ميمر البشارة المحيية

للأنبا بولس البوشى

المجد للقوة الإلهية التي تسود الكل . الكلمة الذي خلق البرايا المنظورة وغير المنظورة . شمس البر الذي لما بدأ أن يظهر متجسداً أضاء المسكونة وأزال عنا ظلمة الضلالة . وطرد عنا نوم الغفلة . وأخاف الوحوش الكاسرة والسراق المردة . وأحادنا عن توعر الهلكة وأرانا طريقا مفضية إلى الحياة الأبدية . أطلب إلى جودك أيها النور الحقيقي الذي من حضن الأب أشرق للخلاص ، أسأل صلاحك أيها المولود من الآب قبل كل الدهور ، الذي سر أن يتجسد ، أتضرع إلى مراحمك أيها العالي فوق كل رياسة وسلطان ، الذي تواضع من أجلنا . أثر عينى عقلى ياذا الضياء . الذي ينير مخادع الظلمة لكما أتكلم بكرامتك . أعطني كلمة يا كلمة الآب لكما أنطق بسر تدبيرك . أفتح فاى يامعطى النطق للخرس لكما أخبر بمجدك . أعطنى من الذي لك خاصة يامعطى بسعة من غير امتنان ، وأنا أعطيك من الذي أعطيتني لأن منك تكون العطايا الصالحة والمواهب التامة .

أعطنى معرفة لكى أعطى تمجيداً لتجسدك الكريم . هب لي نطقا لكي أرسل تسبحة لتواضعك من أجل خلاص جنسنا . ألهمنى فهما لكي أقدم سجوداً ووقاراً لمحبتك التي لا ينطق بها . لأنك أنت هو الطريق والحق والحياة الأبدية . والباب الذي يؤول إلى حظير الرعية الروحانية .

الحق أن سر تدبيرك أيها الإله يعلو كل عقل ، ويفوق كل فهم . وكما أنك خلفت البرايا وأخرجتها من العدم إلى الوجود ، لا حاجة بك إليها بل تفضلا منك عليها .

فلما تجاوزنا الوصية سقطنا بحكم عدل من النعمة والحياة الأبدية . فلم يقدر مخلوق أن يرد إلينا الحياة التي لا نهاية لها ، لأنها غير ملائمة له ، ولم يكن كذلك إلا الرب الإله الذي به خلق كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان ، كقول داود النبي : بكلمة الله خلقت السموات والأرض . ثم عرفنا أن الكلمة الذي خلق البرايا هو الذي يتولى تدبير بريته ويجدد خليقته . فقال أرسل كلمته فشفاهم وأنقذهم من الفساد فلنشكر الرب لرحمته وعجائبه في بني البشر . وكما أنه من العدم إلى الوجود كونها . ولما فقدت من الوجود الأبدى كان من عدله أن ينقلها من عدم الحياة إلى البقاء الدائم في الملكوت بلا إنتهاء كما يليق به .

فلم يوصل إلينا ذلك بلاهوته لأننا غير قادرين على احتماله ، بل تفضل وتجسد ، وأوصل لنا الحياة الأبدية بتجسده باتحاده بلاهوته الأزلي . ثم ظهر غالباً للموت والفساد بقيامته المقدسة ، وأوصل إلينا نحن تلك الحياة بالنسبة لذلك الجسد المأخوذ منا . لأنه كما أن الموت الذي قبلناه من أبينا آدم لم يكن غريباً منا بل قبلناه بالنسبة إليه ، كذلك هذه الحياة أيضا لم تصر غريبة منا . بل صارت إلينا بالنسبة لتجسد الإله الكلمة.

والمعمودية والاشتراك أيضاً بذلك الجسد المحى بأخذنا من سرائره المقدسة كما شهد قائلا : إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليست لكم حيـاة أبدية فلهذا تعهد الصانع صنعته لأنه لا يقدر أحد أن يصلح صنعة يده سواه . اليوم يا أحبائى كملت نبوة إشعياء النبي القائل : إن خلاصنا ليس بملاك ولا رئيس ملائكة . بل بالرب إله القوات . وأيضاً داود المزمر في وسطنا اليوم يرتل قائلا : طأطأ السماء ونزل والضباب تحت رجليه . ثم أعلمنا بإعلان أن تجسده كان مخفيا عن الرؤساء والأرواح الشريرة . فقال ينزل مثل المطر على الصوف وكالقطر إذا هبط على الأرض . أعنى أنه يتجسد سراً ثم يكمل التدبير بعد ذلك بإعلان . وذلك عندما يملأ شرف لاهوته كل المسكونة لأن النبي لم يسكت بل أظهر في تلاوته القول بعظم فعل الرب للخلاص علانية . فقال : ويكثر العدل والسلام في أيامه حتى يورث القمر النقص[1]. عنى بالعدل مساواته بين الهود وسائر الشعوب في بدء البشرى . وأنه بررهم بجانا بالإيمان . وعنى بالسلامة أنه نقض الحائط الذي كان حاجزاً في الوسط وأزال العداوة وصنع الصلح والسلام بين السمائيين والأرضيين. ككلمة بولس الرسول . وعنى بالقمر ناموس العتيق ، لأن تلك سميت ليلا كما قال الرسول أيضا : قد مضى الليل ودنا النهار ـ لأن القمر ضياء الليل .

فأما المسيح فهو شمس البر كما تنبأ ملاخي قائلا وشمس البر اسمه ـ فلما ظهر بالجسد المجيب لم يبق للقمر الذي كان ممجداً في الليل بهاء ولا يجد ، كما شهد الرسول قائلا : إن تلك التي كانت ممجدة صارت غير ممدوحة الآن عندما قيست بهذا المجد الفاضل . والرب يقول : أنا هو نور العالم من يتبعنى لا يمكث في الظلام بل يحيا في مجد نور الحق .

بحق يا أحبائي إن كرامة هذا العيد عظيمة جداً . لأنه بكر كل الأعياد وأول كل الأفراح، وبد. كل المسرات، وبحق قد سمى عيد البشارة. وليس للسيدة البتول مريم فقط بل ولنا نحن كافة المؤمنين . لأن كل بشارة لقوم إنما هي لهم خاصة ، أما هذه فهي للكافة .

ابراهيم بشره الرب بمولد اسحق ، ولكن لم يصل لنا نحن من ذلك بر ولا خلاص . حنة وعدت بمولد صموئيل النبي . وكذلك أم شمشون الجبار . وزكريا بشر بولادة يوحنا ، ولكن كل واحد من هؤلاء كانت مسرته لنفسه كما قالت اليصابات, إن الرب نظر إلى لينزع عارى من بين الناس، . فأما هذه البشارة اليوم فكائنة لكل المسكونة وكما أن الرب حكم على حواء قائلا لأكثرن أحزانك و بالوجع تلدين بنيك فصار هذا لاحقاً بكل جنسها . كمثل الحكم الذي كان على آدم إذ صار متابعاً لكل جنسه. هكذا عوضاً عن ذلك قال الملاك للسيدة العذراء: إفرحي يا ممتلئة نعمة الرب معك ، فذلك الفرح والنعمة صار إلينا نحن كافة المؤمنين . لأن الرب قد صار معنا على الأرض بالجسد العجيب . ورأينا مجده مجداً مثل الابن الوحيد الذي لأبيه الممتلىء نعمة وحقا .

وكما أن الملاك لما بشر الرعاة بمولد الرب قال لهم : هوذا أبشركم يفرح عظيم يكون لكم ولكل الشعوب ، لأنه قد ولد لكم مخلص هو المسيح الرب . وهكذا الفرح بهذا العيد الشريف اليوم . فهو بشارة عامة لكل المسكونة لأنه يبشرنا بإتيان الرب إلينا ، واتحاد لاهوته غير المدرك بطبيعتنا ، الطبيعية الضعيفة التي قد هلكت فجعلها قوية غالبة الموت ، وقاهرة لإبليس وجنوده .

