كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

الاجتهاد و التغصب

«إن مصارعتنا ليست مع دم ولحم ، بل مع الرؤساء مع السلاطين مع ولاة العالم على ظلمة هذا الدهر، مع أجناد الشر الروحية في السماويات … فاثبتوا … مصلّين بكل صلاة وطلبة كل وقت في الروح وساهرين . » (أف 6: 12 – 18)

إن بركات حياة التأمل لا تظهر في حياة الإنسان كنور البرق الذي يفاجيء أبصارنا وهي شاخصة إليه، وإنما تأخذ مجراها في حياة الإنسان بهدوء غير ملحوظ ، كشروق الشمس التي ينبثق نورها في الفجر ضعيفاً خافتاً ، يشق حجاب الظلمة بهدوء ولكن بقوة. فبينما يصعب عليك أن تحدد بدايته، تجده ينتشر و يزداد و يتعمق حتى يبدد جميع الظلمة المحيطة، وحينئذ تظهر الشمس.

لكي نصل إلى حياة الصلاة المثمرة يلزمنا أن لا ننتظر البركات تهبط علينا فجأة ، بل نحن نأخذ طريقنا إليها بخطوات بطيئة ولكن ثابتة . يلزمنا جهاد منظم طويل، و يلزمنا صبر وتغصب.

يكفينا أن نتقدم، مهما كان هذا التقدم بطيئاً ومهما كانت حلكة الظلام التي تحيط بنا وبإيماننا!! وإن مجرد تقدُّمنا في حياة الصلاة والعِشرة مع الله لهو دليل أكيد أننا واصلون، وأن النور لا بد أن يظهر وإن احتجب عنا طويلاً. وحينئذ يظهر ثمر تعب جهادنا وشدة إيماننا وصبرنا.

أما تغصبنا في جهادنا وعرقنا ودموعنا ومغالبتنا مع شكوكنا، وسيرنا بالرغم من الظلمة التي تحيط بكل شيء فينا ؛ فهو وإن ظهر بمظهر الضعف في أعيننا، إلا أنه في عيني الله غالي القيمة: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو 20: 29) ، « لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه.» (عب 6: 10)

يظن بعض الناس أن طريق حياة العبادة والتأمل والخلوة محفوف بالورود والرياحين. كلا، فالطريق صحراء قفر، لا جمال له فنشتهيه في ذاته ! و يكفي أن المسيح وصفه بأن بابه ضيق ومسلکه شاق وكَرْب . حتى أنك بعد أن تسير فيه تأخذك الرعدة و يدخلك الشك وتقول أحقاً أنا سائر إلى الله ؟ ولكن أين هو ؟ هذه بداية امتحان الطريق الذي تجوزه نفسك بعيداً عن كل معونة من أي إنسان، وخُلواً من أية مسرة روحية أو علامة ، أو حتى كلمة وعد أو تشجيع . بل حتى المنطق ذاته يقف ضدك ، فيُختبر إيمانك خُلواً من العيان.

ومن أجل جفاف هذه البداية ، وبسبب هذا الإمتحان ومنظر الطريق وصعوبته ، رجع الكثيرون إلى الوراء ولم يستطيعوا العبور، وعلى شفاههم حيرة نثنائيل : «أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح » ؟ ( يو 1: 46) … ولكن طوبى للذين ساروا وراء الإيمان، لأنه «إن آمنت ترین مجد الله.» (يو 11: 40)

وحتى الإيمان لن يدوم معك بشدة على طول الطريق، فسوف يخور منك بين الحين والحين، لأنك في الطريق ستطلب مسراتك الأولى، وتعود بقلبك إلى مصر وتشتهي البصل والكرات وتنبري نفسك لك وتو بخك: لماذا أخرجتني إلى البرية لتميتني ؟ مسكينة هي نفسي ونفسك، بل هي غليظة الرقبة جداً لأنها ستطلب لحماً في البرية ! تطلب علامة ولا تجد، تطلب آية في الطريق فلا يُعطى لها.

كثيرون تحيروا جداً فوقفوا يسألون أين نحن ؟ وما هو عملنا في هذا الطريق ؟ وما هي رسالتنا من وراء ذلك ؟ ولكن هذه هي أسئلة الشك وهتاف التقهقر، وهكذا عاد كثيرون من منتصف الطريق لأنهم أرادوا أن يحيوا بالعيان، وطلبوا لأنفسهم معجزة وآية فبرهنوا على خُلوهم من الإيمان ؛ وإذ لم يُجابوا إلى طلبهم انتكصوا على أعقابهم ، وألقوا بأنفسهم في محيط العالم الصاخب ، وانهمكوا بكل قواهم في أعماله الكثيرة، وشغلوا ذواتهم إلى درجة جنونية ، لا لأن الأعمال في نظرهم خيّرة ، ولكن ليهربوا من الحقيقة التي اصطدموا بها ، لأن الرعدة أخذتهم عندما جابهوا السير بالإيمان وحده لا بالعيان. 

لولا موسى على اسرائيل لما ارتحل يوماً واحداً في البرية ! أربعين سنة سار موسى على رجاء الوصول إلى أرض الموعد ، وعلى الإيمان وحده جاهد هذا الجهاد الطويل . ومن وراء هذا الإيمان الجبار استطاع أن يغصب شعباً عنيداً للسير وراءه أربعين سنة في برية قاحلة.

إنه تعوزنا قيادة موسى لأنفسنا لكي نسير بالإيمان ؛ ونغصب ذواتنا على المسير ولو أننا لا نرى شيئاً ؛ ونرتحل في طريق الله ونجاهد مهما طال بنا الجهاد، لأننا واثقون أن في نهاية الطريق قد أعدت لنا أورشليم السمائية كعروس مهيأة لعريسها . أما في الطريق فتكفينا وعوده الصادقة، وتعزياته الخفية ، وصوته الآتى من الأبدية. 

+++

الكلام في هذا الفصل يدور حول الإرادة .

والحديث عن الإرادة، في اللاهوت النسكي ، من أدق وأخطر الأمور. ففي كلمة واحدة يمكن أن ينعكس منهج الإنسان من الجهاد المشروع القانوني إلى جهاد مقلوب خاطىء يودي به إلى عالم التيه والمرض.

ومنذ البداية نبرز أمام القارىء معنى الجهاد والتغصب القانوني السوي الذي يقود إلى المسيح والحياة الأبدية وهو: أن تتجه إرادة الجهاد نحو التسليم المطلق الله ، ويتجه تغصب الإرادة إلى إخضاع النفس لتدبير النعمة مهما كانت الظروف ، بإيمان لا يكل، حتى لا يتبقى للنفس مشيئة خاصة ولا شهوة خاصة إلا أن تكون فقط مطيعة دائماً لصوت الله ووصاياه.

