رؤيا متفائلة لموازين الله

– ما هي رؤيا الإنسان المسيحي تجاه موازين الله التي يسوس بها العالم؟
– هل الألم والمرض والموت والحروب والزلازل والنكبات الطبيعية الأخرى تتعارض مع رحمة الله؟
– هل يصح أن ننظر إلى هذه النكبات على أنها علامات غضب أو انتقام إلهي من الإنسان؟
– ما صلة رحمة الله بالإنسان الذي يُستهدف للألم والموت؟ وبالأشخاص الذين حُرموا من رعاية عائلهم حين يموت؟
– ما السبيل إلى الانفكاك من الواقع المؤلم؟
– “التذمُّر من الحرمان”، و”الرغبة في المزيد” وأثرها على تمزُّق الإنسان، والآلام وصدمات الحياة ودورها في اكتشاف الإنسان عظمة خلوده.
– رؤيا الخلود من وراء الألم!

+ + +

تعديل لمفهوم الرحمة:

كثيراً ما نخلط بين الرحمة في نظر الناس ورحمة الله، ذلك لأن أعمال الله مع الإنسان تتراءى لنا كأنها صفاته مع أنها الأسلوب الذي يتفق مع طبيعتنا المتغيِّرة المستهدفة للنكوص والتقدُّم.

والرحمة التي يعرفها الناس عن الله، أصبح لها في أذهانهم مقياسٌ أساسه شعورهم بالرحمة كما يقيسها الإنسان من نحو الآخر، مع أن هذا المقياس البشري من الضعف والمحدودية بدرجة لا يصح ولا يليق أن نحصر به رحمة الله الخاصة به.

ولكن لا مفر من استخدام هذا القياس مبدئياً لإدراك الرحمة عموماً. فهو الوسيلة الحسية الوحيدة التي يمكن أن يتذوقها عامة الناس. ولكن يلزم لِمَن يريد أن يتفهَّم أحكام الله الخاصة من جهة الرحمة أن يسمو من الإدراك الحسي إلى الإدراك العقلي، حتى ندرك الرحمة الإلهية الفائقة غير المحدودة!

ونحن لا نستطيع أن نقتحم اللانهائية بفكرنا المحدود لنتفهم أمورها التي لا تُحَدُّ كما نقيس أبعاد الأجسام المادية؛ بل كل ما يستطيع أن يسعفنا به العقل، هو أن يصل بنا عن طريق الإحساسات والقياسات المادية إلى حافة عالم المادة، ويتركنا نواجه اللانهائية لنتحسس الحقيقة من خلف الواقع بوجداننا الروحي.

نحن نرى أن رحمة الإنسان تتعارض مع قتل الإنسان، وبهذا يتكون في ذهننا صورة محدودة للرحمة. ولكن نحن نعلم أيضاً أن المجتمع يوقع حكم القتل على الإنسان المجرم، ولا أحد يحتج بأن ذلك يتنافى مع إحساسات الرحمة، وبهذا تتفكك الحدود التي وضعناها سابقاً للرحمة، وتمتد الرحمة عن طريق آخر غير الإحساس المادي تتحكم فيها قياسات منطقية عقلية.

فإذا كان الإنسان يمكن أن يجيز القتل ولا يتعارض ذلك مع الرحمة، فأيُّ اتساع يمكن أن نتصوَّره عن الرحمة في معاملات الله لنا التي تفوق قياسات العقل والمنطق؟

كذلك نحن لا نجهل أن من صميم عمل الرحمة عند الإنسان أن لا يَدَع حيواناً جريحاً أو مريضاً يتألم ألماً مبرِّحاً معروف أنه سيؤدِّي به إلى موت، بل يُعجِّل بموته رحمة به. فإن كانت رحمة الإنسان تجيز قتل الحيوان ولا يتعارض ذلك مع مشاعره الرقيقة، إذ يسمو الحس العقلي والمنطقي على الإحساس الجسدي الشعوري؛ فكيف نغلق تفكيرنا عن رحمة الله معنا ومع الخليقة في دائرة الإحساسات الجسدية المحدودة؟

فإذا كانت الرحمة حسب القياس البشري يمكن أن تتسع لتشمل أعمالاً ليست في الأصل من اختصاصها، بل أحياناً ضدها وعكسها؛ فجديرٌ بنا إذا تحدثنا عن رحمة الله أو تفكَّرنا في غاياتها أن لا نقف عند حدود تعارُضها مع إحساساتنا الجسدية والعقلية؛ كأن رحمة الله أخطأت هدفها أو جنحت عن سبيل المنطق السرِّي فنجزع!

ولا يليق بنا أن نتغاضى عن الأمر الحادث في عدم مبالاة، لأن ذلك حريٌّ أن يبلغ بصاحبه إلى موات الشعور والعاطفة؛ بل ولا يليق أيضاً أن نُخضع مثل هذا التعارُض وننسبه للقَدَر أو نؤَوِّله إلى رحمة الله تعسُّفاً دون أن نتفهم لياقته لوجداننا، لأن ذلك حريٌّ أيضاً أن يبلغ بصاحبه إلى تكوين فكرة مُبهمة عن الله قابلة للتشويش والخلط. إنما اللائق حقاً أن نرهف الإحساس الوجداني من كل نواحيه حتى يتفهَّم الإنسان ويتذوَّق رحمة الله في كل ما يحدث حوله مهما كانت صور تعارُضه مع الإحساسات الجسدية أو منطق البشر.

ومن الأمور الشائعة لدى التفكير البشري أن يؤخذ الألم والمرض والموت والحروب والزلازل والنكبات الطبيعية الأخرى مأخذاً يتعارَض مع رحمة الله، أو على الأقل لا يتمشَّى معها فتختفي صورة الرحمة الإلهية من ذهن الإنسان، ويُنظر إلى أعمال الله كأنها علامات غضب أو انتقام منه، مع أننا لو تفهَّمنا الأمر بروحنا ووجداننا، ما وجدنا أي تعارُض مع الرحمة في أي حادث يحدث تحت الشمس.

فلو تأملنا في الموت الذي هو تحصيل الألم النهائي بكل صوره العديدة والمتعددة التي لا تدخل تحت حصر، سواء بأمراض فجائية أو مستعصية أو حوادث أو حروب أو زلازل أو مجاعات، نرى أن الأثر المباشر الذي يُحدِثه الموت يقع على شقَّين:

الشق الأول: الإنسان الذي يُستهدف للألم والموت،

الشق الثاني: الأشخاص الذين حُرموا من رعاية الميت.

الشق الأول:

فالإنسان الذي يُستهدف للموت لا يعتبر الموت بالنسبة له حادثاً غريباً، فهو لابد أن يجوز الموت في حياته، وها هي ساعته قد جاءت، فلا عجب ولا دهشة في ذلك؛ بل إن حياته الماضية كلها لا تحمل من الجد والحق بقدر ما تحمله هذه الساعة. ومهما كانت صورة ذلك الموت شديدة وعنيفة، ومهما كانت نوازع الألم التي تلازمها، فكلها في اعتبار المائت نفسه لا قيمة لها. ولكن شدَّتها وبشاعتها تظل عالقة في أذهان الذين عادوه وهو على فراش الموت.

من هنا أصبح الموت في نظر الأحياء حالة مُرعبة مُفزعة، مع أنها لا تزيد في حقيقتها عن مثل حالة مريض متألِّم يقف ألمه فجأة بعامل مخدِّر. فإن كان المرض لا يُرعبنا، فأجدر بذلك الموت ذاته. فنحن لو تبسَّطنا في اعتبارات الموت بالنسبة للمائت لوجدنا أن الموت يدخل في دائرة الرحمة خصوصاً إذا كان يسبقه ألم.

الشق الثاني:

أما الأشخاص الذين حُرموا من رعاية عائلهم بموته، فهنا تنبري لهم رحمة الله واضحة سافرة، فيُنصِّب الله نفسه أباً لهم بكل معنى الأُبوَّة من حنان وحَدَب ورعاية، ويزيد الله على الأُبوَّة عبئاً آخر يُحمِّله لنفسه، وهو أنه يكون قاضياً لهم “أبو اليتامى وقاضي الأرامل” (مز 68: 5)، “اترك أيتامك أنا أُحييهم، وأراملك عليَّ ليتوكَّلن” (إر 49: 11). ويا لها من كلمة تحمل معاني وأسراراً عميقة؛ بل واختبارات وحقائق ملموسة. فإن كان يقع على مثل هؤلاء نوعٌ من الجهد الزائد للقيام بأعواز المعيشة، فذلك سيكون حتماً تحت عناية الله الخاصة ورعايته المباشرة.

وهكذا يتضح أن نصيب هؤلاء الأشخاص من الرحمة قد ازداد بموت عائلهم!!

فإن كان الموت يظهر كحادثة أليمة مجرَّدة تحمل في ظاهرها معنىً خاطئاً من معاني الترك والإهمال من جانب الله، فذلك بسبب قصورنا في فحص قضيتها، إذ أن جوهرها يحمل حقيقة عكسية تماماً وهي تحمُّل الله لمسئولية ذلك البيت نفسه. وخلاصة القول إن الله الذي يُميت ويُحيي قد ضَمِنَ لنا بشخصه أنه لن يتخلَّى عن رحمته قط لإنسان يسعى في إثرها، وقد تكفَّل بنفسه حفظ حقوقنا في الأعواز الجسدية والروحية، حتى ولو فقدنا عائلنا الوحيد.

وكم من نوابغ العالم فقدوا عائلهم وهم في الطفولة، فكان هذا الحرمان حافزاً لتنشيط ملكات الفهم والإحساس عندهم، فنبغوا في كل علم وفن. وما هذا إلاَّ نوع من التعويض الإلهي، ويظهر كأنه قرينة طبيعية، مع أنه في حقيقته عمل إلهي متناسق. وحتى إذا لم يوفَّق اليتيم إلى بلوغ درجة المتوسط في الحياة كنتيجة مباشرة لفقد أبيه فلا يمكن أن نسوق اللوم جزافاً على جانب الله، لأن الله قد سبق وأودع البشرية عواطف الحنان والحَدَب على المعوزين مع وصية خاصة باليتيم والأرملة. وهذا يُعتبر رصيداً هائلاً مُذْخراً في جانب هؤلاء المساكين.

وهكذا إن كان الموت يحمل، في ناحية، صورةً من الحرمان واقعة على الذين فقدوا عائلهم؛ فهو يحمل صورة خيِّرة، من ناحية أخرى، هي تنشيط غرائز العطف والمحبة في البشرية لممارسة الرحمة المنسكبة في قلوبهم بروح الله من نحو المحتاجين لتكميل جسد البشرية.

إذن، فالله لا يكفُّ عن توفير الرحمة وإعلان حنان أبوَّته بشتَّى الطرق حسب منطق الخليقة وترتيب نواميسها الحكيمة النافعة واللائقة والمستعدة لكل خير. والذي تنفتح بصيرته يُدرك مقدار الغِنَى الذي أجزله الله في الطبيعة البشرية، بحيث أن قيام نقص فردي أو أي طارئ سلبي يُقابله احتياطات هائلة مذخرة في الطبيعة البشرية وفي الخليقة بوجه عام لتعويضه، والذي يلزمنا هو التعرُّف على مواهبنا أولاً ثم تنشيطها وتنسيقها واستخدامها لصالح أعواز الإنسان سواء كانت فردية أو جماعية أو دولية أو عالمية.

تعديل لمفهوم الآلام التعسفية:

إن إحساسنا بالألم هو جزء هام من مَلَكة الإحساسات البشرية المتسعة التي يحيا بها الإنسان في هذا الكون العجيب الهائل.

وليس هناك ما يفصل الإحساسات الجسدية عن الإحساسات النفسية، بل هما مزيج مؤتلف ائتلافاً يؤهِّلنا للاشتراك اشتراكاً فعلياً في هذا الوجود حولنا الذي هو مزيج أيضاً من مادة وروح! فأجسادنا تدب على الأرض كجزء منها تشترك معها في كل ما لها وما عليها، تخضع لكل قوانين العالم الكوني، ويسري عليها كل ما يسري على المادة من قوانين الجاذبية والحركة والحرارة والضغط والتغيير، لأن أجسادنا هي في الواقع حفنة من تراب الأرض تنتقل عليها بقوة النفس الحية المتحدة بها.

وأجسادنا تحس بعالم المادة وقوانينها، لا إحساس الإدراك العقلي فقط، ولكن بانسجام تُحتِّمه طبيعة المادة الواحدة فهي منها!

أما أرواحنا فهي أيضاً تُكوِّن جزءاً هاماً من الوجود الروحي الحي تحس به إحساساً غامضاً ولكنه قوي، وذلك عن طريق إحساسها بذاتها، لأن شعورها بكيانها ووجودها هو اشتراك فعلي في الوجود العام.

وطالما نحن أحياء في الجسد فلن نستطيع أن نفصل بين مشاعر الجسد ومشاعر النفس من حيث الإحساس بالوجود العام. لأن أُلفة الحياة البشرية بين الجسد والروح توطَّدت حتى يستطيع الإنسان أن ينسجم في هذا العالم الكوني الروحي دون أن تنقسم جبلته على ذاتها. وائتلاف هذه الإحساسات الجسدية والروحية معاً في جبلة الإنسان جعلته مخلوقاً متميِّزاً عن باقي المخلوقات، فلا هو حيوان محض بليد الإحساس فاقد الوجدان محدود المشاعر في إطار جسد حي وحسب، ولا هو روح محض مترفِّع الإحساس منطلق المشاعر في قُوَى الروح بلا حدود. ولكنه ائتلاف عجيب بين إحساس حيواني بليد وإحساس روحي مترفِّع، فهو يمتلك أطراف المشاعر من أدناها في الجسد إلى أعلاها في الروح. هذا الائتلاف الفريد من نوعه جعل الإنسان يمتاز بأحاسيس راقية، ولكنها تزداد رقة كلما سما الإنسان بروحه، وهي بمجموعها عميقة تمتد حتى أصول الغرائز الحيوانية، وسامية تُلِمُّ بما وراء الطبيعة، شيء لا مثيل له في أي خليقة أخرى!

الإنسان مُطالَب بالتسامي:

ولم يكن ائتلاف مشاعر الروح بمشاعر الجسد مسألة جزافية، ولكن واضحٌ الهدف الذي يكمن وراء ذلك. فالإنسان مُطالَب بأن يسمو بغرائزه وأحاسيسه الجسدية الطبيعية إلى المستوى الروحي الذي يُمكِّنه من أن يحفظ درجة خلقته البشرية فوق مستوى الحيوان!! فلا هو مُطالَبٌ أن يسمو فوق أحاسيس الجسد إطلاقاً ليكون في درجة الملائكة، ولا هو مسموح له أن ينحط إلى مستوى أحاسيس الحيوان ضارباً الصفح عن إمكانياته الروحية.

معنى التسامي:

والنتيجة المباشرة لهذه الأُلفة العجيبة بين إحساسات الجسد والروح أن صار للإنسان القدرة، من ناحيةٍ، على توجيه الأحاسيس الجسدية إلى مستويات روحية ممتازة، وهذا ما نسميه بالتسامي؛ ومن الناحية الأخرى، قدرته على إخضاع الإلهامات الروحية وإخراجها إلى حيِّز الوجود الظاهري الجسدي، وهذا ما نسميه بالبر والفضيلة والسلوك الراقي. من أجل هذا وهب الله القدير الإنسان مراكز عصبية دقيقة ومراكز المخ العُليا التي بلغت من الرُّقِي والحساسية والاختصاص مبلغاً لم نعهده في جهاز آخر سواء في الإنسان نفسه أو في خليقة أخرى، حتى يستطيع أن يسمو بالمشاعر الجسدية إلى أقصى غاية ممكنة لتتماس مع الإحساسات النفسية ذات المراكز العُليا المجهولة. وفي نفس الوقت يظل قادراً على التقاط أحاسيس النفس العُليا وإلهامات الروح، ثم إخضاعها للحس العقلي بصياغتها في كلام مسموع أو عمل فني أو روحي.

وهكذا نرى أن الحساسية الممتازة في مراكز الشعور والإحساس في الإنسان تخدم قضية الإنسان الروحية؛ بل إنها وُجدت لتُهيِّئ للإنسان فرص السمو الروحي، لأنه لو كان الإنسان مخلوقاً حيوانياً فقط لَمَا أعوزه هذا الإرهاف الشديد في مشاعره، وخصوصاً في تميُّزه بآلاف الأنواع من الآلام، ومنها آلام لا تخدم قضية الحياة الجسدية (الحيوانية)؛ بل على العكس تقلِّل من إسعادها والأخذ بمسرَّاتها، وأحياناً تُسيء إليها إساءة شديدة، وربما تقضي عليها كالآلام النفسية المعقدة.

إذن، فلو حاولنا تفهُّم الآلام الكثيرة التي تصيب الإنسان من وجهة النظر التعايشية أي في حدود ما تقتضيه الحياة الجسدية للإنسان وحسب، فنحن لن نجد تأويلاً حقاً لكثير من الآلام؛ بل ولن نوفَّق إلى قانون يُنظِّم صلة الإنسان بها.

إذن، فما هي أهمية دور الآلام في حياة الإنسان؟

فإذا أعدنا النظر وأدخلنا في اعتبارنا أهمية دور الآلام من الناحية الروحية للإنسان، فحينئذ نجد تأويلاً حقاً لجميع الآلام؛ بل وإذا أجهدنا أنفسنا بالقدر اللائق لأهمية هذا الموضوع، لاستطعنا أن نُوفَّق إلى قانونٍ ما يُنظِّم صلة الإنسان بالآلام، على هَدْي قول الرسول: “إنه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع 14: 22)؛ أو تفهُّماً لقول الرسول يعقوب: “احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة” (يع 1: 2)؛ أو قول بولس الرسول: “لأني حينما أنا ضعيف فحينئذ أنا قوي” (2كو 12: 10)، “صابرين في الضيق” (رو 12: 12)؛ أو قول بطرس الرسول: “إن عُيِّرتم باسم المسيح فطوبى لكم، لأن روح المجد والله يحلُّ عليكم” (1بط 4: 14)، “إن كنتم تتألَّمون عاملين الخير فتصبرون (فهذه نعمة من عند الله).” (1بط 2: 20)

ولكن ليس الجميع استخدموا أحاسيسهم المرهفة ومراكزهم العصبية الممتازة للهدف السامي الذي خُلقت له، أي لحياة بشرية متسامية فاضلة ذات غايات إنسانية وروحية عالية؛ إذ يوجد كثيرون اكتفوا بأحاسيسهم ووجدانهم وقُوَى العقل ومراكزه الحسَّاسة للتفاعُل مع حقائق الجسد والعالم والماديات وحسب.

لذلك نجد أن الأوَّلين كانوا قادرين دائماً على امتصاص صدمات الحياة المؤلمة والانتفاع بها، وقد مهروا في تحويل الآلام العارضة إلى اختبارات نفسية وروحية نافعة، وكأن الآلام صارت صديقاً نَصُوحاً لهم، أو كأن الآلام أصبحت لهم لغة الواقع التي يمكن تحويلها إلى معانٍ روحية سامية ومفيدة. وهذا في الحقيقة يُحسب أنه المستوى اللائق للتركيب الوجداني للإنسان، بينما الآخرون نجدهم فاشلين في استخدام صدمات الحياة متذمِّرين على آلامهم العارضة، وعلى آلام غيرهم أيضاً، وكأنما الآلام صارت عدواً عنيداً لهم تزيدهم تشاؤماً، وتهبط بكل مستوياتهم العُليا لتعمل على أقل درجة من التفاعُل مع الحياة اليومية حتى لتكاد تماثل الحيوان في انحصاره في دائرة النشاط الجسدي وحسب.

الانفكاك من الواقع المؤلم:

و”الواقع” المقصود هنا هو الواقع المادي المحسوس الضيِّق أو التشاؤم العقلي المُعاش، حينما يقف في وجه الإنسان كطريق مسدود: مرض عضال، إخفاق، ظلم، اضطهاد، إلى آخره من المسلسل المأسوي الذي تنثره الحياة بلا حساب في وجه الساعين إلى قمم الطموحات، الأمر الذي إذا تشابك معه الإنسان لحظة، انغمر في دوامة الهموم والأحقاد، وانحجبت عنه بهجة الحياة برحبها اللانهائي، وفَقَدَ كل ما تحويه هذه الحياة الرحبة من رجاء لا يُحدُّ، رجاء يعلو ويتشامخ فوق كل واقع مادي مأسوي؛ بل وفوق كل قياس عقلي متشائم، الأمر الذي يُعتبر بحدِّ ذاته أبدع وأروع ما يمكن أن يرتشفه الإنسان من رحيق الوجود.

لقد أمد الله الإنسان بطاقة الخلود في صميم خلقته الأولى، ليظل متفوِّقاً على الموت حتى ولو انهزم الجسد بضرباته، بل وسيظل الإنسان يستشف أمجاد الخلود هذه، حتى ومن خلف مذلاَّت القهر، فترتسم على وجهه في النهاية ابتسامة الغلبة على هذا العالم، من خلف دموع الواقع المفجع.

فالإنسان إذا وَعَى عظمة خلوده والتحم بعناصر روحه الخفَّاقة الآتية من نسمات الله، فسيُدرك أنه مجهَّز سراً بجناحَي الروح ليطير فوق وادي الموت بكل أنينه وأوهامه، لا يخاف منها شراً كعصفور خُلِق ليتسنَّم قمم النور، لا أن يستوطن وَحْل الواقع المخادع. فالإنسان أعظم من الزمان، وبالتالي هو أعظم من كل ما ينسجه الزمان من حادثات مصيرها الحقيقي إلى نسيان ثم إلى زوال.

لذلك كان أخطر ما يواجه الإنسان في هذه الدنيا أن يفقد رؤيا الخلود، فيختل توازنه على طريق الحياة، فيسقط في دوامة الواقع المادي الضيِّق، الذي هو من صُنع هذا الزمان، فيبدأ يتحسس نفسه على قياس الحظوظ ما أتاه وما فلت من يديه، ويقيس ما صار إليه على ما صار إليه الناس، فتنطوي نفسه تحت مرارة قياس عقله وتنحصر روحه وكل مَلَكاته ولا تعود تساوي في تقديره مسرة أو كرامة من كرامات الآخرين المصنوعة أصلاً من تراب الأرض وإليها تعود، فيصغر الإنسان في نفسه حتى العدم.

وليس المحرومون من حظوظ المسرَّات والكرامات هم وحدهم الذين يسقطون في فخ الواقع المؤلم المتذمِّر المحدود بالزمان والمكان؛ بل وهؤلاء أيضاً الذين يسعون بلا حذر وراء الرغبة وأشواق المسرَّات الخارجية وكرامات وأمجاد هذا الدهر، يلهبهم الطموح إلى المزيد ثم المزيد دون أن يبلغوا قط حدِّ الارتواء، ولن يبلغوا. فكل هدف يبلغونه يدفعهم لينطرحوا تحت أقدام هدف آخر دون شبع. هؤلاء عبيد “الرغبة في المزيد”، فهي فخُّهم الضيِّق الذي يربطهم قسراً وبلا رحمة في الزمان والمكان، فيجعل من دقائق الساعة ومن مكاتبهم الفخمة سجنهم الضيق الكئيب.

والأمر الغريب أن يتساوى الذي يعتبر نفسه محروماً من مقوِّمات المسرَّات والسعادة الزمنية مع الآخذين منها بالرغبة المتزايدة دون شبع أو ارتواء، إذ يسقط كلاهما في دائرة الواقع المادي المربوط بالزمان والمكان إلى حدِّ العبودية وفقدان الكيان. هذا ينجذب إلى الفخ من واقع الإحساس الجارف بالحرمان على مقياس الظلم، وذاك ينجذب إلى نفس الفخ من واقع جنون “الرغبة في المزيد” دون ارتواء. وهكذا يستطيع العالم بالخداع المادي أن يغوي الإنسان، نفس الإنسان، إلى السقوط تحت عبودية الدائرة المغلقة للزمان والمكان، ويسلبه حرية وجوده وامتداد كيانه فوق الزمان والمكان بالحرمان المتزايد وبالعطاء المتزايد من السعادة الوهمية على حدٍّ سواء!!

وكيف، إذن، يكون الفكاك:

إن الأبدية السعيدة واللانهائية، غير المنحصرة قط، والخلود برحابته ورجائه الذي لا ينتهي أبداً ولا يتوقف أبداً، هما داخل الإنسان وليس خارجه “ها ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21). إن خدعة العالم العظمى أن يُغوَى الإنسان لينظر إلى السعادة خارجاً عن ذاته، ويطلب الله بعيداً عن قلبه.

لذلك، فباختصار شديد نقول: إن السقوط في الشعور بمرارة الحرمان من مقوِّمات السعادة الوهمية والكرامة المتأتية من المظاهر الخارجية، هو في الحقيقة انعكاس صادق أو رد فعل غاية في الوضوح يُعبِّر عن فداحة الخطأ والخسارة التي وقع فيها الإنسان عندما أعطى ظهره إلى مقوِّمات السعادة الداخلية بعمقها الأبدي ورجائها وغناها الذي لا يُحدُّ داخل الإنسان، أي أن السقوط في مرارة الشعور بالحرمان هو في الحقيقة عقاب مباشر، يظل يُلاحِق الإنسان دون أن يدري، ليس بسبب حرمان زائف، بل بسبب فقدانه للرؤية الحقيقية للسعادة الحقيقية. ومما يزيد هذه المعادلة وضوحاً هو أن مقدار الشعور الطاغي والصادق بمرارة الإحساس بالحرمان الذي يُلاحِق الإنسان بلا هوادة، والذي ينكِّد عليه حياته ويُفقده اتزانه وكيانه، لا يساوي أبداً أبداً فقداناً وهمياً لتلك السعادة الوهمية الزائلة أو الكرامة الظاهرية الزائفة، أي أن الشعور الطاغي بمرارة الحرمان هنا هو إحساس نابع عن فقدان حقيقة وحرمان من سعادة صادقة وليست وهمية، التي هي سعادة الإنسان الداخلية الدائمة وغير الزائلة برجائها وفرحها الممتدَّيْن في أعماق الصلة الأبدية بالله.

وهذا يعني أنه بمجرد أن يشعر الإنسان في داخله بإحساس الحرمان من مظاهر السعادة والكرامة في هذه الدنيا وتشتد عليه مرارة الإحساس بالحرمان، يكون هذا نذيراً خطيراً أنه بدأ ينفك عن أعماقه، ويهجر عظمته الداخلية وغناه وخلوده وأسباب فرحه ورجائه الأبدي، فيخرج ينعي حظه العاثر، ويقيس قامته على التوافه من أمجاد الدنيا والمظاهر والزائلات التي تحت أرجل الآخرين.

أما ذلك الإنسان الذي وقع عبداً للرغبة في المزيد والارتفاع، يلهبه الشوق للتحرُّك غير القانع من قمة إلى قمة بحماس ونشاط وطموح لا يرتوي؛ فالخدعة التي تُحرِّكه للمزيد هي هي بذاتها تكون له طريق الفكاك، لأنه بقليل من التـروِّي يمكن أن يدرك أن “الرغبة في المزيد” لا يمكن أن تقف عند حدٍّ لتُحقِّق له القناعة أو الرضا بالواقع، مهما حاول أن يقنع ذاته ويضبط طموحاته، لماذا؟

لأن “الرغبة الملتهبة في المزيد” هي في جوهرها هبة كيانية غُرست في طبيعة الإنسان لتناسب نموه في اللانهائيات، لا لتنحصر في المحدود من الزائلات. فالرغبة الملتهبة في المزيد التي لا تنتهي ولا تشبع ولا تقف عند حد، جديرة حقاً بما هو للإلهيات.

لذلك، ففي اللحظة التي فيها يربط الإنسان “غريزة رغبته الملتهبة في المزيد” بما هو لها حقاً – أي فيما لله – تنتهي الخدعة العظمى، ويتوقَّف الإنسان فجأة عن الجري اللاهث في حلقة الطموح المفرَّغة وراء الزائلات، ويبدأ ومن أعماقه يشق طريقه نحو الله إلى ما لانهاية مع قناعة في الأمور المادية تزيده نجاحاً.

الأب متى المسكين

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى