كتاب ملكوت الله – القمص متى المسكين

ملكوت الله ـ طبيعته

أصل كلمة «ملكوت الله» عبري ويُقرأ «ملك ؤت سيماييم » ، أي ملكوت السموات. ولكن القصد من هذا التعبير هو الإشارة إلى «ملكوت الله» أي حكم الله المطلق على الإنسان. وقد استعيض عن كلمة «الله» بكلمة «السموات» تحاشياً لذكر اسم الله القدوس زيادة في خشية الله ورهبته كعادة اليهود، كما هو حادث في إنجيل متى لأنه مكتوب لليهود، أما باقي الأناجيل فيذكر اسم الله بلا مانع، لا بسبب قلة الخشوع وإنما بسبب كثرة الدالة والحب التي أظهرها الله نحو الأمم في شخص يسوع الفادي.

وأول من استخدم هذا التعبير في الإنجيل هو يوحنا المعمدان، ولكن مفهومه كان متداولاً في القرون الأخيرة ما قبل مجيء المسيح بواسطة الأنبياء كتعبير رؤيوي عن انتظار تدخل الله المباشر في حياة اسرائيل والعالم كله، وذلك بعد الإخفاق المرير الذي أصيب به الأنبياء من جراء فساد سلوك الملوك والرؤساء والكهنة وبسبب فشل الشعب في اتباع الله من القلب، والتحقق من عدم نفع النبوات في زجر الناس.

وقد اقترن دائماً الحديث عن ملكوت الله في كتابات الأنبياء بمجيء المسيا بصفته الشخص الذي سيعد لهذا الملكوت و يكشفه. واستعلان ملكوت الله في شخص المسيا بدأ مبكراً جداً قبل عصر الأنبياء بل وقبل عصر الملوك والقضاة، إذ نقرأ عنه منذ أيام يعقوب وهو يبارك أبناءه: «لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين رجليه حتى يأتى شيلون وله يكون خضوع الشعوب» (تك 49: 10) ، شيلون هنا هو ملك السلام» . وهذه أول إشارة إلى طبيعة المسيا وطبيعة ملكه.

ومن هي هذا التبكير في الإشارة إلى المسيا يتضح أن غاية الله من إقامة مملكة إسرائيل استعلان المسيا وتأسيس ملكوت السلام لكافة الشعوب. ثم جاءت الأسفار تباعاً تحمل هذا المعنى، ولم يخل سفر من تأكيد هذه الحقيقة سواء كانت الأسفار تاريخية أو روحية ، حتى جاء الأنبياء وبدأ النور الإلهي يتركز حول هذه الحقيقة بصورة ناطقة حية.

هذا كله يشير بدون غموض إلى أن تكوين مملكة اسرائيل قام منذ البدء على أساس لاهوتى. فبالرغم من التسلسل المنطقي للحوادث الزمنية وحبك المراحل التاريخية لإبراز مملكة اسرائيل كمملكة عاشت وماتت وقامت وسقطت عدة مرات كأي مملكة، إلا أن من وراء هذا التصوير الزمني للحوادث وسرد الوقائع التاريخية لهذه المملكة تكمن حقيقة لا يمكن تجاهلها بأي حال من الأحوال، وهي أن الله كان يقود هذه الحوادث الزمنية بنفسه سراً وعلناً، وكانت يده هي التي تصيغ الوقائع التاريخية سواء للقيام أو للسقوط وذلك من وراء الستار مرة وفي ضوء النهار وعلى مرأى من العين البشرية مرات ومرات.

كما يتضح بدون أي عناء من فحص دستور مملكة إسرائيل وشريعتها نوع هذه المملكة وطبيعتها وكيف تختلف هذه الطبيعة كل الإختلاف عن أي مملكة أخرى قامت على وجه الأرض. فمن الوصايا العشر التي تبدأ بـ «أنا الرب إلهك»، ومن الناموس الأدبي والأخلاقي الذي أملاه الله بفمه على الشعب، ومن الشرائع الروحية الدقيقة الأخرى التي جعلها الله دستوراً لمملكة اسرائيل، ينكشف من هو ملك اسرائيل الحقيقي وما هي هذه المملكة، وبالتالي ما الغاية من وجودها وما الغاية من فنائها !

فلم يُسمع قط في تاريخ الدول والممالك أن هناك مملكة يقوم دستورها على القداسة والبر، وتتركز شرائعها في التطهير، وتتلخص أعمالها وغايتها في تقديم الذبائح، ويكون ملكها الوحيد هو الله.

ولكن اسرائيل -من واقع الحال- أخفقت أن تكون مملكة الله ، وانحطت جداً عن ما هو مفروض لها، وذلك بسبب رداءة القضاة والملوك والرؤساء والكهنة وحتى شيوخ الشعب، فمشكلة اسرائيل كانت تتركز دائماً وبصورة شديدة في فساد الملك وقصور الكاهن وضعف النبي!!

لذلك بدأت الرؤيا تتركز وتلتحم وتتجه عند كافة الأنبياء إلى ملك جديد يكون له الصفات التي تمكنه من الحكم الكامل والصالح بقوة يلزم أن تفوق قوة الإنسان ! وذلك حتى تستكمل مملكة اسرائيل طبيعتها اللاهوتية التي أرادها الله لها ؛ وتبلغ الغاية التي من أجلها أوجدها!

وهنا تبرز صورة المسيا في رؤيا الأنبياء واضحة كل الوضوح. وتحت هذا الإلحاح النفساني والروحاني بل والتاريخي أيضاً بدأ الأنبياء يعلنون أوصاف المسيا : يخرج قضيب من جزع يسى و ينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب، ولذته تكون في مخافة الرب فلا يقضي حسب نظر عينيه ولا يحكم بحسب سمع أذنيه، بل يقضي بالعدل للمساكين ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض، يضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه، يكون البرمنطقة متنيه والأمانة منطقة حقويه ، … لا يسوؤون ولا يفسدون في كل جبل قدسي لأن الأرض تمتلىء من معرفة الرب كما تغطي المياه البحر. ويكون في ذلك اليوم أن أصل يسى القائم راية للشعوب إياه تطلب الأمم و يكون محله مجداً» (إش 11: 1-10).

هذا التصوير للملك الجديد «المسيا » يتناسب تماماً مع الطبيعة الإلهية التي أراد الله أن تكون عليها مملكة اسرائيل. هذا الوصف كشف ما بعده كشف لكل قصد الله وتدبيره من قيام مملكة اسرائيل وغايتها!

والملاحظ هنا أن تصوير المسيا كملك أصبح تصويراً مجاز ياً جداً من جهة المفهوم البشري السياسي، لأن حكومة هذا الملك أصبحت واضحة في أنها تشمل العالم كله ؛ كما أن قوة هذا الملك هي في «فـه»، وسلاحه الذي يعاقب به هو «شفتيه» وقدرته يستمدها من بره وأمانته!!

أما شعب هذه المملكة المترامية الأطراف فليس من العظماء والأقوياء والحكماء بل هم المساكين، وشغل الملك الشاغل هو إنصاف بائسي الأرض ! أما الدستور الجديد لهذه المملكة الجديدة فلا ينطوي تحت الحرف ولا تحده كلمات وألفاظ، ولكنه روح يفيض على الجميع بالمعرفة كما تغطي المياه البحر. وهو لا يغزو الأمم أو يلاحقها ليخضعها بسيف ورمح ، ولكنها هي تنجذب إليه كما ينجذب الشعب حول راية النجاة، وتتبارى الأمم في طلب وَّه!

ومـن هـذه الـنـبـوة وغيرها نستطيع أن نرى مقدار صحة الرؤيا وإدراك الأنبياء لأوصاف المسيا الروحية والإلهية التي ظهرت كاملة في شخص يسوع المسيح ملك السلام، الذي قال هو عن نفسه : «إذهبا وأخبرا بما تسمعان وتنظران العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يُظهرون والصُّم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يُبشرون وطوبى لمن لا يعثر في» (مت 11: 64).

و يلاحظ هنا أن قول المسيح بعد أن استعرض أعماله : «وطوبى لمن لا يعثر في» ، هو إشارة إلى أن صفات الملكوت وصفاته هو كملك، لا تزال سرية تحتاج إلى بصيرة . ورؤية وإلهام، وأن الملكوت لا يزال في هذا الدهر على مستوى البذرة والخميرة الصغيرة والشبكة.

ولكن منذ أن بدأ يتكلم الآباء والأنبياء والربيون في اسرائيل عن الملكوت القادم، بدأ الإنقسام أيضاً في التفكير والتفسير، فقد تمادى اليهود المتعصبون للأرض والحدود، والطين والذهب واللحم والدم والألقاب والمواريث في أن يتصوروا ملكوت الله على هذا الصعيد، و يترقبوا المسيا ملكاً منتقماً لإسرائيل من الأمم، و يوسع تخومهم و يسحق أعداءهم و يذل رقاب الشعوب تحت أقدام اليهود !… لذلك لم يجدوا في المسيح ما يؤهله أن يكون ملكاً لهم ولا وجدوا في أقواله ما يروي شهوتهم.

وقد ساعد هؤلاء المتعصبين على المضي في تعصبهم بعض النبوات التي تستخدم الألفاظ الزمنية في شرح الأمور غير الزمنية ، كأن تقول النبوة مثلاً أن اسرائيل سترث الأمم ، أو أن المسيا سيخضع أعداءه تحت رجليه ؛ غير عالمين أن الميراث هنا هو ميراث روحي وأن الخضوع هنا هو بالحب والإتضاع.

أما السبب في هذا العجز الفاضح في فهم النبوات روحياً فهو ناشيء : أولاً : من الجهل بمعرفة قصد الله الأول من قيام مملكة اسرائيل الزمنية وهو أن تنتهي إلى استعلان مملكة الله الأبدية.

كما أنه ناشيء :
ثانياً : من الضغط والذلة والعبودية المرة التي بلغتها اسرائيل في نهاية أيامها من بعد مجد وعز كثير مما جعلهم يطلبون الحرية الأرضية والجسدية و يتجاهلون حرية الروح. مع أن الضيق والذلة والعبودية السياسية المرة التي وقعت فيها اسرائيل حتى. صارت تحت سيادة الأمم في أواخر أيامها كان تعبيراً لاهوتياً رائعاً عن اتضاع انفتاحها للأمم!

فهل قدم المسيح نفسه للعالم جالساً على عرش من ذهب، أم قدم نفسه للعالم مصلوباً ومغلوباً له؟

فكما أن العالم لم يعرف المسيح ولم يقبله بل ولم يرثه إلا بعد أن عراه وصلبه ، هكذا صار لإسرائيل، فحينما خرت صريعة تحت أرجل الأمم انسكب مجدها وغناها الروحي وميراثها الآبائي ودستورها الإلهي وناموسها الأدبي والأخلاقي على العالم كله فورثته الأمم كغنيمة الغنائم .

حقاً لم يكن ممكناً أن ترث الأمم مجد اسرائيل ولا أن تتنازل اسرائيل عن مجدها للأمم إلا بعد أن ينشق غلافها الزمني الزائل ، أي شكلها كمملكة زمانية، حتى يصبح جوهرها الروحي ملكاً لكل أمة ولكل عابر سبيل !

وهكذا لا يمكن أن نفهم المسيح بدون اسرائيل، ولا يمكن أن نفهم اسرائيل بدون المسيح.

فكما جُرح المسيح وتمزق جسده على الصليب تمهيداً لتقسيمه على أربعة أركان العالم، هكذا تمزقت اسرائيل وانقسمت – كما رآها النبي الحاذق زكريا بروح النبوة : «نصفها إلى البحر الشرقي ونصفها إلى البحر الغربي و يكون الرب ملكاً على كل الأرض» (زك 14: 8) ، وكما طعن جنب المسيح وخرج الدم يتدفق مجاناً إلى كل فم، هكذا انكسر قلب اسرائيل فخرجت مياه أورشليم الحية» مشاعاً تروي قلب كل إنسان يطلب الحق.

الآن نحن نعيش ملكوت اتضاع المسيح الذي لا يدركه إلا المتضعون. بنو العرس الآن منهمكون في غسل أرجل المدعوين شأنهم شأن عريسهم الذي لما جاء ليؤسس ملكوته على الأرض أسسه بالدموع وجال متغرباً يتوسل لدى سامرية أن تسقيه . ليس الآن مكان لمتعظم، فالسيد لا يُعرف إلا بكونه يخدم، والرئيس لا يُعرف إلا كعبد، أما المتكأ الأول فلا يطلبه إلا المرفوضون.

نحن نترقب ملكوت المجد الآتى وننتظر ظهور الرب، ولكن لا ننتظره في جسد تواضعه بعد، بل في استعلان مجده وجلاله ، وكل ظهور بغير هذا المجد هو خداع وغش وتزييف.

وهكذا أيضاً وبالمثل لم يعد لإسرائيل أن تلبس فوق مجد عريسها ثوبها الترابي الزمني التالف، أي ميراثها الأرضي المتعفن وسلطانها السياسي القديم الذي ورثته بالحديد والنار وسفك الدماء.

لقد تكللت اسرائيل بالمسيح ولبست مجدها في شخص شهدائها من تلاميذ ورسل ومؤمنين من كل أسباطها، وهي الآن في السماء تنتظر الإشارة لتنزل من السماء كعروس مزينة مع عريسها كنيسة قديسين وملائكة وأرواح أبرار مكملين بالمجد.

ملكوت الله وملكوت الناس في مواجهة

كتب القمص متى المسكين

ملكوت الله واستعلان مجيء المسيح

كتاب ملكوت الله
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى