كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

ما فوق حدود الصلاة

– «لكننا نتكلم بحكمة بين الكاملين، ولكن بحكمة ليست من هذا الدهر ولا من عظماء هذا الدهر الذين يبطلون. بل نتكلم بحكمة الله في سر. الحكمة المكتومة التي سبق الله فعينها قبل الدهور لمجدنا . التي لم يعلمها أحد من عظماء هذا الدهر لأن لو عرفوا لما صلبوا رب المجد . بل كما هو مكتوب ما لم ترعين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على بال إنسان ما أعده الله للذين يحبونه. فأعلنه الله لنا نحن بروحه لأن الروح يفحص كل شيء حق أعماق الله ! لأن من من الناس يعرف أمور الإنسان إلا روح الإنسان الذي فيه ؟ هكذا أيضاً أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله. ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا من الله. التي نتكلم بها أيضاً لا بأقوال تعلمها حكمة إنسانية بل بما يعلمه الروح القدس، قارنين الروحيات بالروحيات ولكن الإنسان الطبيعي لا يقبل ما الروح الله لأنه عنده جهالة! ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحكم فيه روحياً . وأما (الإنسان) الروحي فيحكم في كل شيء وهو لا يُحكّم فيه من أحد لأنه من عرف فكر الرب فيعلمه؟ وأما نحن فلنا فكر المسيح.» ( 1كو 2: 6 – 16).

–  «… جعل نحو البرية وجهه ورفع بلعام عينيه ورأى إسرائيل حالاً حسب أسباطه فكان عليه روح الله فنطق بمثله وقال: وحي بلعام بن بعور وحي الرجل المفتوح العينين وحي الذي يسمع أقوال الله الذي يرى رؤيا القدير مطروحاً وهو مكشوف العينين … أراه ولكن ليس الآن أبصره ولكن ليس قريباً. يبرز كوكب من يعقوب ويقوم قضيب من إسرائيل فيحلم طرفي موآب ويهلك كل بني الوغى.» (عد 24: 1-4 و17)

162 – «جلسنا نتحدث سوياً في لذة واشتياق، نتساءل فيما بيننا عن الحق وعن الحياة الأبدية التي سار إليها القديسون …»

هكذا ابتدأ القديس أوغسطينوس يروي قصة تأمله. وأما جليسه في هذا الحديث فكانت أمه «مونيكا » قبل أن ترحل عن العالم، عندما رجع إليها ابنها بعد حياة غارقة في الشر. وهذه القطعة المختارة من تأملات أوغسطينوس تتدرج بنا حتى تنتهي إلى ما فوق حدود الصلاة في سهولة ويسر.

«کنا نتوق معاً في داخل نفوسنا إلى هذه الينابيع السماوية التي تفيض بالحياة عندك ! نشتهي أن نبلغ إلى مستواها لنحصل ولو على القليل منها … وعندما كنا نصل إلى هذا التوافق في هذه الرغبة الملحة، كانت تتضاءل أمامنا ألذ المسرات بأشهى عروضها حتى تصغر عن أن نقارنها أو حتى نذكرها بجوار سعادة تلك الحياة الأخرى كنا نحلق بشهوة ملتهبة نحو الله ، ونجوز في تحليقنا أجواء وأجواء من عالم الماديات حتى السماء بجلالها بشمسها وقمرها ونجومها، كنا نجوزها بغير عناء ، إذ كنا نشعر في دواخلنا برفعة أخرى غير منظورة … حتى نصل إلى نهاية حدود الفكر ثم نجوزها أيضاً لنصل إلى الرحب اللانهائي حيث جلست (يا الله ) تطعم الأبرار من طعام الحق إلى الأبد . …

حيث الحياة هناك هي الحكمة التي منها وُجدت الأشياء جميعاً ، كل ما كان وكل ما سيكون، أما هذه الحياة في ذاتها (الله) فهي لم تُستحدث قط، فكما كانت هي كائنة وستكون ، لأن ليس فيها ماض ولا مستقبل ، إذ هي حاضرة دائماً لأنها أبدية ….

وكنا في حديثنا الشيّق عنها ( أي عن الحياة أي عن الله) نتلامس معها تلامساً من عمق القلب ولكن في مشقة … فكنا نتنهد إذ نجد أنفسنا وقد أسرتها باكورة ثمار الروح . ثم ننعكف مرة أخرى إلى الحديث، تحدنا كلماته ذات البداية وذات النهاية».

إلى هنا يعرض القديس أوغسطينوس عينة من الإشتياق الملتهب الذي كان يُشعل حياته بالقداسة ويهون عليه كل صعوبة في الطريق. إن هذا الشوق الحار هو الشرارة التي سوف تشعل الجسد والنفس والروح جميعاً، لتجعل من أوغسطينوس قديساً ينير لكل الأجيال بتعاليمه ذات الفلسفة الروحانية من الطراز الأول … نعم فالإشتياق الحق الملتهب للقداسة هو الطريق الوحيد للقداسة.

نعود إلى حديث أوغسطينوس لنرقى معه هذا السلم الروحاني :
«فقلنا لو أن حركات الجسد هدأت ، وخيالا تنا الفكرية هدأت أيضاً من طوافها سواء في البر أو في البحر أو في السماء ، وهدأت النفس إلى ذاتها ودون أن تفكر ابتدأت تسمو فوق ذاتها، فحينئذ لا يكون خيال أو مناظر مما يصنعها الفكر ولا كلام ولا إشارة بل الكل في هدوء وسكوت يسبح خالقه . حينئذ تتسمع الأذن إلى هذا التسبيح الصامت « هو صنعنا وليس نحن الدائم إلى الأبد» . ثم يتكلم (الله) ، ليس بواسطة حواسنا أو تفكيرنا، ولكن يتكلم بذاته، لا بلسان ملاك أو إنسان ولا برعد أو حفيف الريح، ولكن بصوته الذي نحبه ونتوق إليه دون وسيط أيا كان … وفي لحظة وفي طرفة عين نتلامس مع الحكمة الأبدية في الأعالي ! فلو قدر لنا أن نعيش في هذه اللحظة أبداً، بعيدين عن كل مناظر وإحساسات ومجاذبات الأمور المادية في هذا العالم غارقين في بحر هذا السرور، ألا يكون هذا هو الملكوت؟ «ملكوت الله داخلكم» … « أدخل إلى فرح سيدك ! »

هنا يعبر بنا القديس أوغسطينوس على ثلاث درجات متداخلة للوصول إلى التلامس مع الحكمة الإلهية:

أولاً : سكوت الجسد.
ثانياً : سكوت الفكر.
ثالثاً : سكوت النفس .

أما هذا التدرج فليس جزافاً، إنما يستند على نظرية هامة في أنواع الإدراكات التي يدركها الإنسان، والتي ينبني عليها التدرج في المعرفة الروحانية حتى الوصول إلى الدرجة المطلقة التي فيها يعاين الإنسان الله.

و يلخص القديس أوغسطينوس نظريته في الإدراك – مستنداً على اختباراته العملية واختبارات السابقين له ـ في ثلاثة أنواع من الإدراك :
الأول : الإدراك الجسدي:
وهو الذي ندرك به الأشياء الطبيعية بالحواس الجسدية .
الثاني : الإدراك التصوري:
الذي به ندرك الأشياء الطبيعية في غير وجودها ، أي وهي غائبة عنا، سواء كان بالذاكرة أو التصور – سواء كان بإرادتنا أو بإظهار الله إياها لنا ، كرؤية بطرس الرسول للحيوانات المجتمعة في ملاءة مدلاة من السماء.
الثالث: الإدراك العقلي المطلق :
(و يُراد بالمطلق أن لا تتدخل حواس الجسد ولا التصور الفكري أيضاً في إدراك هذه
الرؤية .)

وهو إدراك العقل للحقائق والصفات المطلقة التي ليست لها صورة ما والتي لا يستطيع الخيال والتصور أن يحدها بصورة ما.

ويستخدم القديس أوغسطينوس لتوضيح هذه النظرية المبسطة الآية: «تحب قريبك کنفسك». فعندما تقرأ هذه الحروف المتراصة بجوار بعضها تدركها إدراكاً جسدياً، أي باستعمال النظر أو السمع، وإذا كان قريبك هذا غائباً فإنك تتصوره على صورة ما وهذا هو الإدراك التصوري. أما إذا أمعنت الفكر في الآية فإنك تدرك فيها فكرة مطلقة عن الحب، وهذا هو الإدراك العقلي المطلق.

و يشترك الإدراك الجسدي مع الإدراك التصوري لإدراك الأشياء القابلة للتغيير على وجه العموم، في حين أن الإدراك العقلي لا تُدرك به إلا الأشياء غير القابلة للتغيير على وجه الإطلاق، أي اللانهائية غير المحدودة كالحكمة المطلقة والمعرفة المطلقة والحب المطلق…إلخ.

 وفي اشتراك الإدراكين الجسدي والتصوري لشيء ما هناك احتمال للوقوع في الخطأ، أما الإدراك العقلي فليس فيه احتمال للوقوع في خطأ ما.

أما إذا حدث خطأ فيكون بسبب أن النفس لم تصل وصولاً محققاً إلى الإدراك العقلي النقي الخالي تماماً من الإدراكين الجسدي والتصوري. لأن الإدراك العقلي مختص بمعرفة الحق الكامل المطلق الذي لا يمكن أن يكون فيه «تغيير ولا ظل دوران » ، طالما كان الإدراك إدراكاً عقلياً محضاً.

و يقول القديس أوغسطينوس بوضوح :
[إن الإدراك العقلي لا يحتمل الخطأ على الإطلاق، لأنه إما أن يكون الشخص يرى شيئاً آخر خلاف الحقيقة فهو إذن لا يرى عقلياً ، أو يرى الحقيقة تماماً فيكون الإدراك صادقاً].

أما الأنواع التي يتعرف عليها الإدراك العقلي فهي أولاً طبيعة العقل ذاته ، ثم الفضائل المطلقة في حقيقة جوهرها لا في استعمالها كالحب والفرح والسلام وطول الأناة والحكمة والمعرفة ـ وهذه كلها تمتُ الله بصلة، وأخيراً الله في جوهره . أما هذه كلها فهي تشترك في اللانهائية فلا يحدها إحساس ما أو زمان أو مكان أو شكل ما على الإطلاق. ولا تُدرك إلا بنظرة العقل المتحررة من كل إحساس جسدي أو تصوري، أي نظرة عقلية متصفة بذات صفة هذه الأمور أي اللانهائية .

وهذا يتضح لنا حقيقة اللانهائية وحقيقة إدراك اللانهائيات .

ويزيد القديس مار إسحق على ذلك و يثبت أن نظرة العقل لا يمكن أن تتطهر وتصل إلى الكمال إلا برؤيتها الحق ذاته، أي أن العامل الأساسي للوصول بالعقل إلى درجة النقاوة المطلقة إنما يكون بواسطة رؤيته للحق المطلق ، وبذلك يسهل علينا القديس مار إسحق هذا الأمر عملياً. فهو يرفعه من أيدينا ليضعه في يد الله . فليس أمر الوصول بالعقل إلى درجة النقاوة الكاملة يتوقف على سعينا أو جهادنا وإنما يتوقف على عمل النعم :

163- فكر وافهم أن الفضيلة هي الجسد، والتاوريا ( التأمل الروحاني ) هي النفس. والإثنان يكونان إنساناً روحياً كاملاً متحداً من جزئين : الأول محسوس والآخر معقول. وكما أنه يستحيل على النفس أن يصير لها وجود أو ميلاد بدون تمام تكوين جبلة الجسد ، هكذا والتاور يا أيضاً يستحيل أن تُدرك وتولد في رحم الذهن الذي هو بيت نمو البذرة الروحانية بدون أن يكمل في هذا الذهن كمال تجشم الحق .

مار إسحق السرياني

زر الذهاب إلى الأعلى