الختان والخليقة الجديدة

كان الختان في العهد القديم هو ” عهد الله في لحم إبراهيم“ وأبنائه من بعده: “فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً” (تك 17: 13). وكان الختان في مفهومه التقديسي ينحصر في قطع الغُرلة من عضو التذكير للطفل ابن ثمانية أيام، أي كان بتعبير بولس الرسول: خلع نجاسة الجسد بالمفهوم الجسدي.

ولكن الختان في العهد القديم لم يُعط أية هبة أو قوة أو نعمة على حياة أو سلوك القداسة، لأن الخطية كانت رابضة في الجسد تعمل بسلطان فوق استطاعة إرادة الإنسان، فكان الإنسان مستعبداً للخطية كما يقول بولس الرسول:
+ “فإننا نعلم أن الناموس روحي، وأما أنا فحسدي مبيع تحت الخطية. لأني لستُ أعرف ما أنا أفعله، إذ لستُ أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإيَّاه أفعل … فالآن لستُ بعد أفعل ذلك أنا، بل الخطية الساكنة في… فإن كنتُ ما لستُ أُريده إيَّاه أفعل فلستُ بعد أفعله أنا، بل الخطية الساكنة في … ويُحي أنا الإنسان الشقي! مَنْ يُنقذني من جسد هذا الموت؟ أشكر الله بيسوع المسيح ربنا…..
إذا لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع … لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع بالقيامة من بين الأموات) قد أعتقني من ناموس الخطية والموت.” (رو 14:7-25 1:8و2)

هنا إعطاء روح الحياة في المسيح يسوع بالقيامة من بين الأموات تخطى الجسد بالخطية الساكنة فيه، وتخطى بالتالي عملية الختان في الجسد التي لم تعط أية قوة ضد الخطية، بل تخطى ناموس موسى.

والمقابل الذي له في الختان ،بديع، لأن إبراهيم كان في الغزلة لما آمن بالله والله حسب له إيمانه برا وهو لا يزال في الغرلة، ثم أعطاه الله من عنده علامة الختان كتصديق من طرفه لبر إيمان إبراهيم. وهذا يقوله بولس الرسول بوعي بديع في رسالته إلى أهل رومية أننا نقول إنه حسب لإبراهيم الإيمان برا . فكيف حسب؟ أَوَهُوَ في الختان أم في الغُزلة؟ ليس في الختان بل في الغُزلة وأخذ علامة الختان  لبر الإيمان الذي كان في الغرلة (رو 4: 9-11). هكذا أصبح الختان في لحم إبراهيم بمثابة ختم أو إمضاء أن إبراهيم حاز على حالة البر من قبل الله دون أن يكون له أي أعمال ناموسية.

هكذا في عطية الخليقة الجديدة للإنسان الذي يؤمن بالله وما عمله في المسيح، إذ بذله للموت حاملاً خطايانا في جسده مكفّراً عن خطايانا جميعاً بدم صليبه، فألغى خطية الإنسان ووفّى عقوبة الموت واللعنة، فقام الإنسان فيه من الموت خليقة جديدة غالبة الخطية والموت ووارثة الحياة الأبدية معه: لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله .» (كو 3: 3)

فأصبح الإيمان بالمسيح وبموته وقيامته بالنسبة لنا الآن – ونحن في الجسد العتيق مائتين في خطايانا منحسين بأعمالنا: “ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح – بالنعمة أنتم مخلصون – وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع، ليُظهِر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع. لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان، وذلك ليس منكم. هو عطية الله . ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد” (أف 5:2-9) ـ هذا الإيمان بالمسيح يُحسب لنا كحالة بر من الله كبر المسيح، ثمنه هو الخليقة الجديدة عينها التي قام المسيح حاملاً لها. فهو يُحسب بمثابة ختم بر الإيمان في حال الختان الذي ناله إبراهيم وهو في الغرلة أي في حالة نجاسة جسدية بدون أعمال! لأن الذي حدث بموت المسيح وقيامته هو أنه ألغى الجسد العتيق بكل خطاياه جملة: “… أن إنساننا العتيق قد صُلب معه …” (رو 6: 6)، “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتك يا هاوية؟ أما شوكة الموت فهي الخطية” (1كو 15: 55 و56)، إذ أماته موتاً، وأمات الخطية فيه والعقوبة المفروضة عليه قديماً بخطية آدم وهكذا بالقيامة من بين الأموات انتهى زمن الجسد العتيق وخرج من تحت غضب الله باعتباره خليقة ترابية عجزت عن أن تُرضي الله. وقام المسيح بجسده الذي قام به من بين الأموات ونحن فيه، بعد أن وفى العقوبة واللعنة بالموت مصلوباً، وبعد أن صالح الإنسان الآدمي بالله، بأن أعطاه جسداً جديداً كخليقة ثانية روحية من السماء من جسده من لحمه وعظامه، الذي أراه لتلاميذه بعد القيامة. وهكذا وُلدت الخليقة الجديدة للإنسان بقيامة المسيح من بين الأموات لحياة أبدية. 

وهكذا حلَّ الإنسان الروحاني الجديد كخليقة جديدة أمام الله محل الختان الذي أبطل مع الإنسان العتيق.

ولكن ظل الختان كعملية خلع الجزء النجس من جسم الإنسان شديد التأثير في ذهن القديس بولس كتشبيه استخدمه للتعبير عن خلع الإنسان العتيق بجملته وخطاياه ونجاساته فيه بأخذ الخليقة الجديدة بقيامة المسيح من بين الأموات: «إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله، ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه.» (كو 10,9:3)

ويُلاحظ هنا أن الإنسان الذي خلقه المسيح جديداً بقيامته من بين الأموات هو على صورة خالقه التي بالروح القدس تزداد من مجد إلى مجد، علماً بأن صورة الله التي أخذها آدم في خلقته الأولى قد تفتتت وانطمست بسبب الخطية.

وقد كان الختان في نظر القديس بولس – كيهودي – شديد الأثر في نفسه حتى اعتبر الخليقة الجديدة بجملتها كختان جديد غير مصنوع بيد، سماوي، ألغى بمفعوله ختانة الجسد: “وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا البشرية” (كو 11:2). كما اعتبر بولس الرسول أن المعمودية بالماء والروح القدس لها نفس الأثر الذي صنعه الموت، والذي صنعته قيامة المسيح من بين الأموات فينا: “مدفونين معه في المعمودية، التي فيها أُقِمتُم أيضاً معه بإيمان عمل الله، الذي أقامه من الأموات» (كو 12:2)، باعتبار أن الدفن في ماء المعمودية يمنحنا نفس الموت السري في موت المسيح، ثم قيامتنا من الدفن في الماء تمنحنا نفس سر القيامة مع المسيح.

ونحن لو نظرنا إلى موضوع الخليقة الجديدة بفكر القديس بولس اليهودي أصلاً وهو يضعه في المقابل الملغي للختان، نُدرك العمق الواقعي اللاهوتي للخليقة الجديدة في مجال العهد، لأن الختان كان يُمثل القيمة القصوى لأي إنسان يهودي بالنسبة إلى تبعيته ليهوه العظيم أو كفرد من الشعب المختار، بحيث أن غير المختون كان محسوباً أنه لا يدخل العهد ولا ينتسب لإبراهيم أب الآباء بالتالي، فيكون غير المختون مرفوضاً من الله ومن الشعب. هنا نجد أن القيمة اللاهوتية والاجتماعية للختان في العهد القديم قد بلغت أقصاها.

على هذا القدر والمستوى صارت الخليقة الجديدة عند القديس بولس فهي على هذا القدر والمستوى صارت الخليقة الجديدة عند القديس بولس. علامة العهد الجديد، وهي بحد ذاتها تبعية مطلقة ليهوه ومانحة لهوية الإنسان عامة كل مَنْ أمن وقَبِل موته مع المسيح وقيامته معه، وليس هذا فقط، بل إن الخليقة الجديدة في المسيح يسوع استطاعت أن تلغي لا الختانة فقط، بل والعهد القديم (من حيث رموزه و ذبائحه وفرائضه وأحكامه). هذا هو مضمون قول بولس الرسول إنه ليس ختانة في المسيح يسوع بل خليقة جديدة.

وتمتد هذه المقولة الهامة جداً في اعتبار بولس الرسول لتفكَّ الحصار المضروب على الأمم ليكونوا شركاء في ميراث الابن الوحيد الله وليكونوا شعباً مختاراً الله بلا تفريق، وهو السر الذي كان مكتوماً وكشفه الله لبولس الرسول ليكرز به بإنجيله الجديد بين الأمم أن لا ختان ولا سبت ولا ناموس بعد، وهوذا الكل قد صار جديداً، كل من يؤمن بموت المسيح وقيامته، ليقبل غفران خطاياه، بتمزيق الصك المكتوب على بني آدم جملة الذي سمره المسيح على الصليب بتسمير الجسد، ووفَّى عن كل من آمن به عقوبة الموت واللعنة، ووهبه الخليقة الجديدة للإنسان بالقيامة من بين الأموات.

وبناء عليه أصبح كل من يؤمن ولا يقبل الخليقة الجديدة، يبقى عليه غضب الله، وتبقى عليه بالتالي خطاياه وعقوبة اللعنة والموت، ولا تنفعه ختانة ولا غرلة. وفي المقابل يصبح مَنْ يؤمن ويصدّق المسيح وينال فيه الخليقة الجديدة بشركة الموت والقيامة المحسوبة أنها الختانة الجديدة من غير يد لخلع جسد الخطية مع أ أعماله ولبس الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه، يكون له افتخار ليس كافتخار اليهودي بختانته، بل افتخار من صار بهذه الخليقة الجديدة أعلى من كل خليقة سماوية أخرى ولكن في المسيح

والأمر الذي نود جداً أن نبرزه أمام القارئ في المقابلة التي وضعناها بين الختان لإبراهيم والخليقة الجديدة في المسيح المجانية المفرطة في مفهومها التي جاءت في اللغة اليونانية بمعنى الهدية. فكما أعطى الله لإبراهيم الختان مجاناً كختم أو إمضاء إلهي للبر الذي منحه إيَّاه بسبب إيمانه بالله، هكذا تماماً منح الله الإنسان في العهد الجديد خليقته الجديد مجاناً لكل من يؤمن بالمسيح، جزاء لإيمانه.

ومرة أخرى لينتبه القارئ من مطلع الآية أن البر الذي وهبه الله للإنسان المؤمن هو مجاني كعمل نعمة: “متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح الذي قدمه لله كفَّارة (ذبيحة تكفير على الصليب) بالإيمان بدمه، لإظهار بره (بر الله بيسوع المسيح للإنسان المؤمن في العهد الجديد)، من أجل الصفح عن الخطايا السالفة بإمهال الله لإظهار بره (بر الله للإنسان الجديد) في الزمان الحاضر (العهد الجديد) ليكون (الله) بارا ويبرر من هو من الإيمان بيسوع.» (رو 24:3-26)

وينتهي بولس الرسول من هذه المقارنة سواء في إعطاء البر لإبراهيم، لأنه آمن بالله وأعطي الختانة كختم، أو إعطاء البر لأي إنسان في العهد الجديد يكون قد آمن بدم المسيح، ومنحه الخليقة الجديدة كختم بر، هكذا
+«فأين الافتخار ؟ قد انتفى بأي ناموس؟ أبناموس الأعمال؟ كلا! بل بناموس الإيمان.» (رو 27:3) 

إلى هنا يكون قد انتهى القديس بولس نهاية بارعة في موازنة الختانة في العهد القديم بالخليقة الجديدة في العهد الجديد. ويكمل قائلاً: ولكن لم يُكتب من أجله أي من أجل إبراهيم وحده أنه حُسبَ له (الإيمان براً)، بل من أجلنا نحن أيضاً، الذين سيُحسب لنا، الذين نؤمن مَنْ أَقام يسوع ربنا من الأموات. الذي أُسْلِم من أجل (غفران) خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا (بإعطاء الخليقة الجديد)” (23:4-25)

وماذا يريد أيضاً أن يقول لنا القديس بولس من جهة الموازنة بين الختان والخليقة الجديدة؟ القديس بولس يريد أن يقول إن إبراهيم لَمَّا آمن بالله أنشأ بؤرة حيَّة لمجد الله متركزة في شخصه هو، جازاه عنها الله بأن منحه حالة بر، أي تزكية أمام الله كمَنْ اختبر ونجح في الاختبار.

هكذا مَنْ يؤمن بالمسيح أن الله قدمه ذبيحة كفارة للتكفير عن خطايا الإنسان على الصليب، وأنه أقامه من الموت حيا لتبرير الخطاة أي تزكيتهم أمام الله؛ بهذا الإيمان يُنشئ الإنسان بؤرة حية لمجد الله متركزة في شخصه هو، يكون هو نفسه عملها، أي يتقبل عمل موت المسيح في جسده للتكفير عن خطاياه، ويتقبل عمل التبرير في قيامته بمعنى أنه يتزكَّى أمام الله: «الذي أُسْلِم من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا.» (رو 4: 25)
والمعنى جديد وقوي، وهو أن الإيمان بالمسيح يُنشئ في الإنسان شركة حية في عمل المسيح:
الإيمان بالموت يُنشئ في الإنسان شركة في الموت، والإيمان بالقيامة يُنشئ في الإنسان شركة في القيامة. هذا هو جزاء الإيمان في المسيح كجزاء الإيمان عند إبراهيم.
الإيمان في الحالتين أنشأ برا، ارتد عمله على الإنسان.
البر عند إبراهيم استُعلن بالختان كعمل للبر والبر عند المسيح استُعلن في الخليقة الجديدة كعمل بر:
+ « لإظهار بره في الزمان الحاضر، ليكون باراً ويُبرِّر مَنْ هو من الإيمان بيسوع. » (رو 3: 26)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى