حوار مع موسى النبي الصائم

 للقمص تادرس يعقوب ملطي

بوحي من مفاهيم القديس مار يعقوب السروجي، أتصوَّر مع بدء الصوم الكبير أننا نُدعَى إلى الدخول في حوار مع العظيم في الأنبياء موسى فيُقَال لنا: “هلموا نلتقِ مع موسى النبي لنسأله عن الصوم، هل من حاجة إليه، وكيف نستعد له؟ وكيف نمارسه؟ نسأله: ماذا نفعل في أحد الرفاع؟ يجيبنا قائلاً: “كم أنا حزين على إساءة الكثيرين لمفهوم الرفاع. إنه ليس مجالاً للاستعداد للصوم بإعداد موائد شهية قبيل بدء الصوم، إنما الرفاع هو احتضان المؤمن للبشرية إن أمكن كلها بالحُب الحقيقي، والارتفاع معها خلال فصح الصليب لينعم الكل برؤية الله القدوس القائم من الأموات، مُخَلَّص العالم؟”

ماذا تعني يا أبانا موسى؟

حين دعاني الرب للصعود على جبل سيناء، لم يطلب مني أن أصوم، ولم ينشغل فكري ماذا آكل على الجبل؟ ولا تساءلت هل أجد ينبوعًا أو بئرًا لأشرب طوال الأربعين يومًا؟ كنت أشعر إنني محمول على الأذرع الأبدية، حملت شعب الله في قلبي، بل اشتهيت أن أحمل كل البشرية لننعم معًا باللقاء مع الله والحوار المفتوح معه. طبيعتي كطبيعة كل إخوتي، جسدي محتاج إلى طعامٍ وشرابٍ، لكن بحُبي لخلاص إخوتي واشتياقي لله، بالنعمة الإلهية، لم أشعر بجوعٍ أو عطشٍ أو حاجةٍ إلى النوم. عَبَرَت الأيام الأربعين وكانت أشبه بطرفة عين. كنت أَتحدث مع الله كما يُكلم الرجل صاحبه (خر 11:33 ). تُرَى هل كنتُ على الأرض أم في السماء؟ ولا بهذا انشغلت.
أنت العظيم في الأنبياء، أمَّا نحن فضعفاء والحروب من كل جانبٍ حولنا؛ إذ يريد عدو الخير أن يعزلنا عن الله، فكيف نصوم مثلك؟

لا تقولوا هذا! الله قريب منكم للغاية، إنه أَقرَب إليكم من عائلاتكم وأصدقائكم، هو في قلوبكم. لستم في حاجة أن تصعدوا مثلي إلى جبل لتُمارِسوا الصوم، بل تستطيعون أن تُمارِسوه في كنيستكم وفي بيوتكم وفي أعمالكم وأثناء نومكم، بل حتى وأنتم تأكلون وتشربون وتتحدثون مع الناس.

كيف نمارِس الصوم هكذا عمليًا؟

اسمعوا لي يا أبنائي، فإن فترة الصوم الكبير هي الدينامو Dynamo الذي يدفع بحياتكم طول العام لتصعدوا من مجدٍ إلى مجدٍ (2 كو 18:3 ) بلقائكم مع مُخَلصكم، مشتهى الأمم!

حين تستيقظون وقبل أن تصعدوا من فراشكم لتصرخ قلوبكم إلى مسيحكم: “ليعمل روحك القدوس فينا، ليكون اليوم هو يوم الرب، اجعلنا مع كل نسمة نتذكرك. تمسح قلوبنا وأفكارنا وحواسنا وكل كياننا بروح التكريس لك، فنكون سفراء لك (2 كو 20 : 5 ) أمام الناس والملائكة”.

اطلبوا حراسة مشددة لأفواهكم (مز 3:141 ) فتصمت، وليتكلم الرب فيكم حتى
في أثناء عملكم.
حسن أن يكون لكم نظام في عبادتكم اليومية، لكن لا بالحرف القاتل بل بالروح
المحيي.
لتتخلل صلوات الأجبية صرخات قلوبكم بدالة، فتطلب أن يرافقكم الرب يسوع، ترونه وتتحاورون معه، ويكشف أسراره لكم.
احذروا يا أبنائي من الأنانية! صلوا من أجل العالم كله وغير المؤمنين والساقطين، كما من أجل الكنيسة والشعب وعائلاتكم وأخيرًا من أجل نفوسكم! صلوا بروح الحب والتواضع.
يطالبكم الرب بالعطاء مع الصوم والصلاة (مت6). ففي زيارة القديسة مريم لأليصابات لم تُقَدم لها طعامًا ولا ملابس للطفل، إنما قَدمت السيد المسيح المتجسد في أحشائها. هذه أعظم تقدمة، فالعالم كله محتاج إليها!
أُذكروا يا أبنائي أن إيليا وأنا صمنا أربعين يومًا، فتمتعنا برؤية السيد المسيح متجليًا على جبل تابور.
أحسسنا أن العظيم موسى كان بكل قلبه منسحبًا نحو السماء. كم كنا نود الحديث معه أكثر لنتمتع بخبرته مع الله، لكننا شكرناه من أجل الدقائق التي تحدث فيها معنا، راجين أن نلتقي معه في الرب مرة ومرات.

