الروح القدس – ديانة القوة

للأب أنتوني كونيارس

(يو7: 37 – 8: 12)

أحداث غريبة حدثت في يوم حلول الروح القدس في أورشليم: صوت كما من هبوب ريح عاصفة وملأ كل البيت، ألسنة منقسمة کانها من نار واستقرت على التلاميذ، ابتدأ التلاميذ يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا. ثم ميلاد الكنيسة في هذا اليوم عندما حل الروح القدس على جماعة تلاميذ غير متعلمين خائفين وهم منتظرون موعد الآب، عندئذ تغيروا إلى أشخاص متعلمين مملوئين غيرة وحمية وحماسا، شهود نشطين للكرازة باسم المسيح، واثقين بإيمانهم مدركين رسالتهم: «تكونون لي شهودا في أورشليم وفي كل اليهودية والسامرة وإلى أقصى الأرض» (أع1: 8).

ماذا يعني يوم الخمسين لنا؟ أين نبحث الآن عن مثـل هـذه النتائج التي حدثت عندما اقتحم الروح القدس النفوس: «فنخسوا في قلوبهم (يقصد المستمعين لبطـرس والموجـودين بأورشـلـيـم يـوم الخمسين)، وقالوا لبطرس ماذا نصنع… توبوا وليعتمد كـل واحـد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران الخطايا، فتقبلوا عطية الـروح القدس» (أع2: 37و38)، وفعلاً آمن 3000 شخص واعتمــدوا باسم الرب يسوع.

بعد أربعين يوما من قيامة الرب يسوع من الأموات صعد إلى السماء، وعلينا أن نتصور حالة التلاميذ عندئذ وهـم يـرون معلمهم يتركهم ويغيب عنهم، شعروا كما لـو كــانوا مـعـزولين، منفردين، غير مطمئنين؛ إلا أنه كان قد وعدهم أنه لن يتركهم، لكـن سيرسل لهم الباراكليت المعزي، الأقنوم الثالث من الثالوث ليرشــدهم ويقويهم ويعزيهم ويظل معهم إلى انقضاء الدهر وإلى الأبد.

اختبار مدهش:

وهكذا كان بعد عشرة أيام من صعود رب المجد، حل الروح القدس. يمكننا أن نتصور التلاميذ وهم مندهشون ويقولون: حـدث حقا ما وعد الرب به! هل هذا حقيقة؟! خوفنا تلاشی، انبثت فينـا قوة عجيبة جديدة، مع حكمة جديدة، معرفة بلغات جديدة كنـا نجهلها ومن قبل لا نفهمها. الله الآن معنا!

وكانت النتيجة أن بطرس الذي كان خائفا جدا حتى أنكـر علاقته بالرب يسوع وأعلن أنه لا يعرفه ثلاث مرات، يقف الآن أمام آلاف من الناس ويبشر بإقناع أن يسوع هو ابن الله. بطرس يطلـب من سامعيه أن يتوبوا وأن يعتمدوا، اعتمـد ثلاثـة آلاف ومـن وصاروا مسيحيين نتيجة لعظة بطرس.

يقول القديس باسيليوس St. Basil عن الروح القدس:

“من خلال الروح القدس تحققـت عودتنـا إلى الفردوس، وارتفعنا إلى المملكة السمائية، وصرنا مرة أخـرى أولادا الله. من خلال الروح القدس نستطيع أن ندعو الله “أبانا”؛ وصرنا قادرين أن نكون حائزين نعمة ربنا يسوع، ونكون أبناء للنور، ونشارك في المجد الدائم… “

(على الروح القدس فصل 15/ 15 .on the Holy Spirit, ch)

الله هنا الآن:

إذا تساءلنا أين الله؟ يجيبنا الروح القدس على السؤال، إن الله هنا الآن. إنه ليس فقط إله الأمس العظيم الذي خلق العالم وأرسل الأنبياء؛ إله الغد العظيم، إله العالم الأبدي والحياة الأبدية، بـل وليس فقط هو أيضا إله اليوم العظيم.

– يُسمى الروح القدس: “روحا” لأنه مثل: “نفس ـ نسمة” الله الذي يملأنا بحياة الله وقوته، ونقول في قطع الساعة الثالثـة في صلاة الأجبية عن الروح القدس: ” الحاضر في كل مكان والمالئ الكل” (حسب طقس الكنيسة القبطية). لأنّه روح، فهو مثل الهواء الذي نستنشقه والمحيط بنا والقريب منّا، الذي في خارجنا وداخلنا وواهبنا الحياة: “معطي الحياة (صلاة الأجبية)”.

الروح القدس هو: “كنـز الصالحات (الأجبية)”، من منا لا يحتاج إليه؟ من الذي لا يحتاج إلى روح القوة التي لا يمنحها سـواه؟

من الذي لا يحتاج إلى البصيرة والكلمة الصحيحة ليجـر علاقـة مكسورة أو محطمة؟ أليس سمات عصرنا الحديث أن الإنسان لا من يستطيع أن يقف تحت أي ضغط؟ إن كان يظهر أن الإنسان قوي من أنا الخارج، لكنه هش من الداخل حتى أن أي عقبة أو نكسة في الحيـاة تمزق عالمه الداخلي إلى أشلاء. من غير الروح القدس، روح القـوة الذي يعطي قوة احتمال؟

القدرة الكهربائية للمنـزل:

نسمع بين من يعملون في مجال الكهرباء ما يسمى بـ: “القدرة الكهربائية للمنـزل”. كثيرا ما نقرأ في الجرائد عن سـؤال مطروح: هل منـزلك متّصل بطاقة كافية لتشغيل جميع ما تحتاجه لمعيشة كافية تفي بالمطلوب؟ إن لم يكن فأنت باستمرار تحرق المنصهر عندما تضع أحمالاً ثقيلة جدا على: “طاقة البيت. إن نفس الأمر يحدث في حياتنا الشخصية. تفكر في الاحتياجات الهائلة الثقيلة الملقاة على عاتق: “قوتنا الشخصية كل يوم. تفكر في القوة التي نحتاجهـا لنواجــه المــشاكل العديدة وتجارب الحياة. تفكر في القوة الداخلية التي نحتاجها حتى نكون على مستوى التواؤم مع ضغوط الحياة اليومية. إن لم يكن لنا قوة داخلية كافية، فنحن نحرق المنصهر. نحن نحرق أهم ما فينا. نحن نتمزق. إنّهـا علامة الإحباط وعدم المواءمة لمواجهة احتياجات الحياة.

الاقتحام العظيم:

هو الروح القدس الذي اقتحم البشرية يوم الخمسين، وأعطـى التلاميذ القوة الداخلية والحكمة ليواجهوا كـل الـضغوط الخارجيـة بانتصار.

نفس الروح القدس متاح لنا اليوم من خلال الكنيسة، الصلاة، الأسرار. يقول القديس يوحنا ذهبي الفـم St. John Chrysostom في عظة له يوم عيد حلول الروح القدس:

الله العظيم في نعمه منحنا اليوم هباته وأفاضها علينا، عطايـا عظيمة جدا لدرجة لا يمكن أن يعبر عنها بكلمات. لذلك دعنا نفرح معا، وفيما نحن نفرح هيا بنا نسبح ونمجـد الرب. وأنا أسأل، ما الذي كان يلزم أن يعطى لنا من أجل خلاصنا ولم يعطنا الروح القدس إياه؟ لقد حررنـا مـن العبودية، تبنانا ودعانا إلى حرية مجد أولاد الله. مـن هـذا النبع (الذي هو الروح القدس) تدفقت النبوات، وعطيـة الشفاء، وجميع المواهب الأخرى والثمار اللأزمة أن تـزين بها الكنيسة نفسها”.

نفاذ الوقود:

قص شخص ما خبرة حدثت له بينما كان يقود سيارته مـع أسرته في رحلة في الريف أثناء الربيع. كان الجميع يتمتعون بجمال المناظر الطبيعية من حولهم: الزهور العبقة في الحقول، الأشجار ذات الــــراعـم الجميلة، والبحيرة الوضاءة الفاتنة. وفجأة نظر السائق إلى عداد قياس الجاز، فرأى المؤشر يشير إلى علامة نفاد الوقود. يقول عن اختبـاره: ” كنا قبل ذلك نتمتع بسرور بكل ما حولنا، ولكن عندما لاحظت أن ما في العربة من وقود لا يكفي إلى محطة إمداد الجاز التالية انتابنا الهلع، ولم يعد أي شيء من الجمال يبهرنا، وكان كل ما يدور في فكرنـا مـاذا سيحدث لو توقفت بنا العربة في مكان ناءٍ”.

هكذا هو الأمر في الحياة، أشد ما يفزعنا فيها هو نفاد الوقـود، وفقدان القدرة على مواصلة المسيرة. طالما نحن متأكدون أن القـوة متاحة، وأن: “الوقود لن ينفد بعد”، يمكننا أن نستمتع بالحياة، وبكـل الأعمال العجيبة التي هيأها لنا الله. ليس أبأس من أن نمضي في الحيـاة ونحن نشعر أنه في أي لحظة سنفقد وقودنا وقوة دفعنا.

خلق الإنسان ليشق طريقه في الحياة بنوع واحد من الوقـود: “الروح القدس”، فهو فقط الذي يمدنا بالقوة والاتجاه المحتاجين إليه. قد نحاول استخدام أنواع أخرى من الوقود، ولكنّها لن تمدنا بـنفس الأطوال، ونفس الثقة ونفس قوة التحمل. وكما أن موتور العربة لا يعمل حسنًا أو قد لا يعمل أبدا بتغيير نوع الوقود، حتى ولو كانت رائحته أفضل أو ثمنه أرخص، هكذا الإنسان يضعف ويعتل إن حاول أن يعيش على أي وقود غير الروح القدس. يتساءل بولس الرسول: «أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس؟» (1کو6: 19). الروح القدس هو قوام الحياة، وسند المعونة، والقوة المغذية. لیست نصيحة أسوأ من أن تقول لشخص ما: “حاول! حـاول أكثر! ابذل مزيدا من الجهد والجهاد!”. الشخص الذي يعاني من تعـب مزمن أو إجهاد، أو شخص أصيب بصدمة لا يمكنه أن يحاول أكثـر، فقد حاول من قبل بجهد كثير، وما يحتاج إليه ليس بذل إضافي، ولكـن إلى مصدر إضافي للطاقة؛ ليس ضغط أزيد على دواسة البنزين، ولكن إلى مزيد من الوقود في التنك، مزيد من القوة. ما يحتاج إليه هـو الله، الروح القدس: «ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم» (أع1: 8).

 الهدف المبتغى، النهائي والأخير قد أكمل:

 قبل أن يصعد الرب يسوع إلى السماء قال: «خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي» (16: 6). تصور معي! يسوع نفسه يقول لنا إنه من الأفضل أن يمضي، حتى يمكنه آنئذ أن يرسـل الـروح القدس! يوم الخمسين هو جل القصد الذي من أجله تجسد المسيح وأتى على الأرض. لأنه بعد أن فدانا، وغسلنا وطهرنا بدمه الكريم، صـيرنا المسيح لائقين لننال الروح القدس. في يوم الخمسين جاء الروح ليملأ الكنيسة بحضوره، وتم القصد الذي لأجله جاء المسيح واكتمـل وهو أن يسكن الروح القدس فينا ويقيم إلى منتهى الدهور. القـدس

إسطفانوس وبطرس وبولس :

جاء الروح القدس إلى القديس إسطفانوس، أحـد الشمامسة السبعة الأوائل، فتكلم بقوة هذا مقدارها، حتى إن أعـداء المسيح لم يقدروا أن يقاوموا الحكمة والروح الذي كان يتكلم به، وحنقوا بقلوبهم وصروا بأسنانهم وقبضوا عليه، وعندما أعطوه فرصة ليتكلم عن قصة المسيح فعل ذلك ببلاغة وفصاحة وقوة إقناع لم يستطيعوا مقاومتـها: «أما هو فشخص إلى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فرأى مجد الله، قائما ويسوع عن يمين الله»، وأخيرا: «أخرجوه خارج المدينة ورجمـوه»، وأثناء موته صلى قائلاً: «يارب، لا تقم لهم هذه الخطية» (أع7). إذ امتلأ إسطفانوس من الروح القدس، استطاع أن يغفر لقاتليه.

والروح القدس الذي حل على الشهيد إسطفانوس حل علـى التلاميذ، أي أشخاص صاروا! عاشوا حياة نصرة وشجاعة وجسارة. بطرس الضعيف الذي أنكر سيده فيما المسيح في أشد حاجة إليـه صار فجأة مبشر ًا جريئا بالكلمة.

وشاول الطرسوسي، مضطهد المسيحيين العظيم، تغير تماما وهو في طريقه إلى دمشق ليقبض على المسيحيين هناك، وبعد أن امتلأ من الروح القدس قلب العالم ليصيره للمسيح. حقــا نـال التلاميذ: «قوة من الأعالي».

القوة في يومنا هذا:

هل لنا هذه القوة لتتغير نفوسنا الجرداء إلى حديقة جمال؛ قوة لمقاومة هجوم الخطية وانقضاضها، وإن سقط أحد في الخطية يقتفى آثار الابن الضال ويعود إلى بيت أبيه وهو متأكـد ومطمـئـن مـن الغفران الكامل المجاني؛ قوة لاحتمال أثقال كل يوم؛ قـوة لكـسر سلاسل العادات الخاطئة التي طال زمان تقيدنا بها وعبوديتها لنا؛ قوة للصمود أمام العواصف؛ قوة لقول ما هو حق، مهما كـان الـثمن والتضحية؛ قوة للغفران، للحب، لتحقيق النصرة النهائية.

يسبح أحد الآباء الروح القدس بهذه التسبحة ويقول:
الروح القدس واهب كل العطايا. هو الناطق في الأنبياء، ومكمل الكهنوت. معلم الحكمة للأميين، ومحول صيادي السمك إلى لاهوتيين؛ جامع في شمل واحد كل كنيسة الله. أيها المعزي، يا من أنت واحد مع الآب في الجوهر والمالـك معه ومع الابن الوحيد، الرب يسوع، المجد لك“.

يصلي أحد القديسين ويقول:

“تعال، أيها النور الحقيقي؛ تعال،

أيها الحياة الأبدية.

تعال، أيها السر المخفي؛

تعال، أيها الكنـز بغير اسم.

تعال، أيها الفرح المستمر؛

تعال، أيها النور الذي لا يخفت .

تعال، أيها الرجاء الذي يخلص الكل؛

تعال، يا قيامة الموتى.

تعال، أيها القوي، الذي يملأ، ويغير،

ويحول بإرادتك وحدك.

تعال، أيها الإكليل الذي لا يذبل؛

تعال، يا نفس حياتي، وعزاء القلب المنسحق.

تعال، يا روح الله، املأنا بحضورك؛

تعال، اجعل من أجسادنا هياكل مقدسة لك.

تعال، واملأنا بالقوة للغلبة؛

تعال، أعد صورة الله فينا.

تعال، قو إيماننا؛

تعال، مكنا أن نتكلم ونعمل بك ولأجلك في العالم.

تعال، واغفر خطايانا ؛

تعال، انفخ فينا حياة الله، غير المائت والدائم.

تعال، أيها الروح القدس؛

تعال! وكما أن الأرض العطشي تتوق إلى الماء،

نحن نتوق إليك يا الله.

فاصل

مجابهة عواصف الحياة كتب الأب أنتوني كونيارس روشتة للقلق  
كتاب لقاء مع الرب يسوع في الأناجيل – ج1
المكتبة المسيحية

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى