كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

التأمل

‏θεωρία

«اصلي بالروح واصلي بالذهن أيضـا» ( 1کو 14: 15).

قليل من الناس من يقضي بعض وقته في ممارسة الوجود مع الله، وأقل من هذا القليل من وصلوا بنعمة الله إلى التنعم ببركات التأمل العليا في الصلاة الداخلية. مع أن هذا النوع من الصلاة يُعتبر ثمرة الحياة الروحية وعودة آدم إلى جمال روحانيته الأولى.

لقد تكلمنا عن الهذيذ كأول درجة من درجات الصلاة العقلية (أو الداخلية)، و يصح أن نذكر هنا أنه ليس هناك حدود واضحة تفصل الهذيذ عن التأمل فالدرجتان متداخلتان عملياً. غير أنه يمكن أن يُقال إن الهذيذ هو الأساس الذي تستند عليه الحياة التأملية، كما سيتضح من أقوال القديسين، أو بعبارة أوضح يُعتبر الهذيذ تدريباً للوصول إلى درجة التأمل. وإن كان الهذيذ عبارة عن تنشيط الروح بواسطة القراءة وغيرها ، يكون التأمل هو هذا النشاط بلا افتعال. وإن كان في الأول يقع الجهد على قوى التصور والتفكير، فيكون الثاني هو التحرر من كل جهد فهو النظرة الداخلية في النفس وهو الإستراحة البسيطة في القلب نحو الله.

ومن الخطأ أن نظن أن حياة التأمل معناها أن لا يعمل الإنسان شيئاً سوى أن يتأمل، وإلا كانت حياة التأمل وقفاً على النساك والمتوحدين. ولكن الأمر ليس كذلك ، فالتأمل نوع من الصلاة متيسر للجميع وليس وقفاً على أحد، فهو لرجل العالم كما للراهب وهو للمتزوج كما للبتول وهو للشاب كما للشيخ.

والتأمل (التاورية)، في لغة الإنجيل، يُعبر عنه بالتفاتة عقلية فيها يتواجه العقل مع حقيقة جديدة فائقة عن المعرفة العادية وعن الإدراك الطبيعي ، وهذه الحقيقة الجديدة الفائقة يستشفها الإدراك الإنساني على كل المستويات الفكرية والروحية والوجدانية، ويصحبها غالباً منظر يشرح هذه الحقيقة، يكون من نتيجته حصول الإنسان على درجة إيمانية قوية تفوق المعرفة.

أي أن التأمل في لغة الإنجيل هو وسيلة إيمانية عالية.

هذا المعنى نواجهه تماماً في المواضع الآتية:

(1) رؤية أمور غير عادية تنم عن حقيقة ممثلة ، يكون من نتيجتها حدوث تأمل إدراكي ينتهي إلى اكتشاف الحق ، وهذا نجده في حادثة دخول بطرس مع يوحنا إلى القبر المقدس ورؤيته فارغاً والأكفان موضوعة في مكانها بلفتها العادية والمنديل ملفوفاً كما هو عند موضع الرأس، مما يشرح في الحال حدوث حالة قيامة الجسد المائت بدون لفائفه . فمنظر القبر الفارغ واللفائف رفع عقل بطرس إلى حالة تأمل مباشر في القيامة . لذلك يصف الكتاب المقدس نظر بطرس الرسول أنه كان في حقيقته ليس نظراً عادياً ، ولكنه تأمل (تاورية)، غير أن الترجمة العربية ضعيفة لم توضح هذا المعنى: « ثم جاء سمعان بطرس يتبعه ودخل القبر ونظر ( تاورية) الأكفان موضوعة والمنديل … وحينئذ دخل أيضاً التلميذ الآخر… ورأى فآمن.» (يو 20: 6-8).

(2) رؤية مخلوقات غير عادية تجعل العقل يدخل في معرفة جديدة غير مألوفة وغير عادية، كرؤية الملائكة، حيث يكون النظر إليهم ليس نظراً عادياً بالعين فقط بل بالعقل غير الحسي أيضاً: «أما مريم فكانت واقفة عند القبر خارجاً تبكي، وفيما هي تبكي انحنت إلى القبر فنظرت ( تاورية ) ملاكين بثياب بيض جالسين.» (يو 20: 11و 12)

(3) رؤية أشخاص في حالة قيامة حيث تكون حالتهم غير طبيعية تماماً بالنسبة للحواس وبصعوبة يتميزهم النظر، كما في حالة رؤية المجدلية للمسيح : « ولما قالت هذا التفتت إلى الوراء فنظرت ( تاورية ) يسوع واقـفـاً ولم تعلم أنه يسوع.» (يو 20: 14).

وكما في حالة رؤية التلاميذ للمسيح لما دخل العلية والأبواب مغلقة عشية قيامته: فجزعوا وخافوا وظنوا أنهم نظروا (تاورية) روحاً.» (لو 24: 37).

غير أن المعرفة المتحصلة من التأمل في هذه الحالات لا تكون معرفة عادية يمكن البرهنة عليها بالمنطق العقلي، لأنها تكون فائقة على كل خبرات الإنسان الحسية وكل إدراكاته العقلية السابقة، فالتأمل الروحي في الواقع يضيف خبرات وإدراكات روحية لم تكن موجودة سابقاً تفوق في قوتها ومسرتها كل خبرات وإدراكات العقل العادية. لذلك فبعد التأمل يظل الإنسان غير مصدق ما رآه وما أدركه، بسبب الفرح و بسبب عدم وجود برهان منطقي يشرح هذه الخبرات الجديدة، وهذا أيضاً نسمعه في الإنجيل : « أنظروا يدي ورجلي إني «أنا هو جسوني وانظروا (تاورية ) فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي. وحين قال هذا أراهم يديه ورجليه و بينما هم غير مصدقين من الفرح ومتعجبون قال لهم …» (لو 24: 39- 41).

ونلاحظ أن التعبيرات الإلهية في الكتاب المقدس تفرّق بين التأمل الواعي الذي يكون في يقظة العقل والحواس سواء كان بمنظر أو بدون منظر و بين التأمل الذي يكون في غيبة العقل أي عندما يكون الإنسان في حالة غيبوبة روحية .

فالتأمل الواعي أي النظر العقلي الصاحي يسميه الكتاب:  تاورية ، أما التأمل أثناء الغيبوبة الروحية فيسميه الكتاب رؤية = آپوکالیپسیس. لذلك نجد أن سفر الرؤيا يخلو بأكمله من أي استخدام لكلمة «تاوريا» أي «تأمل» إذ جعلها مقصورة فقط على نظر الإلهيات بالعقل الصاحي.

وبقدر ما كان الهذيذ يحتاج إلى تعمق في الفحص العقلي وبالتالي إلى نشاط زائد في الذهن والتفكير، بقدر ما يحتاج التأمل إلى هدوء شامل في القوى العقلية والكف عن الفحص والتعمق، لأن في الهذيذ يجري العقل وراء الحقيقة ويتقصاها ، أما في التأمل فالحقيقة هي التي تبتدىء تحيط بالعقل وتملأه ، فبقدر هدوئه وسكوته بقدر ما تسطع فيه الحقيقة الإلهية وتتجلى وتنير.

التأمل، كإختبار روحي، ليس فيه أي شيء زيادة على إمكانيات النفس العادية عندما تكون في وضعها الطبيعي الهادىء . لأن طبيعة النفس الأصيلة تتناسب حسب خلقتها الأولى مع التأمل في الحق الإلهي . وذلك عندما تقف النفس هادئة وصامتة أمام خالقها . والنفس في وضعها العادي والطبيعي لا يُفترض فيها أن تكون إيجابية ولا سلبية، أي لا يفرض عليها أي عمل تعمله حتى تُؤهل لاستقبال الحق الإلهي، كما لا ينبغي أن تكون منشغلة عن الله بالشرور أو الشهوات أو توافه الأمور وإلا فلا يمكن أن تحس بالحق الإلهي. 

فالنفس في وضعها الطبيعي عندما تتخلص من الشرور والأوهام تكون في حالة سهر داخلي ورزانة، ويسميها الآباء: Sobriety، أي لا تكون منشغلة بشيء البتة، حيث يكون القلب في حالة يقظة وانتباه و يسميه الآباء Attention of the heart =  ἡ καρδιακή προσοχή

وهذا هو أساس التأمل الذي يؤهل الإنسان لاستقبال الحق الإلهي والتأمل فيه ، الذي يكون برهانه في النفس هو حصولها على التمييز والتصرف الحسن والحكم على الأمور روحياً، وهذا يسميه الآباء : الإفراز  The faculty of discernment.

ولكن لكي تكون النفس صاحية وساهرة، أي غير ناشطة إيجابياً أو سلبياً، حتى تؤهل للتأمل ؛ فهذا معناه أمران :

الأول : أن تكون النفس غير ممسوكة بأهواء خاصة أو شهوات أو خطايا تمتص اهتمامها وتفقدها اتزانها، وهذا هو الذي نسميه النشاط السلبي المخرّب للنفس الذي يُظلم النفس ويحجب عنها الحق الإلهي.

أما طريقة تحرير النفس من عبودية الأهواء والشهوات فهذا يدخل ضمن النسك Discipline، والنسك عموماً هو نشاط إيجابي للنفس تقاوم بها النشاط السلبي. أي هو التمرين على الفضائل لقطع دابر الرذائل والعادات الشريرة، وهذا التمرين يسميه الآباء بمرحلة العمل.

الثاني: أن تبتدىء النفس بعد تحررها بأن تهدأ وتكنت عن كل اهتماماتها وتتخلى عن اعتمادها على نفسها وعلى عقلها في التقرب إلى الله، حيث تصبح الصلوات نفسها لا تعتمد على مجهود ذهني ولا نشاط نفساني قط ، بل هي مجرد وقوف صامت وهادىء أمام الله ، فيه تستقبل النفس الحقائق الإلهية بدون جهاد و بدون سعي و بدون استقصاء أو جدل فكري ، هذه الصلاة يسميها الآباء الصلاة الطاهرة أي النقية من التصورات العقلية ، ويسميها مار إسحق بالصلاة الروحانية. والوصول إلى الصلاة الطاهرة يكون أكبر برهان على نجاح الإنسان في مرحلة العمل والجهاد النسكي، لأن بلوغ الصلاة الطاهرة معناه أن النفس تكون حتماً قد تخلصت من النشاط السلبي وأصبحت غير ممسوكة أو مستعبدة لشيء قط.

ولكن الإنسان لا يبلغ الصلاة الطاهرة بمجرد دخوله في التأمل، بل إن الصلاة الطاهرة تمثل آخر مرحلة من مراحل الجهاد المتواصل أثناء التأمل للتحرر من النشاط الذهني الذي يزيف المعرفة الروحانية و يفسد الحق، والتي بعدها يصبح التأمل تأملاً روحياً بالحق.

ولا بد أن يعبر الإنسان على فترات طويلة في صلواته وتأملاته يتشابك فيها الذهن مع الحق الإلهي، ولكن بالمثابرة والبساطة وحرارة المحبة يهدأ الذهن قليلاً قليلاً و يكف عن نشاطه معطياً المجال للحق الإلهي لكي يصير هو المتسلط على الذهن وليس العكس: «تعرفون الحق والحق يحرركم.» (يو 8: 32).