اليوم يا أحبائى ينبغي لنا أن نسر ـ لأن فيه افتقدنا الرب مشرقا من العلاء ليضيء للجالسين في الظلمة وظلال الموت . اليوم سعر الرب أن يفتقد شعبه للخلاص. ويتعاهد خليقته بالشفاء وصنع البر . ولأنه إذ اشتد المرض وتزايدت العلة وعمر الشفاء احتاج للعلاج من الطبيب الماهر القادر على كل شيء . الشافي النفوس والأجساد. وهو تجسد الإله الكلمة .

فهو ذا الكلامة الأزلية ذو الرحمة . معدن التحنن الكامل من ذي الكمال القوة التي لا تقهر . الهبة التي لا تتغير . الشبه الذي لا يستحيل . المشــال الذي لا يزول. النوع الذي لا يتبدل. الخاصية التي لا يماثلها شيء . القدوس الذي لا يتدنس. صورة الأزلية التي لا تفسد . الضابط الذي لا يحتوى عليه ضياء المجد الذي لا يخمد. شمس البر الذي لا يغيب . نور من نور إله حق من إله حق . مولود غير مخلوق . مساوى الآب في الجوهر ، وإن كان الآب يسمى إلها ، والابن يسمى إلها لأجل جوهر اللاهوت الواحد . وكذلك الروح القدس . ولكن لا يقال ثلاثة آلهة لأن هذه صفة خواص اللاهوت ، ثلاثة أقانيم لاهوت واحد .

قال أغريغوريوس الثاؤلوغوس : إذا قلت الله إنما أقول الآب والابن والروح القدس . لأن اللاهوتية لا تنعت زائداً عن هذا ولا تنضمر أقل منه . ومع هذا لا نعبد ثلاثة . لئلا نوجد مثل الأمم ، الذين يقولون بكثرة الآلهة . ولا نكون أيضا مثل اليهود الذين ينكرون كلمة الله وروحه لأن الردىء فيهما متساوى وإن كان قولها مختلفا[2].

وبهذا نؤمن أن الكلمة مولود من الآب ميلاداً أزليا لا بدء له ، وقد شاء أن يتجسد من القديسة البتول مريم من بيت داود من سبط يهوذا من زرع ابرهيم، لكيها بستطيع العالم مشاهدته ، ولكى يخلص الشبه بشبهه[3] فأرسل أمامه رئيس ملائكة مقدس للبشارة منذراً بأن المتجسد هو الرب لأنه حيث يكون السيد الملك السماوي هناك يكون خدامه العلويون الروحانيون .

هلم في وسطنا اليوم أيها الانجيلى القديس لوقا المطبب بشير الحياة . لأنك الذي أخبرتنا بتدبير التجسد على سياقته أولا فأولا . قال لما كان الشهر السادس أعنى من حبل اليصابات قال أرسل جبرائيل الملاك من عند الله.

يا لهذه الكرامة التي أعطها هذا الملاك من دون كافة الروحانيين ، لأنه أؤتمن على سر التدبير ، وسلك أمام الرب في البشارة المحقة ، لأن تفسير اسم جبرائيل في اللغة العبرانية رجل الله ، وهو مر على التجسد ، بأن الإله متحد بالانسان بالتجسد العجيب[4]. قال إلى مدينة في الجليل تدعى ناصرة . وهذا ليتم ما قيل في الأنبياء أنه يدعى ناصريا . قال : إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود . ذكر أنها خطبت ليوسف لكى ما يخفى الرب تدبير التجسد عن الشيطان . لأن النبوة تذكر بأن العذراء تحبل وتلد ابنا و يدعى اسمه عمانوئيل . ولهذا كانت البشارة بعد خروج السيدة العذراء من الهيكل إلى بيت يوسف ليخفى سر الحبل في ذلك .

