كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية للأب متى المسكين

النعمة والتجارب

أولاً : التغير من النعمة إلى التجربة  ثم من التجربة إلى النعمة :

 

هـنـا نجـد كـلاماً فريداً للقديس أنبا مقار ينقله إلينا مار إسحق ، حيث يشرح علاقة النعمة بالتجارب كضرورة هكذا :

[ ليس الضعفاء أو المنحلون أو غير المدربين على الحياة الروحية هم الذين يقعون في الـتـجـارب ، بل وحتى أيضاً الذين بلغوا الكمال وعدم التألم apathia ، بل والـذيـن مـاتوا كلية عن هذه الحياة، هم كذلك لهم الجهاد والقتال ، طالما هم في هذا العالم ، ينضغطون بالآلام بسبب الجسد، وتحدث لهم تخلية ولكن بمعنى الرحمة بسبب الخوف من حرب العظمة. وهم يحتاجون إلى شفاء التوبة ، والنعمة أيضاً تزكيهم وتقبلهم !!
هذه ( الأمـور) كـتـب عنها القديس مقاريوس بعناية كثيرة واهتمام لتذكير الإخـوة وتعلـيمهم لئلا يميلوا إلى قطع الرجاء ( أي اليأس) في وقت الغيارات الضدية ( أي الإنتقال المفاجيء من الراحة والسلام إلى الإضطراب والقلق بدون سبب).
حتى الـذيـن بـلـغـوا إلى رتبة الزكاوة ( أي طهارة القلب والفكر) مهما كانوا سـائـريـن بـحميتهم ( أي بغيرة وحرارة)، هؤلاء أيضاً تحدث لهم عوارض ضد غرضهم ونياتهم .
هذه ( الأمـور ) باختبار حقيقي ، وضعها القديس مقار يوس في رسالته مؤكداً أن الغيارات تحدث لكل أحد بمفاجأة، كتغيير الرياح ، في وقت برد و بعد قليل حرارة!! وهذا لتدريجنا وتدريبنا : وقت قتال ووقت معونة من النعمة ، وقتُ أمـواج مـن الإضـطـراب والحزن الصعب داخل النفس ، ثم يحدث التغيير وتفتقد النعمة النفس وتملأ القلب فرحاً وسلاماً من الله وأفكاراً عفيفة سلامية .
واضح هـنـا بقوله « أفكاراً عفيفة سلامية»، أن سابقتها كانت أفكاراً نجسة وحشية. لذلك، ففي وقت ورود الـعـوارض وتواتر الإضطراب للعقل لا تيأس وتقطع الرجاء، وفي وقت النعمة لا تفتخر، بل في وقت الفرح انتظر الضيقة ، أي لا تـقـطـع الـرجـاء كإنسان يطمع و ينتظر أن يكون بلا قتال وتعيش في نياح كـامـل بلا غيار ( أي تغير الأحوال الروحية ) حيث لا يبقى لك جهاد ولا تعب أو شـقـاء مـن الأمور الضدية، لأن هذا لم يشأ سيدنا أن يعطيه لطبعنا ما دمنا في هذا العالم لئلا يتوقف جهادنا].

ويختم القديس مقاريوس كلامه هنا بقوله : [ والذي هو متخلف عن هذا هو من نصيب الذئاب] .

و يعلق مار إسحق على قول القديس مقار يوس هذا قائلاً: [ يا للعجـب مـن قـول هـذا الـقـديـس! كيف بكلمة صغيرة حصر هذا الفصل الـعـمـيـق المـتـعـدد المعاني والأفهام، فبقوله أن المتخلف عن هذا هو من نصيب الذئاب يعني الإنسان الذي يريد أن يسلك بفكر خاص غير الذي عاش به القديسون والآباء من جهة هذه الحقيقة .
أمـا قـول الـقـديـس مـقـار يـوس أن في وقت الفرح تنتظر الضيقة، فيشرحه مقاريوس نفسه قائلاً: «إذا اقترب الملائكة القديسون منا ــ في وقت النعمة ـ فإنهم يملأونـنـا من النظرة الروحانية ، وجميع المضادين يهربون و يكون لنا عندئذ سلام وهـدوء لا ينطق به. ولكن إذا جاءت النعمة واقتربت الملائكة وأحاطوا بك وهرب المضادون وابتعد المجرّبون ( الشياطين )، لا تتعظم وتظن في نفسك أنك بلغت الميناء وارتفعت بالكمال عن التجربة وعن المضادين ولا بقي لك عدو ولا ملاقاة شيء رديء، لأن كثـيـر يـن ضـمـروا هذا في نفوسهم وسقطوا في أمور خطرة… فاعلم أنت أن قيامك ليس من حرصك ولا من فضيلتك ، بل هي النعمة
التي تحملك على كفها ».]

مار إسحق – ميمر في المعرفة الحقيقية والتجارب ، الجزء الثاني

و يـعـود مـار إسحق في مـوضـع لاحق ويلخص رسـالـة الـقـديـس مقاريوس في « غيارات » النعمة والحروب ( أي تغير الحال من النعمة إلى الحرب ) هكذا :
[
و يعرف هـذا مـن بـعـض رسائل القديس مقاريوس إن أردت أن تعرف رتبة الـقـديـسين الذين تتخلى عنهم النعمة لكي يتجربوا ـ حتى لا يتأذوا من أفكار الـعـظـمة ، لأن ألم العظمة يثب على النفس صاحبة الفضائل الكثيرة لكي يفقرها بالـكلية. وهـذا هـو مبدأ الرسالة : ( الأب مقار يوس يكتب إلى جميع أولاده الأحباء، التي أوضح فيهـا بـإفصاح كيف تتدبر سياسة الله بالحروب وبمعونات الـنـعـمـة معاً لأجل الجهاد مقابل الخطية ، لكي في كل وقت يشخص القديسون بالنظر الدائم إلى الله و يتأجج فيهم حبه المقدس، وبالخوف الدائم من وثب الآلام ورغـب المـيـلان نحو الخـطـيـئـة يـسـرعـون إلى الله و يثبتون فيه بالرجاء والإيمان والحب ). ]

مار إسحق

ولـكـن في عـظـات القديس مقار يوس نجد هذا المبدأ في غاية الوضوح ، خصوصاً في إحدى العظات المنشورة حديثاً، والعظة رقم 25:

[ الذي ذاق النعمة تستعيد نفسه الحياة وتختبر الراحة السماوية التي تُحسب أنها غـريبـة عـن اخـتـبـارات هذا العالم ، ولكن إن كانت ترجع وتتعظم بالكبرياء وتتحدث كثيراً ( عن ذاتها )، فإنها تمتلىء بالخطايا وتترك لتتألم، لكي بالمرارة التي تذوقها تهرب في طلب العزاء والراحة الروحية.
ولـكـن إن عاد الإنسان وتهاون ، فإن الشر يعود ويجد فيه مرعى بكل صنوفه ، وتـبـتـعـد الـنـعـمـة ، حتى يعرف الإنسان بالإختبار الراحة والتعزية الروحية وما يـقـابـلـهـا مـن كآبة ومرارة الخطية . وبهذا تصير النفس أكثر بصيرة وتعرف كيف تهـرب مـن الشـر تـمـامـاً وتلتصق بالرب بكل كيانها حتى تصير معه روحاً واحداً.
لأنه إن كانت الراحة والفرح تدومان في النفس باستمرار، فإن النفس تتهاون ولا تقدر قيمة صلاح الرب وتجهل الإمتياز الذي نالته . ]

القديس مقاريوس

وفي عـظـة أخـرى يـقـول الـقـديـس مـقـار يوس مقارناً بين عمل روح الله في النفس البشرية وعمل أرواح الشر :
[هذا هو التغيير الذي يجب أن يتم في النفس التي أعطت إيمانها للمسيح والتي تحبه
بلا إنقسام.
هذا هو التجديد والتحول في كل شيء في أفكار القلب الذي تقدس بالروح ، كما أيضاً في الأعمال الصالحة التي لله ، فروح الصلاح يعمل في النفس بحق وبملء ويحـضـور فقال محسوس بنفس الطريقة التي تعم
في ل بها أرواح الظلمة التي للشهوات التي تعمل الشر بحضور محسوس وأكيد النفس والجسد . ]

القديس مقاريوس . – عظة 25

ثانياً : أنواع التجارب وموقف النعمة منها :

السؤال الذي يطرحه مار إسحق أولاً هو هل التجربة تأتى أولاً ثم تأتى النعمة ، أم العكس؟

هنا يقرر مار إسحق، وطبعاً من خبرات الآباء وكتاباتهم فيقول :
[ الـبـاري ـ سبحانه وتعالى ـ رأى بحسب حكمته أن تكون النعم بقدر المحن !! إذ لا يمكن أن تكون الموهبة عظيمة والتجربة ضعيفة (صغيرة وقليلة )، لأن هؤلاء مرتبون بمقدار أولئك ( أي المواهب تغطى بمقدار التجارب ).
فإذن ، من الصعوبات والضوائق العارضة لك بسياسة ( بتدبير) من الله ـ عـز وجـل ـ تـدرك نـفـسـك ما قبلته من النعمة ، لأن العزاء دائماً يكون على قدر الحزن !!
وأحياناً تفيد التجربة وبعد ذلك تأتي المواهب والنعم .
وأحـيـانـا أخـرى تـأتى الـنـعـمـة أولاً ثم تعقبها التجربة . ( ولكن هنا يلزم أن ندرك ) أن التجربة لا تأتي على الإنسان إلا بعد أن تقبل النفس ( قامة ) جديدة زيادة على منزلتها الأولى . والشاهد بحقيقة هذا أن الرب اقتيد بالروح للتجربة أن امتلأ بالروح القدس ، وكذلك الرسل أيضاً لم يدخلوا التجارب إلا بعد أن بعد قبلوا المعزي !
وهذا الأمر هو منذ البدء : أن تأتى النعمة أولاً قبل التجربة. غير أنه لابد أن يـتـقـدم الإحساس بالمحن على الإحساس بالنعم لأجل اختبار الحرية ( أي أن الإنـسـان عـنـدمـا يـكـون في الحـقـيـقة مستعداً من الداخل لقبول المحن والآلام و يـسـتـعـذب مذاقها حبا في المسيح ، تأتيه النعمة فتعطيه القوة على إحتمال المحن
والآلام بالفعل).
لأن النعمة لا تـتـقـدم إلى أحـد الـبتة من قبل أن يذوق التجارب ، أي أن الـنـعـمة تتقدم في العقل وتبطىء في العمل (حتى يقبل الإنسان التجارب بحريته قبل أن ينال المعونة الفعلية من النعمة).

ولهذا ، فعلينا في أوقات المحن أن نواجه شعور ين متضادين : الفرح والخوف . الـفـرح لأننا استحققنا أن نسير في الطريق التي وطأتها أقدام محب الكل ( المسيح على الصليب)، وأقدام القديسين ، لأن المحن تكشف عن ذلك ؛ وأما الخوف فهو لثـلا تـكـون تجربتنا بسبب العظمة ، ولكن المتواضعين يقدرون أن يميزوا بالحكمة والنعمة التي فيهم ما هي التجربة التي تأتى بسبب العظمة وما هي التجربة التي تأتى لنمو المحبة. أما الصنف الأول أي التجربة التي بسبب العظمة فهي تخلية تعظم النفس وتوقحها ، وأما الصنف الثاني فهو تجربة لتزكية للـتـأديـب بـسبـب السيرة والنمو في النعمة .
أ ـ أما أصناف التخلية من الله العظمة للتأديب ، فتكون على شكل تجارب شيطانية ظاهرة خارجة عن حدود الطبيعة ، مثل إحساس قوي بالزنا يطلق عليهـم لـتـوضـيـعهم ، سرعة الغضب ، التشبث بالرأي ، تنفيذ الإرادة بلا هوادة،
حب الـغـلـبـة بـالـكـلام، الإنتهار الصعب ، تهاون القلب في العبادة الداخلية ، الـتـجـديـف الداخلي ، الإزدراء بمقادير الناس، الإستهانة بكرامة الآخرين ، محبة الخلطة (أي الشغف بملاقاة الناس لسبب ولغير سبب ) والتصرف في أمور العالم ، الهزار في الكلام بصورة دائمة، تحديد الأمور بتسرع ، نبوات كاذبة ، أن يبشر بوعد بأشياء كثيرة فوق مقدرته ، مع عوارض جسدية مؤلمة ملازمة ، مع مصادقة شرور  ومـقـاومـة الكفرة (أو الهراطقة ). و يتحرك قلبه بالخوف بلا سبب، وضياع الثقة والأمانة بالله.
ب ـ أما التجارب الأبوية الوافدة إلينا من الله لنمو المحبة والنعمة فهي تكون لتحريك النفس للنجاح، وبها نروض النفس ونتدرب لنعود إلى مراتبنا الأولى من النشاط . وهي:
الكسل ، ثقل الجسم ، إسترخاء الأعضاء، الضجر، تحبيط الذهن، أمراض الجسد، إنـقـطـاع الأمل في ساعـة الـضـيـقة ، ظلمة الأفكار، نقصان المعاضدة الإنسانية ، عوز الأشياء الجسدانية : من هذه التجارب يقتني الإنسان نفساً متوحدة في ذاتها (إستقلال ذاتى ) متضعة مائتة عن العالم، متمرسة بالأحزان معتمدة على الله .
إذن ، فمـن أنـواع تجـار بـك إعرف منهج سيرتك ، وافهم إن كانت العظمة قد ألمت بك من عدمه لأن تجارب العظمة تبدأ حينها يبدأ الإنسان أن يعتقد في ذاته أنه أحكم من غيره ولبيب وعالم . ]

مار إسحق – الباب 21، الجزء 3

كيف نقتني النعمة كتب القمص متى المسكين النعمة والصبر على المحن
كتاب النعمة في العقيدة و الحياة النسكية
المكتبة المسيحية

 

زر الذهاب إلى الأعلى