وطالما العقل متسيطر ونشيط وفعال، فإن الإرادة تظل غير حرة وتكون واقعة تحت الرغبة البشرية لأن الإرادة تكون دائماً مربوطة بالعقل ؛ ولكن عندما يبدأ العقل أن يهدأ و يكف تبدأ الإرادة تتحرر وتتجه رأساً نحو الله وتصير تحت تأثير النعمة المباشر، وهنا تدخل النفس مجال الروح فتصير صلاتها وتأملاتها روحانية حيث يشمل النفس نوع من السكينة الإلهية يسميها الآباء : Hesychia  فيها تتحرك النفس بتأثير الروح القدس كما يقول مار إسحق.

من هنا يتبين أن التأمل أو التاوريا، في وضعه الكامل والصحيح، لا يعتمد على النشاط الذهني بل على العكس يعتمد على مقدار الكف عن النشاط الذهني، مع الهدوء والسكوت الداخلي. لذلك فهو في غاية البساطة وفي غاية السهولة، ولا يوجد في جميع ما اختبره الإنسان في حياته الروحية ما هو أسعد وأبهج من التأمل، حتى نعته الآباء بأنه هو الملكوت بسبب عظم السعادة والبهجة والفرح المفرط والمذهل للعقل فعلاً، عندما تقترب النفس من الله وتذوقه.

ولكن بالرغم من بساطة التأمل واعتماده الكلي على الهدوء والكف عن كل نشاط ذهني أو نفسي سواء كان إيجابياً أو سلبياً ، وكونه لا يتطلب إلا وقوف النفس والذهن في حالة تأهب واستعداد: «مستعد قلبي يا الله مستعد قلبي» (مز 56: 7 حسب الترجمة السبعينية) ، بالرغم من ذلك فإن كثيراً من النفوس يتعذر عليها هذه البساطة وهذا الهدوء الداخلي كما يـتـعـذر عليها توقف نشاطها النفساني والذهني . لذلك لزم في مثل هذه الأحوال أن تُدرّب النفس على ما يؤهلها للدخول في التأمل.

وهـذا الـتـدرب على الدخول في التأمل هو بحد ذاته نوع من التأمل وإنما سوف نسميه التأمل بالإرادة أو بالتدرب، أو «التأمل المكتسب ».

ولكن يلزمنا قبل الخوض في هذا النوع من التأمل أن ننبه مرة أخرى أن التأمل في أية حالة من حالاته وفي أية صورة من صوره لا يقوم أصلاً على النشاط الذهني ولا يعتمد على أي  عمل إيجابي من طرف الإنسان بل هو حالة استعداد داخلي للذهن والنفس لقبول فاعلية الحق الإلهي وسيطرته على الذهن والنفس.

لذلك فإن غاية التأمل الإرادي أو المكتسب يلزم أن تنحصر فقط في الحصول على درجة من الهدوء الداخلي والسكينة الذهنية، وذلك في الواقع يساوي مجرد الوصول إلى مؤهلات التأمل الحقيقي . أي أن التأمل المكتسب بالإرادة هو عملية توصل إلى استعداد حقيقي لقبول حالة تأمل كامل، أي تاوريا روحانية.

هذا التدريب التأملي الذي يوصل إلى التاوريا الروحانية تقليد قديم جداً عند الآباء ، نسمع عنه باستمرار في تعليم الآباء الأوائل أمثال القديس مكاريوس الكبير في الأسقيط والقديس ثيئوناس في نتر يا الذي أفرد له كاسيان فصلاً كاملاً يشرح فيه دقائقه الروحية.

والتدريب يتلخص في تركيز الذهن في آية صغيرة – و يسمى هنا Monologistos – يظل الإنسان يرددها باستمرار بدون انقطاع ساعات طويلة كل يوم، حابساً العقل في أضيق معنى للآية أو في توسل واحد باسم الرب يسوع.  و يسمى هنا Onomatolatreia  لا يخرج عنه قط ، وكلما خرج الذهن عن حدوده يرده الإنسان بدون ملل حتى يتعود الذهن الكف عن التشتت ويهدأ و يستكين. وبالرغم من أن هذا التدريب كان في زمن الآباء الأوائل مجرد اختبار روحي يوصل إلى السكينة الروحية التي يمكن أن ينطلق منها الإنسان إلى التأمل الروحي الخالص أي التاورية الروحانية ، إلا أن الآباء المتأخرين في بيزنطة جعلوه عملاً روحياً منفرداً بذاته ووضعوا له شروطاً فنية وأصولاً وواجبات كثيرة، وتطور حتى أصبح موضع نقاش لاهوتى كبير، ولكن ظل حتى اليوم موضع اهتمام بالغ الحد عند الكنيستين البيزنطية والروسية والكنائس الشرقية الأخرى. 

والذي يـعـنـيـنـا في هذا التدريب الروحي هو نجاحه السريع المذهل في تهدئة النفس والمشاعر والأفكار، وربطه للعقل، وحبسه في أضيق حدود الصلاة.

فالغاية الأولى من التدريب هو الدخول في حالة السكينة الروحية، لذلك سماه الآباء صلاة « الهيزيخيا »، أي صلاة السكينة، مع ملاحظة أنها صلاة تخلو تماماً من أي قراءة أو هذيذ أو تسبيح أو أي نشاط روحي إيجابي، كما سبق وقلنا . وفي هـذا الـتـدريـب بـعض الإرشادات الخفيفة الخارجية وضعها الآباء لكي يسهل الوصول إلى حالة السكينة الداخلية مثل الجلوس في مكان هادىء وعدم الحركة وتثبيت النظر العقلي نحو القلب، حتى يشترك العقل أولاً مع القلب في ترديد الصلاة ثم يدخل العقل في النهاية تحت سيطرة القلب ويتوقف حينئذ عن ت تسلطه.

والـتـدريـب بهذا الوضع لا يخرج عن كونه محاولة واجتهاداً للتحرر من العوامل الخارجية والداخلية الضاغطة على العقل والنفس، والتي صارت جزءاً ملازماً لنشاط الإنسان وكأنها طبيعة له تعمل على حرمانه من الهدوء والسكينة الروحية التي كانت أصلاً من صميم طبيعة النفس البشرية.

إذن، فصلاة السكينة بترديد اسم الرب يسوع أو بترديد آية قصيرة حسب ترتيب الآباء الأوائل، كانت محاولة روحية اجتهادية للعودة بالنفس البشرية وبالذهن البشري إلى حالتها الأولى الطبيعية : حالة السكينة الروحية التي فيها يستطيع أن يسمع الإنسان صوت الله و يرى نوره في القلب ، أي حالة تأمل روحي أصيل.

ولعل هذه الغاية هي التي كان يقصدها الرب يسوع من حثه لنا على المداومة في الصلاة بقوله : «ينبغي أن يُصلّى كل حين ولا يُمل» ( لو 18: 1)، والتي كان يقصدها القديس بولس الرسول بقوله : «صلوا بلا انقطاع.» (1تس 5: 17).

وهنا نوجه القارىء للرجوع إلى الباب الثاني الفصل الثامن، لإستيعاب تدريب التأمل المكتسب بممارسة الصلاة بلا انقطاع ونكتفي هنا بالدخول مباشرة في طبيعة التأمل الروحي الصرف أي التاوريا الروحانية.

والتأمل على نوعين كما سبق وأوضحنا : النوع الأول: وهو الذي يعنينا جداً لأنه عمل روحي يمكن إتقانه والتوفر عليه بالإرادة، ولكنه وإن كان يعتمد على المجهود البشري للبدء به إلا أن الإستمرار فيه يحتاج إلى مؤازرة النعمة.

النوع الثاني: هو هبة كاملة من النعمة في بدايته وفي الإستمرار فيه أيضاً. فهو لا يعتمد على شيء من قبل الإنسان : لا أن يوجد في حالة خاصة ولا أن يسعى إليه لا بالشعور ولا بالمشيئة، وإنما هو عمل النعمة حسب مسرة الله بالقدر الذي يختاره وبالطريقة التي يراها . والنوع الثاني من التأمل هو الذي يمتد غالباً إلى حالات ما فوق الصلاة، أي الدهش في الإلهيات والرؤى والإستعلانات والنبوة والمواهب الفائقة من عمل معجزات وشفاء أمراض .

ولكن هذه الحالات جميعاً متداخلة في بعضها ، فالروح يرتفع و ينخفض من واحدة إلى أخرى دون أن يتقيد بقاعدة ثابتة. إذ أن هذه الدرجات المختلفة من الصلاة إنما توضح حالة النفس أمام الله ولا تفيد على الإطلاق تحديد موقف الله تجاهنا . فهي إختبارات نجوزها في حياتنا البشرية وليست درجات يتوقف عليها خلاصنا أو تقيّد الله في تعليمنا . إنما أخذت مجراها في حياة القديسين وساروا عليها فوصلوا بها ووضعوا حدودها ووصفوا طبيعتها لتعليمنا .

التأمل الإرادي

التأمل الإرادي أو التأمل المكتسب هو التأمل المعروض للجميع سواء كانوا من الإكليروس أو كـانـوا من ذوي المهن العالمية المختلفة. بل إن التأمل يعتبر حصناً منيعاً يقي هؤلاء جميعاً من مساوىء الأوساط التي يحيون فيها و يضطرون للعمل بها ، لأنه يرفع من مستوى الإرادة و يُخصب الشخصية ويمدَّها بقوى فائقة . من العمق والبصيرة والتمييز و يؤهل الإنسان للقيادة.

لذلك تعتبر المواظبة على التأمل من أغنى الوسائل لبناء النفس وجعلها صالحة لتبوؤ مراكز المسئولية على كل المستويات.

الدخول إلى التأمل :

هناك أمور أساسية لازمة للنفس لكي تدخل إلى حالة تأمل صحيحة ناجحة : فأولاً، وقبل كل شيء يلزم أن يكون الإنسان غير مُستعبد للهموم الأرضية أو الخطايا أو العادات الرديئة، أي يكون حراً مجاهداً ضد الخطيئة، والذين اختبروا الهذيذ وساروا فيه يهون عليهم هذا الجهاد. لأن الحديث مع الله من أهم وأقوى العوامل التي تحرر الإنسان وتحرق الخطايا وتبدد شهوتها وسلطانها، كما تعلمنا من أقوال مار إسحق في الهذيذ . إذن، فهنا نكرر أهمية اختبار الهذيذ والسير فيه حتى نصل بنعمة الله إلى حالة من الطهارة والتوبة تليق بالدخول في التأمل الذي سوف نواجه فيه الله وجهاً لوجه ، كقول القديس أوغسطينوس . ويمكن تلخيص هذا الدور من الإستعداد بكلمتين : إنكار الذات، والإنتصار على الأهواء والشهوات بكل ما فيها من معان.

و يستحيل الوصول إلى حالات ناجحة من التأمل أو الحياة الروحية على وجه العموم دون بذل الجهد في التلمذة لأعمال النسك والفضيلة، ويقول القديس أوغسطينوس : [ عبثاً نحاول الوصول إلى مواجهة الله بالرؤية إلا إذا تجنبنا أسباب الخطيئة وأعمالها . ]

و يقول غريغور يوس الكبير في ذلك الأمر:
[على العقل أولاً أن يتنظف من نفخة الكبرياء ومن التلهي بمسرات الجسد والشهوات المختلفة و بعد ذلك يستطيع أن يرتفع في درجات التأمل.]

و يقول أيضاً : [وعلى الرجل الكامل أن يتتلمذ أولاً على اعتياد الفضائل وممارستها و بعد ذلك يدخل إلى راحة التأمل . ]

ثانياً : من السهل على الذين أخضعوا ذواتهم وانتصروا على الخطايا وشهواتها ولذاتها وتصوراتها أن يُخضعوا الفكر أيضاً. لأن هدوء الفكر من الجولان عامل مهم للدخول إلى التأمل. ويقول غر يغور يوس الكبير :

[يتدرب العقل أن يحجب عن عينيه أي خيالات وتصورات سواء كانت أرضية أو سماوية، و يطرد كل الحركات التي تأتيه من خارج أثناء وقوفه للتأمل سواء كانت من جهة السمع أو البصر أو الشم أو حتى الذوق أو الإحساس حتى يتفرغ لأن يطلب نفسه من الداخل كأنه بغير حواس.]

و يقول أيضاً :
[ إن أول خطوة هي أن يثوب العقل إلى نفسه و ينجمع إلى ذاته، والخطوة الثانية أن ينظر ذاته مجموعاً مصلوباً خالياً من التصورات الجسدية، وهذا يصنع من ذاته سلَّما لذاته ليصعد إلى الخطوة الثالثة التي هي فوق ذاته وهي التأمل.]

أما التعليل الفلسفي الروحي لتجميع العقل كخطوة أساسية للدخول إلى التأمل ورؤية الله ، فهو أننا لا نستطيع أن نصل إلى الله إلا في أعماق نفوسنا . حقاً أن الله موجود في كل مكان ولكن ليس بالنسبة إلينا، وإنما بالنسبة إلى طبيعته التي تملأ كل الوجود . فليس مكان نستطيع أن نتلاقى فيه مع الله في كل هذا العالم الفسيح إلا في نقطة واحدة وهي داخل نفوسنا . هناك هو ينتظرنا ، وهناك يمكننا أن نواجهه ،ونحدثه، ومن هناك يحدثنا . وفي ذلك يتأمل القديس أوغسطينوس تأملاً رائعاً في البحث عن الله ، يثبت فيه أنه لا يمكن أن يجد الإنسان الله إلا في أعماق نفسه :

115ــ أنت الدائم إلى الأبد غير المتغير قط.
وهبتني نعمة سكناك في ذاكرتي يوم أن عرفتك.
ولماذا أبحث أنا الآن عنك كأنما تتعدد أمكنة سكناك لي ؟
أنا متأكد أنك أعددت سكناك في منذ ذكرتك يوم أن عرفتك.
حيث أجدك عندما أدعوك لتذكرني.
ولكن أين وجدتك عندما تعرفت عليك؟
لأنك لم تكن في ذاكرتى قبل أن أعرفك !
أين إذن وجدتُك عندما تعرفتُ عليك؟
كنت أعلى مني … هناك في نفسي عميقاً أعمق من عمقي وعالياً أعلى من علوي.
قد تأخرت كثيراً في حبك ، أيها الجمال الفائق في القدم والدائم جديداً إلى الأبد.
آه ! تأخرت كثيراً في حبك.
كنت في فكيف خرجت أبحث عنك خارجاً عني؟
أنت كنت معي، ولكن لشقاوتى لم أكن أنا معك !
فدعوت وهتف وأخيراً حطمت صممي.
أضأت وأبرقت ومزقت ستار عماي.
أفحت عبيقاً، فسرت يهديني عطرك، ألهث خلفك.
دقت فجعت وعطشت.
لمستني فاشتعلت النار في.

ثالثاً : لا بد أن يكون هناك دافع من الحب يصمم غر يغور يوس الكبير على ضرورة وجود الحب بدرجة ما للدخول إلى التأمل. و يقول في ذلك :

[إنه يلزم للذين يتوقون للدخول إلى ممارسة التأمل أن يواجهوا ذواتهم بمقدار ما لديهم من الحب. إن قوة الحب هي المحرك الذي يعزل النفس عن العالم ثم يهم صاعداً بها إلى العلو.]

و يقول أيضاً : [ إن عظمة التأمل لا تُمنح إلا للذين لهم حب.]

وسوف يقابلنا في معرض كلام القديسين قطعة رائعة عن الحب للقديس يوحنا سابا تركناها في موضعها واكتفينا هنا بتوجيه النظر إليها .

حالة التأمل

 يأتي وقت على الذي يداوم الهذيذ يشعر فيه أنه ابتدأ يتخلى عن ا اعتماده على استحداث الإنتباه الروحي داخله. فبمجرد استعداده الداخلي لمباشرة الصلاة العقلية يجد نفسه قد دخل في عمق الصلاة وتركزت مشاعره وانجمع عقله إلى هنا نكون قد وصلنا إلى عتبة التأمل ؛ دون أن نبذل جهداً ما لا بقراءة ولا بتصور ولا بحديث ما … وبذلك تكون الصلاة قد أصبحت طبيعية ولا تحتاج إلى استحداث شيء ما من أي نوع. إذ أن الدخول السريع إلى عمق الصلاة والشعور بوجود الله معناه أنه قد توطدت علاقتنا مع الله واتسعت الفترة القصيرة التي كنا ننعم بها في الهذيذ الله بوجود حتى شملت الفترة كلها التي نقضيها في التأمل. وهذا معناه أننا دخلنا في نوع جديد من الصلاة أبسط من الأنواع السابقة. ولكن الصعوبة كل الصعوبة في الإقتناع ببساطته. فيوم تقتنع بذلك وتنفي عنك كل الأوهام بأنه أمر روحي عال، فسوف تسير فيه قدماً.

وكما أنه تدريب سهل بسيط ، كذلك يحتاج إلى نفس سهلة بسيطة تستطيع أن تسير ولا يهمها إلى أين تسير أو كيف تسير. إذ يشبهونه بالسير في الظلام بإيمان بسيط مبهم دون استعمال الحواس أو التفكير أو التصور، كأعمى ترشده للسير في طريق خال من العثرات والعوائق وليس له حدود عن يمين أو يسار وقلَّ من يسير فيه. فإذا كان ذلك الأعمى بسيط القلب سليم الضمير هادىء التفكير قليل التصور، فإنه يسير بإيمانه بلا اضطراب سيراً حثيثاً لا تفرقه عن سير البصير. أما إذا كان ذلك الأعمى فيلسوفاً معقد التفكير كثير التشكك والتصور، فإنه يمشي يتحسس بعصاه، وإذ يتهيأ له وجود حُفّر وحواجز ووحوش يتعثر في مشيه و يؤثر الجلوس عن المسير. هكذا طريق التأمل فهو طريق سهل ويحتاج إلى نفس سهلة تؤمن بسهولة وتسير بهدى ذلك الإيمان. 

فبمجرد أن تهدأ نفسك للصلاة وتكون حواسك مهتدية إليك وعقلك منجمعاً إلى ذاته ، تتسلل النفس قليلاً قليلاً لتتحرر من هذه الحواس جميعاً ومن شعب العقل أيضاً. وكأنما هي ترتفع عن الجسد ليس من حيث البعد والمكان وإنما من حيث المستوى والكيان . فتتأمل في ذاتها ملتصقة بإحدى الحقائق الروحية أو صفات الله ، وفي أثناء سيرها تصادفها أشياء جديدة وحقائق عجيبة بعضها يدركه العقل وبعضها لا يدركه العقل، فيعتري الإنسان شعور لذيذ من الفرح والعجب والسرور معاً ، إذ يرى نفسه وقد استؤمنت على حقائق وأسرار مخفية. وبذلك يزداد الإيمان وتزداد الثقة وتلتهب الحرارة من فرط هذا الشعور، فيقوى الرجاء وتنشط الروح وتجاهد لتمتد أكثر في ذلك الطريق السهل الصعب، إلى أن تقترب من مصدر هذا النور الذي يوحي بكل هذا الشعور، حتى إذا واجهته في لحظة، يقف العقل وتبطل الحواس جميعاً وتقع النفس في دهش من ذلك الشيء الذي يصفه القديس أوغسطينوس بأنه الشيء الذي لن يعتريه التغير: الله.

ولكن إذا توقف العقل في أثناء تطوافه الهين السهل، وأخذ يبحث في إحدى الحقائق المعروضة عليه ويناقشها بإهتمام، فإن التأمل يقف في الحال وينتهي عند ذلك الحد ؛ ويكون من العبث حينئذ أن يحاول الإنسان مواصلة التأمل إذ يكون العقل قد ارتد إلى الوراء واختلطت المشاعر وسادتها الفوضى من جديد.

لذلك، ففي أثناء ابتدائنا بالصلاة سواء بالهذيذ أو بالتأمل، بمجرد أن يشتعل القلب بالحب وتسري في النفس لذة الإنطلاق علينا أن نضع جانباً كل الوسائل التي نستخدمها في الصلاة سواء كانت قراءة أو تفكيراً أو مزامير أو سجوداً ، ونصمت هادئين وننتظر بفرح انطلاق النفس، ولا نحاول أن نستمر أو نفكر في هذه الوسائل لأنها سوف تعطل انطلاق النفس والدخول في درجة التأمل . كمثل الذي يدير محرك سيارته بيده ، فأول ما يستجيب المحرك و ينطلق في دورانه أليس من العبث أن يستمر هو في تحريك يده؟ عليه إذن أن يفرح و يركب لينطلق في تجواله.

وهكذا نكون قد انتقلنا إلى حالة صلاة هي بالروح أكثر منها بالقلب أو العقل. فبدل أن كنا نحدّث الله بكلامنا ومشاعرنا، وقفنا نحن أمامه ليتحدث هو إلينا ، لا بكلام ولا بحديث، ولكن بأمور لا ينطق بها ، لا تحتملها أذن ولا تراها عين ، ولا تخطر على قلب بشر، كتعبير القديس بولس الرسول، الذي اختبر أعلى درجات التأمل والإستعلانات. و يكون شعورنا في ذلك الوقت: «مستعد قلبي يا الله مستعد قلبي» (مز 56: 7 حسب الترجمة القبطية، وهو المزمور الثاني من مزامير صلاة الساعة السادسة في الإجبية المقدسة).

وحينما نتقدم في تأملنا قليلاً قليلاً، يصبح استعداد العقل والحواس والقلب للدخول في التأمل أمراً اعتيادياً لذيذاً نسعى إليه كل حين في يُسر بغير عناء، وبذلك تصبح صلاتنا حارة بل ملتهبة حباً وشوقاً . و يصبح وجود الله حقيقة ملموسة للنفس حتى أنه قد يتراءى لبعض الناس في هذه الدرجة بعض المناظر، ولكن يظل الإنسان في شك أنه لم يرشيئاً، إنما الحقيقة التي لا غش فيها أن الله يكون حاضراً بالفعل أمامنا ونحن ملتصقون به وإن كانت لا تدركه الحواس الداخلية إدراكاً كاملاً، ولكن يكون أثره واضحاً في النفس، إذ تكون منفعلة انفعالاً لذيذاً لم تسبق أن ذاقت مثيلاً له من قبل. وتبطل حركات الشعور والتفكير، و يكف العقل عن جولانه، ويهدأ كل شيء و يصمت في انتظار القادم ليعطوا له الكرامة، كقول القديس مار إسحق.

و بينما تكون النفس تنتظر حبيبها كأنه آت من بعيد متلهفة لتراه وهو قادم إليها، إذ تشعر به فجأة وقد حل داخلها دون أن تراه، فتمتلىء النفس حلاوة وسروراً. فتحاول النفس أن تتبين حبيبها ولكن كأنما قد وضع يديه فوق عينيها فلا تراه، إلا أنها تشعر به وتلتهب حباً وسروراً وهي واثقة أنه هو هو الله. تحاول أن تفهم شيئاً من هذا كله، فيقف العقل عاجزاً والحواس شبه نائمة لا تتبين شيئاً. هذا هو الإتحاد العجيب. وهكذا تقف النفس قانعة بما يحدث لها ، ولكن خائفة لئلا تفقد هذه السعادة المبهمة.

وفي أثناء هذا يفصل الإنسان عن العالم سحابة خفيفة عازلة، فإذا حدث شيء حوله، كأن يناديه إنسان، فهو يسمع الصوت ولكنه بمشقة عظيمة يستطيع أن يرد، بنوع من التلقائية . فكأنما هو مغلق عليه في هدوئه العظيم المقدس لا يملك أن يخرج منه ولا يرغب في ذلك بشدة .

تمر دقائق وربما ساعات دون أن يشعر بها الإنسان وهو مستريح في تأمله.

انتهاء التأمل :

ينتهي التأمل ولكن بعض آثاره تستمر في النفس عدة أيام ، هدوء يشمل الأعضاء جميعاً، فكل حركة يأتيها الإنسان تكون بطيئة والتفكير صعب التركيز، فيه روية كثيرة والنظرات ثابتة ساهمة، وإعراض كثير عن الإشتراك في الحديث أو المجاملة. وفي أثناء هذه المدة ربما تتكرر حالات الدخول إلى التأمل، ثم تنتهي هذه الحالة على أن لا تعود إلا بعد فترة طويلة ربما تطول إلى سنين. ولكن توجد نفوس مهيأة للتأمل، فإذا لم تعوقها المعوقات الأرضية فيمكن أن ترتاد التأمل يومياً وباستمرار، كما هو الحال مع القديس مكار يوس الكبير الذي كتب عنه بالليديوس وسيرابيون المعاصر له أنه كان لا يوجد إلا في حالة ذهول وتأمل مستمر، وكان يحتاج كل من يريد أن يتحدث معه أن ينبهه حتى يستطيع أن يأخذ منه إجابات روحية .

في هذا العرض السريع لهذا الإختبار الروحاني العميق نكون قد مررنا مروراً على حالات التأمل ونكون قد تلامسنا في قليل مع حـ حالات ما فوق الصلاة وهي بداية درجة الذهول والدهش بالإلهيات التي سوف نفرد لها فصلاً كاملاً. وإليك أقوال القديس مار إسحق في معنى الدخول في درجة التأمل المغبوطة : 

116- أهلني يارب أن أعرفك وأحبك لا بالمعرفة الموجودة في تشتت العقل الحادثة من تعليم الكتب، بل أهلني لذلك العلم الذي به يعرفك العقل عندما يزول منه الإحساس بالعالم و يرتفع عن التصور والإرادة، فيستنير بك برباط الصليب ويمجد طبيعتك بحرية النظر إليك والإتصال الدائم بك.

117ـ إذا ما تحرك العقل في الأمور الروحية بنعمة الله تعالى، فلأجل لذة الفرحة بتلك المعرفة يتخلف عن الهذيذ والتذكار ويقف ساكتاً متعجباً . هذا هو بداية الدخول في التاورية الإلهية ( التأمل ).

مار إسحق السرياني

ويُعتبر تأمل القديس أوغسطينوس في المزمور 42 عرضاً شاملاً لحياة الصلاة الداخلية . فهو يبتدىء بالهذيذ ، ثم تلتهب النفس فتعبر إلى التأمل، ويرتفع التأمل إلى الرؤية، وكلام القديس أوغسطينوس ليس شرحاً أو تعليقاً ولكنه صلاة ودموع، فهو قطعة خالدة من عمل الروح، وتوافق نادر بين القلب والعقل والقلم. ويلاحظ أن هذا المزمور بالذات كان موضوع تأمل سابق للقديس أنطونيوس وبنفس المعنى. ونجد تلميحاً على ذلك في الرسالة رقم 17 يقول فيها :

[ إني سأجوز في موضع مظلته العجيبة (خيمة الرب) إلى بيت الله : فهذا العبور يظهر لنا نمو النفس، لأن النبي يذكر هنا أنها بلغت الكمال بوصولها إلى بيت الله كونها قبلاً كانت بعيدة عن الله.]

أبا أنطونيوس – رسالة 17

وعلى نفس النمط تماماً يشرح لنا القديس أوغسطينوس هذا النمو الروحي للنفس حتى يصل بها إلى الكمال أي الوصول إلى بيت الله في الأعالي بالدهش الذي هو نهاية التأمل:

118ـ « كما يشتاق الإيل إلى ينابيع المياه، كذلك تتوق نفسي إليك يا الله » .
نص رقم 2 – عنوان هذا المزمور (مزمور للمعرفة) ، ولكن أي معرفة يقصدها داود ؟ تعالوا يا إخوتي اشتركوا في غيرتى وافهموا اشتياقي، ليتنا نشترك سوياً في الحب ونتقاسم ذلك العطش ونسرع
جميعاً إلى ينبوع هذه المعرفة نتوق إليها كما يتوق الأيل (ذكرُ الغزال الذي يقود قطيع الغزلان) إلى ينبوع المياه … هو ينبوع النور و ينبوع المياه وهو ينبوع المعرفة أيضاً يملأ النفس المتعطشة إلى المعرفة بالنور والماء. نوره غير متجسم لا يُرى من خارج ، فهو نور داخلي لا يُستعلن إلا للذين يسعون وراء المعرفة !

إسعوا يا إخوتى إلى الينابيع واشتاقوا إلى المياه، فالله هو ينبوع الحياة الذي لن يجف ونوره لن يُطفأ. إشتاقوا، إذن، إلى هذا الينبوع الحي والنور الذي يُستعلن لعين القلب الداخلية.

نستقي من ينبوعه لإرواء عطشنا الداخلي حينما يشتعل فينا ، إسعوا … إسعوا إلى الينبوع وتوقوا إليه ولكن لا تسعوا إليه كما يسعى أي حيوان، ولكن كالإيل في سعيه.

نص رقم 3: فالإيل عدو الأفعى، وهو حينما يصارعها و يأتى عليها فإنه يلتهب عطشاً فيعدو عدواً ليروي ظمأه … آه ! فالأفعى هي الشرور والخطايا والآثام أعداء حياتنا، فعليك أن تأتى عليها جميعاً وحينئذ تلتهب عطشاً إلى ينبوع الحق. ولكن طالما كنت غارقاً في شرورك وشهواتك وزناك فكيف يوجد فيك اشتياق للحق يدفعك أن تجري إلى ينبوع المياه، أو كيف تشتهي ينبوع الحكمة وأنت تقتات من سم الدنس؟

عليك أن تطهر ذاتك مما هو ضد الحق . فإذا رأيت نفسك تنقت من الشرور والشهوات فلا تقف جامداً كأنك قد وصلت ، لا زال يوجد أمامك مرتفع عليك أن تتسلقه بعد أن ألقيت وثق خطيتك عنك، فلم يعد فيك عدو يعيقك أو يمنعك … قم أسرع إلى ينبوع المياه الذي أعده الله لإنعاشك وإروائك عند وصولك إليه لاهثاً كالإيل المسرع في عدوه بعد انتصاره على عدوه …

نص رقم 5 : ولكن لا يزال الإيل يعدو على رجاء، فهو لم يصل بعد إلى ما يرجوه ، فعليه أن يحتمل لهزء أعدائه، في الطريق يسخرون من رجائه غير المنظور وهو يتحرق غيظاً لأنه لا يستطيع أن يرهم ما يرجوه «أين إلهك ؟ » (مز 42: 3و10)

نص رقم 7 : أهد الليل والنهار، أفتش عن الله حتى أجده لكي لا أؤمن فقط بل أراه !! وها أنا لا أرى إلا الأشياء التي قد صنعها بقدرته أما هو فلم أره بعد …

يبحث عقلنا عن الله و يفتش عن الحق الذي لا يتغير أو يتبدل وعن الشيء الذي لا يسقط أبداً. ولكن العقل ذاته ليس من هذه الطبيعة، فكيف يدرك ما هو فوق طبيعته ؟ فالعقل يتغير من تقدم إلى تأخر ومن معرفة إلى جهل ومن ذاكرة إلى نسيان … إن عقلاً يكون من طبيعته هذا التقلب لا يستطيع أن يتوافق قط مع طبيعة الله

نص رقم 8: أبحث عن الله في المنظورات والمخلوقات فأجد آثاره ولا أجده، أعود إلى نفسي عسى ألمس طبيعته في فلا أجده، فإلهي شيء أعلى من نفسي … إذن فلكي أصل إليه، علي أن أذكر هذا كله وأنطلق بنفسي فوق ذاتى: «ذكرتُ هذا فاستفاضت علي روحي» (أي خرجت مني) (مز 42: 4) . وهل أستطيع أن أصل إلى ما هو فوق نفسي إذا لم أتحرر أولاً من ذاتي ؟ … إذا استراحت نفسي في قانعة براحتها فلن تنعم برؤية ما هو فوقها « متى أجيء وأنظر وجه الله » ! لأن في اكتفائها برؤيتها لذاتها امتناعاً أكيداً لرؤية الله.

يصرخ أعدائي «أين إلهك» ! بلى دعهم يقولون ، فطالما أنا لا أراه فسعادتى معطلة صارت لي دموعي خبزاً نهاراً وليلاً . » (مز 42: 3)

أعود أطلب إلهي في كل ذي طبيعة جسدية، أرضية كانت أو سماوية، فلا أجده … ثم أعود أبحث عن طبيعته في فلا أجده … ولكن بينما أنا في حيرتى أبحث عن الله وعن أموره غير المنظورة المدركة في المخلوقات … «ذكرتُ هذا فاستفاضت علي روحي» (أي فاضت وخرجت مني)، فلم أعد أدرك من ذاتي شيئاً سوى الله : هناك من فوق نفسي حيث يتطلع إلي و يراني ، هناك حيث يدبرني وهيثني ، من هناك يحبني و يدعوني و يقودني في الطريق إليه حتى النهاية.

نص رقم 9 : «أجوز في خيمته العجيبة حتى إلى بيت الله . » (مز 42: 4)

ذاك الذي هيأ له بيتاً بالسر في الأعالي له على الأرض أيضاً خيمة … هي الكنيسة ومنها نطلبه ، ومنها يبتدىء الطريق إلى بيته العالي ….

كم أنا أبجل ما في خيمته : نصرة النفس على الذات، مع فضائل خدام الله … ولكن إن كنت أقف عند حب هذه الفضائل وتمجيدها فأنا لا زلت أسيراً في حدود خيمة الله

إني أجـوز هـذا أيضاً ولو أنها خيمة عجيبة حقاً ـــ وآخذ طريقي حتى أصل إلى بيت الله ! هناك أدهش في مقادس بيت العلي حيث ينبوع المعرفة … و بذلك يكون داود قد انتقل بنا من عجب الخيمة (أي فضائل النفس) ، إلى دهشة البيت العالي (أعلى درجات التأمل).

وهو يأخذ الطريق من الخيمة ( أي يبتدىء بالفضائل يقوده شغفه بالله وفرحه السري الداخلي، ويسير كأنما يدعوه من هناك من مقادس العلي نغم موسيقي شجي، فيجوز الخيمة يقتاده ذلك الصوت الداخلي وبحلاوته يسير على هداه ، مُعْرِضاً عن ضجة اللحم والدم يشق طريقه عالياً حتى بيت الله

ينتقل داود من الخيمة إلى البيت وكأنما يقول : أنتم تبجّلون الخيمة هنا على الأرض (أي الفضائل التي تعملها النفس بالمجهود الجسدي) وهذا جميل ، ولكن كم يكون إعجابكم ودهشتكم حينما تأتون إلى مقادس بيت العلي ؟

«بصوت تهليل وتسبيح ولحن المعيدين.» (مز 42: 4)

هناك في بيت الله وليمة لا تنتهي قط، حيث زمرة من الملائكة يعيدون بسرور وفرح عيد الأبدية الذي لا ينتهي في حضرة وجه الله . من هذه الوليمة تخرج أنغام رقيقة عذبة تسمعها آذان القلب فتنجذب إليها ، إذا لم تطع عليها أصوات ضجيج العالم وشغبه.

وبينما يسير داود في الخيمة متفكراً في أعمال الله العجيبة لفداء المؤمنين، إذا بأذنيه الداخليتين تسمعان صوت الوليمة، فيفتتن به ويحمل قلبه بعيداً بعيداً هناك حيث مجاري المياه.

نص رقم 10: ولكن فساد الجسد يعترض مسير العقل و يدفعه إلى أسفل، وحتى إذا استطاع أن يبدد عنه سُحب ظلمة الجسد الكثيف التي تحيط به، و يصل إلى مصدر النور فإنه بالجهد يفوز بأن يستطلع شيئاً من هناك من بيت الوليمة … إذ أن شغب الجسد يدفعه إلى أسفل فينحط إلى مستواه الأول و يتبدل الفرح والتهليل إلى حزن أسيف … لذلك فقد صارت لي دموعي خبزاً نهاراً وليلاً … و يئن إذ يشعر أنه لا زال تحت الموت يحمل ثقل هذا الجسد المتهالك و يعاني إساءات هذا العالم.

يعود فجأة فينظر إلى نفسه كأنما هو عائد من هناك من ذلك العالم الآخر السعيد فيقول لنفسه : «لماذا أنت حزينة يا نفسي ولماذا تزعجينني ؟ » (مز 42: 5) ، هوذا أنا لساعتي كنت أنعم بمسرات داخلية، وبعيني لمحت ذلك الشيء الذي لن يعتريه تغيير قط : الله . لماذا أنت تزعجينني ، ولماذا أنتِ منطرحة، وها أنتِ تثبت من الله فلن تعودي تشكين بعد … أنت لست عاجزة الآن أن تردّي على أعدائك حينما يصرخون نحوك : «أين إلهك»، فقد رأيت الآن ما لن يتغير.

وكأنما ترد عليه نفسه في داخله : لماذا أزعجك إلا لأني لست بعد هناك ، حيث السرور الذي ذهلت به وكأنما مر وعبر.

ألا أخاف وأنا لا زلت أشرب من مياه معطشة ؟
أو ألا أهتم بشيء كأنما قد أخضعت أهوائي مع شهواتى؟
أليس عدوي قائماً أمامي يراقبني؟
كيف لا تريدني أن أزعجك وأنا لا زلت في هذا العالم في طريق غُربتي بعيداً عن بيت الله !

أوغسطينوس

تعليق :

أنظر كيف كشف القديس أوغسطينوس السر المخفى في هذا المزمور العجيب، مبيناً كيف تنقل داود من الهذيذ إلى التأمل حتى إلى الدهش ورؤية الله.

ونلخص المبادىء التي تناولها تأمل القديس أوغسطينوس في المزمور فيما يلي :-

النص رقم 2 : هنا يثبت اشتياق النفس الطبيعي نحو الله ، وشهوة البحث عنه التي تطغى على النفس فتهيم به باحثة عنه في كل الوجود … والإجهاد والإعياء الذي يعتري النفس في البحث عن الله غير المنظور بين المنظورات … وهكذا يُثبت القديس أوغسطينوس من اختبار داود النبي ضرورة البحث عن الله أولاً في مخلوقاته. وأهمية هذا الإجتهاد كبداية وأساس لإنطلاق الروح في التأمل بعيداً عن الذات والمنظورات ، و يشرح أهمية النور الذي يعمل في الداخل عند الباحثين عن الله بالحق، وكيف يقودهم ذلك النور وذلك الهاتف من العالم إلى الفضيلة ثم إلى الله.

النص رقم 3: وضع أساساً هاماً للدخول إلى المعرفة الروحانية والتأمل الروحي، وهو تـنـقـيـة الـنـفس من الخطيئة، بحيث يمكننا أن نحكم على حالة التأمل أنها حقيقية أم كاذبة باختبار الطهارة وخلو الإنسان من الخطايا والشهوات ، فلا يمكن أن تقوم حالة تأمل صحيحة طالما كانت هناك خطايا متشبثة بالإنسان. لأن الحياة الروحانية هي ثمرة الحياة النسكية : طوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله .» (مت 5: 8)

النص رقم 5 : يكون الإنسان قبل الدخول في التأمل في حالة رجاء فهو يرجو أن يرى وهذا عامل مهم.

النص رقم 7 : حالة هذيذ يبحث فيها عن الخالق بين المخلوقات. النص رقم : عجز العقل عن إدراك طبيعة أعلى من طبيعته والتزامه بالخروج عن ذاته .

ومن النص رقم 9: الوصول إلى حالة قبل التأمل مباشرة وهي تأمل الفضائل والمواهب التي تمنح الخدام الله ، هذه النقطة يتقدم إلى عتبة بيت الله. وهكذا يوضح القديس أوغسطينوس أن الدفعة التي سببت انطلاق النفس إلى الدرجة الأعلى منها هو تأملها في القداسة والـفـضـيـلـة التي هي رباط النفس بالله، فهي نقطة التحول الحقيقية بين النفس والله . وهـذه وجـهـة نـظـر فـريـدة يشترك القديس أوغسطينوس مع داود النبي في إظهارها وتوضيحها.

بعد ذلك يدخل في عمق التأمل، ومواجهة الحواس الداخلية لحقيقة النور وبطلان حركتها وتوقف العقل والدخول في الدهش.

النص رقم 10: سرور النفس الداخلي وانكشاف الأمر للعين العقلية لترى، ولكن إلى لحظة ، كلمحة عابرة. هنا جوهر التأمل ونقطة الوصول، ورؤية الشيء الذي لن يتغير.

ثم إنهاء التأمل بالرجوع الأسيف إلى الحالة الأولى بدافع ثقل الجسد وإلحاح الحواس ثم لهفة النفس للحياة هناك.

أقوال الآباء في التأمل :

119- أنت تقول يا أخي لماذا لا أبصر هذه المزمعات، ولا أفحص أنا أيضاً الخفيات، ولا أفهم هذه الأسرار المجيدة ؟ … إسمعني يا أخي لأقول لك ما هو سبب عدم حصولك على هذه الخيرات، بالحقيقة أيها الحبيب لا يوجد عقل ناطق إلا وقد خُلق ليكون ناظراً لجميع ما كان وما سيكون لولا أنه عمي بهذه المنظورات، لا يوجد قلب لإنسان إلا وقد جعل ينبوعاً للأسرار الخفية التي في حضن الآب لولا انحراف طريقه نحو الآلام النجسة، لا يوجد لسان لإنسان لم يخصص للنطق بالعجائب شبه الله ولكشف أسراره الخفية لولا انحجابه عن هذه بالسيئات ولا توجد نفس لإنسان إلا وقد جعلت لتحتضن المسيح فيها لولا تنجسها مع أعدائها بانحلالها … ولكن التوبة تلد لها بنيناً جدداً شبه الله.

الشيخ الروحاني

120ـ حينما تقرأ كلمة الله في خشوع في الخفاء، تتيقظ النفس الخطاياها ويجوز فيها سيف من الحزن، ووخزات في الضمير، فلا تستطيع إلا أن تبكي فتغسل أوزارها بدموعها.

وأيضاً حينما تؤخذ بنعمة التأمل وترى أشياء عليا ، فمن فرط اشتياقها تنساب في بكاء حلو وتجد في الدموع عزاءها إذ أنها لا تستطيع أن تدوم في التأمل طويلاً.

غريغوريوس الكبير

درجة الحب:

121ـ أولئك الذين أشرقت عليهم بشعاع من حبك لم يحتملوا السكني بين الناس، بل ألقوا عنهم كل حب جسداني وتغربوا عن كل شيء في طلب المحبوب ، نزعوا كل أفراحهم وذهبوا يلتمسون طريق الحبيب بالدموع ؛ بكوا لما وجدوا أنفسهم في الطريق غير مستأهلين لجمال المحبوب… نفضوا كل لذة جسمية، ونبذوا كل تمتع بشري ، وأحبوا الشقاء والتعب، ليحننوا قلب الحبيب عليهم !

تركوا الأب والأم والأخ والصديق، وسعوا خلف الغني بحبه ، لأنهم أدركوا أن في قلبه لهم حباً كثيراً، وفي محبته لهم عزاء يفوق كل عزاء ! ساعة أن أدركوا شهوة حب الوحيد ما صبروا أن يبقوا في أفراح العالم لحظة، ولما لم يجدوا عندهم شيئاً يليق بتقديمه إليه قدموا ذواتهم بالحب على مذبحه، وأسلموا أجسادهم حتى الموت فرحين، إذ وجدوا شيئاً يقدمونه إليه !

 يجرون في طريق الأحزان بلا شبع و يسرعون حاملين ،تعاذيبهم، صلبوا الأعضاء مع الشهوات مسرورين، وشربوا مرارة المرّ متلذذين . آه منك أيها الحبيب ! لقد سلبت منهم كل شيء، حتى ذواتهم، فلم يشعروا أنهم أحياء بل المسيح هو الحي فيهم … حينما تحيط بهم ! الشدائد من كل جهة لا يرغبون فيما يعينهم على الخلاص بل يطلبون المزيد مع قوة للإحتمال من أجل المحبوب!

هؤلاء سكروا بالحب، ولما سمعوه يقول: «طوبى للباكين الآن»، لم يكفوا عن البكاء !! من هذا الذي اشتعل بالحب فانشق قلبه وخرج منه ينبوع مياه الحياة ؟ فلما لم تحتمله ركبتاه في الصلاة خرّ على وجهه، وكلما قام سقط ، ومن حرارته انفلقت مقلتاه فخرجت منها ينابيع دموع ملتهبة أحرقت الخدود بحرارتها وانحدرت على الأرض فغسلت لعنتها.

إيه أيها الحب الإلهي ! رفعت النفس حتى أجلستها في نور خالقها وطهرتها حتى تشبهت بسيدها ، فاستأنست الوحوش بها ، وإذ رأت فيها صورة خالقها لم تكف عن أن تستنشق رائحته.

وليست الوحوش وحدها هي التي خضعت لها ، بل والشياطين أيضاً فزعت لما رأت النفس مستنيرة بالحب وولت لما رأت فيها صورة سلطان الله.

الشيخ الروحاني

122ـ إذا وجدت النفس في طقس طبعها الأول كانت في العلاء ، أما إذا كانت خارجاً عن طبعها في أسفل الأرض تكون.

باسيليوس الكبير

123- لا تتسرع إلى التأمل طالما هو ليس وقت التأمل . حتى يأتيك هو و يضبطك وأنت في جمال التواضع ليتحد معك إلى الأبد بالروح للطهارة.

الأب يوحنا الدرجي

124ـ حالتان متغايرتان توضحان غنى النعمة العظيم الذي يعمل بطرق مختلفة في كل واحد حسب قياسه : فواحد تهبه النعمة غيرة حادة فيضاعف ويزيد من عدد صلواته، وآخر تهبه النعمة هدوءاً في نفسه يشمله تماماً حتى أنه يضطر لإختصار صلواته الكثيرة إلى صلاة واحدة قصيرة يرددها في هدوء.

مار إسحق السرياني

125- كل الأشياء التي تصادف الحواس هي ظل الحقيقة النفس. يوجد إنسان آخر داخلنا خلاف ذلك المنظور لنا قد أعمى الشيطان حواسه، و يسوع جاء ليجعل ذلك الإنسان الداخلي صحيحاً معافى.

أبا مكاريوس الكبير

126ــ كـل أنـواع وترتيبات الصلاة التي يصلي بها الإنسان الله ، حدها الصلاة النقية؛ معظم القديسين يقولون إن عقولهم تخطف أثناء الصلاة، وتعبر حدود الصلاة المعروفة وتصل إلى الذهول والدهش حيث يتوقف الإنسان عن الصلاة الصلاة تختلف عن التأمل ولو أنهما يتسببان من بعضهما، وفي التأمل يصل الإنسان إلى الرؤيا حيث يبقى الشخص بلا حراك.

مار إسحق السرياني

127ـ القديسون في العالم الآتى لا يصلون، لأن العقل قد ابتلع منهم بالروح. وهم يسكنون في الدهش في ذلك المجد الإلهي.

مار إسحق السرياني

128 ـ التأمل الحقيقي هو إماتة القلب. فالقلب المائت بالتمام عن العالم هو بالكمال حي بالله.

مار إسحق السرياني

129ــ الشعور بالفرحة أثناء الصلاة، خلاف الرؤية أثناء الصلاة، والأخيرة أرفع من الأولى كما يمتاز الرجل البالغ عن الولد الصغير. إنه يحدث أحياناً أن الكلمات تصير حلوة في الفم حتى أن كلمة واحدة تملأك سروراً، ومن فرط الشعور بعدم الشبع لا يدعك أن تتركها إلى ما بعدها . ولكن حينما يدخل الإنسان في التأمل يجعل الصلاة بكلماتها تتلاشى من الشفاه والذي يُؤهل لهذه النعمة يشعر أنه بلا جسد من فرط عدم الشعور به ومن الذهول الذي يغشى العقل الواعي . هذا ما نسميه الرؤية في أثناء الصلاة وليس هو صورة أو شكلاً من تزوير الخيال كما يتراءى للجهال .

وحتى هذه الدرجة تُدعى صلاة لأن الفكر لم يعبر تماماً ذلك الحد الذي يفصل الصلاة عما هو أعلى منها ، لأن حركات اللسان والقلب أثناء الصلاة هي مفتاح لذلك الشيء الذي من بعده يكون الدخول إلى موضع الكنز، حيث يكف اللسان وتجمد الشفاه ويهدأ القلب ويقف العقل عن طوافه وترتخي الحواس و يعجز الفكر عن التحليق … يقف الكل بلا حراك ، والصمت يسود مملكة الإنسان الداخلية لأن السيد قد حل في هيكله.

مار إسحق السرياني

130ـ يوجد إحساس روحي يتولد من الهذيذ فينعم القلب ويُفرح النفس ويبهجها ، و يوجد إحساس تلقائي آخر يحل في النفس بسبب المعرفة الحادثة من الهذيذ وذلك من فرط محبة المعرفة للأمور الروحية والتقدم في الحديث مع الله بمخافة، وانشغال الضمير بمحبة هذه الأشياء، و يكون ذلك من التقدم في الهذيذ الحسن الذي لأجل الله والهم بالإلهيات ( أي دوام الإهتمام بها في القلب لا الفكر). والمهتم بمحبة التدرب على هذه الأمور لتقويم عمله ، تتولد فيه على الدوام نظرة هذه الأمور بالروح.

فإذا تنقت النفس بخوف الله ، عند ذلك تحل التاور يا الروحانية ( أي درجة التأمل الثانية التي من هبة النعمة) من غير أن تكون له عناية بها، فكل حين يصادف الإنسان بضميره فهماً ما فإنه يدخل لوقته في حالة الذهول الذي لا ينطق به وهذا يكون له ميناء كل الراحات، هذا . هو مبدأ الدخول للمنزلة الثالثة التي هي التدبير الروحاني.

مار إسحق السرياني

 131– ليس صلاة ، بل إحساساً تحسه النفس بالأمور الروحية التي للعالم الآخر، شيء يفوق عقل البشر أن يفهم الأشياء التي يحرك بها ، لأنه نظر عقلي وليس حركة صلاة أو طلبة ، ولكن من الصلاة يأخذ سبباً ( فتكون الصلاة هي الوسيلة)، والذين بلغوا إلى هذه الدرجة من النقاوة تجدهم كل حين يتحركون بالصلاة في داخلهم وكل وقت يزورهم الروح القدس يجدهم في الصلاة. ومن الصلاة يخطفهم إلى التاوريا (أي التأمل) التي تفسيرها نظرة الروح (أي التأمل الروحي). وهم يكونون غير مفتقرين إلى مدة صلاة طويلة أو ترتيب في الخدمة، بل إنه يكفي أن يتذكروا الله فقط وحينئذ يُسبّوا بالمحبة ويُخطفوا . ولكنهم ما يهملون القيام ليعطوا للصلاة كرامتها ، فهم يقفون على الدوام على أقدامهم في هذه الأوقات التي تزورهم فيها النعمة .

مار إسحق السرياني

132ـ لأنهم بتمجيد الله يتحركون بلا فتور وبتصور التاورية يرتفعون إلى الثالوث المسجود له ، و يثبتون في الدهش بنظرة عظم ذلك المجد. وبهذا التدبير عتيد أن يكون جميع البشر في القيامة العامة.

133– كلما يدنو الإنسان لمعرفة الحق، ينقص نشاط حواسه ويميل إلى الصمت . في حين أنه كلما يدنو من تدبير العالم تزداد يقظة حواسه و يكثر تقلبها فيه .

134ـ يتحد العقل بحركات الروح فيرتفع عن طقس الصلاة لأن الدهش يكون عوض الصلاة، وعوض الإيمان الذي هو أجنحة الصلاة تكون نظرة فاحصة داهشة في سكون الحواس، ليس للبحث في طبعه بل تفرساً في عظمته ومجده وحبه.

135- إن عمل الفضيلة وتدبير سيرة العقل الخفية (الهذيذ) هي تحت سلطة الإرادة وفيها تعب وجهاد، وهي محصورة داخل عمل الهذيذ، وأما الحركة الروحانية (التأمل بالروح) فهي ليست موضوعة تحت حرية الإنسان ولا تقتنى بالتعليم أو التدريب أو عمل الإرادة، وإنما توهب لأنقياء القلوب .

136– وإذا قرب الإنسان من المنزلة الثالثة (التأمل بالروح) وحظي بحدودها ، يجد أن الأشياء التي كان يعملها متغصباً ينجذب إليها في كل وقت بلا تغصب و بلذة والدهش يجذبه إليه بغير إرادته ، و يوجد جائياً ساجداً بوجهه على الأرض بلا أفكار أو صلاة أو هذيذ، وإنما تتأمل روحه في عظمة الله وسياسة تدبيره وحكمته . ولكن حتى إلى هذه الدرجة هو يكون بعيداً عن الدهش الكامل بطبيعة الله.

وفي الوقت الذي تصادف فيه النفس هذا الشعور الخفي حينما يتحرك العقل بالنعمة الروحانية، يتخلف في الحال عن الهذيذ وتتخلف الحواس عن عملها و يبقى في حالة دهش.

مار إسحق السرياني

137ـ صلاة اللسان مفتاح لصلاة القلب. وصلاة القلب يكون بعدها الدخول إلى الكنز، حيث لا تكون صلاة ولا دموع ولا تضرع، لأن العقل وجميع الحواس تتخلف إذ تكون الروح قد دخلت إلى التاوريا الروحانية.

فالصلاة، إذن، شيء والتاور يا شيء آخر، ولكن الثانية متعلقة بالأولى. فإذا شبهنا الأولى ببذر البذار، فالثانية هي حمل الثمار. ولا يصح أن نسمي التاور يا أو الدهش باللاهوت صلاة، إذ أنها تكون من فعل الروح القدس وتدبيره وليس من فعل الإرادة وسلطانها . وقد عبر عن ذلك القديس بولس الرسول: «أفي الجسد لست أعلم أم خارج الجسد لست أعلم» ( 2كو 12: 2 ) ـ فقط أعرف أنني اختطفت ونظرت ولكن لا أستطيع أن أعبر.

وإن سأل إنسان لماذا تكون التاوريا والإستعلان في وقت الصلاة فقط؟ نقول إنه في وقت الصلاة يكون عقل الإنسان مجموعاً إليه وشاخصاً في الله ومنتظراً بكل اشتياق أن تأتيه الرحمة. وأي وقت من الأوقات يكون الإنسان فيه مستعداً محترساً كمثل وقت الصلاة؟ ألعل ذلك يكون في وقت نومه ؟ أم إذا باشر أعماله ؟ أم إذا كان عقله مشتتاً يؤهل لهذه الموهبة ؟ – أما القديسون فلم يكن لهم وقت يجلسون فيه بطالين من الصلاة، لأنهم في كل وقت يتفاوضون بالأمور الروحية فيكونون مستعدين للصلاة، إما في قراءة سير القديسين أو في هذيذ أقوال الكتب أو في تصور المخلوقات بهذيذ فاضل نافع.

متى ظهر الملاك لزكريا وبشره بيوحنا ؟ والقديس بطرس ألم يظهر له الإستعلان بدعوة الشعوب إلى الإيمان وهو يصلي «الساعة السادسة» ؟ وأيضاً كرنيليوس ألم يظهر له الملاك حينما كان يصلي ؟ وهوشع أيضاً حينما كان ملقى على وجهه في الصلاة تكلم الله معه ! وكذلك أنبا أنطونيوس حينما كان يصلي نظر نفساً صاعدة بكرامة عظيمة وأعطى الطوبى لذلك الإنسان الذي أهل لهذه النعمة، وكانت هذه . نفس أمونيوس الذي من جبل نتر يا ، وكان ذلك الجبل يبعد عن مكان سكنى أنطونيوس مسيرة ثلاثة عشر يوماً.

وهذا لأن أوفق الأوقات لنوال هذه المواهب والمعارف الروحية هو وقت الصلاة إذ يكون العقل منجمعاً والنفس يقظة ومستعدة .

مار إسحق السرياني

138- حوار بين راهب حديث وشيخ مجرب

الأخ : هل يمكن للإنسان أن يرى المناظر الإلهية؟

الشيخ : الكتاب المقدس أطلعنا على هذا الأمر.

الأخ : كيف؟

الشيخ: دانيال رآه قديم الأيام، وحزقيال رآه على مركبة الشاروبيم، وإشعياء رآه على عرش المجد العالي، وموسى ألح أن يكون معه و يراه فرأى جوده في العاصفة.

الأخ : وكيف يقدر العقل أن يرى ما لا يمكن أن يُرى ؟

الشيخ : الملك وهو جالس على عرشه لا يستطاع رؤيته بالقدر المضبوط كما هي حقيقة شكله.

الأخ : وهل يصح للإنسان أن يتصور الله بهذه الكيفية ؟

الشيخ: وأيهما أفضل للإنسان أن يصور الله في عقله أو ينحط ليتصور المناظر والأفكار القبيحة ؟

الأخ : ألا يُعَدُّ هذا إثماً (تصور الله ) ؟

الشيخ : لا : لا، ولكن عليك أن تبتدىء حسب ما أوضح الكتاب، وتتميم الأمر على الوجه الأكمل يأتي من ذاته كما قال الرسول : « الآن كما في لغز…» (1كو 12: 13)

الأخ : ألا يكون هناك ارتباك في العقل من جراء هذا؟

الشيخ : إذا كان الإنسان ذا غرض مستقيم ومارس حياة التأمل لا يكون هناك ارتباك ، لأن أحد الشيوخ قال: «إني أمضيت أسبوعاً سبعة أيام بدون تذكار أي شيء بشري في قلبي». وقال آخر: «كنت مرتحلاً في طريق ورأيت ملاكين بجواري واحداً عن جانب والآخر عن الجانب الآخر وسارا معي، ولكني لم أتطلع إليهما».

الأخ: لماذا لم يتطلع الشيخ إليها ؟

الشيخ : لأنه مكتوب : «لا ملائكة ولا رؤساء ولا قوات ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة ولا علو ولا عمق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا . » (رو 8: 38و 39)

الأخ : هل يستطيع العقل أن ينشغل ويبقى في النظر الإلهي باستمرار؟

الشيخ : مع أن العقل لا يستطيع أن ينشغل ويبقى في النظر الإلهي باستمرار، إلا أنه حينما يتنقى من الأفكار يستطيع أن يطير إلى الله فلا يُحرم من النظر الإلهي ، وإني أقول لك إنه بمجرد أن يتقوى العقل و يتدرب تماماً على النظر الإلهي يكون أهون عليكم أن تحركوا الجبال من أن تحدروه من علو تأمله . فكما أن الأعمى إذا انفتحت عيناه ورأى النور لا يشاء مطلقاً أن يعود إلى الظلمة مرة أخرى ، هكذا   العقل أيضاً حينما يؤهل لرؤية النور الإلهي فإنه يكره الظلمة الأرضية ولا يشاء أن يذكرها إلا رغماً عنه، والعقل ذاته يأخذ راحته هناك. بالهدوء والصلاة تقوى هذه الدرجة التأملية، ومن كثرة الصلاة تعود الصحة للعقل.

شیوخ مصر بقلم پاللیدیوس

139- النعمة حاضرة على الدوام ومتأصلة فينا، كما أنها تعمل فينا منذ البدء حتى وقتنا الحاضر عمل الخميرة وكأنها وراثة طبيعية . ولكنها تدبر الإنسان لخيره بطرق مختلفة حسب مسرتها . فأحياناً تشتعل فينا كالنار وتضطرم بعنف كثير، وأحياناً أخرى بلطف واعتدال، فيكون النور الحادث من تفاعلها فينا تارةً متأججاً بلمعان واضح وتارةً أخرى يخبو و يظهر خافتاً. ولكن على أي حال، ، فالمصباح على الدوام مشتعل ومضيء وعليك أن تشد به بعناية من حين إلى حين ليشتعل بالحب و ينير. غير أنه ، بسماح من الله ، يضعف أحياناً على الرغم من كل المحاولات و يظل خافتاً ولكنه يبقى منيراً.

140ـ تتلطف النعمة فتعزي مريديها بأساليب شتى ، فمرة تظهر كعلامة صليب منيرة وتلتصق بنفس الإنسان الداخلية، وأخرى تغشى على الإنسان في صلاته فتنقله إلى حالة من الغيبوبة ، وثالثة تشرق بنور عجيب في القلب حتى أن الإنسان ليكاد يُبتلع في ذلك الوقت من فرط حلاوة التأمل، و يكاد يفقد حتى السيطرة على نفسه . ولو رآه الناس وهو على هذه الحالة، ظنوه مجنوناً أو بر برياً بسبب تلك الحلاوة الآخذة بلبه والحب الطاغي المتسيطر عليه . مع أنه في ذلك يكون قد بلغ إلى ملء القامة الروحية والحرية والطهارة إلا أن النعمة بعد ذلك تتخلى قليلاً فيحل ستار من القوة المضادة، فيعود من حيث أتى ليقف على أولى الدرجات التي ابتدأ منها .

أبا مكاريوس الكبير

141- والنعمة بعلامة الصليب تهدىء كل الأعضاء والقلب، حتى أن النفس لشدة الفرح تظهر كطفل بريء لا تعرف أن تدين إنساناً ، حتى وإن كان خاطئاً أو محباً للعالم؛ ويتطلع الإنسان إلى جميع الناس بعين نقية فيراهم أطهاراً و يفرح بالعالم كله و يود لو أن الجميع يعبدون الله بالحب الذي فيه؛ و يرى شرف نسبه إلى الله كإبن له فيثق بشجاعة وإقدام في ابن الله كما في أب له ؛ وتنفتح له أبواب فيدخل مواضع كثيرة، وكلما يتعمق داخلاً ينفتح له مائة موضع لتقوده إلى مائة أخرى فيستغني ؛ وكلما ازداد غنى تكشفت أمامه عجائب أخرى فيؤتمن كإبن وريث على أشياء لا تستطيع الطبيعة البشرية أن تنطق بها أو يصفها لسان أو فم ، والمجد الله آمين .

أبا مكاريوس الكبير

142- إذا وُفِّق الإنسان أن يسمو بروحه إلى منطقة الإدراك العقلي المطلق، بعيداً عن التصورات المادية والفكرية ليطلع على حقائق الأمور هناك ، فإنه يرى أن غاية الفضيلة هي أن تسعد بحب ما تراه هي هناك، وغاية السعادة. أن تملك ما تحبه ، لأن هناك تُستقى الحياة السعيدة الحقيقية من منابعها . أما السعادة عندنا في هذه الحياة المائتة فما هي إلا رشاش يتطاير من منابع السعادة الحقيقية هناك، فيسقط رذاذاً على منطقة المحسوس والملموس هنا.

وبهاء الرب هناك لا يُرى بالعين الجسدية أو بالتصور وإنما بالمنظر المعقول حسب استطاعة العقل البشري بنعمة الله . هناك يتحدث معه فاً لفم من أكمل بالنعمة لهذا الحديث، ولكن ليس بهذا الفم البشري بل بالعقل.

أوغسطينوس

143ـ حينما تتحقق النفس من عظمة الطبيعة التي أخذت منها ، فإنها بثقة عظيمة للغاية تأخذ طريقها نحو الله ، أي بالتأمل في الحق وفي الموهبة السرية السامية التي تسعى نحوها ، ومن أجل هذا تسعى جاهدة ما استطاعت.

لأن أعلى ما تستطيع النفس أن تصل إليه من الدرجات الروحية في هذه الحياة ينحصر في رؤية الحق والتأمل فيه، إذ فيه كل الفرح وكل السعادة والتلذذ بأصدق الخير وأعظمه، وتنشم رائحة صفاء الأبدية المرتقبة. هكذا رأى كبار الروحانيين، ونحن نؤمن أن ما رأوه وما كتبوه هو حق . وأنا أجرؤ لأجزم بالأمر أننا لو اتبعنا طريق الرب التي أوصانا بها ، فنحن حتماً بقوة الله وحكمته سوف نصل إلى بدء كل الأمور وعلتها ( الله ) و بالعقل نراه.

أوغسطينوس

144- قد وهب الله لبعض الناس حرارة روحانية ألهبت عقولهم ورفعتهم من الأمور الأرضية الفانية ليحدقوا في نور الحكمة الأبدية.

أوغسطينوس

145ـ ماذا أحب فيك يا رب حينما أحبك؟ إنه نور وضياء. هذا هو ما أحب ! وهو نغم شجي وعبـيـق عطر، وعناق ملتهب ! هذا هو ما أحب حينما أقول إني أحبك يا ربي !! إنه إنساني الداخلي الذي يسعد بذاك النور وذاك العبيق وذاك العناق !

يشرق في نفسي إشراقاً لا يحتويه فضاء مهما اتسع .
و يوقع في داخلي نغماً لا يقوى أن يمحوه الزمن .
و يفيح أريجاً عطراً لا تزحزحه الريح ..
و يذيقني حلاوة لا تؤول في إلى نقصان
و يلتصق بي ملياً في عناق لا يفرقه شبع ….
هذا هو ما أحب ، حينما أقول إني أحبك يا ربي .

أوغسطينوس

146ــ ما هذا الذي يومض في أحشائي و يقرع قلبي دون أن يؤلمني ؟ فأرتجف هلعاً أحياناً وألتهب حباً أحياناً أخرى. أرتجف بقدر ما أرى نفسي أني لست أشبهه ، وأطمئن بالقدر الذي فيه أرى نفسي أشابهه ، إنها الحكمة ! هي التي تومض في أحشائي .

أوغسطينوس

147- رأيت شيئاً لم أحتمله طويلاً .

أوغسطينوس

148ـ يوجد في التأمل جهد كبير على العقل حينما يهم رافعاً ذاته نحو الأشياء السماوية حينما ينحصر انتباهه كلية في الأمور الروحية جاهداً لمحاولة العبور فوق كل المنظورات ، مستضيقاً في ذاته ليصل إلى السعة المطلقة … وأحياناً يغلب حقاً ويعلو فوق الظلمة العتيدة التي تغشاه فيدرك النور الحق بعض الإدراك كمن يسرقه خلسة بقلةٍ وندرة، ولكن سرعان ما يرتد إلى نفسه مغلوباً من ذلك النور و يعود لاهثاً إلى ظلمة غشاوته الأولى متنهداً .

غريغوريوس الكبير

149ـ حينما نعرف الله ونشتهيه من كل شهوتنا وعقلنا حينئذ تجف فينا كل الشهوات الجسدية الأخرى. وبعد أن كنا نطلب الله ونحن ملتصقون بالعالم ، يبتدىء حب العالم يضعف فينا ، وينمو حب الله وحده بشدة. و بقدر ما يزداد حب الله عمقاً ، بقدر ما يضعف حب الجسد فينا شيئاً فشيئاً. 

غريغوريوس الكبير

150ـ إن حلاوة التأمل تستحق منا كل الحب. فإنها تحمل النفس فوق ذاتها لتحلق بها نحو السماويات، فتتحقق أن الأشياء الأرضية تستحق الإزدراء لتسمو نحو الروحيات وتغض الطرف عن الأشياء الجسدية الفانية.

غريغور يوس الكبير

151 – علينا أن نعرف أنه طالما نحن نحيا في هذا الجسد القابل للموت ، لا يستطيع أحد أن يتقدم في قوة التأمل بالدرجة التي فيها يملأ عينه و يتفرس ملياً في ذلك النور غير المفحوص . لأن الله القادر على كل شيء لم يُر بعد بذلك الوضوح. إنما كل ما تقدر عليه الروح هو أن تستطلع ما يحيط به، فتنتعش وتنمو لتدرك مجد منظره.

وحتى حينما يتقدم العقل في التأمل، لا يستطيع أن يتأمل الله كما هو ولكن فيما هو دونه، غير أن مثل هذا التأمل يقود إلى اختبار تذوق الهدوء الداخلي جزئياً ـ على حد القول ـ وليس كاملاً، كما هو مكتوب بالحق في سفر الرؤيا : وكان هدوء في السماء نحو نصف ساعة»، لأن السماء هي النفس البارة، و بتذوق التأمل العقلي يصير فيها هدوء إذ تكون ضوضاء الإنشغالات الأرضية قد تلاشت، وقد تحرر الفكر من ارتباكها ؛ ولكن بسبب ) أن هدوء العقل لا يمكن أن يكون كاملاً في هذه الحياة، لم يقل إنه صار هدوء في السماء ساعة كاملة، ولكن نحو نصف ساعة ! لأنه في حال ما يرتفع العقل و يغشاه الهدوء الداخلي شيئاً فشيئاً ، لا يستقر هناك كثيراً بسبب إلحاح الأفكار التي تدركه بشغبها فيختل هدوء العقل من ذاته، و بوقوعه في مثل هذا الإرتباك تغشاه الظلمة مرة أخرى فيعمى.

152ـ كل من يتذوق ذلك السرور المفرط الذي في التأمل، حينما ترفعه النعمة الإلهية ليشارك زمرة الملائكة بعقله، وهو محصور في النظرة العليا بعيداً عن كل أمور العالم، تجده دائماً غير قانع بمشاركته للملائكة، إنما يتوق لو يستطيع أن يتفرّس فيما فوق الملائكة، إذ يكون في رؤية الله وحده سر الإنتعاش الحقيقي لعقولنا. وهكذا من مجد إلى مجد، فمن مشاركة الملائكة المرنمين ترتفع بعيون عقولنا لنتأمل مجد جلاله الأسنى . وإلى أن يراه يبقى العقل جائعاً متلهفاً ، حتى إذا ما رآه يشبع و يقنع ! ولكن طالما نحن مثقلون بهذا اللحم الفاني لا نقدر أن نرى الله كما هو.

غريغوريوس الكبير

153- إن موضوع التأمل الناضج هو الحكمة الإلهية حين تُدرك بالفكر وتلمس لمساً رقيقاً. فعندما يتقدم بنا التأمل لنرتقي إلى درجة التأمل في حكمة الله – أو بالحري ترتقي هي بنا إلى ذاتها ـ حينئذ يكون عظم اتساعها الذي لا يُحدُّ سبباً للإقتناع بامتناع كمال المعرفة على العقل البشري، إنما فقط بالحب نتلامس مع هذه الحكمة تلامساً ولا نجوز خلالها بأي حال من الأحوال.

154 – بنعمة التأمل يتقبل العقل البشري صوت الفطنة العليا، وتستمع أذن القلب الداخلية إلى كلمات الله . وبهذه النعمة العليا تؤهل لمعرفة أشياء فائقة .

155 – يُقال إن التأمل ما هو إلا إشعاع صادر من نور المدينة السماوية، حيث يغلب على العقل أن يبقى معلقاً في ذلك التأمل الإلهي مبتهجاً بما يدركه من مناظر الأبدية المطلقة التي لم ترها عين ولم تسمع بها أذن .

156 – « هذا منظر شبه مجد الرب. ولما رأيته خررتُ على وجهي» (حز1: 28). لم يقل حزقيال إنه منظر المجد ولكن شبه مجد، حتى يظهر أنه مهما جاهد العقل ومهما ضبط نفسه من كل تخيل المناظر والصور الجسدية وأخلى قلبه من الإهتمامات الزائلة، فهو يبقى على الرغم من ذلك غير قادر على رؤية مجد الله كما هو . طالما يسكن في هذا الجسد القابل للفساد … فكل ما يصادفه العقل من إشراق إنما يكون بالشبه فقط وليس بذات الجوهر.

157- إن اللاهوت لا يعلن حقيقة ذاته كما هي للذين يمارسون التأمل فيه طالما هم في هذه الدنيا، إنما يكشف عما يحيط به من إشراق بقدر بسيط حتى تحتمله عيون عقولنا التي أعمتها الظلمة فـ ة فلم تعد تطيق التحديق في نور اللاهوت.

غريغور يوس الكبير

158ـ النفس التي استطاعت أن تنظر إلى الله تتيقن من صغر كل المخلوقات . ومهما كانت ضآلة النور الذي تطلع عليه ، فهو كفيل أن يعطي فكرة عن عظمة الخالق وصغر المخلوق. لأن بنور النظرة الداخلية : يتسع . حضن العقل ويمتد في الله حتى يصير فوق الخليقة كلها ، حتى وفوق النفس ذاتها ، إذ أن جزءها الرائي يكون أعلى منها . فعندما يُخطف هذا الجزء الرائي من النفس و يعاين نور الله ، فإنه يتسع ذاته داخلياً ويتعالى جداً فيرى و يدرك صغر هذه الأمور السفلية التي لم يستطع أن يدرك صغرها وتفاهتها عندما كان في حالته السفلية الأولى.

وإذا كان العالم يتراءى له بأجمعه أثناء تحليقه في نور الله ، فذلك لا يكون بسبب انكماش السماء والأرض وإنما بسبب اتساع ترائي النفس، الذي استطاع أن يحوي في نظرة واحدة كل ما هو دون الله بلا عناء .

غريغوريوس الكبير

159- نحن نعلم أن هناك أشياء صالحة كثيرة، لا ننكر أن الرسل المباركين وكل من هم على شاكلتهم حازوها إما بالطبيعة أو كهبة من النعمة فالعفة حسنة، والحزم مع البصيرة يستحقان الإعجاب، والشفقة مكرمة ، والرزانة محبوبة، والاعتدال ،حشمة والرحمة مغبوطة ، والعدل طاهر، كل هذه نحن لا نشك أن الرسول بولس كان متحلياً بها جميعاً مع بقية رفقائه الرسل، حتى أنهم علموا الدين بدرس من فضائلهم أكثر من كلامهم .

وقد كانوا منهمكين في رعايتهم الدائمة لكل الكنائس، متيقظين في خدمتهم ، وكان بولس الرسول يحترق من أجل الذين يخطئون و ينحل و يضعف إذا ما ضعفت وخارت الخراف . ما أعظم هذا الإشفاق !!

ومع أن كل الفضائل التي اقتناها بولس الرسول تظهر رائعة للغاية وجواهر ثمينة، إلا أنها تتضاءل إذا قورنت باللؤلؤة الفريدة البالغة في الحسن، التي يبحث عنها تاجر الإنجيل و يشتهي اقتناءها و يود لو يبيع كل ماله و يشتريها.

هكذا تظهر قيمة هذه المحاسن ضعيفة تافهة أمام هذا الأمر الواحد الفريد الحسن .

وما هو ذاك الأمر الواحد الذي بلا نظير، الذي يعلو فوق هذه الأشياء الصالحة والعظيمة جميعاً؟

حتى أنها بينما تحتقر هذه كلها احتقاراً، يصير هذا الأمر الواحد محبوباً ومُشتهى ؟

بلا شك هو ذلك النصيب الصالح الذي يدوم بالحق، الذي قال عنه السيد أن مريم فضلته ، فتركت واجبات الضيافة والمجاملة الإنسانية واقتنته: «مرتا مرتا أنتِ تهتمين وتضطر بين لأجل أمور كثيرة ولكن الحاجة إلى واحد ، فاختارت مريم النصيب الصالح الذي لن ينزع منها . » ( لو 10: 41 ،42)

إذن، فالوجود مع الله بالتأمل الروحي هو الأمر الواحد الذي تصغر أمامه كل الفضائل وكل الإستحقاقات التي ننالها بسبب أعمال البر المتعددة. وهو كذلك، اللؤلؤة الكثيرة الثمن التي يفوق بهاؤها كل الأحجار الكريمة مهما كانت غالية. هكذا تُعتبر جميع الإستحقاقات التي ينالها الناس بسبب أعمال البر صالحة، إلا أنها – كمحصول جسدي – تعتبر أموراً تافهة ونفاية كلام لا تستحق إلا أن تباع إذا قورنت باستحقاقات التأمل في الإلهيات . 

الأب يوحنا كاسيان

160ـ لأنه ليس بنظر الجسد نبصر عالم الروحيات، لأن النظر الحقيقي إنما يكون بالنفس، لأن النفس تنظر كل شيء على حقيقته بمعرفة، أما الجسد إذا نظر بلا عقل فيكون كالبهيمة، أما النفس فتنظر بدون الجسد نظراً روحانياً . العقل والنفس ليسا مرتبطين لأن النفس وإن كانت ساكنة في الجسد إلا أن معرفتها تمتد إلى كل شيء، وعلى الرغم من ارتباطها بالجسد تبقى متحررة منه ؛ وفرحها دائماً يكون منفصلاً عنه ، ، وعلى الرغم من وجودها . ا معه على الأرض فهي دائماً تميل إلى العلو حيث بلدها الحقيقي . وهي وإن كانت محبوسة في هذا العالم إلا أنها تُحسب من أهل السماء؛ وإن كانت تحيا مع الترابيين إلا أن لها حياة مخلدة مع الروحانيين وتمجد معهم خالق الكل.

فاجمع نفسك يا أخي واحرص على أن يكون مسكنك عند سيدك. إرفع أجنحتك من الأرض وتطلع إلى البلد الذي استعددت له، لأن هناك يشاء الخالق أن تكون سكناك دائماً.

هو إليك مشتاق ، وإلى رؤياك عطشان، فاخرج كلّم خالقك لأنه يحب كلامك وحديثك أفضل من المراتب العالية، وهو مشتاق إلى صوتك أعظم من ضجة الروحانيين، وهو يحب الترابي أفضل من مجمع النورانيين ، و يفرح بصوتك وكلامك معه أفضل من بهاء الساروفيم، ويحب صورة الإنسان أفضل من شعاع السمائيين، وسماجة آدم الذي خلقه أفضل من كل المخلوقات . هو محبته لك أتى ليطلبك فاخرج أنت في طلبه هو تنازل إلى حقارتك ليرفعك إلى علوه ؛ وأظهر ذاته للأرضيين ليجعلك مع السمائيين . فبالمحبة التي أتى بها إليك، أسلك أنت أيضاً بها وامض إليه .

مار إسحق السرياني

161ــ ليس من ينظر حسن هذه الإستعلانات والرؤى و يرضى أيضاً أن يتفرس في حُسن شيء مما في عالمنا هذا . ليس من استغنى بوجوده مع الله ، ولم يهن عليه المال كالزبل. ليس من استأنس بهذه وسكر بالهذيذ فيها ومعها، ولم يمقت من عينيه دالة الناس والسهم . ليس من انطلقت في نفسه محبة المسيح، ويقدر أيضاً أن يحتمل وساخة الشهوة المرذولة ليس من صار رفيق الملائكة واستأنس بأسرارهم ، ولم يرذل رفقة العالم ومكائده. ليس من شبي عقله بالله و بالهم به ، و يرتبط بشيء مما في هذا العالم. ليس من وجد الله ،وعرفه ولم ينسَ العالم وما فيه . هذه الجواهر الحسنة يجمعها ويجعلها في كنوز قلبه.

هذا هو التاجر المستأنس بالصلاة الذي يسبح دائماً في بحرها، ويجلس إلى ذاته و ينقيها في لجج النور لتضيء، وتكون لباس برفير للمسيح الأبدي . هذا هو الهادىء النشيط المسي بشهوة البحر الغاسل الخطاياه . طوباك يا من تطير على قمم النور بأجنحة الروح القدس وأنت محبوس في العمق الحابس للكل الذي قراره لا يُدرك. طوباك يا من اغتسلت في بحر الطهارة الذي أمواجه نور ولججه نار محرقة الخطية الخطاة الذين يتقدمون إليه . طوباك ! فقد صار صانعك هو معلمك، وغناك في روحه ، وغذاؤك من نظره، ومشروبك من لذة روحه. طوباك ! فشمسك لن تغيب والليل لن تراه حدقة عين نفسك . طوباك! فنورك هو ضياء المسيح ، ولن يعبر من نفسك إلى الأبد. طوباك ! فإن فرحك في الله . طوباك ! فقد صرت مع الروحانيين وأنت لا زلت على الأرض. طوباك ! فقد صار حديثك مع خالقك . طوباك أيها العمال النشيط بعمل الصلاة والمستريح بيقظة الروح القدس داخلك، وفي نفسك تسمع كل حين أسراره الخفية وتقديسه الروحاني لبهجة قلبك.

الشيخ الروحاني

 

زر الذهاب إلى الأعلى