وقوله إنه من بيت داود ليعلن أن قبيلة داود كانت محفوظة لم تختلط بالقبائل الأخرى لأجل التجسد . ثم بعد ذلك اختلطت بعد صعود الرب بما يناهز أربعين سنة في مملكة أسباسيانوس لما أخرب البيت المقدس وقتل اليهود وبدد الفضلة[5] في آفاق الأرض . قال واسم العذراء مريم أراد تحقيق الأمر فيها جيداً. إنها من بيت داود بما يأتي بيانه . قال ولما دخل عليها الملاك قال لها : افرحى يا ممتلئة نعمة الرب معك . أعطاها الملاك سلاماً الله مملوءاً فرحاً ليزيل حزن حواء . وكما أن تلك لما أكلت من عود المعصية لطاعتها لإبليس ، ملك عليها الشيطان ، واستولى على جنسها ، كذلك هذه لما أطاعت البشرى قائلة و ليكن لي كقولك ، ، حل فيها الإله الكلمة وملأها من كل نعمة وفرح . وشمل ذلك إلى جنسنا وأنعم علينا بالخلاص مجاناً وسار معنا على الأرض.

قال لما سمعته اضطربت من كلامه وفكرت قائلة ما هذا السلام ، أعنى أنه لم يكن لها مخاطبة أحد لأنها تربت في الهيكل في ستر وسكون عابدة الله ليلا ونهاراً . ثم أن الإنجيل أظهر فضلها . وكونها لما اضطربت من صوت الملاك ، التحفظ الذي ألفته والسكون الذي تربت فيه . ولم تصرخ ولم تدفع كلامها بالجملة فكرت في نفسها لا غير ، قائلة ما هذا السلام الغريب اليوم ، فخاطبها الملاك ، لم تدع عنها بهدوء لائق بها قائلا لا تخافى يا مريم . لأن هكذا جرت عادة المنظر الذي من الله وملائكته الأطهار ، إذا ظهر يزيل الخوف ويعطى هدوءاً وسكوناً . فأما الذي لإبليس فإنه يزيد خوفاً على خوف وقلق على قلق . وبهذا عرف القديسون المنظر الذي من الشيطان وجنوده. فلما سكن الملاك خوفها بدأ يبشرها قائلا : لأنك ظفرت بنعمة من عند الله أعنى أنه اختارها للتجسد الكريم من دون كافة البشر لتكون محلا للإله الكلمة ومنها يظهر الخلاص، فأي نعمة تكون أشرف وأى موهبة تكون أفضل من هذه الكرامة ؟! 

طوباك أيتها السماء الجديدة التي على الأرض يا مريم . لأنك استحقيت أن تدعى والدة الإله أم المسيح الرب معاينة الكلمة وخادمته . ذات الشفاعات القوية .

قال : وأنت تقبلين حبلا وتلدين ابنا أعنى أنه منها تجسد بالحق من غير شبه ولا خيال بكمال البشرية . شبها بنا في كل شيء ما خلا الخطية . وهكذا تلده ويكمل سر التدبير . وقال : ويدعى اسمه يسوع تفسير يسوع المخلص . وهكذا سمى كنحو فعله كما قال : إن ابن الانسان لم يأت إلا لينجي ويخلص من كان ضالا . ثم بدأ يخبرها بإعلان قائلا هذا يكون عظما وابن العلى يدعى، أعنى وإن كان يولد بالجسد فهو ابن العلى لم يزل لأنه إله متأنس ابن العلى سرمداً ، مولود منه أزليا. كائن بلا ابتداء ويكون بلا انتهاء ، وقوله يدعى ، أعنى بالتجسد عرف سر ابن الله . ثم بدأ يظهر كيفية التجسد بالكمال . وأن العذراء ابنة داود النبي فقال : وليعطه الرب الإله كرسى داود أبيه . فحقق أن البتول لم يكن شيء يماثلها . وكيف يكون ذلك ، لولا تجسد الإله الكلمة الذي شاء أن يتجسد من البتول بغير زرع بشر . كما قال سليمان “الحكمة بنت لها بيتا”.

وإن القديسة مريم لعظم إيمانها في الله وحسن يقينها ، رغم هـذا الشيء الغريب الذي لم يكن مثله ، صدقت البشرى وآمنت أن يكون لها ذلك ! ! وأن الله القوى في كل شيء أيدها بروحه الذي حل عليها . فصرفت أشواقها في الرب و تاقت للقول الذي أخبرها به الملاك ، واشتهت أن يكون لها ذلك وأجابته قائلة : و ها أنذا أمة الرب فليكن لي كقولك . . وعند قولها هذا ، حل فيها شمس البر ، لأنه لم يرد أن يغصب الطبيعة التي أعطاها اختيار الإرادة وسلطة الحرية منذ البدء حتى طلبت هي ذلك أولا بشهوة من الله من تلقاء الروح[6] قال وانصرف عنها الملاك . أعنى أنه لما أكمل الرسالة وحل الرب بالتجسد العجيب أذن له أن ينصرف بسلام . لأنه قد أكمل ما يجب عليه من الخدمة التي أرسل فيها .

اليوم يا أحبائى كمل قول داود النبي القائل : – اسمعي يا ابنة وأصغى بسمعك وانسى شعبك وبيت أبيك . فإن الملك قد اشتهى حسنك . ثم أعلمها من هو الملك فقال لأنه إلهك وله تسجدين . بحق أنها سمعت ونسيت كل شيء موجود في هـذا العالم لما قد صارت اليه من الرفعة والكرامة الفائقة .

ولكن ما هو الحسن الذي اشتهاه الإله الملك الأبدى ؟ هل هو بهاء عالمی ؟ لا يكون ذلك . لأن النبي أخبرنا بذلك الحسن أيضاً في المزمور قائلا : ” جميع مجد ابنة الملك من داخل مزينة . أعنى بهذه النفس الناطقة النقية بزينة الفضائل”.

وبطرس الرسول يكتب ويؤكد على هذه الزينة الناطقة قائلا : – ” أن تكون زينة النساء ليس بالزينة الهالكة بدوايب الشعر وحلى الذهب ولبس الثياب الفاخرة مل بتزين زينة الانسان الباطن الزينة الخفية التي تكون بالقلب المتواضع. الزينة التي هي عند الله على غابة الكمال”.

هذا هو حسن بهاء البتول مريم ، التي زينت ذاتها بالفضائل . وبهاء النفس الباطنة ، وأما في إنسانها الظاهر فلم تهتم بشيء من أمور العالم قل أو كثر . إنما كان اهتمامها التقرب من ربها ، لتكون طاهرة بجسدها وروحها ، كما يعلمنا الرسول .

وبهذه استحقت الطوباوية مريم أن تدعى القبة الثانية التي حل فيها مجد الله لأن تلك الأولى التي صنعها موسى كانت معمولة بشقق الحرير والقرمز والأرجوان وغزل كتان ، متقنة بصنعة صانع حاذق . وكانت فيها آنية الخدمة ذهب وفضة ، مع المنارة ، وتابوت العهد من ذهب الابريز مصاغاً . وعمدها من ذهب . القواعد فضة . هياه بهذا البهاء من داخل . أما من خارج فكانت مستورة بخرق شعر . فكانت ترى من خارجها حقيرة المنظر . ومن داخلها جليلة المقدار والكرامة و البهاء . شهية المنظر وبجد الرب فيها . وهكذا الطوباوية مريم ، كان منظرها متواضعاً عفيفاً ورعاً . أما الباطن فكان جليلا جداً ، وهو ضياء نفسها الملتصقة بالله ، المتطلع عليها ، كما هو مكتوب في سفر صموئيل النبي : إن الناس ينظرون في الظاهر وأنا أنظر في الباطن يقول الرب .

أنت هي العوسجة التي منها كلم الله موسى بار تضطرم ولم تحترق أغصانها ، ولا تغير لون ورقها . فإن فكر أحد في حلول الرب فيك فليحد ذهنه إلى تلك العوسجة الحقيرة ذات الشوك وغير المثمرة . وكيف لم يكلم موسى في شجرة ذات ثمار ! ! وزاد ذلك بقوله : أنا إله ابراهيم وإله اسحق وإله يعقوب . ثم أمره بالهبوط إلى مصر ، وما الدليل على ذلك وصحته إلا عندما هبط إلى مصر وصنع الآيات بأمر الله، وأخرج الشعب بيد قوية ، فتبين ليس بالقول فقط بل وبالفعل أيضا أن الذي كلم موسى في العوسجة هو الرب إله القوات .

أنت هو الجبل الذي شهد عنه دانيال الذي قطع منه حجر بغير يد إنسان الذي هو الرب الحجر الكريم . الذي تجسد منك بغير زرع رجل ، وصار جبلا عظما وملأ المسكونة . الذي هو كرامة لاهوته المالي. كل البرايا . وقد يقصر بي الزمان وضعف المنطق أن أبلغ مدح كرامتك كما تستحقين أيتها البتول الطاهرة بكل نوع ، القديسة مريم. ها أنى أقدم كرامة ووقاراً وسجوداً للرب الاله الذي تجسد منك . وأسأل طيب صلاحه وكثرة تحننه ، الذي أجل محبته أتضع لخلاصنا ، وشرف طبيعتنا الحقيرة باتحاده بها ، أن ينظر إلينا بعين التحنن من سماء قدسه . وأن يغفر خطايانا . ويتجاوز زلالتنا . ويسامحنا بهفواتنا ويصفح عن أثامنا ، ويساعدنا على من العمل بمسرته .

 وإن كان ليس لنا دالة أمامه . فنحن نطلب إليه بشفاعتك يا فخر جنسنا . أيتها البتول ذات الشفاعات القوية ، لأنك قد ظفرت منه بنعمة ووجدت عنده دالة أفضل من الملائكة السماويين وكل البرايا الذين كانوا والذين يكونون أيضا . لأن منك خاصة سر أن يتجسد .

عظيمة هي يا أحبائى كرامة هذا العيد لأنه يكر الأعياد السبعة الالهية . وكما أن في يوم الأحد – بكر الأيام السبعة – خلق الله كل البرايا جملة . ثم وزعها في الأيام الأخرى كما شهد بذلك سفر الخليقة قائلا : و في البدء خلق الله ذات السماء والأرض وكانت الأرض غير ظاهرة . وكانت ظلمة غاشية وجه الغمر . وروح الله يرف على وجه المياه . وقال الله ليكن نور فكان كذلك . ورأى الله النور حسناً . وفرق الله بين النور والظلمة ، ودعا النور نهاراً والظلمة ليلا . وكان مساء وكان صباح يوما واحداً . خلق الله الملائكة من ذلك النور وكذلك الأنوار والكواكب . ثم جمع الماء الذي على الأرض وكان بحاراً . وظهر اليبس . ثم خلق النبات والأشجار من الأرض وأصعدها وأنماها .

وخلق الأسماك والطير من الماء . ثم من الأرض أيضاً خلق الحيوان وجعل منها الإنسان . وشرفه بالروح العظيمة الناطقة . فقد صح أن الكل جملة كانوا يوم الأحد ووزعها في الأيام الآخر ، وكذلك هذا العيد الكريم . اعنى عيد البشارة كان فيه بعملة الأشياء التي كان الله مزمعاً أن يكملها بالتجسد العجيب . في الستة الأعياد الأخرى الإلهية مع بقية سر التدبير ، وذلك حيث هو غير مرئى بلاهو ته وغير متألم. أن يتجسد . لكى يشاهده الخلق . ويكمل بالجسد سر تدبيره . ويتألم من أجلنا ويقوم . ويعطى لنا الغلبة والبعث من بين الأموات . أخذ جسد بشريتنا لكى يعطينا موهبة روح قدسه بالميلاد الثاني الذي أفاضه على رسله الأطهار ، بعد كمال الخمسين . تنازل إلينا الذي يعلو الكل لكي يرفع الجسد . الذي كان أسفل إلى علو السموات ويصعده إلى أعلى المراتب . فوق الرؤساء والسلاطين والقوات . وفوق كل اسم يسمى . وأن يصلح بين السمائيين والأرضيين. فبالتجسد أكمل ذلك بأسره . إلا أننا نرى أناساً لا يهتمون بهذا العيد . كمثل بقية الأعياد الإلهية . لكونه يقع في صوم الأربعين المقدس. إذ يظنون أن كرامة الأعياد بالمآكل والمشارب واللهو العالمي . فليس الأمر كذلك لأن الرب يقول أنظروا لئلا تثقل قلوبكم . بالشبع والسكر والأمور العالمية . فيأتي عليكم ذلك اليوم مثل الفخ . فقد صح بأن كثرة الإسراف في هذه الأشياء يقسى القلب . ويطرد منه التخشع . وأن للنفس طعاما آخر غير هذا خاصيا يبقى ولا يزول . لأن الرب أيضاً يعلمنا قائلا : « اعملوا لا للطعام الفاني . بل للطعام الباقي لحياة الأبد الذي يعطيكموه ابن البشر فالآن قراءة الكتب التي من تلقاء الروح كرامتكم . الترتيل في كلام الله فخركم . الوقوف في الصلوات عزاؤكم . مواظبة الابتهال الله رجاؤكم . اتصالكم به بمثابرة لتذكار اسمه القدوس غذاؤكم . كما يقول داود إنى إذا ذكرتك تمتلىء نفسى . كشبعها من الشحم والدسم . .

اقترابكم إليه بأعمال الفضيلة شرابكم . كما يقول من كان عطشانا فليقترب إلى و بشرب . حفظ أجسادكم بطهارة وعفاف ، بهاء لباسكم . ضبط حواسكم عن أمور الآثام ضياء نفوسكم . بذل أيديكم بالرحمة . صفح ذنوبكم ، كما قال ارحموا ترحموا . ترك الحقد من قلوبكم على اخوتكم دالتكم عند الله وقت صلاتكم وتجرون أن تقولوا أغفر لنا كما غفرنا لمن أساء إلينا . تغيير العادة الردية بالجيدة شرفكم . مكافحتكم على إبطال الرذيلة و مجاهدتكم على إقامة الفضيلة ، إكليل مجد يوضع على رؤوسكم .

هذا هو عيد الجيل الذي يبتغى الرب . ويطلب وجه إله يعقوب ، وليس بالمأكل والمشارب التي تفسد و تصير زبلا ، فإن زادت فقد أورثت أموراً تسوق إلى الخطأ ، كما يعظنا بولس الرسول قائلا : « إن أنتم عشتم بالجسديات فعاقبتكم أن تموتوا . وإن سستم أنفسكم ودير نموها بالروح نلتم حياة الأبد ، وقال أيضاً لا تسكروا من الخمر الذي منه يكون المجون . بل كملوا أنفسكم بالمزامير والتسابيح والأنشاد الروحانية . فلنصنع الآن الأعياد الالهية كما يليق بها . لكى نعيد بفرح مع كافة الأطهار . في الملكوت السماوي . موضع نياح القديسين الذي تباعد منه الحزن والكآبة

ونحن نسأل تحنن الرب الذي له القوة أن يحرس شعبنا وأن يساعدنا على مافيه خلاص نفوسنا ، ويذبح نفوس أمواتنا ويحفظنا من التجارب مدة ما بقى من حياتنا . وأن يؤهلنا جميعاً نصيبا مع القديسين في الملكوت الأبدى . والحياة السرمدية بشفاعة سيدتنا البتول الطاهرة القديسة مريم . التي منها تجسد الاله الكلمة . وشفاعة الرسل الأطهار وكافة الشهداء والقديسين الأبرار ، ومن أرضى الرب بأعماله الصالحة ويرضيه من الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين . آمين .

  1.  بمجيء المسيح وهو شمس البر ظهر عدم كمال الناموس الموسوي الذي كنى منه بالقمر.
  2. . يقصد المؤلف أن الخطأ واحد عند الأمم الذين يقولون بعتدد الآلهة وعند اليهود الذين ينكرون الثالوث الاقدس

  3. أي أن أقنوم الابن اتخذ لنفسه شكل الانسان بتجسده لكي يخلص الانسان بآلامه وهو عامل شكل الإنسان .

  4. أي أن معنى كلمة جبرائيل “رجل الله” وفيه إشارة واضحة للتجسد لأن اسمه يجمع بين اللاهوت والناسوت .

     

  5. الفضلة أي بقية اليهود الذين تشتتوا في بلاد العالم.

  6.  أي أن التجسد تم في اللحظة التي سلمت فيها العذراء أمرها الله ووافقت باشتياق وفرح على حلول الابن الكلمة في أحشائها وأن التجسد لم يتم غصباً في الطاهرة مريم بل برغبتها وحريتها .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى