كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية للأب متى المسكين

السقوط من النعمة

 

يقول القديس مقاريوس :
[ والروح ذاته يمنحه هذه و يعلمه الصلاة الحقانية والمحبة الصحيحة والوداعة الحقيقية التي كان، قبلاً، يغصب نفسه إليها و يطلبها و يشتهيها ، وكانت أفكاره كلها معلقة بها ، وأخيراً أعطيت له .
فإذا نما هكذا وكمل في الله يحسب أهلاً لأن يصير وارث الملكوت ، لأن المتواضع لا يسقط أبدأ، وإلى أين يسقط إذا كان هو أسفل الكل، وأما التشامخ فهو سقوط عظيم والتواضع هو تشامخ عظيم وكرامة وعز. ]

القديس مقاريوس الكبير العظة 19 

أ ـ من أعظم وأخطر الأسباب التي تسبب السقوط من النعمة هي العظمة الداخلية والإفتخار بالمواهب :

[وعوض الـشـكـر الكثير والإعتراف الذي كان ينبغي أن يكون على الدوام في أفـواهـهم مالوا إلى الإفتخار وزاغوا ناحية العظمة الفكرية، لذلك لم يستأمنهم الله أن يـبـقـوا في هذه النعمة أو يخدموه بالسيرة الطاهرة والأعمال الروحانية، لأنهم ظـنـوا أنهـم هـم المحـسـنـون إليه وكأنهم أشرف من بقية الناس كونهم صاروا من خاصته وعارفين بأسراره ، لهذا أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض، ومكافأة ضلالهم نالوها في إهانة ذواتهم . ]

مار إسحق ـ ( الباب الرابع ، الجزء 3)

ب ـ ومـن الأسباب الخفية التي تفوت على كثير ين التي تسبب السقوط من النعمة هو أن يدوس الإنسان على صوت الضمير وتحذيرات الله :

[الإنسان الذي يلام من ضميره و يسوف و يدوس على نيته دون أن يقوَّم نفسه و يـسـتـجـيـب لعناية الله التي تنبهه للتوبة ترتفع . منه النعمة بغتة و يقع بيد العدالة لـتـقـومه . ولن يفلت حتى يوفي الفلس الأخير، أعني الذنوب التي اقترفها ولم يذكر العاقبة . ]

مار إسحق – تغيير أنواع الأفكار، الجزء 4

 

 ج ـ ومـن الأسباب التي ترفع النعمة عن الإنسان تحايل الإنسان بالغش والخداع لكي يظهر أمام الناس أنه بار و بلا عيب و ينفي جميع أخطائه وزلا ته :

[الإنسان الذي يتحيل دائماً لكي يقال عنه من كثيرين أنه بار ، و يظهر أنه ما فـيـه عـيـب ولا يسرع لقطع أسباب الخسارة، بل قصده فقط أن يخفي زلاته التي يصنعها مستخدماً الغش والمكر ، هذا هو العبد الغاش الذي قد باع نفسه للمديح البشري ، هذا تمقته النعمة وتفضح مكره.]

مار إسحق – تغيير أنواع الأفكار، الجزء الرابع

د ــ مـن الأسباب التي توقف عمل النعمة في الإنسان، دون أن يدري ، الإعتماد على الناس بدل الله :

[لا تتكل على الإنسان لئلا تخيب من نعمة الله .]

مار إسحق – نهاية الجزء الثاني

هـ ـ مـن الأسباب المحزنة التي ترفع النعمة من جهاد الإنسان فيعود سريعاً إلى خلف ، دينونة الناس واحتقار ضعف وعجز رفقائنا ، وقبول الوشاية في الغائبين ، وثلب حقهم ، وتبرئة النفس من خطيتها :

[ الـذي يـركـب البحر مستجدا، فإنه يظن أن المركب واقفة لا تسير مع أنها تكون تجري بسرعة. هكذا الذي يزل من الحق ، فإنه كل يوم ينحط إلى أسفل بسيرة تـدبـيـره الخائب من النعمة ، و يظن فقط أنه غير سائر إلى قدام مع أنه يكون يجري إلى خلف. هذا يحصل لنا عندما ندين ضعف وعجز رفقائنا ونقبل عليهم المثلبة وتبريء أنفسنا بقياس الآخرين . ]

مار إسحق – الميمر السادس ، الجزء الرابع

وـ كـذلـك مـن الأمور المحزنة سقوط الجبابرة من النعمة بسبب نوم الغفلة ، وإهمال مطالب العبادة والإنتفاخ بما حصله الإنسان حسب الظاهر، والتعالي بالمعرفة والعظائم والـقـدرة الروحية ، والتكبر على الضعفاء والمبتدئين والظهور أمام الناس بالقوة كأنه غلب كل الشهوات وقهر الخطية والشياطين وأنه غلب ذاته بنسكه !! وفي ذلك يقدم مار إسحق وصفاً مضحكاً مبكياً لأسد جبار اصطادوه وألقوه للصبيان ليلعبوا به :

[ عـسـرة جـداً ورديـة هـي السقطة من سيرة الفضيلة وتحتاج إلى توبة بمقدار العلو الذي سقط منه الإنسان! وأصعب منها وأخطر من يسقط من علو تدبير الحرية الـروحـيـة ـ التي يكون قد بلغها الإنسان بالنعمة ـ وحتى لو شفيت سقطته فإنه بعد جهد ينجو من الخطر !!
محـبـوب عـند الشياطين السلأبين الحاذقين صيد جبار واحد يسعى للكمال ـ مـعـتـمـداً على ذراعـه ـ حتى ولو كسر شباكهم (فضح أعمال الشيطان باليقظة المؤقتة والكلام) أو عصا على لذة دغدغة الشهوة ـ التي يرسلونها في أعضائه ـ وهـو يحاول أن يقتني كنز الحياة ( بنشاطه )، هذا أخير عندهم من ربوات ثعالب صـغـيـرة الذين يسقطون في فخاخهم بدون تعب و يهلكون ذواتهم بدون عناء من جهة الصيادين .
فالصيادون المهرة (الشياطين المدربون على إسقاط النشطاء في العبادة ) إذا وقع في مصيدتهم سبع جبار ضار، فإنهم يخفون أنفسهم و يكمنون له من كل ناحية و يضيقون عليه إلى أن يعثر هو من نفسه ( يسقط في شهوة الزنا أو الكرامة أو المال أو الغضب أو العداوة)، فيرتبك وتضعف قوته . وعند ذلك يثبون عليه و يقلعون أظـفـاره ( قـدرتـه على محاربة الخطيئة) و يكسرون أنيابه (سلطانه الروحي) و يأخذون مـنـه سـلاحـه (الـنـعـمة)، فتنعدم قوته و يتركونه مرمياً وسط الناس ليلعب به الصبيان .
هذا هو الإنسان الناسك الشجيع النفس الذي كم مرة بمعونة الله كسر فخاخ الشياطين وقطع حبال مصائدهم وأرعب صفوف عساكرهم ومرمر حياتهم بقوة الـنـعـمة، إذا نام بالغفلة وارتاح إلى الإهمال والكسل، أو تعظم بالإفتخار وانتفخ
بـالـظـنـون وتعالى بالعظائم وتكبر على الضعفاء، كأنه قد غلب الآلام وقهر الخطية والشياطين وأخضع ذاته بجهاده ونسكه وجاء الوقت الذي يستريح فيه و يتمجد مـن الآخـر يـن، وتجـاهـل أن يـعـطـي الغلبة للرب ولقوة نعمته بل نسبها في نفسه لنشاط إرادته الجيدة، حينئذ ترتخي . عنه العناية وتسمح النعمة بسقوطه في حبال الصيادين المتربصين… وهو في هذا أيضاً وبعد أن يقبل الآلام المرذولة و يشتبك بـالـشـهـوات بـالـكـلـيـة، لا يحس بالتخلية ولا يتيقظ قلبه بالتوبة ، بل بالضد في سـقـوطـه يفتخر بفنطسة ( تخيل) القيام كأنه متشبث بالنهوض ، و يوسوس له الـشـيـطـان أنـه مـتـشـبـه بكمال الآباء القديسين الذين كملوا واستأهلوا لكمال الإستعلان وعمل العجائب ، لكي بالتمام يسقط من النعمة . ]

مار إسحق – الميمر الخامس ، الجزء الرابع

أمـا الـقـديـس مـقاريوس فيشرح بوضوح إمكانية السقوط من النعمة بصورة مأسوية حزينة هكذا :
 [ إذا كـان شـخـص كثير الغنى ، وهـو أمير مفخم، يود امرأة مسكينة ليس معها سـوى جسمها و يصير لها محبا ، و يريد أن يأتى بها إلى مسكنه لتكون له زوجة وألـيـفة في المنزل، ولا تزال هي بعد ذلك تظهر لذلك الزوج جميع أصناف الإرادة الحسنة وتحبه محبة دائمة، فتلك الإمرأة المسكينة الفقيرة التي لم تكن تملك شيئاً تصبح متولية جميع ما يحوزه زوجها .
وأما إن اتـفـق أنها تتجاوز حدود العفة والواجبات وتسير بما لا يناسب بيت زوجـهـا هـذا ، فحينئذ تطرد إلى خارج مفتضحة ذليلة ساترة رأسها بيدها ، کا يلمح إلى ذلك موسى في الناموس بخصوص المرأة المخبلة التي لا تجدي بعلها نفعاً ، ثم إنها تمتلىء فيما بعد حزناً وكآبة مفرطة وتتفكر في نفسها كيف سقطت هذا
الغنى العظيم وكيف أضاعت ذلك المجد الفاخر وتجردت من كرامتها كلها بجهلها . وكذلك النفس التي يخطبها المسيح العريس السماوي لنفسه لأجل شركته السرية الإلهية (1يو1: 3)، فإن ذاقت ذلك الغنى السماوي (رو2: 4)، ولو مرة، فـيـجـب عـلـيهـا بـكـل الجهد والميل العقلي أن ترضي المسيح حبيبها وتبرهن ( 2تی4: 5 ) على خـدمـة الـروح التي أؤتمنت عليها برهبة تامة بكل سلوك عفيف ملائم بإرضاء الله في الأشياء كلها ، وعدم إحزان الروح في شيء من الأشياء بل تداوم على مراعاته وحبه عن إحساس بالواجب عليها ، وترفع نفسها إلى منزل هذا العريس السماوي بسيرة حسنة وبحمد قلبي على النعمة التي وهبت لها .
فمثل هذه الـنـفـس تـتـوشح حقاً بتولي خيرات مولاها كلها و يصير جسدها مسكناً مجيداً للاهوته .

وأما إن قصرت وصنعت شيئاً غير لائق في خدمتها دون الأشياء المرضية له ، وما حفظت إرادته بالتمام، وما فعلت مع نعمة الروح الحاضرة معها ، فحينئذ تُنزع منهـا كـرامـتهـا كـلـهـا بالعار والفضيحة وتنفى من الحياة كأنها لا نفع بها وليست مناسبة لشركة الملك السماوي أبدأ، وبعد ذلك يصير غم وحزن وتأسف عام بين الـقـديـسين كـلـهـم وبين الأرواح العقلية على تلك النفس، وتنوح عليها الملائكة والقوات والرسل والأنبياء والشهداء .

فإنه كما قال الرب إنه يكون فرح في السماء بخاطىء واحد يتوب ، يـكـون في السماء غـم عـظيم وتأسف على نفس واحدة تسقط من الحياة الأبدية ، وكما أنه إذا مات على الأرض غني ، يخرج من العالم بالمراثي والأسف والولولة من إخـوتـه وأقاربه وأصحابه ومعارفه ، كذلك تلك النفس ينوح عليها جميع القديسين بنحائب ومراثي ، وهذا مدلول عليه من قول الكتاب المقدس « ولول يا أيها السرو لأن الأرز قد سقط» (شجـر الـشـرو إشارة إلى الأبرار والملائكة، وشجر الأرز إشارة إلى أعضاء الكنيسة الذين يرتدون ).

وكما أن شعب إسرائيل لما كانوا في الظاهر يرضون الله مع أنهم لم يرضوه كما كذلك ينبغي، ظلل عليهم عمود من غمام وأضاء عليهم عمود من نار ورأوا البحر قد انقسم قدام عيونهم وخرج لهم من الصخرة ماء صاف ، ولكنهم بهواهم ومرامهم مـالـوا عـن الله فـسـلـمـهـم للحيات ولأعدائهم ، فأخذوا إلى أشر مضني وامتحنوا بـعـبـوديـة مـرة؛ كذلك يحدث للنفس من كل هذه الإعتبارات . وقد أظهر الروح ذلك للنبي حـزقـيـال سـرا وقال لمثل هذه النفس : « وجدتك عريانة في البرية وغـشـلـيـك مـن مـاء نجاستك، وألبستك ثوباً وجعلت الأساور في يديك وطوقاً في عنقك وأقرطة لأذنيك ، وشاع خبر اسمك في الأمم وأكلت سميذاً وعسلاً ودهناً ، ونسيت جميع أفضالي واتبعت عاشقيك وارتكبت الزنا الفاضح . » (حز16)

وكذلك الروح ينصح النفس التي تعرف النعمة الإلهية، وبعد أن تتطهر من خطاياها السابقة وتتزين بزينة الروح القدس، وتصير شريكة في القوت الإلهي السماوي ثم لا تكون سيرتها مطابقة جيداً لما لها من نصيب المعرفة المخصوص، ولا تحافظ على الـتـوقير والمحبة كما يجب للمسيح العريس السماوي ، فحينئذ تُطرح وتـطـرد مـن الحـيـاة التي كانت مشتركة فيها قبلاً، فإن إبليس لا يزال له قدرة أن ينتصب و يـقـوم و ينتهز فرصة على الذين يحصلون على هذه الغاية ، ولو كانت بعيدة، والخـطـيـة تتسلط على الذين عرفوا الله بنعمته وقوته وتسعى في نقص مراتبهم.

فسبيلنا، إذن، أن نجتهد و بغاية التبصر نسعى في عمل خلاصنا بخوف ورعدة. ولذلك مهما كنتم أنتم الذين صرتم شركاء في روح المسيح ، فلا تتكبروا في نـفـوسـكـم بـأي وجـه كان، سواء كنتم حـقـير ين أو عظماء، ولا تتكبروا على النصيحة ، ولا تعاندوا روح النعمة لئلا تثقوا من الحياة التي كنتم شركاء فيها . ]

القديس مقاريوس الكبير العظة 15

النمو في النعمة كتب القمص متى المسكين معنى الكلمة
كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى