كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

الهذيذ

+ « لتكن أقوال فمي وهذيذ قلبي مرضية أمامك دائماً أيها الرب صخرتي وفادي.» (مز 19: 14)

+ «طولى للرجل … في شريعة الرب هواه وفي شریعته بهذه نهاراً وليلاً.» (مز 1: 1 و 2)

+ «تكلمت بشهاداتك … وهذذت بوصاياك التي أحببتها جداً.» (مز 119: قطعة 6)

+ « وفي هذيذي تتقد النار فيَّ.» (مز 39: 3)

+ «اهتم بهذا وهذ فيه ليكون تقدمك ظاهراً في كل شيء.» (1تى 4: 15)

«الهذيذ» اصطلاح تقليدي قديم متصل اتصالاً وثيقاً بقراءة الكتاب المقدس قراءة قلبية عميقة تترك طابعاً لا يُمحى في الذاكرة والعاطفة واللسان.

والهذيذ حسب الـتـقـلـيـد الآبائي مفتاح كل النعم لأنه يجعل الإنسان الذي يمارسه بشغف، إنجيلي الفكر والنطق والإحساس، ويجعله متقدماً دائماً في كل موهبة، مملوءاً من الفهم الإلهي، فإذا فتح فاه انسابت كلمات الإنجيل منه بدون تصنع أو تنميق ومعها الأفكار الإلهية، فكراً يتبع فكراً ، كموجات من النور تجعل عقل السامع يغمر في نور المعرفة الإلهية والقلب يتحرك والعواطف تشتعل.

وكلمة « الهذيذ » في الأصل اللغوي العبري «هاجا»، وفي الأصل اليوناني : μελετη  تفيد معنى التدارس والتعمق في الفهم والتمرين الفكري والقلبي . فالهذيذ بالحكمة، يعني درسها باجتهاد وتعمق مع الممارسة العملية.

وحسب التقليد الآبائي، اقتصرت هذه الكلمة على كيفية تسليم العقل والقلب لكلمة الله بكل اجتهاد حتى يتغير بواسطتها الفكر والقلب، واعتبر الآباء أنه لا يصح أن ينفتح الإنسان للهذيذ إلا فيما يختص بكلمة الله المكتوبة في الكتاب المقدس فقيد، لأن الهذيذ القلبي قادر على طبع الوجدان الإنساني والفكري والإنسان لا ينبغي أن ينطبع إلا بكلمة الله المباركة فقط وحسب مشيئته وفكره.

من هنا ارتبطت كلمة « الهذيذ» بقراءة الكتاب المقدس ارتباطاً خاصاً، وأصبح استعمالها مقصوراً على درس ” كلمة الله بتعمق وجداني ينتهي إلى التشبع والإنفعال الروحي. وأول درجة من درجات الهذيذ حسب التقليد الآبائي، هي القراءة التي تكون بمنتهى الهدوء وعلى مهل و بصوت مسموع، مع تذوق للكلمات ثم ترديد القراءة عدة مرات، علماً بأن عادة القراءة عند الآباء كانت دائماً بصوت مسموع وكانت تسمى «الترديد» . والحاصل أن الهذيذ بترديد أقوال الله بصوت مسموع و بتذوق ووعي قلبي كفيل بأن يجعل الكلمات تستقر في الأعماق حيث يرددها الإنسان بعد ذلك ( وكأنه يجترها) إلى أن تصير كلماته هو، ويكون الإنسان في نفس الوقت قد صار مخزناً أميناً لكلمة الله وصار قلبه بيتاً للكنز الإلهي «يُخرج . منه جدداً وعتقاء» (مت 13: 52) . وهذا هو المقصود أصلاً من كلمة ( حفظ الإنجيل » أو « حفظ الكلمة». فالإنجيل أو الكلمة يكون قد صار محفوظاً في أمان داخل القلب كأنه في كنز صالح ، أو حسب تعبير داود النبي: «خبَّاتُ أقوالك في قلبي» (مز 119: 11). وكأن الإنسان ينعكف و ينطوي على كلام الله كخزنة من حديد لا يمكن أن ينفذ إليها اللصوص.

ولهذا فإن الصلوات الإرتجالية في التقليد الآبائي كانت ذات صبغة إنجيلية محضة امتلاء القلب حتى إلى الفيض من أقوال الله. فكانت الصلوات الإرتجالية، أو حسب اصطلاح مار إسحق : « التي يركبها الإنسان من نفسه»، عبارة عن ترديد متكامل وملتحم لأقوال الله المحفوظة، وتعبر عن مقدار انفعال النفس وانطباعها بكلام الله وبمشيئته.

ومـن هنا ارتبط الهذيذ بالصلاة ارتباطاً وثيقاً كأول درجة من درجاتها الرسمية، التي يستطيع الإنسان أن يعيش بها و ينمو أمام الله بمنتهى الثقة والأمان، لأنها تكون صلاة من جـوهـر الإنجيل. وهي قادرة بهذه الكيفية أن تغير كثيراً وتجدد كثيراً في وجدان الإنسان وتفكيره وتعبيره. لذلك لا يمكن احتساب الصلاة الإرتجالية في التقليد الأرثوذكسي إلا إذا كان الإنسان ممتلئاً من كلمة الله، أي متمرساً بالهذيذ الصحيح، وإلا فإن الكلام سيخرج غير إنجيلي والأفكار تكون غير معبرة عن مشيئة الله وفكره.

والهذيذ لا يعني مجرد القراءة المسموعة بعمق ولكن يمتد ليشمل معنى ترديد القراءة في الصمت بعمق أكثر كل مرة ، حتى يشتعل القلب بالنار الإلهية. وهذا واضح بأجلى بيان من قول داود النبي في مزمور 39: « وفي هذيذي تتقد النار فيَّ».

ومن هنا يتضح الخيط السري الدقيق الذي يربط التمرين والإجتهاد بالنعمة وبالنار الإلهية.

فإن مجرد الهذيذ بكلمة الله في منتهى الهدوء وعلى مهل مرات متعددة ينتهي، حسب رحمة الله ونعمته بإشتعال القلب ! وهذا يكون الهذيذ أول صلة رسمية بين الجهد المخلص في العبادة والصلاة، وبين مواهب الله ونعمته الفائقة. ولذلك اعتبر الهذيذ أول وأهم درجات الصلاة القلبية التي يستطيع أن يرتقي بها الإنسان إلى حالة حارة بالروح، ويمكن أن يعيش فيها كل حياته.

ولا يخفى أن كلمة « الهذيذ» في الأصل اللغوي في اللغة العبرية الأصلية التي تنطقها : هـاجـا»، مأخوذ منها طريقة الفهم والنطق البدائي « يتهجا » ، فهي تعني محاولة اجتهادية جادة للـفـهـم والتعلم فيما يختص بمشيئة الله وأسراره المخفية في كلمته ووصاياه، لذلك نسمع داود النبي يقول في مزموره الأول أنه : «طوبى للرجل الذي يتهجا ( يهذ) في ناموس الله نهاراً وليلاً»، لأنه قطعاً سيصبح رجلاً حسب مشيئة الله، كما كان داود نفسه!!

ومعنى هذا أن الهذيذ يصلح لأن يكون بحد ذاته بداية ونهاية، وهذا حق لأن كلمة الله هي كذلك بداية ونهاية، بها يدخل الإنسان إلى الحق وفيها ينتهي إلى كل الحق.

ونتيجة هذا الهذيذ أو الهجاية في ناموس الله يعلنها داود، أن الإنسان يصبح ناجحاً في كل ما يصنعه، وكأنما الهذيذ نافع لأن يكون درجة للكاملين روحياً. كذلك يتبين من مفهوم كلمة «هاجا» العبرية (أي يتهجا الشريعة أو الناموس) أن الهذيذ هو الدرجة اللائقة بالمبتدئين لتكوين حياة عشرة صادقة مع الله.

لذلك كان الهذيذ تجارة رابحة لدى الآباء، عاشوها ومارسوها حتى آخر يوم من حياتهم : فنسمع من پاللیدیوس کاتب بستان الآباء، أن القديس مرقس الناسك سرد أمام بالليديوس الأناجيل الأربعة وكان عمره آنذاك مائة سنة !! وأن القديس أهرون كان يحفظ المائة والخمسين مزموراً ورسالة بولس الرسول إلى العبرانيين وسفر إشعياء بأكمله وجزءاً من سفر إرميا وإنجيل لوقا وسفر الأمثال. وقد رأى مثل هذا الرحالة روفينوس أيضاً وشهد بذلك.

ولكن ليس معنى هذا أن الهذيذ كان عند الآباء مجرد الحفظ عن ظهر قلب، وإنما كان نتيجة حتمية له، لأن التلذذ المستمر بالأسفار المقدسة مع ترديدها اليومي لا بد أن ينطبع على الذاكرة فيجري على اللسان بسهولة.

ونلاحظ دائماً أن القدرة على المداومة في الهذيذ القلبي بالأسفار المقدسة تعبر عن الحياة التي تسري حقاً في القلب، لأن كلمة الله روح وحياة كما عرفها لنا الرب، لذلك فإن مداومة الهذيذ فيها تكشف حتماً عن اتصال سري وبالتالي عن حياة حقيقية تسري في القلب. أما القلب الذي ينصدُّ عن الهذيذ بكلمة الله ، فهو يكشف عن توقف وجمود. ونسمع داود النبي يوضح هذه المقارنة العجيبة بين القلب الذي يهذ في ناموس الله والقلب الذي يتوقف عن الهذيذ بقوله : «تجمد قلبهم مثل اللبن المتجبن، أما أنا فهذذت بناموسك» (مز 119: قطعة 9) . بمعنى أن الهذيذ بناموس الله يحفظ القلب حياً دافئاً متدفقاً بنار الكلمة الإلهية. وذلك لأن الهذيذ يشمل في صميم . معناه التعمق المستمر في روح الأسفار والجري وراء الحقيقة تلو الحقيقة التي تكون مختبئة وراء الوصية . وهذا من شأنه أن يجعل أفكار الإنسان دائماً متجددة وعواطفه إنجيلية رقيقة، وسلوكه سهلاً متحركاً ومنعطفاً نحو كل الإحتمالات بنجاح.

لذلك نجد أن الهذيذ في درجاته المتقدمة ينسلخ قليلاً قليلاً عن القراءة، ليدخل في تصور الحقائق الإلهية ومداخل ومخارج الوصايا وتدبير الله. وهنا يبدأ الهذيذ ينفتح على أولى درجات التأمل، أي ينتقل من التعمق في الكلمة إلى التعمق في الحق الذي تحويه الكلمة. وذلك لأن مداومة الهذيذ في كلمة الله الحية لا بد أن يملأ القلب والفكر بأفكار وتصورات مـقـدسة، وهذه بدورها تُعتبر المادة الأولى التي يصنع منها التأمل أجنحته الخفيفة ليطير في سماء الروح بدون واسطة القراءة.

ولكن يستحيل أن تتكون عندنا أفكار وتصورات مقدسة تملأ القلب والفكر وتفيض منه، بدون اهذيذ الدائم في الكلمة الإلهية وفي وصايا الرب ومواعيده.

علماً بأن الحصيلة الهائلة من الأفكار والتصورات المقدسة التي سنحوزها بالهذيذ الدائم في الأسفار الإلهية، فوق أنها تُعتبر نعيماً بحد ذاتها تُغني الإنسان بغنى الروح، وفوق أنها تكون له كسيف من لهيب نار متقدة يقطع كل أسباب الأفكار والتصورات الشريرة، فهي تحسب للإنسان كذبيحة عقلية مرضية ومقبولة أمام الله دائماً : « لتكن أقوال فمي وهذيذ قلبي مرضية أمامك دائماً أيها الرب صخرتى وفادي.» (مز 19: 14).

يُحكى أن راهباً ذهب إلى معلمه في الصباح حزيناً بعد ليلة طويلة قضاها في الهذيذ في تعداد فضائل أحد إخوته الرهبان قائلاً: «يا أبي قد أضعت الليلة سدى إذ جلست طول الليل أعد فضائل أخي فلان فوجدتها ثلاثين فضيلة ، وحزنت إذ وجدت نفسي لا أملك ولا فضيلة واحدة منها» ، فقال له معلمه : «ولكن حزنك على خلو نفسك من الفضائل وهذيذك في فضائل غيرك هو أفضل من ثلاثين فضيلة».

هذه صورة عـمـلـيـة لإنطباع وصايا الرب التي تحض على الفضائل في ذهن الإنسان وضـمـيـره ، فيجعله يذهب بالروح ليفتش عليها أين توجد وأين لا توجد. هذا في الواقع يبين كيف أن الهذيذ في ناموس الله يولد الهذيذ في فحص الفضائل والجري وراءها، و يدفع النفس و يقرعها قرعاً شديداً مستمراً لكي تفتش ذاتها وتقيس نفسها على مقياس الإنجيل، ولا تجد راحتها إلا في الحق الذي تهذبه ، ولا تهنأ ولا تسعد إلا بتطبيق ناموس الله . فالهذيذ معلّم الفضيلة الذي يمسك بيد الإنسان ليرفعه فوق نفسه، ومصباح ينير البصيرة و يقود رجل الإنسان ليخطو خطواته العظمى نحو الأبدية.

ولـكـن لـعـل أعلى درجات الهذيذ هو الهذيذ في تدبير التجسد الإلهي، وما يتعلق به من الفداء الذي كمل على الصليب والقيامة التي أعطتنا قوة الحياة. هذا يسمى « الهذيذ بسر التدبير»، الذي يصفه الإنجيل بكلمات واضحة سهلة إذا وقف عندها الإنسان طويلاً تنفتح معانيها السرية على القلب وتنسكب منها قوة مشعلة قادرة أن تهب الإنسان حياة جديدة: « لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه متشبهاً بموته» (في 3: 10) ، « ليحل المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأصلون ومتأسسون في المحبة حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كل ملء الله » (أف 3: 17-19). حيث يلتزم الهذيذ هـنـا بـنـفس الكلمات والعبارات و ينحصر في حدود معناها الواضح في الإنجيل، وهذا يميز الهذيذ عن التأمل حيث يكون التأمل في هذه الأسرار حراً غير مقيد بالكلمات المكتوبة، وإنما يعتمد على مجموعة المدركات الشخصية واتساع أفق البصيرة والمعرفة.

لذلك كان الهذيذ في أسرار التدبير، كما دونها الإنجيل تماماً، هو الأساس الحتمي للتأمل القانوني لاستعلان قوة هذه الأسرار ونورها ، فالهذيذ الناجح المستمر يجعل التأمل ناجحاً قوياً نامياً باستمرار.

فالهذيذ إذن عمل روحي شيق من صميم العبادة وواجباتها، وهو مفروض على الجميع بلا استثناء، إذ يتعذر على أي إنسان أن يغتذي بكلمة الإنجيل إلا إذا رددها في قلبه وذهنه، وهذا هو معنى الهذيذ. كما يصعب على أي إنسان أن يدخل في صلاة حارة حقيقية مع الله بدون أن يردد أمامه كلمات مواعيده و يتمسك بها و يشرح موقفه منها ، وهذا أيضاً معنى الهذيذ !

فالهذيذ صلاة تعتمد على ترديد كلمات الله ووعوده في القلب والذهن، حتى تصبح جزءاً لا يتجزأ من إيمان الإنسان ورجائه، وقوة حقيقية يستند عليها عند اللزوم : «خبأتُ كلامك في قلبي لكي لا أخطىء إليك.» (مز 119: 11)

(1) الهذيذ كفيض داخلي وصلاة:

حينما يكون الإنسان حاراً ملتهباً بالروح تكون صلاة الهذيذ عنده بسيطة جداً غير متكلفة لا تحتاج إلى تركيز أو جهد ذهني أو أي انفعال فوق الإرادة، لذلك تسمى في هذه الحالة بالصلاة البسيطة أو ذات الإتجاه البسيط، فهي تكون مناجاة حارة تتحدث فيها النفس مع الله خالقها بحب حسب ما تشعر به، سواء كان تمجيداً من نحو أعماله وصفاته وحكمته أو شكراً وحمداً بسبب رحمته وعنايته الفائقة المتضعة . وهنا قد تلتهب النفس أثناء هذا الهذيذ الصامت، فلا تطيق سكوتاً ، وحينئذ تبتدىء تصلي بكلمات تنطلق بلا قيود تعبر عن الحب والعبادة والخضوع كما يعبر الطفل بكلماته الضعيفة عن شعوره القوي ، حيث يكون القلب مفتوحاً أمام الله يحس بكل ما يختلج فيه من لمسات يد الله الخفية.

(۲) الهذيذ كعمل إرادي وصلاة :

أما إذا أراد الإنسان الدخول في الهذيذ دون أن تكون لديه حرارة سابقة تدفعه إلى مستوى الصلاة القلبية مرة واحدة، فالأمر هنا يحتاج إلى شيء من الجهد النفسي والتركيز العقلي حتى يمكن للنفس أن تتحرر من جمودها و يستطيع العقل أن يتخلى عن انشغاله بالأمور الخارجية، ليدخل في قراءة واعية روحية ترفعه إلى حالة صلاة. هنا، يلزم أن تتحرك أعماق الإنسان وأن يتأهب الضمير بحركة حرة مضادة لكل المشاغل النفسية والذهنية التي جعلت الإنسان في جمود وانشغال عن العبادة والصلاة والإتصال بالله.

وحركة الضمير تعتمد على المحبة في تغلبها على الجمود والإنشغال الظاهري . فالإنسان عندما يتحرك قلبياً بالإرادة محبة الله ، ولو تغصُّباً في البداية، فإن المحبة الإلهية تسري فيه في الحال لأن العمل الإلهي يؤازر دائماً العمل البشري و يتحد به في النهاية.

لذلك، على الإرادة أن تظل ناشطة صابرة منتظرة حتى تحل القوة الإلهية وتسري الحرارة الروحية، فينطلق الإنسان نحو الأعماق ويبدأ صلاته وهذيذه بكل فرح وسهولة.

هذا العمل الروحي أثناء القراءة الروحية، الذي ينقل الإنسان من حالة الجمود النفسي والإنشغال العقلي بالأمور المنظورة إلى حالة تعمق داخلي وحرارة وصلاة، يُعتبر في الحقيقة أهم وأدق عمل روحي في حياة الصلاة كلها ، فهو الباب الوحيد الذي يفتح على كل أسرار الحياة الروحانية، وهو أول درجة في السلم السمائي الذي يصل بين النفس وخالقها.

في هذه اللحظات قد يواجه الإنسان بعض عناد من النفس التي تكون مشتتة في اهتمامات أو هموم كثيرة بلا قيمة وبلا معنى وقد يواجه الإنسان مراوغة من العقل في تنقله من صورة إلى صورة ومن فكرة إلى فكرة وهو طائش في أمور غاية في التفاهة . هنا، على الإرادة المتسلحة بنية داخلية صادقة أن تقف موقف الإصرار؛ متشبثة بالمحبة منطلقة إلى وجه المسيح في توسل وانتظار حتى تفتقدها النعمة الإلهية وتحررها وتبثها حباً بحب.

والمنبع الخصب الذي يلقن الروح القدس منه دروس الهذيذ لتلاميذه، هو الكتاب المقدس، فهو المدرسة العظيمة حقاً التي لا نهاية لدروسها والتي مهما استوعبنا منها فلن نستوعب إلا اليسير … وهي غنية بمناهجها الثلاثة : المنهج التاريخي، ويشمل من بدء الخليقة حتى نهاية الدهور فيما يحيط بالخليقة الصامتة والناطقة من كل ناحية ؛ والمنهج الناموسي، ويشمل كل وصايا الله وشرائعه ونواميسه التي وضعها لبني البشر؛ والمنهج الثالث، ويشمل معاملات الله مع أحبائه وحديثه معهم وحديثهم معه. هذه المناهج الثلاثة كفيلة بأن تغطي كل احتياجاتنا في هذيذنا مع الله ، لا كأنها أشياء مضت، بل كأشياء حاضرة معنا؛ ولا كأنها حقائق لذاتها بل تصير حقيقة نفوسنا نحن. 

وأعظم مثل للهذيذ الحر المتسع والذي يشمل كل هذه المناهج، هو الإنتاج الرائع الذي خلفه لنا داود النبي في مزاميره التي هي في حقيقتها قطع فنية للهذيذ، فهي تشمل حديثاً شجياً متصلاً بين داود والله.

 فمن حيث الخليقة لم يترك شاردة ولا واردة إلا وذكرها مستحسناً صُنعها . فحدَّث الله عن صنعه للسماء والأرض وما تحت الأرض والجبال والتلال والبحار والأنهار والينابيع والوديان والحقول والـبـقـاع والأشجار والغابات والعشب والثمار؛ وتغنى بالشمس والقمر والنجوم والكواكب والسحب والضباب والجليد والصقيع والحر والبرد والأمطار والعواصف ؛ وتحدث عن حيوانات البحر السالكة في البحار، وطيور السماء وحيوانات البر و وحوش الغاب وهائم الحقل والدبابات التي تدبُّ على وجه الأرض ؛ وتحدث عن الشعوب والأمم والألسنة وكـل خـلـيـقـة على وجه الأرض ؛ ومن فرط غُلُوه في الروح، هتف بها جميعاً واحدة فواحدة لتسبح معه وتبارك الخالق وترنم لله العلي.

 ثم يعـود داود في مواضع كثيرة من مزاميره، وبالأخص في مزموره الخالد 119، يحدث الله عن ناموسه ووصاياه: يصف له اتساعها وجمالها وحلاوتها ، يشهد أمام خالقه أنها أشهى له من العسل والشهد في فمه وأنها تنير عينيه، وأنها فرحة قلبه وغنى نفسه وهذيذه بالليل والنهار حتى صارت سراجاً لرجله ونوراً لسبيله ؛ ويشهد للشباب أنها قوام طرقهم، وللأطفال أنها تفهمهم؛ ثم يحدث الله عن الكآبة التي ملكته حينما رأى الخطاة يهملون ناموسه والمتكبرين يتجاوزون الشريعة، فيحتد أثناء حديثه مع الله على الذين يحيدون عن الناموس و يلعنهم ؛ ثم يشكر الله أنه علمه وصاياه أكثر من أعدائه وأعطاه بها فهماً أكثر من الشيوخ.

ثم يعود داود ليحدث خالقه عن نفسه فيرى نفسه دودة لا إنسان، حقيراً ومرذولاً أكثر من كل الناس، يُرجع بصره إلى أيام صباه فيذكر خطاياه التي اقترفها في جهل، فيصرخ طالباً الرحمة ؛ ويرى آثامه الحاضرة ماثلة أمام عينيه ، فتغتم نفسه، فيصرخ مسترحماً محدثه كـيـف كـلـت عيناه من الدموع وانكسرت نفسه من الحزن وبليت عظامه من التنهد حتى غارت عيناه وذبل لحمه فالتصق بعظمه حتى شابه البومة والعصفور الفريد على سطح موحش !!! ثم يرجو خالقه أن لا يؤدبه بغضبه فهو مستعد للأدب وإنما بالحب والرحمة من أب شفیق ؛ ويتوسل إليه أن لا يميته وهو في منتصف أيامه بل يتمهل عليه حتى يوفيه حقه من التسبيح والتمجيد والشكر. وبذلك يكون داود قد استوعب مدرسة الروح القدس بأكملها، حتى حاز شهادة الله : « إن قلب داود كان حسب قلب الله » ( 1صم 13: 14)، وفاز بقول المسيح: «قال داود بالروح.» (مت 22: 43)

وهكذا وضع لنا داود بالروح نموذجاً حياً خالداً للهذيذ الكامل حسب مسرة الله . فكل مزمور هو قطعة هذيذ رائعة تقوم بذاتها وتكفي لتكون درساً كاملاً، وتكون مع بقية المزامير صورة ناطقة لحياة العشرة التي قضاها داود في حديثه مع الله.

إن سر تقدم داود كان اطلاعه المتقن على أسفار الكتاب المقدس ومواظبته على الهذيذ بها. وإذن، فحينما نتقدم إلى الروح القدس ليعلمنا دروساً جديدة في الصلاة علينا أن نطالع دروسنا جيداً بل ونتقن حفظها وتلاوتها، حتى من مادة حفظنا يرشدنا الروح إلى نواحي القوة والجمال فيها . ويوضح لنا ما يخصنا فيها وما يطابق حالنا منها فتصير كلمات حفظنا وسائل لتهذيبنا وتبكيتنا وتوبتنا.

وأعلم أن الهذيذ فن ، ويحتاج إلى زمن لإتقانه، ولكن التقدم فيه هين وسريع، وإن لم يظهر بوضوح شأن جميع الفضائل الروحية . فكلما تقدمنا شعرنا بنقصنا وعجزنا، حتى إذا بلغنا إلى درجة عالية ننظر وكأننا لم نتقدم خطوة واحدة، وهذا من فعل النعمة فهي تخفي تقدمنا عن أعيننا لئلا نسقط في الغرور والكبرياء . فكلما استولى علينا شعور بالنقص يكون ذلك دليلاً ـ كما يعلمنا الآباء المُلهمون بالروح – على أننا قطعنا مرحلة طيبة وأمامنا مرتفع يحتاج إلى تحفز لقفزة واسعة.

أقوال الآباء في الهذيذ :

76ـ الهذيذ في الكتب المقدسة ينير العقل ويعلم النفس الحديث مع الله .

77ـــ الذين يعرفون الكتب المقدسة يسهل عليهم التضرع في صلاة حقيقية.

78 ـ توجد قراءة تعلمك كيف تدبر أمورك ، وتوجد قراءة تشعل النفس بحلاوة الفضيلة . كن مداوماً الهذيذ في الكتب الإلهية وسير القديسين، لأن من دوام التفكير فيها تنمو فيك أفكار حارة وتسهل عليك الصلاة وتجعل الضيقات هيئة في عينيك .

79ـ عـمـل الـقـراءة مرتفع جداً لأنه هو الباب الذي يدخل فيه الذهن إلى الأسرار الإلهية، و يأخذ قوة حسب نقاوة الصلاة، ومنه يتقوى أيضاً التدريب على الهذيذ.

80ـ بدون القراءة في الكتب الإلهية ، لا يمكن للذهن أن يدنو من الله.

81 ــ الباب الذي يدخل منه الإنسان إلى الحكمة هو الهذيذ في الكتب.

82 ــ صلاة الهذيذ هي أفهام من جهة الحياة ، ومعرفة فاضلة عن الحياة غير المائتة. هي ربوات أفهام تختلج في قلوبنا كيف جبلنا من الأرض من حيث طبيعة الجسد و بيد من ارتفعنا . وكيف تجنسنا بجنس اللاهوت ! وبأي أسرار تحكمنا … وهكذا يستقيم الضمير و يتعظ و يتحرر إلى الأمور المرتفعة، و يصير هذيذه في الروح.

83ــ الصلاة التي يشير بها الآباء لا تكون بالكلام فقط ولا يمكن تعلمها بالألفاظ، لأنك لا تصلي أمام إنسان، بل إنك ترسل صلاتك قدام الذي هو روح. والصلاة الروحانية أعمق من الشفتين واللسان، وأعمق من التلاوة. فإذا ما أراد الإنسان أن يصلي بها غطس إلى داخل قلبه بعيداً عن الفم واللسان، هناك في بلد الملائكة ، بغير كلام يقدّس مثلهم . فإذا عاد إلى اللسان ليعبر به عن شعوره، فقد خرج من بلد الملائكة و ومن التشبه القليل بهم.

84ـ إعلم أيها الإنسان المتتلمذ للحق أن طهارة الصلاة وجمع العقل فيها، هو الهذيذ الحقيقي.

85ـ إذا تقدم الإنسان بالنعمة في تدريب الهذيذ فإنه يبتدىء قليلاً قليلاً يلاحظ الأفهام السرية الكائنة في كلام الله، وفي المزامير وفي بقية الأعمال الجارية حوله، وفي حركات الروح داخله ، و ينظر سفينة حياته تسير إلى قدام يوماً بعد يوم.

86 – أثبت في الصلاة أكثر من المزامير، ولكن لا تبطل المزامير بحجة الهذيذ. فقط أعط فسحة للصلاة أكثر من التلاوة … وفي أثناء قيامك بخدمة سواعي النهار والليل أعط فرصة للصلاة فتجد نفسك بعد قليل من الوقت قد صرت شيئاً آخر. إذا مل الضمير من الهذيذ في المزامير والصلوات ، اشغله في الأخان لئلا يميل منك إلى الطياشة.

88ـــ لا شيء يمنح الضمير حياءً وعفة مثل الحديث مع الله.

89ـ من ابتداء الإنسان بعمل تدبير العقل الذي هو الهذيذ بالإلهيات، وإلى أن يبلغ عمل التدبير الروحاني الذي هو التأمل بالروح والدهش في الله ، هو محتاج إلى التغصب في الصلاة أكثر من كل الأعمال الأخرى.

90ـ إن عمل الفضيلة وتدبير سيرة العقل الخفية ( الهذيذ ) هي تحت سلطة الإرادة وفيها تعب وجهاد ـ وأما الحركة الروحانية ( التأمل بالروح ) فهي ليست موضوعة تحت حرية الإنسان، ولا تقتنى بالتعليم أو التدريب أو عمل الإرادة وإنما هي من عمل الروح القدس.

91- الهذيذ الدائم بالله يؤهلنا للصلاة بلا انقطاع . ومن الصلاة يتحرك القلب للهذيذ بغير فتور في الله .

92– بمداومة الهـذيـذ بالله وسكون الأفكار، يستطيع الضمير أن يتفرس في كل أنواع الصلاة ويكتسب معرفة فاضلة عن الله.

93ـ الصلاة تقرّب العقل إلى الله ، و بالهذيذ يتشجع العقل فيتفرس فيه فيتنق و يتقدس. هذا هو الهذيذ الذي يتسلط على كل الأفكار ويضبطها، فيستضيء العقل بالخفيات الداخلية ومعرفة الله . ومن هنا نستطيع أن نقول : «من يقدر أن يفصلني عن حب المسيح؟ أشدة، أم ضيق، أم اضطهاد، أم جوع ، أم خطر، أم سيف ؟ … إني مصلوب للعالم والعالم مصلوب لي».

94ـ بالحديث مع الله في الصلاة نتقدم لنظرة الملكوت الموضع الذي نحن مزمعون أن نقدم فيه السجود بالروح والحق الذي لا يحده جسد ولا جهة من جهات العالم.

95ـ إنقباض الفكر من الطياشة إنما يكون بالصلاة ، وما سمعنا أن أحداً نال هذا من غير المداومة على الصلاة .

96ـ نحن نـداوم على الصلاة ليقتني عقننا حياء وتعففاً من النظر الدائم في الله والكلام الهادىء معه.

97 ـ حـرارة الصلاة والهذيذ تحرق الآلام والأفكار الشريرة كمثل نار آكلة. هذا النوع من الهذيذ يمنحك أجنحة ويبلغك إلى العقل الروحاني الذي تكون خدمته بالروح وليس بالفم.

98- ليس فقط تكون عندنا الحروب كلا شيء، بل ونزدري أيضاً بالجسد الذي هو سبب القتال. هذا هو تدبير الصلاة وهذه هي منفعة الهذيذ الإلهي.

99ـ أنا أنصحك أن تجلس في هدوء ، وابدأ برفع قلبك في صلاة صامتة! بدون تلاوة محفوظاتك من مزامير أو غيرها و بدون سجود. إذا استطعت أعبر ليلتك بكل وسيلة ممكنة جالساً في هذيذك الحلو ( اختبار الممتقدمين في تدريب السهر).

مار إسحق السرياني

10ــ يدخل الإنسان ( للصلاة ) ويركع ويمتلىء قلبه قوة إلهية، وتفرح نفسه مع الرب كما تفرح العروس مع عريسها حسب قول إشعياء (62: 5) ، ويفرح أيضاً العريس بعروسه … ليس عسيراً على الإنسان الذي ظل طول النهار مشغولاً ( بأعمال العالم) أن يخصص نفسه للصلاة ساعة معينة، يختطف فيها الإنسان الباطن إلى عمق | التعبد في تأمل العالم الآخر الذي لا نهاية له، بحلاوة كثيرة ، فيهدأ عقله و يتغرب ( عن مشاغل العالم ) إذ يرتفع و ينتقل إلى هناك، وحينئذ تمتد سحابة ذهول على أفكاره تحجبه عن الأرضيات وتشغل ذهنه في أمور سماوية لا نهاية لها ، فيدرك أشياء أكيدة عجيبة لا يمكن وصفها بفم إنسان حتى تنحصر صلواته ، وكل ما يقوله وقتئذ ينحصر في معنى « يا ليت نفسي تخرج مع صلاتی » .

أبا مكاريوس الكبير

101- سؤال : هل في كل الأوقات يتعمق الإنسان في هذه الأمور؟

جواب : إن النعمة حاضرة معنا بلا انقطاع وقد تأصلت وامتزجت فينا من أول عمرنا … وقد يصل المرء مع الزمن إلى درجة الكمال، ولكن أحياناً ترتخي النعمة عنه فينزل إلى درجة أسفل مما كان … وأما الغني بالنعمة فلا يبرح في كل حين ليلاً ونهاراً في حال الكمال حراً نقياً مأسوراً دائماً في السمو.

102ـ ثم أن الإنسان الذي انكشفت له هذه الأمور واختبرها إن كان يتصورها قدامه دائماً ، فلا يمكنه أن يحتمل ثقل الكلام بعد ذلك، ولا يطيق أن يسمع أو يهتم بأمر لنفسه أو للغد، بل يجلس نقياً في زاوية ، ثملاً من فرط السمو.

103– إن أحبَّ إنسان ما الرب يسوع وداوم على محبته ، فإن الله لا بد أن يعطي هذه النفس جزاءها.

أبا مكاريوس الكبير

104ــ ربـنـا سـمـى تلاميذه طوباويين إذ قال: «طوبى لعيونكم لأنها تبصر ولآذانكم لأنها تسمع.» (مت 13: 16)

هؤلاء استحقوا التطويب لأنهم نظروا يسوع وآلامه وعجائبه بأعينهم الجسدية وأصغوا لكلماته . نحن نشتهي أن ننظر وأن نسمع ، ولكن هؤلاء رأوه وسمعوه وجهاً لوجه لأنه كان حاضراً معهم بالجسد . والآن هو ليس حاضراً معنا بالجسد ، فنحن نسمع كلماته من الكتب المقدسة ونتقدس بالسمع فنطوب ونـبـجل ونحترم الكتب التي تخبرنا بكلماته، وهكذا بواسطة تصورنا المناظر التي يصفها الكتاب نتفرس بعين الفكر في هيئته الجسدية وفي عجائبه وآلامه ونتقدس ونشبع ونسر ونسعد ! و بوقار نعبد هيئته الجسدية التي يهذ بها فكرنا وتصورنا إذ نكون بعض التصور الجلال لاهوته.

لأنه كما أننا من جسد ونفس ، ونفسنا هذه لا تستطيع الآن أن تقف بمفردها إلا بمؤازرة الجسد الذي تحتجب فيه، كذلك يستحيل أن ندرك الأمور الروحية إلا بالوسائط المادية، كما هو حاصل في حاسة السمع المادية إذ بواسطة سماع كلمات محسوسة ندرك أموراً روحانية غير محسوسة وغير مادية على الإطلاق. كذلك أيضاً بواسطة رؤيا المناظر الجسدية أو تصورها نصل إلى وندرك الأمور الروحانية. إذن، فهذيذ الفكر نافع لرفع القلب بالصلاة وبلوغ مدارك الروحيات، وعلى هذا الأساس أخذ المسيح جسداً مع النفس كما للإنسان، ليظهر للإنسان قوة اللاهوت بالملموسات، والمعمودية كذلك من الماء والروح وكذلك التناول ، وكذلك كل أسرار الكنيسة والصلاة والتسبيح والنور والبخور، في كل هذه تتعاون الماديات لحلول وتثبيت الروحيات.

الأب يوحنا الدمشقي

105 – إذا كان الكتاب المقدس قد استطاع أن يُعرف الله ويصوره بالحروف المادية المقروءة، فهذه الحروف تحمل خلاف شكلها المادي الظاهري معنى آخر روحانياً ومدلولاً سامياً غير مادي . أما هذه المعاني الروحية وهذه المدلولات السامية ، فقد استحق كثيرون من الأطهار أن يطلعوا عليها بالعقل ويعاينوها بعيونهم العقلية ولكنها لم تنكشف للجميع . فنحن نستطيع أن نعمل فكرنا في تصور الأمور حسب أوصافها ومدلولاتها فندركها كأننا رأيناها . وكما أننا نصل إلى معرفة الشيء بالإستدلال والمقارنة كذلك نستخدم كل الحواس لإدراك الأمور التي لم نرها.

ونحن نعرف أنه يستحيل أن نرى الله أو ملاكاً كما هو أو حتى الشيطان أو الأرواح الأخرى ، ولكنهم يتراءون لنا بشكل خاص ، إذ أن العناية الإلهية من أجل ضعفنا تلبس ما هو ليس بمادة، أو حتى شبه مادة صورة هيئة ما، لأجل تعليمنا وتفهيمنا عن قرب، لئلا نمسي في جهل شديد بالله والعالم الروحي ، ولئلا ننفصل إنفصالاً تاماً عن الروحيات. فالله روح نقي بطبيعته ، والملائكة والأرواح بالمقارنة بالله (وهو تبارك اسمه لا يصح مقارنته بأي كائن لأنه هو وحده بلا مقارن) عبارة عن أجسام ، ولكن هذه كلها إذا قورنت بالأجسام المادية فهي ليست بذات جسد.

وإذ لم يشأ الله أن يتركنا في جهل عن الأرواح، ألبسها هيئة وشكلاً ومنظراً مقارباً لطبيعتنا يراه العقل بالرؤية العقلية.

106- العقول الروحية ليست في حاجة إلى الماديات لتصوراتها الروحية؛ أما نحن فإذ لا زلنا ترابيين، فإنما نصل إلى الرؤية والإستعلان الإلهي بواسطة المناظر المدركة بالعقل.

107- القراءة وهذيذ الفكر في معاني الكلمات يهيئان طريقاً للصلاة، ويُعتبران وسيلة صالحة للكف عن الإنشغال بالأمور الباطلة.

غرض القراءة هو أن نصل إلى موضوع يسترعي انتباهذا ويحتفظ بهذا الإنتباه بلا تشتت ؛ أما هذيذ الفكر في معاني الكلمات المقروءة فهو قنطرة العبور من القراءة إلى الصلاة، ثم هو يلازم الصلاة بعد ذلك ليعين الإنسان على الإستمرار في صلاة طويلة . إنه جيد في الصباح أن نعكف بعد الصلاة على القراءة، نقرأ قليلاً لتلتهب ؛ ولكن الحرارة في القراءة ليست هي النهاية المقصودة، ولكن القصد هو أن نصل إلى حالة الصلاة، حينئذ نكف عن القراءة لأن العقل يكون قد كف عن طوافه. 

الأسقف ثيوفان الناسك

108- «وفي ناموسه يهد نهاراً وليلاً.» (مز 1: 2) يفوز الإنسان بسعادة كاملة حينما يتقن الهذيذ غير المنقطع وغير المكروب في ناموس الرب . ربما يعترض على هذا بأنه (أي الهذيذ) يستحيل بالنسبة لضعف البشرية التي تحتاج إلى أوقات للراحة وأخرى للنوم والأكل، والتي يتعذر القيام بفروض الصلاة أثناءها. ولكن كلمات الرسول تؤكد الأمر: «صلوا بلا انقطاع » .

لهذا نرى أن الهذيذ في الشريعة لا يعني قراءة كلماتها أو تلاوتها ، ولكن يتسع معنى الهذيذ فيشمل تتميم أحـكـام الـنـامـوس بالتقوى، ليس بمجرد القراءة ولكن في هذيذ عملي وتدريب على كل واحدة منهـا وتـتـميم للوصية بالأعمال التي نعملها سواء في النهار أو في الليل، كما يقول الرسول : «فإذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شيء لمجد الله » ( 1کو 10: 31) . والطريق التأمين صلاة غير مضطربة لكل رجل تقي لتكون حياته عبارة عن صلاة « أما أنا فصلاة» ، إنما يكون بأعمال مُرضية الله تعمل دائماً نجده.

وحياة مثل هذه تسير حسب الوصية في كل لحظاتها ليلاً ونهاراً ، إنما تصير هذيذاً بالليل والنهار في ناموسه.

الأسقف إيلاري (من بواتييه)

109 ـ ليست هي كثرة كلام أو تركيباً منطقياً ، بل تمجيد منتبه في القلب دائماً في كل موضع وفي كل حين بغير انقطاع ( الهذيذ ).
 أو ذلك النوع الآخر ( التأمل بالروح ) الذي يحدث في القلب بدون هوى (إرادة) بل من الروح ، کشبه ينبوع لا يهدأ جريانه ولا ينقطع قط، وهذا يعطى لراحة القلب، فينعم به على الذين تعبوا في سجود قدام ربهم وقدموا أعمالاً وتمجيداً محتملين في سبيل ذلك آلاماً كثيرة. ومن هذه الصلاة الدائمة ينبع لهؤلاء المتعبين كلام داخلي لا يُعبر عنه ، الذي هو أسرار الله الخفية . أما الذين استأهلوا هذه النعمة فهم أولئك الذين تدربوا في الهذيذ الدائم مع الله بغير حركات ألمية ( بفرح الإرادة) و بقلوب طاهرة نقية. ومن هذا الباب يدخلون إلى الدهش في نور الثالوث الأقدس ـ وطبعاً هذا على درجات ، والدرجات بقدر العمل والنشاط .

الشيخ الروحاني

110- إن كان لسانك يشتغل بكثرة الحركة فقلبك منطفىء من الحركة الطاهرة : أما إذا كان فمك ساكتاً بهدوء فقلبك حينئذ يغلي بحركات الروح .

الشيخ الروحاني

111- سكت لسانك ليتكلم قلبك ( الهذيذ ) : سكت قلبك ليتكلم الروح ( التأمل ).

الشيخ الروحاني

112ـ أدخل إلى بيت كنزك يا ابن الأحرار لتجد ذخائرك . أدخل إلى غرس ابن الصالح لترث ملكوته، لأن عُرسه مستعد لك في داخلك . لماذا تطيش في بلد ليس لك ؟ في بيتك الملكوت ، لماذا تشحذ كسرة خبز كالجالسين في المزابل ؟ فيك مخازن خبز الحياة ، إبحث وابصر في نفسك فترى الملكوت داخلك، قم احمله في حضنك مثل مريم أمه ، قم استنشق من أعضائه رائحة حياة لك، قم اشخص فيه بنظرك في صلاتك ليختلط فيك جماله داخلك فيطهرك وينقيك ويرفعك ويرقيك . ليكن هو مأكلك بلا شبع كما ذاقه داود فترنم بطيبه ، ولا تفرغ من عطشك إليه . ليكن لك ينبوع حلاوة دائم. إن كنت تحزن قليلاً في طلبه فسوف تدوم فرحتك بوجوده. وإن كنت بالضيق والدم تشتهي نظره فسوف يشرق حُسنه بالتهليل داخلك.

113ـ من تخدم؟ لمن تصلي ؟ قدام من تصرخ وتبكي ؟ أليس قدام ذاك الذي به تتحرك وتوجد ! أليس قدام من هو فيك مستريح كما في هيكله ! ولماذا لم تشعر بعد بنعيم وجوده فيك ؟ آه من أجل أنك لم تخلط أعمالك بهمة ولم تداوم قدام الواحد غير المنظور.

قم افتح قلبك للنور لتعاين النور ، إذا جلست أو مشيت مع الطيور فطر في أجواء طهارته ، ومع الأسماك اسبح في بحار عظمته، ، مع شهيق الهواء تنشم رائحة قداسته ، ومع كلامك اخلط تقديس اسمه !

114ــ احمله في حضنك مثل مريم أمه ، ادخل مع المجوس وقرب قرابينك ومع الرعاة بشر بولادته، ومع الملائكة ناد بتسبيحه . خذه من سمعان الشيخ ، واحمله أنت أيضاً على ذراعيك. احمله مع يوسف وانزل به إلى مصر. حين يقوم مع الأطفال اطلبه إليك وقبل شفتيه، واستنشق منه رائحة جسمه المحيي للكل. كن تابعاً لصبوته في جميع أدوار تربيته، لأن هذا يمزج فيك محبته بالتصاقك به دائماً ، فتفوح من جسدك المائت رائحة الحياة التي من جسده . قف معه في الهيكل واسمع كلماته المملوءة حكمة التي خاطب بها الشيوخ حتى انذهلوا من تعليمه. وحين يسأل ويجيب اصغ إليه واعجب الحكمته . قف هناك عند الأردن واستقبله مع يوحنا، وادهش واعجب من تواضعه حين تراه يخفض رأسه ليوحنا ليقبل منه العماد بالماء!

أخرج معه إلى البرية، واصعد معه الجبال ، واجلس هادئاً عند قدميه مع الوحوش التي جاءت لتتأنس بربها. وهناك قم معه لتتعلم الحرب والقتال مع الأعداء .

قف على البئر مع السامرية لتتعلم السجود بالروح والحق ، وارفع الحجر عن لعازر لتتعلم ما هي القيامة من الأموات. قف مع الجموع المحتشدة وخذ لك لقمة من الخمس خبزات لتتعلم بركة الصلاة! إذهب أيقظه من نومه في قاع السفينة حينما تضطرب الأمواج حولك . إبكِ مع مريم و بل رجليه بدموعك فتسمع منه كلمة تسند قلبك ، ضع رأسك مع يوحنا على صدره لتسمع دقات قلبه الذي ينبض بحب العالم كله !!! خذ لك كسرة خبز من الذي بارك عليه وقت العشاء لتتحد بجسده وتثبت معه إلى الأبد.

قم مد رجلك ليغسلها لك لتتطهر من أدناسك وخطاياك . أخرج معه إلى جبل الزيتون لتتعلم منه السجود وانحناء الركب حتى يتصبب عرقك مثله ، قم استقبل معه شاتميك وصالبيك ومد يدك معه للقيود، اهمل وجهك مثله للطم والبصاق ، وعزّ ظهرك لضرب السياط . قم يا أخي، لا تخر، احمل  الصليب فقد حان وقت الرحيل . مد يدك معه للمسامير ولا تمنع رجليك ، اشرب معه المر. 

قم باكراً والظلام باق واذهب إلى القبر لترى القيامة العجيبة . إجلس في العلية وانتظر مجيئه والأبواب مغلقة. إفتح أذنيك لتملأهما كلمات السلام التي خرجت من فمه . هيا مع الباقين إلى مكان منفرد واحن رأسك لتأخذ البركة الأخيرة قبل الصعود !

الشيخ الروحاني

زر الذهاب إلى الأعلى