبثون تحت خوف لئلا تثور ريح مُضادة بغتة فيمُور البحر ويصير المركب في خطر؛ هكذا المسيحيون أيضاً حتى وإن كان لهم في أنفسهم ريح الروح القدس تهب مُواتية ، إلا أنهم لا يبرحون تحت خوف لئلا تهب ريح القوة المعادية وتأتي عليهم فتثير اضطرابا وتصبح نفوسهم في خطر . فالحاجة إذا إلى اجتهاد كثير لكيما نصل إلى ميناء الراحة ، إلى العالم الكامل ، إلى التنعم الأبدي ، إلى مدينة القديسين ، إلى أورشليم السمائية[7] ، إلى كنيسة الأبكار[8] . أما إن كان أحد لا يجتاز تلك القامات ، فإنه يكون تحت خوف کثیر لئلا في أثناء هذا تُدبر له القوه الشريرة سقطة.
5- وكما أن المرأة متى حبلت فإنما تقتني طفلاً في داخلها ، في ظلمة – إن جاز القول – وفي موضع كثيف . فإذا حدث بعد ذلك أن خرج الطفل في الزمان المُعين ، فإنه ينظر خليقة جديدة ما رآها قط : سماءً وأرضاً وشمساً ، وللحال يحمله الأحباء والأقرباء على أذرعهم بوجوه مستبشرة ؛ أما إن حدث ، لعارض ما ، وتحرك الطفل من موضعه بالداخل ، فالأمر يقتضي من الأطباء المنوط بهم الأمر أن يستعملوا المبضع ، وبعد ذلك يوجد الطفل منتقلاً من موت إلى موت ، ومن ظلمة إلى ظلمة. تفهم هكذا أيضاً بالمعنى الروحي: فكل الذين قبلوا بذرة اللاهوت ، هولاء يقتنونها بطريقة غير منظورة ، وبسبب الخطيئة الملازمة لهم يخفونها في مواضع مظلمة ومخيفة . فإذا ماصانوا ذواتهم وحفظوا الورع فهم في الأمان المُعين يولدون من جديد جهارا ، وبعد ذلك عند انحلال أجسادهم تقبلهم الملائكة وكل الخوارس العلوية بوجوه مستبشرة ؛ أما إني ارتخى ذاك الذي قبل أسلحة المسيح ليحارب برجولة ، فللحال يُسلم مثل هذا للأعداء ، وعند انحلال جسده ، فمن الظلمة التي تلفه الآن ينتقل إلى ظلمة أخرى أشد وطأة وإلى الهلاك .
[ د ] أرواح الشر تلتمس مرعى فينا
6- كما لو كان هناك فردوس يحوي أشجاراً مثمرة وأغراسا أخرى عطرة الرائحة وجميعها مُعتنى بها جيداً ومُجملة ، وهو – إلى ذلك – له سور صغير عوض سياج لصونه. ثم يتفق أن نهراً ثائرا يجتاز هناك ، فحتى لو أن ماء يسيرا يصدم السور ويفسد الأساس شيئاً فشيئاً فإنه يجد منفذاً له وقليلاً قليلا ينقض الأساس ، وحين يدخل يشق طريقه وسط كل المزروعات ويقتلعها ويلاشي كل هذا العمل ويجعله بلا ثمر ؛ هكذا يكون أيضاً قلب الإنسان : فهو يحوي الأفكار الحسنة ، لكن في كل وقت تدنو من القلب أيضا أنهار الشر ومأربها أن تسقطه وتُلقيه في نصيبها . فإن وُجد العقل متراخياً قليلاً ومُذعناً للأفكار النجسة ، فها أرواح الضلال قد ظفرت بمرعي ووجدت مدخلا وأفسدت المحاسن هناك ولاشت الأفكار الصالحة وأقفرت النفس.
7- وكما أن العين صغيرة بالقياس إلى سائر الأعضاء ، بل وإنسان العين نفسه ، على صغره ، هو إناء عظيم إذ بلمحة واحدة ينظر السماء والنجوم والشمس والقمر والمدن والخلائق الأخرى ، بالمثل أيضا كل ما يُرى بلمحة واحدة يتشكل ويصور في إنسان العين الصغير ؛ هكذا أيضا الذهن الذي في القلب : فالقلب نفسه إناء صغير ، وهناك التنانين وهناك الأسود ، هناك الوحوش السامة وكل كنوز الشر ، هناك الطرق الخشنة الوعرة وهناك الوهدان ؛ بالمثل أيضا هناك الله وهناك الملائكة ، هناك الحياة والملكوت ، هناك النور والرسل ، هناك المدن السماوية ، هناك كنوز النعمة ، هناك كل شيء. لأنه كما يكون ضباب يغشي كل المسكونة فلا يرى إنسان الآخر ، هكذا أيضا ظلمة هذا الدهر تُغشي كل الخليقة وكل طبيعة الإنسان منذ المخالفة ، لذلك الذين تغشاهم الظلم هم في ليل ويسلكون في مواضع مخيفة . وكما يكون هناك دخان كثيف في بيت واحد ، هكذا أيضا الخطيئة مع أفكارها الأثيمة تنسل خلسة إلى أفكار القلب وتقبع هناك ، ومعها حشد لا يُحصى من الشياطين.
۸- وكما أنه في الأمور المنظورة حين تندلع حرب لا يمضي الحكماء والعظماء بل يتخلفون خوفاً من الموت ، بينما يُزج بالجنود والفقراء والعاميين في المقدمة . ثم حين يظفرون بالأعداء ويطردوهم من تخومهم وينالون جوائز الغلبة والأكاليل من الملك ويحظون بالمراقي والكرامات ، يوجد أولئك العظماء خلف هؤلاء ؛ هكذا أيضا في الجانب الروحاني : فالعاميون حين يسمعون الكلمة من البدء ، فبفكر محب للحق يقدمون على العمل بها وينالون من لدن الله نعمة الروح القدس، أما الحكماء والذين يطلبون الكلمة بهمة خائرة ، فهؤلاء يفرون من الحرب ولا يتقدمون بل يوجدون خلف الذين يحاربون وينتصرون.
9 – وكما أن الرياح حين تعصف عصفاً عنيفاً تُحرك كل المخلوقات التي تحت الماء وتدوي عالياً، هكذا قوة العدو تصدم الأفكار وتحملها وتزعزع أعماق القلب نحو مشيئة العدو الخاصة وتُشتت الأفكار لخدمته . فكما أن العشارين يجلسون عند الطرق الضيقة ويُمسكون بالمارين ويسلبونهم ، هكذا أيضا الشياطين ترقب النفوس عن كثب وتمسك بها. وعند خروجها من أجسادها ، إن لم تكن قد تطهرت بالتمام ، فما يأذنون لها بالصعود إلى مراعي السماء وملاقاة سيدها، إذ تحدرها شياطين الهواء إلى أسفل. أما إن كانوا ، وهم بعد في الجسد، ينالون النعمة من الأعالي من عند الرب بتعب وجهاد کثیر ، فواضح أن هؤلاء سينطلقون إلى الرب ، مع أولئك الذين بلغوا الراحة بسيرتهم الفاضلة ، كما وعد هو : حيث أكون أنا هناك أيضاً سيكون خادمي » ( یو 12 : 26) ، وسيملكون إلى الدهور التي لا نهاية لها مع الآب والابن والروح القدس إلى دهور الدهور ، آمين .
- حرفيا : سهل احتقارهم .
- انظر : مت 13 : 46 .
- مت 27:23
- مت 27:23
- غل 4 : 1 .
- أف 13:4
- انظر : عب 22:12
- انظر : عب 23:12
- من كتاب العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
- لقراءة العظات كاملة في مقالات منفصلة إضغط هنا – العظات الخمسون للقديس أنبا مقار