موسى واستنارة عقله بالصوم

كانت شهوة قلب موسى النبي الذي صام أربعين يومًا وأربعين ليلة أن يرى مجد الله (خر 18:33 ) ويتحدث معه. كما تجلى ربنا يسوع أمام موسى وإيليا اللذين صاما أربعين يومًا. وكأن الرب يدعونا أن نشترك معهما في صومهما، وأن تتقدس أصوامنا بصومه الإلهي فيتجلى رب المجد كما على جبل طابور داخل القلب، ويقيم الرب ملكوته في داخلنا كوعده الإلهي: “ملكوت الله داخلكم” (لو 21:17 ).
ونحن يليق بنا أن نصوم للانشغال برؤية الله والحديث معه؛ قائلين: “ها نحن قد تركنا كل شيء وتبعناك” (لو 26:18 ). على جبل تابور طلب القديس بطرس: “جيد يا رب أن نكون ههنا” (مت 4 : 17 ). حقًا مسكين من يصوم ولا ينشغل برؤية الرب والحديث معه، فإنه يعاني من جوع الجسد والنفس!

يقول القديس باسيليوس الكبير: [الصوم هو الذي جعل إيليا النبي يشاهد رؤى إلهية. إذ صام مدة أربعين يومًا وتنقت نفسه واستحق أن يرى الرب على جبل حوريب (1 مل 19: 8-13 )، الأمر الذي يصعب الحدوث لأي إنسان. بالصوم أعاد إيليا الحياة إلى ابن الأرملة، فأقامه وسلمه إليها (1 مل 21:17 )، إذ بواسطة الصوم برهن أنه أقوي من الموت .]
كما يقول: [الصوم هو تشبه بالملائكة، رفيق الأبرار، حياة العفة. الصوم هو الذي جعل موسى مُشَرعًا. وحُبل بصموئيل أيضًا كثمرة لصوم حنة النبية التي صلǻت إلى الله بعدما صامت قائلة: “يارب الجنود إن نظرت نظرًا إلى مذلة أمتك، وذكرتني ولم تنسَ أمتك بل أعطيت أمتك زرع بشر فإني أعطيه للرب كل أيام حياته” (1 صم 11:1). “وخمرًا ومسكرًا لا يشرب حتى يوم الموت” (انظر قض 14:13 ). الصوم هو الذي أسس ونمّى شمشون العظيم.
وحتى ذلك الحين الذي وقف معه آخرون ضد آلاف القتلة من الأعداء، هدم أبواب المدينة وحده والأسوار لم تحتمله بسبب قوة يديه (قض 29:16-30 ).لكنه عندما سقط أسيرًا للسكر والزنا، وقع في أيدي الأعداء بعدما فقد بصره وصار ألعوبة في أيدي عبيد أممغريبة (قض 21:6 ).
وبصوم إيليا توقفت السماء عن أن تُعطِي مطرًا ثلاث سنين وستة أشهر (1 مل 1:17 ). فقد دعته الضرورة أن يدعو المستمعين إليه إلى صوم انقطاعي عن الأكل بعدما رأى أنه بسبب شهوة الأكل ازداد الظلم والإهانة بين الشعب. بهذا الإجراء توقفت خطيتهم، لأن الصوم قد قطع الطريق نحو تفاقم الشر، كما لو أنه قد قُطِع بمقطع حاد .

  • بلغ موسى بالصوم إلى لقاء مع الرب ليتكلم معه من الضباب عن الأسرار الخفية (خر18:19-19)
    على الجبل أكل موسى الصوم كالخبز، وبه سمن وجمل ولمع بدون طعام.
    صام عن الخبز واتكأ على مائدة الله،
    وأكل النور وشرب البهاء واكتسب الجمال…
    صنع له الصوم مأدبة مملوءة حياة بذلك الطعام الذي لا فساد لمن يذوقه.
    رؤيا الرب ملأت ذلك الصائم شبعًا، وبنعمته كان يسمن روحيًا.
    أدخله الصوم إلى بيت الأسرار، وقام ليريه سر خلقة العالم وهو يُبنَى من العدم.
    كان قد تطهر من الأطعمة الثقيلة، واستنار عقله ليرى الخفايا بوضوح.
    تُثَقل حواس النفس بالطعام لتُحرَم من معرفة الأسرار الإلهية الخفية.


القديس مار يعقوب السروجي

صام موسى أربعين يومًا واستنار، وأكل آدم وفقد نعيمه

يقارن القديس مار يعقوب السروجي بين موسى العظيم في الأنبياء والذي رأى الله ودخل معه في حوارٍ مُفرحٍ واستلم الشريعة بكونها شروط عقد الخطبة السماوي، وآدم الذي تمتع بالخليقة التي خلقها الله له ولنسله لتخدمهم ويتعلمون أيضًا منها.

آدم بعصيانه إذ أكل من شجرة معرفة الخير والشرّ وبكسر الوصية، فقد التعليم المُقَدم له من الله. بهذا الطعام غلُظ فكره وقلبه ولم يستوعب الوصية الإلهية التي كان يمكنه أن ينتفع بها ويستنير أكثر فأكثر. أما وقد عصاها فقد زال عنه الفهم الروحي، واظلمت عينا نفسه. سقط آدم من رتبته الروحية. بعد أن كان موضع إعجاب السمائيين ومخافة الأرضيين له، تثقلت نفسه بالشرّ؛ فلم يهضم الطعام الذي أكله بل قتل نفسه.

أما موسى النبي الذي من نسل اللاويين، فصام أربعين يومًا وأربعين ليلة، ولم تثقل نفسه بشهوة الطعام والشره. في تواضع عرف أنه يلزمه أن يصوم ليدخل في حوارات مع خالقه ويتعرف على أسرار إلهية. استنارت نفسه بالصوم كمصباحٍ روحيٍ بهي. تلامس مع السماويات عوض السقوط في شهوات الملذات. لمع وجهه بنورٍ رائع حتى اضطر أن يضع برقعًا على وجهه حينما يلتقي بإخوته. تعرǻف موسى النبي على قدرة الخالق بالصوم. سكن في الضباب الذي لم يستطع أحد أن يتمتع به، وانفتحت أعماقه بمعرفة أسرار القدير محب البشر.

  • كان موسى وآدم تلميذَين لله، صام الواحد وتعلم، والآخر لأنه أكل فأضاع تعليمه.
    أكل التلميذ (آدم) الثمرة في عدن، وبذلك نسي ما تعلǻمه من الله (تك 3 ).
    مُعَلمه العظيم أوصاه كثيرًا ألا يأكل، وإذ أكل لم يقبل التعليم (تك 16:2-17 ).
    كان فكره وقلبه قد غلظا بطعامه،
    ولم يستوعب ليتعلم ذلك الناموس الذي كان سيحييه.
    فسدت طبيعته بالثمرة التي تناولها من الشجرة،
    وأظلمت وعميت من الفهم الروحي.
    أكل وسقط من رتبة الروحانية، ولم يكن يقدر أن يتعلم بعد، لأنه كان قد ثقل.
    ثقل عليه ذاك الطعام الذي شره به، وبما أنه تناوله بشهوة، قتله ولم يقدر أن يهضمه.
    دخل موسى ابن اللاويين ليتعلم هو أيضًا، فحفظ نفسه من الطعام لئلا يثقل.
    عرف بأن آدم طرده مُعَلمه لأنه أكل، ففطم فمه من الأطعمة ليصير مستنيرًا.
    بعقلٍ عظيمٍ تأمل في الصوم الذي يقدر أن يُعَلم الأسرار الخفية وخفايا الله.
    بتواضعه عرف بأن بالصوم تُفتَح عينا النفس لتتفرǻسا في الخفايا.
    رأى أن آدم أخرجوه من الفردوس لأنه أكل،
    فصام ليدخل، ويرى شجرة الحياة بجمالها.
    فرغ من الأطعمة الثقيلة ليستوعب أعماق اللاهوت.
    واستنار بالصوم كمصباح النور العظيم.
    اتكأ أربعين يومًا مع الله في الوليمة، فتنعǻم في أمواج النور بدون خبزٍ.
    نقاه الصوم إلى أن صار كله نورًا،
    فذهب ليرى ما يوجد فوق العالم وما يوجد بعده.
    أصبح غريبًا عن الخبز والمياه،
    لأنه كان يعرف بأن العقل يظلم والنفس تثقل بالأطعمة.-٦-
    بالصوم موسى رأى الله وتعلم أسراره، ولو أكل لما كان يكتسب ذلك التعليم.
    عرف كثيرًا أسرار اللاهوت الخفية، وبهذه المعرفة الإلهية نسي أن يأكل الخبز.
    آدم صار مائتا بالأكل، وموسى النبي تعرف على قدرة الخالق بالصوم.
    اخرجوا آدم من الفردوس لأنه كان شرهًا،
    ولما صام موسى دخل في ضباب الله.
    صعد الصائم على جبل الرب، صار لامعًا وسكن في ضباب الله، وهناك علمه كل ألغاز القدرة الخالقة.

القديس مار يعقوب السروجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى