من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي

مثل الوزنات

 

مثل الوزنات من كلمات ربنا يسوع المسيح، وأولى بنا أن نتأمله لأن فيه معاني عميقة تحتاج منا أن نقف عندها.

يقول رب المجد اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة التي يأتي فيها ابن الإنسان ليدين الأحياء والأموات. ولقد شاء الله أن يكون هذا الأمر مستورا مخفياً غير معلوم، حتى يكون الإستعداد من جانب الناس قائماً على قدم وساق، فأنت عندما يقول لك شخص كبير، أنا سأتي عندك في بيتك، لكنه لم يحدد الوقت، هنا تكون مترقب مجيئه، وتضطر أن تلغي مواعيد خروجك من البيت، لأنك متوقع أنه قد يأتي في وقت تكون أنت فيه خارج البيت. فإذا حدد لك اليوم ولم يحدد الساعة، فإنك تبقى في هذا اليوم في بيتك، وترتدى ملابسك وتعد بيتك من اليوم السابق، وتهييء ما يمكن تقديمه له من واجبات الضيافة، لكنك منذ الصباح الباكر تظل مرتدياً ملابسك لأنك لا تعلم الوقت ولأنه لم يحدد لك الزمن والساعة التي يأتي فيها.

هكذا مجیء ربنا يسوع المسيح للحساب، شاء الله أن لا يكون محدداً ومعيناً، حتى يكون الإنسان على أهبة الإستعداد دائماً،  وهذه هي الحكمة من أن يظل علمنا باليوم والساعة مجهولاً، وقال الرب صراحة: «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه»، بهذه المناسبة أنا أرى سؤال من ضمن الأسئلة الموجهة إلينا عن من يحددوا سنوات معينة لمجيء المسيح الثاني، والحقيقة أن هذا الكلام صعب ولا أحد يقدر أن يقول أن هناك إمكانية تحديد حاسم ونهائي لهذه الأمور، ممكن يقال أنه قد اقترب، وفعلا قد اقترب، ولكن من الصعب أن نحدد سنة معينة، ويوماً معيناً، لأن المسيح أجاب على هذا السؤال وقال: «ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه»وقال هنا صراحة «اسهروا إذن لأنكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة»، لكن ممكن نقول أن مجيء المسيح قد اقترب هذا صحيح، هناك علامات تدل على أن هناك إقتراباً لهذا اليوم، إنما لايوجد من يملك أو عنده العلم الدقيق الذي به يمكنه أن يحدد اليوم ولا الساعة. يقول مخلصنا له المجد: «مثل ذلك مثل رجل كان مزمع السفر، فدعا إليه عبيده وسلمهم أمواله»، أي ترك كل أمواله في حيازة هؤلاء العبيد، وهنا السيد المقصود هو الله

وبلغة أخرى هو المسيح، لأنه حينما يتكلم عن مثل رجل كان مزمع السفر، فسيدنا له المجد كان على الأرض ثم سافـر وذاك بصعوده إلى السمـاء، ووعد بأنه سـوف يجيء، قال: «متى أعددت لكم مكاناً آت أيضا وآخذكم»، والملاكين اللذين ظهرا عند صعود المسيح له المجد، قالا: «ما بالكم أيها الرجال واقفون تنظرون هكذا، إن يسوع هذا الذي رأيتموه صاعداً إلى السماء سيأتي كما رأيتموه صاعدا إلى السماء»، فهذا توكيد لمجيء المسيح الثاني.

ما هي الوزنات:

من هو السيد الذي أزمع السفر ثم سافر بالفعل، هو سيدنا له المجد الذي أقام على الأرض فترة من الزمن، ثم صعد إلى السماء على مرأى من تلاميذه ومن جميع الناس، لكنه قبل أن يسافر أودع أمواله لعبيده، وهذا معناه أنه سلم الكنيسة وسلم المسئوليات، سلم المواهب والعطايا والوزنات لعبيده، وهذا يرينا أية كرامة أعطاها الله للإنسان، أنه تنازل فأعطى أمواله أي مواهبه وعطاياه للناس، قد أعطاها لهم لا لكي تكون ملكاً لهم، هي ملكهم لفترة من الزمن، لكنه أعطاها لهم لكي تكون في حيازتهم ليتاجروا بها لحساب سيدهم، فإذا تاجروا حسنا سوف يكافئهم عن أعمالهم الحسنة وتجارتهم الرابحة، أما الأموال وأما المواهب وأما العطايا فهي وديعة، ولابد لصاحب الوديعة أن يتسلم وديعته.

1- الأموال:

هذا السيد سلم أمواله، والهاء هنا تشير إلى أنه صاحب الأمر وهو المالك الحقيقي، وهنا نذكر قول الرسول بولس: أي شيء لك لم تأخذه، أي ولا شيء، أنه المالك الحقيقي فيها، هل أنت صاحب الحق في شيء ما؟ إن كل ما نتمتع به من خيرات الطبيعة، هو ليس ملكا لنا، نأكل ونشرب من النباتات التي أعطاها الله لنا، أبونا آدم عندما خلق وجد أن الأرض مزودة بهذه النباتات، الله خلق الأرض وخلق النباتات قبل أن يخلق الإنسان، وخلق له أيضا الحيوانات لتكون تحت سلطانه، يستخدمها ويستغلها لخدمته. وخلق له الشمس والقمر، وخلق له الهواء وخلق له الأملاح المعدنية في التربة، خلق له النجوم والكواكب والأقمار، خلق له قوانين الطبيعة، خلق له كل هذه الإمتيازات الموجودة في الطبيعة والخيرات، الإنسان ليس مالكها، مالكها هو الله لأن الله هو الذي أعطاها. ولكنه تفضلاً وتكرماً جعلها في حيازة الإنسان. إذن الإنسان ليس حراً أن يتصرف في هذه الأشياء من غير إرادة سيده.

2- المواهب والعطايا:

كذلك أيضا القدرات التي أعطاه الله إياها، القدرات العقلية، الإمكانات الفكرية، المواهب والإمتيازات، إن كان ذكاء أو كان حكمة أو إن كان فهماً أو إن كانت مشورة أو رأى سليم، إن كانت موهبة في بعض حواس الجسد، موهبة النظر أو السمع أو الشم، أو ما إليها من الحواس، بل حتى الجسد كله ليس ملكاً صرفاً للإنسان، إنه أيضا وديعة، فليس من حقك أبدأ أن تتصرف في هذا الجسد من غير إرادة سيدك. ليس من حقك أن تتلف هذا الجسد بتخطى قوانين الطبيعة، أو بالمكيفات الضارة، بالتدخين أو الخمر، أو الإفراط في الطعام، ليس من حقك أن تتلف شيئا في جسدك أو أن تحدث عاهة فيه، أو تقطع عضواً من جسمك، أو أن تنتحر وتقتل نفسك، هذا ليس من حقك. لا تقل هو جسدي، هو جسدك كأمانة وكوديعة، ولكن ليس ملكك على الإطلاق، هو موهوب لك، معطى لك من سيدك، لذلك ينبغي أن ترعى الأمانة.

لذلك بهذه المناسبة لا يصح أن يقول شخص أنا حـر، أعمل الذي أنا أعمله في جسدي، لا..، لست حراً، لأن أي شيء لك لم تأخذه؟ من قـال أن هذا ملكك؟، أنت لبست هذا الجسد، أعطى لك هذا الجسد، لم تختار هذا الجسد، إنما هـذا الجسد أعطى لـك، فليس من حـقـك أبـدا أن تستغلـه، أو أن تتلفه من غير إرادة سيدك، ولذلك يقول الرسول: «إن جسدكم هيكل الله، ومن أفسد هيكل الله يفسده الله». جسدك إذن أمانة، جسدك وديعة، فحرام عليك أن تتلف هذا الجسد بأي مكيفات ضارة، إذا عرفت أن هناك شيء يضرك وتعمله هذا حرام عليك، هذه خطيئة أنت ترتكبها، فأولاً وإبتداءاً الجسد وديعة، فإذا أتلفته فقد أتلفت الوديعة، وتكون أنت مغتصب وسارق وقاتل، أي عادة من العادات تعلم أنها تضرك وتعملها هـذه حرام عليك وخطيئة، «من يعرف أن يعمل حسناً ولا يعمل هذا خطيئـة لـه». فمن باب أولى إذا كنت تعرف أن شيء خطيئة أو شيء يضرك ويضر صحة جسدك، سواء كان هذا كلام المعلمين أو الواعظين أو كلام الأطباء، وكلام الناصحين لك، لا تقول: العمر واحد والرب واحد، هذه الخرافة التي يطلقها الناس لكي يتنصلوا من مسئولياتهم، يهرب من مسئولياتـه هذا كلام خطـأ، سليمان الحكيم يقول «لا تكن شريراً كثيراً، لا تكن جاهلاً كثيراً، لماذا تموت في غير أوانك». أنت تقصر عمرك بشرك أو بجهلك.

جسدك إذن وزنة، وكل عضو من أعضائك وزنة، خصوصا نحن المسيحيين الذين دشنا بالميرون المقدس، فأصبحت أعضاؤنا مدشنة ومكرسة للمسيح، ولذلك يقول الرسول بولس أيضا: «هل آخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية!!» انظر كلمة آخذ أعضاء . ” المسيح، أعضاءك إذن صارت للمسيح بتدشينها بالميرون، لسانك تدشن بالميرون، فليس لك أن تفسد هذا اللسان بالشتائم، والألفاظ القبيحة والتعبيرات غير اللائقة بك كإنسان مدشن ومقدس، ما معنى التدشين؟ التدشين هو التقديس والتكريس والتخصيص، عندما نقول الكنيسة مدشنة لله، مدشنة بمعنى مكرسة، مقدسة، مخصصة الله، أي لا يجوز أن يعمل فيها عمل آخر. أصبحت وقفاً محبوساً على الله.

 فيا من قبلتم سر الميرون ودهنت أعضاءكم في ستة وثلاثين موضعاً بعد أن خرجتم من مياه المعمودية، فأصبحت أعضاءكم ليست لكم، أصبحت أعضاء المسيح، تكرست وتقدست وتخصصت للمسيح. هذا هو معنى هل آخذ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟ فلا تقول أنا حر، أنت لست حراً، لا توهم نفسك بهذه الحرية، أنت مخلوق من الله، لست أنت الذي صنعت نفسك، بل أنت صنعت ونسجت فليس لك شيء إلا وأخذته، لا تملك شيئا، أنت عارياً،وما عندك معار لك، وما عندك وديعة، وهذه الوديعة لابد أن تُرد لصاحبها. فكيف تردها لصاحبها؟ لابد أن تردها سليمة، لا تمسها بشر، فإذا مسستها بشر فقد أتلفت عمل سيدك ولابد أن تحاسب، من أفسد هيكل الله يفسده الله. أنتم هياكل الله وروح الله يسكن فيكم، لو كان كل واحد يشعر أن أعضاءه مقدسة ومكرسة لله فكيف یزنی؟ وكيف يعطى جسده للخطيئة؟ وكيف يبيع نفسه للشيطان؟ هل يمكن أن يعفى من العقوبة العظيمة لأنه أتلف أعضاء المسيح وأفسدها.

الشباب الذي يضيع نفسه في عادات سرية شريرة أثيمة، لابد أن يعرف مقدار وشناعة هذه الخطيئة، أنت تفسد هيكل الله، فلابد أن يفسدك الله، لا تمد يدك ولا تتلف جسدك ولا تهلك قوتك، ولا تعطى قوتك للشيطان أو للخطيئة أو للزنا، لا تحرق أعصابك وقوتك العصبية، تحرقها في غير إرادة الله،حرام هذا، لابد أن تعرف أنك مؤتمن على وديعة ولابد للودائع أن ترد إلى صاحبها، لأن صاحبها واحد وهو الله.

دعا إليه عبيده وسلمهم أمواله فأعطى واحد خمس وزنات من الفضة، وآخر وزنتين، وآخر وزنة واحدة، كلا منهم على قدر طاقته ثم سافر.

في الزمن الذي سيدنا له المجد تكلم فيه عن هذا المثل، كان التعامل الإقتصادي بوزنات حقيقية من الذهب أو من الفضة، اليوم نحن نتعامل بالعملة الورقية، جنيه أو خمسة أو عشرة أو عشرين .. الخ هذه عملة ورقية، هذه العملة الورقية في الواقع عبارة عن إيصالات، لكن المقابل لها موجود في بنك الحكومة، ففي وقت المسيح المقابل كان بوزنات من الذهب.، لم يكن هناك عملة ورقية، فعندما كان الإنسان يبيع أو يشترى، يحمل في جيبه صرة فيها ذهب أو فضة، وعندما يشترى شيء يدفع من الوزنات الفضية أو الذهبية، أنا أقول هذا الكلام لكي تعلموا أن كلمة وزنات هنا كان يقصد بها وزنات حقيقية، لها وزن، وثقل.

ليس من حقك الإعتراض:

لذلك يقول أعطى لواحد منهم خمس وزنات من الفضة، وأعطى لواحد وزنتين، وأعطى لآخر وزنة. هنا سؤال لماذا هذا التمايز؟ هذا كلام المعترضين، لماذا الله يعمل ذلك؟ لماذا يميز؟ لماذا يعطى واحد كثير ويعطى الآخر قليل؟ وبسرعة نحكم ونقول أن الله ظالم، أو الله يحابي، أو الله له ناس ناس، وأمثال هذه التعبيرات الشريرة، تعبيرات التجديف، أو لا على قول مار بولس الرسول: ليس من حقك أنت أن تعترض على جابلك، أو تقول له لماذا خلقتني هكذا؟ .. ليس من حقك أن تقول لماذا أعطى فلانا خمس وزنات وأعطاني أنا وزنة أو وزنتين؟ ليس من حقك هذا؟، هذا حق صاحب العطية، له نظرة، ومادام أنت لا تحاسب إلا على قدر الوزنة التي أعطيت لك، فليس هناك ظلم إلا إذا كنت طماع. لماذا يكون هناك إعتراض، وزنة أو إثنين أو خمسة، صاحب الأمر سيحاسبك على قدر ما أعطاك، هنا لا يوجد ظلم، لكن لماذا أنت تنظر إلى التمايز على أنه ظلم؟ لأنك طماع، هذه خطيئة الطمع، لابد أن تعرف أن صاحب الأمر والنهي له نظرة؟ ويحمل كل سفينة على قدر حمولتها، وهنا الكتاب المقدس يقول: «كلا منهم على قدر طاقته»، أي المسألة ليست مبنية على محاباة، لماذا الله يحابي واحد على حساب الآخر؟ نحن كلنا خليقته، ما الداعي لهذا التمايز من جانب الله، طالما أن هذا التمايز لا يترتب عليه تمايز في الجزاء، لأنه يحاسب كل واحد على حسب ما أخذ، فلا يوجد ظلم، عندما حاسب العبد الذي معه خمس وزنات كانت المطالبة بخمس وزنات أخرى، وصاحب الوزنتين عندما أحضر وزنتين أخريين لم يلمه سيده، ولم يقل له لماذا لم تحضر خمسة، بل سمع من سيده نفس العبارة الجزاء الصالح الذي أعطاه لصاحب الخمس وزنات. قال للأول أحسنت أيها العبد الصالح والأمين بما أنك كنت أمينا في القليل أقيمك على الكثير، ونفس العبارة استخدمها بالنسبة لصاحب الوزنتين، أين التفريق؟ الجزاء واحد على الرغم من أن هذا أحضر خمسة والآخر إثنين، لكن سيدنا عادل فصاحب الخمس وزنات أحضر خمسة، الربح على قدر رأس المال ۱۰۰٪، وزنتين أحضر إثنين، أمام الله ۱۰۰٪، صحيح أن هذا إثنين وهذا خمسة، لكن لأنه أمام الله الإثنين متساويين فلا يوجد ظلم، فمن العيب أنك تقول الله لم يعطنى، الله أعطاك في نواحي معينة، وأنت غفلان عنها من كثرة طمعك، أنت تنظر لأخوك الآخر لأنه في ناحية معينة متميز عنك، لكن لو تنظر لنفسك ستجد أنك متميز عنه في نواحي أخرى. لكن لأنك طماع تنظر له لأنه متميز عنك في هذه الناحية، لكن الله عادل ولا داعي أبدا لأن يظلم، كلنا أولاده وكلنا خليقته، أنت تشكر الله لأنه عندما أعطاك وزنتين حملك حمل بسيط، لأن الذي أعطاه الخمس الوزنات كان حمله كبير، واقتضى منه مجهود كبير، لكي يحضر خمس وزنات أخرى وفي الآخر يقول للرجل الذي أعطاه وزنة وطمرها في الأرض، قال: أعطوها للذي له خمس وزنات. لماذا لم يقل أعطوها لمن له وزنتين. هل هذا ظلم، هل هذا محاباة، بالعكس هذه مسئولية جديدة، لا تنظر للوزنات على أنها إنعامات فقط، بل انظر للوزنات أيضا على أنها مسئوليات، فعلى قدر ما تُعطى من وزنات على قدر ما تتضاعف مسئوليتك. إذا نظرت للموضوع من هذه الناحية، ستجد نفسك تخاف من كثرة الوزنات، لأنها تزيد عبئك وتزيد مسئوليتك ويزيد شقاءك، ويزيد الحكم عليك. فاقنع بما أعطاك الله ولا تنكر فضل الله عليك، لا تكون نظرتك نظرة حسد للآخر وتنكر عطية الله لك، ولا تطمر وزنتك مثل الذي أخذ الوزنة وطمرها في الأرض وأخفاها، لا تطمر مواهبك وتطمر عطايا الله، وتقول أنا لم آخذ، ياأخي لو تأملنا الضيقة التي يعيش فيها الرجل المريض بالربو، وهو غير قادر على أن يتنفس، تقول: لو لم يكن هناك نعمة من أجلها ينبغي أن اشكر الله، فيكفي أن أشكره على نعمة التنفس. 

كان هناك رجل دخل في بعض أعمال ولم يوفق في هذه الأعمال، فخسر وبعد خسارته عدد من المرات ضاقت به الحياة وعمى قلبه وصمم على الانتحار، الحياة بالنسبة له أصبحت مرة لا تحتمل، مادام أنا فاشل باستمرار وربنا غير موفقني، فقرر على أنه لابد أن ينتحر، هذه مسألة منتهية وأصبح قرار الإنتحار مؤكد ولكنه يفكر في اسلوب الإنتحار، وفي أي مكان ينتحر. وأثناء سيره في الشارع يدك الأرض دكا، ولكن مخه كله مركز في الإنتحار ويفكر في الوسيلة التي ينتحر بها، وكل قلبه مملوء غدر وشر وحقد على الحياة ونظرات سوداء للدنيا، وعداوة مستمرة بينه وبين الحياة، وفي طريقه نظر رجل مقعد يجلس على کرسی بعجل، لا نعرف سبب مرضه، أراد هذا الرجل المقعد أن يصعد على الرصيف فرفع نفسه وصعد على الرصيف بكرسيه، في هذه الأثناء كان الرجل الراغب في الإنتحار يمر عليه فإلتقت أعينهما، فقال له.الرجل المقعد بعينين صافيتين «صباح الخير»، فيقول: نظرت في وجهه فوجدته سعيداً، ويقول لي صباح الخير بإبتسامة، ففكر هذا الرجل في نفسه قائلا، هذا الرجل المقعد ذو الرجلين المقطوعتين سعيد وأسعد منى، لو أنا رجلي تقطعت مثل هذا الرجل وأردت أن أشتريها، بكم مليون أشتريها؟ من يقدر أن يعطيني رجل مثل رجلى، والرجل الأخرى بكم مليون، وعيني هذه لو راحت منى وأصبحت مثل الأعور أو الأعمى، عندما أحب أن أشتريها بكم أشتريها؟ والعين الثانية بكم أشتريها والأذن لو أصابني الصم، وأردت أن أشترى واحدة أشتريها بكم، والأذن الأخرى بكم أشتريها، والقلب بكم والعقل بكم ثم نظر إلى نفسه وقال أنا أصبحت من أصحاب الملايين الآن، كيف واحد مثلي ينتحر!! وحكم على نفسه بالغباء وخجل من نفسه وقال لا..، لابد أن أحاول من جديد، وحاول من جديد ونجح واستمر في النجاح وفي التوفيق، وأصبح ينظر إلى نفسه وإلى فكره القديم في الإنتحار بالضحك على نفسه، كيف هو يخطر لذهنه هذا الكلام، هذا لمجرد نظرته إلى إنسان مقعد، فلو أنت إنسان تقدر عطية الله ولست طماع، لو تنظر للإنسان الذي عنده ربو قد تشكر الله من أجل نعمة التنفس، في بعض الأحيان، الإنسان من أصحاب الملايين عندما يكون مريض، يقول: نفسي أكون مثل بياعة الفجل التي تسير في الشارع لأنها قادرة أن تمشى على الأرض وأنا غير قادر، لأني مريض أو مقعد أو متعب أو مصاب، الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى. الإنسان لا يقدر النعمة تماما إلا عندما يحرم منها، أو یری نفسه في نفس الإنسان المحروم منها. حينئذ يقدر النعمة ويعرف بالضبط ما عنده من نعم، صحة وأعضاء وإمكانيات وقدرات ومواهب وعطايا متنوعة من الله ولكنه كان لا يحس بها، فأحيانا الطمع يجعلنا غير راضين وغير سعداء، أحيانا إثنين متزوجين يشتكوا من بعضهما، المرأة تشتكي من زوجها تقول أنا لم أر يوم واحد حسن في حياتي معه، والزوج أيضا يقول نفس الكلام، طبعا هذا الكلام كذب، كذب، الإنسان ينظر من ناحية العطب والفساد، لكن يترك النواحي الأخرى المشرقة الطيبة من كثرة الطمع، ومن روح الشر والغدر والكراهية، وعدم الرضا الموجودة في الإنسان تجعله ينكر النواحي الطيبة ويبحث عن النواحي الحزينة ، مجرد ساعة واحدة اختلفوا مع بعض تتضخم المسألة وتكبر جدا وتعمل غيمة كبيرة على الحياة الزوجية، وينسى الواحد الأيام السعيدة الذي عاشها مع زوجته، والزوجة تنسى الأيام المباركة التي عاشتها مع زوجها. لماذا هذا كله؟ من روح الشر وعدم الرضا الموجود في الإنسان.

كل على قدر طاقته:

فالله عندما وزع الوزنات يقول: كل على قدر طاقته، وأنت ليس من حقك تقول لماذا؟ هذا ما يراه سيدك، ويعطيك على قدرك، لأن هناك قوانين في الطبيعة والله يسوس العالم بالقوانين، وتوجد أشياء تخضع لقانون الوراثة، وأخرى تخضع لقانون البيئة، وأخرى تخضع لقوانين أخرى كثيرة جداً، وأنت لا تدرى بهذه القوانين التي خلقها الله، قوانين الميلاد من الأب والأم، وصحة الأب والأم وأثرها على الأولاد، وإذا كان الطفل يولد من أب وأم في حالة القوة أو يولد منهم في حالة المرض. إذا كان الإبن الأول أو الإبن الأخير. عوامل مختلفة، الحالة النفسية للطفل وهو رضيع، وهو جنين ألا تتوقف على حالة الأم، والأحوال النفسية والصحة الجسدية تؤثر على حياة الجنين، وأيضا في أيام الرضاعة يتأثر الطفل بحالة الأم وهي مرضع، حالتها النفسية وحالتها الصحية، وأيضا البيئة وعوامل عديدة جدا موجودة في الطبيعة كلها قوانين مرسومة، والإنسان يخضع لهذه القوانين، فلا تعترض على الله وتتهم الله بالظلم، الله عادل خصوصا وأنه سوف لا يحاسبك بأكثر مما هو في طاقتك، إن كانت وزناتك خمسة يحاسبك على الخمسة، إن كانوا إثنين، يحاسبك على الإثنين هو لا يظلمك، وإذا أنت ربحت إثنين سيقول لك نفس العبارة الجميلة التي قالها لصاحب الوزنات الخمسة، «أحسنت أيها العبد الصالح والأمين، بما أنك كنت أمينا في القليل أقيمك على الكثير»، كل على قدر طاقته، كل مركب على قدر حمولتها. فاقنع واجعل نفسك راضي عن حمولتك، وبدلا من أن تصرف فكرك وهمك وأعصابك بالإعتراض على حملك أنه قليل، اصرف همك كيف تتاجر وتربح بهذا الحمل الذي لك. استغل العطية ووقتك وأعصابك وتفكيرك بدلا أن تحرقها في الإعتراض والتذمر والتجديف على الله، استغل هذه الطاقة من العصبية الفكرية في أنك تعمل بهذه الوزنة التي أعطاك الله إياها. وسترى كيف أنك عندما تشتغل بهذه الوزنة التي أنت استصغرتها، كيف تكون لك بركة كبيرة ويجزيك الله عنها خير الجزاء.

«ثم سافر» وهذه ترمز إلى الفترة قبل المجيء الثاني الذي يأتى فيه المسيح ليدين الأحياء والأموات.، فناس يسألونا هل المسيح سينزل على الأرض ويعمل ولائم، ناس لمجرد أنهم قرأوا الأصحاح الرابع عشر من سفر الرؤيا عن وليمة الألف سنة، ظنوا أن المسيح سيأتي ويستمر على الأرض ويعمل ولائم والناس تأكل وتشرب لمدة ألف سنة. ما هذا المنطق السخيف؟ ومن أين أتوا بهذا الكلام؟ هل معنى وليمة الألف سنة التي جاءت في الأصحاح الرابع عشر من سفر الرؤيا، هل معناها هذا الكلام الذي يقولوه من يسمون أنفسهم بالبلاميس أو الأخوة، لا. هذا الكلام لم يرد إلا في موضع واحد وهو الأصحاح الرابع عشر من سفر الرؤيا، إنما لم يرد أبدأ صراحة أو تضمينا في كلام المسيح له المجد، في الأناجيل، أو في كلام الآباء الرسل، إنما هناك مبدأ واحد مقرر في جميع الأناجيل وجميع الرسائل، المجيء الثاني للدينونة. متى جاء ابن الإنسان في مجده الأصحاح ٢٥ من متى، حينئذ يجلس على عرش مجده ويجتمع أمامه جميع الشعوب ويفرز بعضهم من بعض كما يفرز الراعي الخراف عن الجداء، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره، ويقول للذين عن يمينه تعالوا أيها المباركون من أبي رثوا الملكوت المعد لكم، ويقول للذين عن يساره اذهبوا عنی یا ملاعين إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وملائكته. فمجيء المسيح للحساب، هذا هو المقرر في كلام المسيح وفي كلام الرسل جميعا، إذن هذا الكلام في سفر الرؤيا وفى موضع واحد كلام رمزي، ونحن نعرف أن سفر الرؤيا كله رموز، وهو يشير إلى الفترة ما بين المجيء الأول والمجيء الثاني. وعلى الخصوص إبتداء من حينما ملك الرب على خشبة، وصار المسيح بعمل الفداء مالكاً وملكاً على الذين دخلوا في حيازته كأولاده. وصاروا من تلك الساعة في مملكة المسيح.

نحن في جحد الشيطان في المعمودية وقبل أن ننزل لجرن المعمودية، أي قبل أن ندخل في ملكوت السموات على الأرض وهي الكنيسة، ننظـر للغـرب ونرفـع الأيـد ونـقـول «أجحدك أيها الشيطان، وكل قواتك الشريرة وكل جنودك، أجحدك أجحدك أجحدك»، الشيطان في الغرب، حيث الإغتراب عن الله، ثم نعطيه ظهرنا وننظر للشرق، ونقول بالحقيقة أؤمن بإله واحد، فبهذا نعلن إنفصالنا عن مملكة الشيطان، وإنضمامنا بالإرادة والإختيار لمملكة المسيح قبل أن ننزل في جرن المعمودية، توجد مملكتين، مملكة للشيطان ومملكة للمسيح. وفي يوم المعمودية ينفصل الإنسان بإرادته من مملكة الشيطان ويعلن إنضمامه لمملكة المسيح ويدخل في ملكوت المسيح، ويصبح المسيح ملكاً عليه، ملكاً بحق الشراء لأنه اشترانا بدمه، فمادام كان قد اشترانا فأصبح مالكاً لنا وملكاً علينا، لذلك نقول ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا، دائما نقول ربنا وإلهنا ومخلصنا وملكنا، فنحن مملكة والمسيح ملكنا والصليب علم مملكتنا. من متى بدأت المملكة؟ من الصليب، يوم أن صلب المسيح، وبالصليب وبعمل الفداء أنقذ الفريسة من فم الأسد، من الشيطان الذي اقتنصنا لإرادته، وهذا هو سر العداوة بين الشيطان وبين الصليب، والعداوة بين الشيطان والكنيسة والمسيح، وملك المسيح بدأ من الصليب، والألف سنة هی الفترة بين هذا الملك الذي أخذه في الصليب وبين مجيئه الثاني، ورمز لهذه الفترة غير المعلومة برقم من أرقام الكمال، لكي تظل هذه الفترة غير معلومة، لأن ألف سنة عند الرب كيوم واحد، ويوم واحد كألف سنة، فالأعداد 100، و1000، و12000، و7، و3، من أعداد الكمال، موضوع الأرقام يحتاج كتب في الكتاب المقدس، بحث طويل، إنما كلمة 1000 هنا عبارة عن موضوع يغلفه المسيح، برقم رمزي، لكي تظل هذه الفترة غير معلومة، عندما قال واحد كان عنده 100 خروف وترك 99 وأخذ يبحث عن الخروف الضال. المقصود بـ 100 ليس العدد 100 إنما المقصود أن هذه أرقام يرمز بها إلى أمور، يريد الله أن تكون غير معلومة، فيعطيها أرقام من هذا القبيل.

إذن نفهم من هذا أن هذا هو الموضع الوحيد الذي جاء في سفر الرؤيا، والذي فيه كلمة الألف سنة، لكن المقصود بها مدة الملك ما بين عمل الفداء الذي قام به المسيح واشترانا بدمه، وأصبح مالكاً لنا وملكاً علينا، ومجيئه الثاني للحساب والدينونة.

فالمجيء الثـاني هـو للحساب فقط، ولذلـك نـقـول في قانون الإيمـان «ويأتي في مجيئه الثاني ليدين الأحياء والأموات»، قانون الإيمان فيه كل كلمة موزونة.

زر الذهاب إلى الأعلى