من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

رؤية الله

 

إن رؤية الله أمنية جميلة بقدر ما هي غاية ممكنة، يمكن أن يتحقق بها الإنسان، وإن لم يكن ذلك ميسوراً لكل أحد وفي كل وقت….

فالرؤية إما أن تكون حسية وظاهرة، أي بالعين المجردة أو المكبرة، وإما أن تكون عقلية وروحية وباطنة.

فالإنسان مخلوق ذو حواس خمسة، إحداها النظر.والإنسان السليم له عينان يرى بها الأشياء الخارجة عنه، في صورة تنتقل إلى مقلتيه مقلوبة ثم تعتدل في المخ، وهذه هي الرؤية الحسية المادية.

لكن الإنسان قد يرى أيضاً بروحه بعض الأمور رؤية عقلية باطنية، وهي الأفكار، والأنظار العقلية. وقد يكون ضريراً لا ينظر ولا يبصر بعيني رأسه الظاهرتين، ولكنه يدرك إدراكاً عقلياً الموضوع الذي يتحدثون به إليه أو يناقشونه أمامه. ومن هنا جاء التعبير عن الأنظار العقلية والفكرية بقول: «إني أرى …» أى أرى بفكرى، والرؤية هنا باطنية وروحية وعقلية وفكرية.

وفيما يتصل بالله، وهو القوة العظمى، وخالق الكون، والعلة الأولى للوجود، لا يراه الإنسان بعينيه اللتين في مقلتيه رؤية حسية، فإنه تعالى مستشرف على المادة، ولذلك يوصف بأنه «الغير المنظور» و «الغير المدرك» لا يرى، ولا يقدر أحد أن يراه.

جاء في الكتاب المقدس «الله لم يره أحد قط» (يو1: 18) «الذي لم يره أحد من الناس ولا يقدر أن يراه» (1تي6: 16).

ومع ذلك فالإنسان يرى الله بالعقل إذ يُدرك بعقله أنه لابد للوجود من خالق، هو العلة الأولى.

حقاً إن الله لا يرى، ولكن العقل يقود الإنسان إلى أن هناك الله، فيؤمن به. وهذا هو معنى ما قاله القديس أوغسطينوس «العقل يسبق الإيمان». «وأما الإيمان فهو الثقة بما يرجي، والإيقان بأمور لا ترى» (عب11: 1).

من هذا المنطلق يمكن أن يقال إن الإنسان يرى الله، بمعنى أنه يؤمن به وإن كان لا يراه مرأى العيان. فالرؤية بهذا المعنى رؤية روحية بالعقل والروح. بيد أن الروحانيين من الناس، ولا سيما الرهبان يطمحون إلى أن يروا الله في ذاته وذلك بشخوصهم فيه، ولكن قبل أن يتوصلوا إلى رؤية حقيقية صادقة، لابد أن يمروا في تجربة روحية طويلة تستغرق وقتاً طويلاً، في مجاهدات روحية ـ وتداريب على التأمل العميق في جو من الهدوء الكامل الذي لا يتوافر عادة في وسط الناس وفي صخب الحياة العامة، لذلك لابد أن يعتزل العابد الناس، في مكان يتوافر فيه السكون التام مع تسكين الحواس، والإرتقاء بالروح والفكر إلى الله، في تركيز وإحداق، واستبعاد للشواغل كلها، التي تشغل إهتمام الإنسان العادي، شواغله الشخصية والعائلية والاجتماعية، وشواغل العمل. ومن البديهي أن هذه الغاية تحتاج إلى مجاهدة متأنية، وإلى صبر ومثابرة وتدريب متواصل مع ممارسة الأصوام الطويلة، والاكتفاء بالقليل من الطعام النباتي في صورته الطبيعية.

فبالنسك والزهد مع السكون والهدوء ثم التأمل العميق والشخوص في الله، قد يتوصل العابد إلى أن يرى الله. وهذه الرؤيا لابد أن تكون في مبدأ الأمر إشراقاً من النور على الروح الإنسانية، يزداد وينمو شيئاً فشيئاً حتى يستغرق الإنسان العابد في الإشراقات الإلهية، والرؤيا الطوبانية إستغراقاً عميقاً.

وبعد، فهذا هو (الاختطاف العقلي)، فيه وبه تختطف روح العابد الراهب الناسك، فتخترق بروحانيتها الجسد مع وجودها فيه كدولاب، وتصعد إلى فوق، والجسد على الأرض، في المكان، وفي صعودها وإرتقائها تعلو كما يعلو الطائر، فترى «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» (1کو2: 9)، «ترى وتسمع ما لا ينطق به، ولا يسوغ لإنسان أن ينطق به» (2کو12: 4).

هذه هي الرؤيا الطوبانية التي تتحقق للعباد الروحانيين تدريجياً، وعلى مراحل، وبقدر تفاوتهم في المجاهدات الروحانية واستغراقهم في التأمل والشخوص في الله، مع تسكين الحواس، واستبعاد الشواغل والإهتمامات الأرضية والشهوات والميول الجسدية. 

ولقد تحقق الروحانيون المتعبدون بهذه الرؤيا الطوبانية والإشراقات النورانية.

ولعل من بينهم من ذكرهم الكتاب المقدس، وكتب التراث المسيحي والتقليد الآبائي: «أخنوخ الذي سار مع الله، ولم يوجد لأن الله أخذه ونقله» (تك5: 24)، (عب11: 5)، (ابن سيراخ44: 16)، (يهوذا 14). ومن بينهم أيضاً إيليا الذي صعد في العاصفة إلى السماء، في مركبة نار وخيل من نار» (2مل2: 11، 12).

ومن بينهم أليشع الذي بلغ من روحانيته أنه كان يرى خيلاً ومركبات من نار حوله لحراسته، ولما صرخ تلميذه جيحزى فزعاً من الخيل والمركبات والجيش الذي أرسله ملك آرام ليأخذ أليشع، فقال جیحزی «آه یا سیدی کیف نعمل؟ فقال لا تخف لأن الذين معنا أكثر من الذين معهم، وصلى أليشع وقال: يارب. افتح عينيه فيبصر ففتح الرب عيني الغلام فأبصر وإذا الجبل مملوء خيلاً ومركبات نار حول أليشع» (2مل6: 8- 17) ولما ذهب جیحزى وأخذ من نعمان السرياني وزنتي فضة في كيسين وحلتي ثياب، ورجع دون أن يعلم سيده أليشع بذلك. فقال له أليشع «ألم يذهب قلبي حين رجع الرجل (نعمان) من مركبته للقائك» (2مل5: 21-26).

ومما يرويه الكتاب المقدس عن القديس بولس الرسول أنه «كان يصلى في الهيكل»، «وأثناء الصلاة واستغراقه فيها «وقع في غيبوبة» عن الحواس، وغاب عن الوعى»، فحدث له إنجذاب واختطاف لروحه «فرأى الرب، عندئذ قال له الرب: أسرع فأخرج على عجل من أورشليم (أع22: 17).

وكذلك ذكر الكتاب المقدس عن القديس يوحنا الرسول أنه وهو في جزيرة بطمس، مستغرق في الروح في يوم الرب، حدث له اختطاف بالروح، فرأى الرب. وعن هذا يقول «فلما رأيته سقطت عند قدميه كالميت، فوضع يده اليمنى على قائلاً: لا تخف، أنا الأول والآخر، أنا الحي، وقد كنتُ ميتاً وهاأنذا حى إلى أبد الدهور، وبيدي مفاتيح الموت والجحيم» (الجليان ـ رؤ1: 9-18).

وغير هؤلاء وأولئك ممن ذكرهم الكتاب المقدس من أمثال أخنوخ، وإيليا، وأليشع، وإبراهيم، ويعقوب، وموسى، وإشعياء، وحزقيال، ودانيال، ويوحنا، وبولس .. هناك على مدى التاريخ الطويل آخرون من العباد والرهبان القديسين وغيرهم من الروحانيين، ممن صفت نفوسهم بالمجاهدات الروحانية، فسعدوا وتنعموا بالإشراقات النورانية، والرؤى الطوبانية، والمكاشفات السمائية، فرأوا بعيونهم الظاهرة والباطنة ما لا يراه غيرهم ممن استغرقوا في الماديات والشهوات، فران على عيونهم الحجاب أو الحجب، فلم يروا. هؤلاء وأولئك هم بشر، ولكن هناك من البشر من تميزوا عن غيرهم، فانكشف عنهم الحجاب، فرأوا، وآمنوا، وإزدادوا إيماناً بما ومن رأوا، فصاروا يعيشون حياتين، حياة في المنظور، وحياة في غير المنظور، أو هي عندهم حياة واحدة لها وجهان.

«لأننا لا ننظر إلى ما يرى، بل إلى ما لا يرى، فالذي نراه هو إلى حين، وأما الذي لا نراه فهو إلى الأبد» (2کو4: 18).

زر الذهاب إلى الأعلى