وهنا ينبغي أن نحترس من انحراف الذات أثناء حرارة العبادة حينما تبدأ علامات النجاح وما يتبعها من فرح وسرور ، لأن الذات تميل في هذه اللحظات أن تستزيد من النجاح وتستزيد من السرور فتلجأ إلى الجهد الذاتى لتستحدث به مزيداً من النجاح والفرح ، وهنا النقطة الحرجة التي عندها يتحول الجهاد والتغصب من سيره القانوني السوي إلى جهاد ذاتى مقلوب؛ إذ بدل أن كان الجهاد جهاد خضوع الله وتغصب إرادي للطاعة المطلقة يصبح جهاد اعتماد على الذات وتغصُّب لحساب نمو القدرات الشخصية !! 

وليكن في علم القارىء أن النجاح والفرح الروحي هما بحد ذاتهما عمل الله وليسا من عمل الإنسان قط ! والله يستزيدهما عندما يشاء، وبالقدر الذي يشاء، بسبب من الإنسان أو بدون سبب على السواء!

إذن، فالإجتهاد والتغصب لا ينبغي أن يكون لهما حافز على الإطلاق سوى محبة الله في شخص يسوع المسيح من كل القلب . و يكون التعبير عن . هذا الحب ليس إلا بقشر الذات على طاعة الوصية مهما كان الثمن باهظاً، وإلزام الإرادة والنية للتسليم بتدبير الله مهما كانت النتائج غير مُسرَّة للنفس.

كذلك لا ينبغي أن يكون للإجتهاد والتغصُّب مشجعات حسية من غرور النفس أو مديح الناس، كما لا ينبغي أن يتأثرا بتعيير الناس أو انتقادهم.

أما الهدف الذي يلزم أن نضعه أمامنا بالنسبة للجهاد والتغصب ، فهو الخضوع الكامل لله والتسليم المطلق المسرة مشيئته.

ولتكن هذه الكلمات علامات منيرة على طريق الإجتهاد والتغصب :

أولاً : إحترس من توتر الإرادة لأنه عتيد أن يلقيك في دوامة جهاد ذاتى ، فحينما تنشط الإرادة وتتحمس، أربطها في الحال بطاعة المسيح حتى لا تعمل شيئاً من ذاتك.

ثانياً: أرفض كل إحساس بمسئوليتك عن النجاح والفشل، وحوله في الحال إلى إحساس بمسئولية متابعة العمل بأمانة فقط .

ثالثاً: لا تتطلع إلى ضرورة الحصول على معونة خارجية من القوات غير المنظورة ، لأن المسيح لم يجعلك في نقص من شيء وقد تكفّل لك بكل لوازم المسير. إذن ، فاكتف بقوة المسيح التي معك وجاهد على أساسها . فإذا أتتك معونات وتعزيات من فوق فافرح بها وابتهج ، ولكن لا تجعلها أساس جهادك لئلا يتعطل مسيرك و يتوقف .

رابعاً: الإجتهاد والتغصب اللذان تعيشهما ليسا من أجل حصول شيء لذاتك أو لتقوية إرادتك وعزيمتك أو لمواجهة عدوك ، بل هما في الحقيقة لتتخلى عن ذاتك، وتسلم إرادتك ، ولا تعتمد على عزيمتك، وتختفي خلف المسيح من مواجهة عدوك.

خامساً : بقدر ما ستعتمد على إرادتك ؛ بقدر ما سيضعف إحساسك بمعونة الله . و بقدر ما تقتصر في جهادك على تسليم إرادتك في هدوء الخضوع وعناد المثابرة والتغصب لقبول كل تدبيرات الله ؛ بقدر ما تحس بيقين عمل الله وعنايته وتدبيره الحياتك .

سادساً : لا توقف اجتهادك وتغصُّبك في طاعة وصايا الله مهما كان فشلك ومهما كانت تجاربك، لأن خلف نفسك المنهزمة يقف المسيح وفي يديه إكليل الجهاد . فأنت غير مسئول عن النجاح بل مسئول عن الجهاد .

سابعاً : الجهاد الذي نجاهده والتغصب الذي تمارسه إذا مارسناهما بصحة ؛ فهما قطعاً لا يقدماننا إلى البر ولا يقر باننا إلى الله ، ولكنهما يبعداننا فقط عن ذواتنا و يفصلاننا عن حياة الخطيئة والعصيان .

أما البر، فالله يمنحه مجاناً ؛ وأما القُرب من الله ، فالمسيح هو الذي يضطلع به من ذاته.

والحقيقة التي لا ينبغي أن تغيب عن ذهن القارىء أن الإنسان الذي يعتمد على ذاته وإرادته في جهاده لا يكتشف أن جهاده ذاتى ولا يحس أن اعتماده لا يستند على الله ، فيمضي في مسيره متعلقاً بنفسه متخبطاً يقوم من حفرة ليسقط في أخرى، يلعن نفسه و يلوم مشيئته ويستجمع إرادته لمزيد من المسير والتخبط والحزن والكآبة النفسية، وهو لا يزال يعتقد أنه يستند على الله وأنه يثق به وحده.

والحقيقة عكس ذلك تماماً ، فالمسير في حياة تسليم الإرادة الله لا يكون فيه لوم للإرادة مطلقاً كأنها هي المسئولة عن السقوط والتعثر ! فالسقوط والعثرات لا تنشأ عن ضعف الإرادة بل تنشأ عن قوتها وتدخلها ! وهذا يتضح من كون النصرة والخلاص والبركة لا تنشأ عن قوة الإرادة، بل عن اختفائها وراء النعمة. فعندما تختفي الإرادة وراء النعمة يتقوى الإنسان و يغلب و ينتصر و يتحفظ و ينجح وينمو، وعندما تستيقظ الإرادة وتقتحم المواقف وتثور وتتشدد فالسقوط والعثرات لا يمكن تحاشيها. إذن فالسقوط يكشف عن تصدر الإرادة ونشاطها وتعاليها على النعمة، فإن كنا نلوم إرادتنا ونلعن مشيئتنا ونحزن ونكتئب عندما نعثر ونخطىء فهذا يعني أننا نقر ونعترف أننا نسير بإرادتنا ولسنا خاضعين الله. ثم عندما نحاول بعد السقوط أن نستجمع الإرادة ونقوها ، فكأنما نحن نهيء أنفسنا لسقوط آخر أشد وتمعن في جعل الإرادة مسئولة عن المسيرة الروحانية !

أما إذا كنا نريد أن نتحاشى العثرات والخطايا والسقطات، فعلينا لا أن نلوم إرادتنا ونستحثها على النشاط والقوة، بل علينا أن نفرّط في إرادتنا ونيأس منها نهائياً ونبدأ في الحال في إخضاعها وتسليمها الله بكل عزم تسليماً نهائياً، وهذا يتم بتغليب صوت الله على صوت الذات وإلزام الإرادة بتكميل وصية الله مهما كانت الخسارة أو الإهانة ، ثم إلزامها بالخضوع لإحتمال التعب والمشقة والوقوف والسهر لطاعة كل تعليمات الآباء وتدبيرهم، حتى تخضع الإرادة و ينكسر سلطانها لسلطان الروح القدس وتبدأ تختفي وراء النعمة، وحينئذ ينجح الإنسان .

أما كل عطف على الذات فهو محاولة شيطانية لإحياء إرادتها ومشيئتها الخاصة.

أما كل العثرات التي نعانيها أثناء مسيرنا فهي لا تكشف إلا عن معنى واحد وهو عدم تسليم إرادتنا لله تسليماً مطلقاً؛ وبالتالي تفضح عدم ثقتنا فيه !!

إذن، فمن شأن تعثرنا في الطريق أنه ينبهنا لإعادة النظر في إحكام تسليمنا لإرادتنا وز يادة ثقتنا بالله، مع ضرورة جحد الإرادة الذاتية التي تجرنا إلى تكميل شهوتنا، مع مواصلة التوبة في هدوء وصبر وتجلد.

علماً بأن الأحزان المفرطة التي يستسلم لها الإنسان عند سقوطه في خطيئة أو عثرة، ما هي إلا علامة على الكبرياء وتوقير الذات والظنون بالإرادة فوق ما تستحق، مما يجعل الإنسان يستكثر على نفسه السقوط، ويستعظم إرادته على العثرة، ويظل يتلمس العزاء والراحة في تشجيعات كاذبة من الناس أو من أب الإعتراف لكي يضمد بها كبر ياء نفسه المجروحة!

أما الموقف الصحيح إزاء سقوط الإنسان في أي خطية فهو الإعتراف بالخطيئة ، والإلتجاء في الحال إلى التوبة، ومواصلة الجهاد بتغصب لمتابعة تسليم الإرادة وممارسة إخضاع النفس الله .

أقوال الآباء في الإجتهاد والتغصب :

714 ـ يقول الناس: إذا كنت لا تشعر بميل إلى الصلاة، فالأحسن أن لا تصلي . هذا احتيال وسفسطة جسدانية. لأنك إذا كنت ستصلي فقط حينما يكون لك ميل للصلاة، فأنت لن تصلي قط، لأن ميل الجسد الطبيعي هو ضد الصلاة : « فإني عالم أنه ليس ساكن في أي في جسدي، شيء صالح» (رو 7: 18)، ومعروف أن: «الجسد يشتهي ضد الروح » ! و «ملكوت الله كل واحد يغتصب نفسه إليه» (لو 16: 16) . فأنت لن تستطيع أن تعمل لخلاص نفسك إذا لم تغصب ذاتك.

الأب يوحنا ك .

715- وهل أنت تعمل فقط لخبز الجسد حينما تكون لك رغبة في العمل ذاته؟ ألست تجاهد حتى ولو لم تكن لك رغبة في العمل ؟ إفهم أن أمر غصب النفس على العمل هو أمر هام جداً في الأمور الدنيوية والروحية أيضاً : للصلاة، لقراءة الإنجيل والكتب الروحية النافعة، وحضور الخدمات الإلهية في الكنيسة، للتعليم، للوعظ، لخدمة الكلمة. لا تطع الجسد الكسول الغاش لأنه مملوء خطية: «فإني عالم أنه ليس ساكن في أي في جسدي ، شيء صالح» (رو 7: 18) . والجسد يشتهي أن يرتاح على الدوام غير مكترث بالهلاك الأبدي الذي يكون عوض راحته القليلة الزائلة: «ملكوت الله يُغصب والغاصبون يختطفونه . » (مت 11: 12)

716- لا تتبع راحة الجسد، ولكن صلِّ . وصل بجد واهتمام حتى ولو كنت طول النهار تكد وتتعب . لا تكن مهملاً في الصلاة المقدسة، بل انتصب وقُل صلاتك من قلبك حتى نهايتها ، لأنها واجب عليك نحو الله : « لا أصعد على سرير فراشي ولا أعطي لعيني نوماً ولا لأجفاني نعاساً ولا راحة لصدغي إلى أن أجد موضعاً للرب.» (مز 132)

أما إذا سمحت لنفسك أن تصلي بدون اعتناء وليس من كل قلبك ، فأنت لن تجد راحة في صلاتك أو بعد صلاتك. فإن أردت أن تستريح حقاً فاغسل خطاياك بالدموع أمام الله : « أعوم كل ليلة سريري و بدموعي أبل فراشي.» (مز6)

إذن، فاحترس أن لا تتمدد بجسدك أمام الله ، وتزدري بالصلاة من أجل راحة الجسد.

717 – إذا كنت قد رتبت لنفسك قاعدة ان تقرا عددًا من الصلوات، قصيرة كانت أو طويلة، فتمم قراءتها باعتناء حتى آخر كلمة. إقرأ بكل انتباه وتيقظ، ولا تعمل عمل الله بقلب منقسم فيكون نصفه أمام الله ونصفه الآخر يطوف في العالم. الرب إله غيور ولن يسكت على خداعك ومخاتلتك وإشفاقك على ذاتك، وتقول أنك تصلي وأنت لا تصلي!

فإن تماديت في غشك ، فهو يسلمك ليد الشيطان. وهذا لا يعطيك راحة قط لا في جسدك ولا في نفسك، ويعذبك بلا شفقة لأنك رفضت الراحة الحقيقية والسلام الداخلي وأعرضت عن خلاص نفسك وحجزت قلبك عنه.

واعلم أن كل صلاة تقدمها بلا إخلاص نية، تفصل قلبك عن الله وتجعله ضدك ؛ وكل صلاة تقدمها باهتمام واشتياق، ترفع قلبك نحو الله فتجعلك قريباً منه على الدوام. لأنه ليس شيء يستطيع أن يجعل قلبك قريباً من الله مثل العرق والدموع !

إنه لمؤلم حقاً أن نجعل صلاتنا تكون سبباً في نفور الله منا وحمو غضبه علينا بعدم اكتراثنا وفتورنا، مع أنه يشفق علينا وعلى جهادنا السابق و يرغب على الدوام أن لا نخيب من التصاقنا به بكل قلوبنا وأن تكون من أخصائه.

718- لكي تتحرر من عبودية الشهوات والخطايا وسلطة الشياطين، ضع ملكوت السموات وأورشليم السمائية هدفاً لك؛ ولا تجعل هذا الهدف يغيب عن عينيك مجتهداً أن تحصل عليه مهما كلفك، مستعيناً باسم الرب يسوع. واعلم أن هذا الهدف يحتاج إلى ثلاث وسائل يجب أن تكون ظاهرة في تدبيرك وهي: الإيمان والرجاء والمحبة . والمحبة تكون أعظمها.

هذه الثلاثة إذا تمسكت بها، فإنك سوف تستخف بكل الصعاب والعقبات مهما اشتدت وتكاثرت.

أما إذا لم تكن لك قوة كافية لكي تحتفظ بهذه الكنوز الثلاثة، فعنيك أن تخر عند قدمي الله، وتسأل بلجاجة وشدة وتقرع بابه بكل اجتهاد وسواء كنت جالساً أو ماشياً أو منشغلاً أو على الأكل أو في النوم ، فصلّ حتى يعطي لك إيماناً وحباً : « إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي، اطلبوا تأخذوا ليكون فرحكم كاملاً» (يو 16: 24) . قُل الآن : أنا سأبتدىء أن أفعل هذا من الآن فصاعداً.

719ـ أحياناً تفتقد النفس حركة روحانية حادة تتذوق فيها الله بحرارة وتشتعل بحب الأشياء الإلهية، ثم تعود تفتقدها فتجدها قد بردت وجنّت منك لأن التشويش الحادث من خلطة الناس قد أصابك في موضع ما ، أو لأنك تكون قد فضَّلت بعض الأعمال الجسدية وقدمتها على خدمتك الروحية . إلا أنه على أي حال فالدموع وقرع الرأس على الأرض أثناء الصلاة وانسحاق النفس تسرع مرة أخرى فتسترجع انسیاب تيار الحرارة الروحية الحلو الدافىء في القلب. وفي شغف الفرح الروحي الممدوح يطير القلب وراء الله هاتفاً: «عطشت نفسي إلى الله الحي القوي. متى أجيء وأنظر إلى وجه الله ؟» (مز 42)

كل من تذوق حلاوة هذه الخمر ثم فقدها وحرم منها ، يعرف جيداً أي عذاب وصل إليه ومقدار خسارته التي خسرها بسبب انحلاله.

مار إسحق السرياني

720- الصلاة التي تكون لأداء الواجب فقط خوفاً من الناس تولد النفاق والرياء، وتجعل الإنسان عاجزاً عن أي خدمة تحتاج إلى تأمل روحي وتجعله كسلاناً متباطئاً في كل شيء حتى في تتميم واجباته الجسدية. لذلك وجب على الذين يمارسون مثل هذه العبادة أن يصححوا صلواتهم ويجعلوها بفرح وهمة ونشاط من كل القلب. فلا نصلي للرب فقط حينما نكون مجبرين على ذلك بحكم طقس العبادة أو القوانين المرتبة، بل يجب أن نكون «غير متكاسلين في الإجتهاد حارّين في الروح عابدين الرب. فرحين في الرجاء. صابرين في الضيق. مواظبين على الصلاة» (رو 12: 11) ؛ «وكل واحد كما ينوي بقلبه ليس عن حزن أو اضطرار لأن المعطي المسرور يحبه الله . » (2کو 9: 7)

721- النفس كائن روحاني نشيط ، لا تقدر أن تبقى عاطلة، فإما أن تنشغل في الخير أو تنشغل في الشر، وحينئذ ينمو فيها إما قمح أو زوان .

وبما أن كل خير مصدره الله ووسيلة هذا الخير للحصول عليه هي الصلاة، فالذين ينشطون في الصلاة و يقدمونها بحرارة وإخلاص هم الذين يأخذون نعمة من لدن الله لعمل الخير. أما الذين لم يعرفوا الصلاة بعد أو يقدمونها في تراخ وكسل، فهم لا زالوا محرومين من هذه العطايا الروحية وذلك بمحض إرادتهم . فكما ينموقح الأفكار الصالحة والأعمال الخيرة في قلوب الذين يجاهدون و يغصبون ذواتهم على الصلاة بحرارة ونشاط ، هكذا أيضاً ينمو الشوك والزوان في قلوب المتكاسلين ويخنق كل خير أو صلاح يهبط على قلوبهم سواء من كلمة وعظ أو قراءة في الكتاب أو اشتراك في جسد الرب أو بقية الأسرار المقدسة.

لذلك أصبح واجباً علينا أن نلتفت إلى حقل قلوبنا لئلا ينمو فيه زرع الكسل والتواني والإهمال وما يتبعه من التلذذ بالمآكل والترفه والشح والحسد والبغضة وبقية هذه الأمور المرذولة . نعم يلزم أن ننظف ذواتنا كل يوم ونحرق هذه الأشواك وهذا الزوان بحرارة صلواتنا وتنهداتنا ؛ ونروي زرعنا الصالح بالعرق والدموع كالمطر المبكر والمتأخر.

وعلينا أن لا نقف كسانى حتى ولا ساعة واحدة ، لأن في ساعات غفلتنا وتوانينا يأتي العدو خلسة وبغيرة حادة يرمي بذار الزوان: « وفيما الناس نيام جاء عدوه وزرع زوانا في وسط الحنطة ومضى.» (مت 13: 25)

وعلينا أن نذكر أيضاً أنه يستحيل علينا أن نقوم بالأعمال الصالحة دون جهاد. لأنه منذ أن سقطنا في الخطية بإرادتنا ،وهوانا صار ملكوت السموات ليس سهلاً ، إنما يُغصب بالتعب والغاصبون يختطفونه بشدة ( كما ورد في مت 11: 12).

ولماذا صار الطريق إلى الملكوت والحياة هكذا ضيقاً وكرباً وتعباً ؟ ألم يكن بسبب اضطهاد العالم وجوره على المختارين؟ « في العالم سيكون لكم ضيق » (يو 16: 33) ، « أنا اخترتكم من العالم لذلك يبغضكم العالم.» (يو 15: 19)

وأيضاً بسبب ظلم الشيطان الذي لا يكف عن قتالهم والشكاية ضدهم، إلا أنهم يغلبونه باجتهادهم وصبرهم إلى الموت: «قد طرح المشتكي على إخوتنا الذي كان يشتكي عليهم أمام إلهنا نهاراً وليلاً، ، وهم غلبوه بدم الخروف وبكلمة شهادتهم ولم يحبوا حياتهم حتى الموت . » (رؤ 12: 11)

وأيضاً : بسبب الجسد الذي يشتهي ضد الروح ولكني أرى ناموساً آخر في أعضائي يحارب ناموس ذهني و يسبيني إلى ناموس الخطية الكائن في أعضائي. ويحي أنا الإنسان الشقي من ينقذني من جسد هذا الموت ! » (رو 7: 23و 24)

هذه الثلاثة تجعل الطريق ضيقاً وكرباً والمسير فيه بالجهد والتعب.

722 – يقول الفلاسفة إن الإنسان حُر بطبعه . ولا يصح أن يُرغم أو يُغصب على شيء حتى يكون عمله مثمراً. لكن هذا قول خاطيء وانحراف إلى الفساد، فإن لم نغصب أنفسنا ، فأي خيريتسنى لبشريتنا أن تأتيه إلا الكبرياء والحسد والغضب والميل الجارف نحو الشهوات والخطايا؟

ولا سيما الأطفال والصبيان، فإذا كنا لا نغصبهم ونجيرهم على التعليم والصلاة ماذا يكون منهم إلا البطالة والتشرد والتفنن في معرفة الشر!

723ـ يلزمنا كثيراً أن نغصب ذواتنا دواماً للحق والفضيلة . وحينما نصلي يجب أن نغصب ذواتنا كل لحظة لننطق كل كلمة بصحو وشدة من شعور القلب . وعندما نهمل في الصلاة تصبح بلا شك ضرباً من الرياء والغش وتخلو من روح العبادة والتقوى .

واعلم أنه إذا استمالتنا كلمات الصلاة واستحوذت على انتباهنا فحينئذ سوف تستميل قلب الله . و . وإن لم تسترع ) انتباهنا نحن، فكيف تسترعي انتباه الله ؟ لأن الله يعطينا حسب إيماننا وغيرتنا وحبنا وشعور قلبنا الداخلي ( مز 20: 24)، فكلما كان القلب صادقاً في شعوره كلما صارت الصلاة مستحقة القبول والإستجابة.

724- إن من يـتـلـو صلواته بتسرع وهو مغلوب من كسله ونعاس جسده، دون أن يتفهم معاني الكلمات في قلبه و يتحسس روحها بمشاعره ووجدانه لا يخدم الله البتة بل يرضي نفسه و يسكت ضمیره.

هذه ليست صلاة لكنها ضرب من الكذب ومخاتلة الله : «الله روح والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.» (يو 4: 24)

فمهما كان جسدك ضعيفاً متكاسلاً ، ومهما كانت تيارات النعاس شديدة وقد سرت في جسدك كله وأخذت ترخي أعضاءه عضواً بعد الآخر، فإن هنا وقت الشهادة ، قم انفض غبار الكسل وانزع نوم الغفلة، وجاهد نفسك حتى تغلبها، ولا تشفق عليها. ومن أجل حبك الله أرفض ذاتك واجحدها وتقدم للصلاة بقلب شجاع ونفس حارة.

725- لماذا صارت الصلاة المستمرة لازمة ؟ أليس لكي بهذه الصلوات الطويلة الحارة نلهب قلوبنا الباردة التي نقشت من طول البطالة؟

ليس بالهين على الـقـلـب الـذي تقسى بأباطيل العالم طويلاً، أن تسري فيه بسرعة حرارة الإيمان وحب الله بمجرد الوقوف في الصلاة بل يلزمه اجتهاد و تغصب ،وزمان لهذا قيل إن ملكوت السموات يُغصب. وملكوت السموات لا يأتى سريعاً في القلب إذا كنا نحن غير مشتاقين إليه، بل كثيراً ما نلقيه عنا بميلنا للكسل ونفر منه بإرادتنا .

والرب نفسه علَّمنا ألا تكون صلواتنا قصيرة بإعطائنا مثل الأرملة الملحة، التي لم تفتر عن الذهاب للقاضي كل يوم وتزعجه بطلبتها ( لو 18: 2- 6) ؛ وهكذا الله يضيق علينا و يسمح بتجربتنا وظلمنا حتى نتحول من العالم إليه ونسأله : «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم .» (مت ۲۸:۱۱)

الأب يوحنا ك .

726ـ الإنسان الذي يرغب أن يأتى إلى الرب و يوجد مستحقاً للحياة الأبدية، عليه أن يداوم باستمرار على الصلاة، ويغصب ذاته على الإتضاع، واضعاً في نفسه أنه أقل وأحقر الناس جميعاً. وكل ما يغصب نفسه لأجله و يعمله وهو متألم بقلب نافر غير راض سوف يأتى عليه يوم يعمله برضى وقبول ، وبذلك يدرب الإنسان نفسه على حياة الصلاح والإهتمام بالرب. وحينما يرى الرب نية الإنسان واجتهاده، وكيف يغصب ذاته لذكره وعبادته ، وكيف يرغم قلبه، سواء رضي أو لم يرض، على عمل الخير والتواضع والوداعة والصدقة ، وكيف يبذل كل ما في وسعه فإن الرب يتحنن عليه و يُظهر له رحمته، ويخلّصه من أعدائه ومن سلطان الخطية، ويملأه من الروح القدس؛ وحينئذ يتمم ) وصايا الرب دون تغصب وإجهاد ، لأن الرب الساكن فيه هو يكون العامل فيه، وبذلك يثمر ثمار الروح بطهارة.

 727ـ يجب على الإنسان أن يغصب ذاته على كل ما هو صالح ، ولو كان رغماً عن ميول قلبه، مترقباً الرحمة من الله بإيمان غير مرتاب. فيغصب نفسه على الصدقة عندما يكون فقيراً في العطاء؛ ويغصب نفسه على الوداعة وعلى الشفقة وعلى اقتناء قلب نفسه قد جنحت إلى التسلط ويغصب نفسه على أن يكون حقيراً مرذولاً في أعين الناس، فعندما يُحتقر و يُرذل يحتمل بصبر، وعندما يُزدری به فلا يغضب؛ و يغصب نفسه على الصلاة عندما يجد نفسه فارغة من ثمارها، فعندما یری الله جهاده وتغصبه يعطيه الصلاة الروحانية الحقيقية التي بلا تغصب (روح التأمل)، ويمنحه نفساً محسنة وديعة رحيمة : ( أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً و وداعةً وطول أناة . » (كو3: 12) 

728- وإذا غصب الإنسان نفسه على الصلاة فقط طالباً ثمراتها ومواهبها، ولم يغصب نفسه على الفضائل الأخرى كالوداعة والتواضع والرحمة، ولم يجهد نفسه للإشتراك في حمل مشقات بقية الوصايا للتقدم فيها بمقدار ما تسمح به النية وتمتد إليه الإرادة، يُعطى نعمة الصلاة فعلاً مع جزء من الإنتعاش وفرح الروح حسب سؤاله ، إلا أن سيره وسلوكه يظلان كما كانا ، فيبقى بلا وداعة لأنه لم يطلبها أو يفتش عليها أو يجاهد و يعد نفسه لقبولها ؛ كذلك يبقى بلا ثمار التواضع الجميلة لأنه لم يطلبها ولم يغصب نفسه عليها ؛ ولم يشترك في أتعاب الآخرين لأنه فقد روح الرحمة ؛ وفي القيام بأعماله لا تجد عنده إيماناً أو ثقة بالرب، لأنه لم يعرف نفسه ولم يكتشف أنه عديم الإيمان والثقة. 

729 ــ حينما يـغـصـب الإنسان نفسه هكذا على كل الفضائل، ويلح في طلب وسؤال كل ما هو صالح الخلاص نفسه، ويثبت سؤاله بأعماله وجهاداته، فإن الرب يعطيه روحه ليعمل بها، ويكمل كل صلاح وبدون عناء وتغصب يعمل الفضائل التي كان يتممها قبلاً بكل جهد وتغصب. وتحل عليه الحكمة الروحانية ومعرفة الحق وتصير كطبيعة له، لأن الله يكون ساكناً فيه.

هكذا وجب على الإنسان أن : ء قلبه لعمل الله بكل قوته وقدرته ، و يقدم أفخر ما فيه ليحل الله في داخله. وما لم يُعدَّ الإنسان نفسه ويزينها بالفضائل، يُحرم من ثمار النعمة وعملها حتى وإن حلت عليه، لأنه يفقدها سريعاً و يسقط بسبها ، لكونه لم يسلّم نفسه إلى وصايا الرب بعزم القلب. إذ أن سكنى الروح وراحته يكون في المتواضع الوديع المتمم لكل الوصايا.

ليس بالأمر الهين أن تقتني قلباً نقياً ! إذ أن ذلك يحتاج إلى جهاد كثير ومشقة عظيمة، بالصلاة والطلبة، حتى يُؤهل الإنسان إلى نقاوة القلب ويُستأصل منه الشر تماماً. وهكذا بقية الفضائل.

أبا مكاريوس الكبير

730- تعلم كيف تصلّي واغصب ذاتك على الصلاة. في البداءة سيكون الأمر لديك شاقاً، ولكن بعدئذ كلما غصبت نفسك صار سهلاً لديك أن تصلي. كل شيء في بدايته يحتاج إلى أن يغصب الإنسان نفسه عليه.

الأب يوحنا ك .

نصيب النعمة الإلهية في الإجتهاد البشري :

731 ـ «الذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص » :

لأن إرادة الله أن لا تكون النعمة وحدها هيا العاملة فينا و بنا بل نكون مشتركين بنصيبنا في الأعمال الصالحة. لاحظ مثلاً كيف كان سلوك السيد مع تلاميذه: وضع عليهم وصايا ليتمموها، ليتم بذلك عمل النعمة. فعمل العجائب كان عليه ،هو أما الوصية التي كان عليهم أن يتمموها لتتم المعجزات فهي عدم الإهتمام بشيء ، وفتح بيوت الناس أمام وجوههم كان من عمل النعمة العليا، ولكن عدم حمل شيء أكثر من الحاجة كان من عمل إنكارهم لذواتهم، ومنحهم السلام والشفاء للناس كان من عمل النعمة، أما السؤال عن المحتاج وعدم الدخول قبل فحص من هو المستحق، فكان من الأوامر التي عليهم أن يتمموها.

وعقاب من يرفضون استقبالهم كان متروكاً لله ، وانسحابهم بلطف ووداعة من أمام وجوههم دون التعرض هم أو إهانتهم كان من الواجبات التي عليهم.

كان عليهم أن يحتملوا الطرد والإهانة ولا ييأسوا البتة، وخلاصهم ومعونتهم السريعة في حينها كان على من أرسلهم.

يوحنا ذهبي الفم

732 ـ بعد حلول النعمة تصير النفس بلا هم أو اضطراب، إلا أن الله لا يزال يطلب من النفس ن تُظهر إرادتها ومشيئتها نحو الصلاح حتى بعد بلوغها حد الكمال لتكون باتفاق تام مع الروح “وجدت قلبه حسب قلبي”.

733- بالإيمان ينال الإنسان نعمة ، و يكون أهلاً لدخول الملكوت، إلا أنه من الناحية الأخرى عليه أن يحافظ على روح النعمة و يكون موافقاً له في كل أعماله، فلا يأتى عملاً ردياً أو يهمل عملاً من أعمال الله . فإذا داوم على ذلك ولم يحزن الروح داخله بعمل ما يوافقه، يُمكن عملياً من الدخول إلى ملكوت السموات.

وكما يشعر الإنسان و يدرك دنس أعمال الشر إن كان من جهة شهوة ردية أو غضب أو حسد أو غيرة أو فكر شرير، فكذلك يجب أن يشعر و يدرك قوة نعمة الله التي تحل على الإنسان بعمل الفضائل، وهذا يتشبه ويختلط بالطبيعة الإلهية الصالحة وبأعمال القداسة التي من فعل النعمة.

وعندما تُختبر إرادة الإنسان تدريجياً على مدى الزمان باختبارات متنوعة، فإن كانت على الدوام حسب درجة النعمة المعطاة وموضوع رضى ومسرة الروح القدس، تزداد النعمة فاعلية في الإنسان حتى تشمل الإنسان بجملته، وتصبغه حسب قياس القداسة والطهارة التي تليق بقامته الروحية، وتجعله لائقاً الملكوت الله، الذي له الشبح والمجد إلى الأبد آمين.

734- لقد جعل الله كل مقاومة الشيطان في حدود استطاعة إرادة الإنسان وحريته، ولكن لم يُعط الإنسان قوة كاملة يستطيع أن يسيطر بها على كل انفعالاته النفسية وشهواته ، لذلك قال: «إن لم يبن الرب البيت فباطلاً يتعب البناؤون وإن لم يحفظ الرب المدينة فباطلاً يسهر الحارسون.» (مز 127: 1)

735 – إنها تشبه الكتابة على صفحة الكتاب . تكتب ثم إذ ترى أنك لا تعني ما تكتبه تماماً فتمحوه وتكتب ثانياً ، أما الكتاب فعليه أن يقبل أي نوع من الكتابة، هكذا تسليم الإرادة الله. فالله يغيرنا إلى ما هو حسن في عينيه، ولكي يرينا رحمته المتسعة فتح بابه لكل الساعين إليه من كل خلق ومن كل أمة.

لما أرسل الرب تلاميذه أعطاهم قوة الشفاء، فشفوا بعضاً من الناس و بعضاً لم يستطيعوا أن يشفوهم أنهم كانوا يتمنون أن يشفوا الجميع، ولكن الله لم يسمح لهم بكل ما أرادوا.

 كذلك بولس الرسول لما دلُّوه في زنبيل من سور مدينة دمشق ليهرب من وجه الحارث ملك الدمشقيين، كان ممكناً – لو شاءت النعمة التي معه –  أن تجعل الحائط ينشق ويجوز، وهو رجل الروح القدس. كل هذه الأمور حدثت بعناية الله حتى يظهروا في بعض الأمور أقوياء أصحاب قوات ومعجزات، وفي بعض الأمور ضعفاء بلا قوة حتى يكون هناك مجال لعمل الإيمان في الناس، وحتى تختبر وتُستعلن حرية الإرادة: هل كان هناك من سيعثر و يضعف و يغتاظ بسبب جزئهم الأضعف؟

أما إذا أمكن للرسل أن يصنعوا كل ما أرادوا لصار الناس – وحرية إرادتهم ـ في خدمة الرب بالقوة الإجبارية، ولغطت القوة الإعجازية قوة الإيمان وانساق الناس إلى المسيحية بسبب المعجزات وليس بسبب الإيمان ولكن المسيحية هي هي عثرة وصخرة شك !! ( رو 9: 33)، ولكن الذي يؤمن به لا يخزى.

736- أحياناً يقوى علينا جانب الشر ( بسماح من الله ) ، وتثب علينا الأفكار بشدة، وفي أخرى تكون ثقة الإنسان وعزمه أكثر من قائد منتصر يستمد العون والنجاة من الله و يقاوم الشر بقوة. وهكذا يسمح الله أن نكون في ناحية مغلوبين وفي أخرى غالبين، حيناً ضعفاء وحيناً نتقدم إلى الله بغيرة وحرارة ملتهبة. والشيطان يعلم ذلك ولا يتجاسر أن يقترب من الإنسان في هذه الأوقات لأنه يعلم أنه لا يقوى عليه . ولماذا ؟ لأن الإرادة تكون حاضرة عنده مشدّدة بالنعمة ، وقد تكاثرت عنده : ذلك قوة الإيمان والحب.

يحرث الفلاح الأرض ثم ينتظر الندى والأمطار من فوق ، فإذا لم يأتِ الماء من فوق يصير الكرم بلا ثمرة ويصبح الكرام بلا مكسب من فلاحته . هكذا أيضاً في الروحيات يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادة وعزيمة ، لأن الله يطالب كل إنسان بكده واجتهاده وعمل يديه، ولكن إذا لم تدركه نعمة الله من فوق ، و يشرف عليه سحاب جوده وتحننه ، يبقى بلا ثمرة من جهاده.

737- يحرث الفلاح ويجتهد ويضع بذاره في الأرض ثم يقف منتظراً المطر من فوق. فإذا لم تظهر السحب وتهب الرياح والعواصف ، يصير جهاد الفلاح وعمله بلا فائدة، وتبقى البذور عارية لطيور السماء لتلتقطها، هكذا الإنسان المتكل على عمله الذي لا ينظر إلى فوق بل يكتفي بعمل يديه، فمهما كان جهاده وصلاته وتقشفه و بعده عن الماديات ومحبته للإخوة الغرباء، فإنه لا يأخذ ثمار جهاده وحبه إذا لم يشرق عليه غنى الله وعمل النعمة ويهب عليه الروح القدس و يتساقط عليه ندى رحمة الله.

738- مكتوب أن الكرام عندما يرى غصناً حاملاً ثمراً فإنه ينقيه ليأتي بثمر أكثر، وعندما يرى آخر غير مثمر فإنه يقطعه ويلقيه في النار ( يو 15: 2). هذا هو نصيب الإنسان، كفرع في الكرمة يقدم صلواته وأسهاره وأصوامه ومحبته وغربته عن العالم لا كأنها صادرة منه ، بل من الله أصل كل الخيرات والفضائل وليقل :هكذا : لولا أن الرب أعانني ما كنت صليت أو سهرت أو صمت أو خرجت من العالم. ولا يفتخر في نفسه بجهاده بل ينسب كل شيء إلى أصله . لذا حينما يرى الله غرض الإنسان وأنه لا يود ينسب شيئاً إلى ذاته بل ينسب كل عمل حريته وإرادته إلى الله ، فإنه يمنحه أشياء فوق إرادته وفوق استطاعته : فرحاً في الروح وسلاماً في القلب.

739ـ لو كان النجاح ممكناً بدون مجهود لما كانت المسيحية صخرة شك وحجر عثرة للذين لا يجاهدون، ولأمكن أن نجعل من الإنسان مخلوقاً عاجزاً غير قادر أن يميل إلى الخير أو إلى الشر. لأن الناموس والوصية قد أعطيا للإنسان الذي له حرية الإرادة أن يميل إلى الخير أو إلى الشر، وله سلطة أن يقيم حرباً على ما يخالف إرادته.

الوصية والناموس لم يوضعا للخليقة العاجزة المفتقرة إلى الحرية. فالشمس والقمر والسماء والأرض لا تُدعى للسير في غير ما حُدّد لها ، لأنها من طبيعة محكومة بالعوز، ولهذا لا تقع تحت عقاب أو ثواب . إنما العقاب والثواب قد وُضِعا لمن يستطيع أن يميل بحرية إرادته إلى الخير فيمجد، أو إلى الشر فيُعاقب . لذلك جعل الملكوت ثواباً . عقاباً للطبيعة القابلة للتبديل القادرة أن تهرب من الشر أو تمرق من وجهنم الخير.

وإن قلت أن الإنسان ليست له طبيعة متغيرة ، يكون من يعمل الصلاح غير مستحق بعد للمديح أو الثواب مهما كان عمله جيداً .

740 – الرب يعمل مع الإنسان في أرض النفس. أما الأشواك التي يبذرها الشرير فهي تنمو، ولكن حينما تكثر النعمة تذوبها وتلفحها شمس البر.

 741 – « إن كنتُ أتكلم بألسنة الناس والملائكة … وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم ؛ وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، وإن أطعمت كل أموالي وإن سلَّمتُ جسدي حتى أحترق، ولكن ليس لي محبة ، فلا أنتفع شيئاً.» ( 1كو 13: 1 – 3)

هذه المواهب تُقدَّم فقط كمشوقات ودواعي للدخول في الإيمان والذين يكتفون بها لا تنفعهم شيئاً كنص الآية. كثيرون من الإخوة وصلوا إلى ذلك القياس فأخذوا مواهب شفاء واستعلاناً ونبوة، ولكونهم لم يصلوا إلى الحب الكامل أي الله الذي هو رباط الكمال (كو 3: 14) باغتتهم الحرب، وإذ لم يحترسوا سقطوا !! ولكن إذا وصل أحد إلى الحب الكامل فهو يكون موثوق الرباط بالله وأسير النعمة.

فكل اجتهاد وكل بلوغ لم يكمل ولم يُكلَّل بعد برباط الحب ، يبقى معرضاً للخوف والحرب والسقوط والزوال. وإذا لم يأخذ صاحبه الحذر البالغ فإن الشيطان يباغته و يصرعه.

أبا مكاريوس الكبير

742 – الملل عدو الصلاة إذا وقفت يصارعك لتجلس ؛ وإذا جلست يصارعك لتتكيء ؛ وإذا اتكأت يصارعك لتنام. أما ثمرة الملل المرة فهو التنقل من مكان إلى مكان، وعصيان أوامر الرؤساء والآباء.

743 – إذا قدمت المائدة يهرب الضجر ، وإذا حانت الصلاة يحلُّ على الجسم. وإذا وقف الإنسان في الصلاة أغرقه في النوم أو أطلق عليه التثاؤب في غير وقته، ويأمرك بالإستناد على الحائط. وإذا ما انتهت الصلاة تنفتح العيون و يعود النشاط وتسرع الرجلان.

الأب يوحنا الدرجي

744 – إسهر بغير ضجر، لأن الله يحب سهراً بفرح؛ وكل ما يكون بفرح فله ثمرة، أما العمل الذي بالضجر ما يكون له أجر بل دينونة.

يوحنا ذهبي الفم

745 – تسقط في الأحزان كل نفس ذليلة قليلة الثقة بالله مثل السوس الذي لا يصيب إلا اللين من الخشب، كذلك الأحزان لا تقوى إلا على المسترخين من الناس.

746 ـ قال ربنا يسوع المسيح : « إن الأجير مستحق أجرته » ؛ والرسول يأمرنا أن نتعب ونعمل بأيدينا . فيجب أن لا نفكر أن عبادة الله صارت لنا حجة في الكسل وسبباً لنهرب من التعب، بل علينا أن نجاهد لنقول مع الرسول أنه بأتعاب كثيرة مرات عديدة وأصوام وأسهار وجوع وعطش. هذا نافع لنا كثيراً ليس لكي نقمع الجسد ونستعبده فقط بل أيضاً لنعطي المحتاجين. وكما قال الرسول: «من لا يريد أن يعمل لا يأكل» ، وقال أيضاً: «أنا لم آكل خبزي مجاناً بل بتعب الليل والنهار» ، مع أنه كان له السلطان أن يعيش من تقدمات الناس. 

والرب نفسه قرن الخبث بالكسل إذ قال : « العبد الخبيث الكسلان».

وسليمان الحكيم وضع النملة أرفع مكاناً من الكسلان، إذ قال: «إمض إلى النملة أيها الكسلان وانظر كيف تتعب وتعمل » .

والله سيطالب كل واحد منا يوم الدينونة بعمله وجهاده بمقدار القوة التي أعطاها له ، فمن أعطي كثيراً سيُطالب بجهاد أكثر، وهذا ظاهر من مطالبة العبد الشرير الكسلان الذي أعطي وزنة فكسل عنها وطمرها وذهب ونام.

باسيليوس الكبير

747 – روح الحزن المفسد يُظلم النفس ويحرمها من رؤية الله ويمنعها من كل صلاح. هذا الروح الشرير إذا ملك على النفس واستحوذ على الإرادة لا يجعلها تصلّي بفرح روحاني، ولا يدعها تثابر على قراءة الكتب باجتهاد لئلا تعثر على مفتاح النور فتخرج من فخ الظلمة المخيم عليها.

ويصير الإنسان متكاسلاً في كل عمل مبغضاً للعبادة والصلاة، مسلوب الإرادة من رجاء الخلاص، ويهدم كل ما فيه من اشتياق نحو الحياة الأبدية حتى أنه يقيده بقيود اليأس من رحمة الله.

لذلك وجب أن نسهر ونجاهد ضد روح الحزن المفسد لأنه كما تأكل العثة الثوب فيتهراً، وتأكل الدودة العود الأخضر فييبس؛ هكذا هذا الروح المفسد يضعف النفس ويجعلها جافة لا تقبل كلمة نصيحة أو مشورة من إنسان أو تجيب بكلمة هادئة وديعة ، بل يملأها مرارة وضجراً وحسداً، ويشير على النفس أن تفر من الناس لزعمها أنهم . سبب قلقها وأتعابها . وهو لا يترك النفس البائسة لتعرف أن سبب شقاوتها و بلوتها ليس هو من الخارج بل من الداخل، لأنه واضح أن الإنسان لا يتوجع من آخر إلا بسبب مرض النفس المختفي في أعماقها ، لذلك قال :السيد «نظف أولاً داخل الكأس» .

748 – أما روح الضجر فهو زميل روح الحزن المفسد وهو متولد منه ، و يأتي على الإنسان بكسل و تراخ و بغضة للمكان الجالس فيه ، وحتى للأشخاص الذين يسكن معهم ولكل عمل كان ، وحتى لقراءة الكتاب المقدس، ويلح عليه هذا الروح بترك موضعه والإنصراف ، و يشير عليه أنه إن لم ينتقل من موضعه فباطلاً يكون تعبه . وليس من علاج لذلك إلا بتعود الكفّ عن كلام البطالة والمزاح، والمثابرة على الصلاة والعمل . لهذا كان الآباء القديسون المجرَّبون في البرية لا يسمحون للرهبان أصلاً أن يتركوا عنهم العمل وشغل اليدين صيفاً وشتاء، وخاصة الشباب لأنهم جربوا أن مواظبة العمل تطرد عنهم الكسل وروح الضجر.

ولم يعملوا كفافهم فقط بل كانوا يستفضلون من أعمالهم و يعطون الغرباء والمحتاجين و يتعاهدون الذين في السجون ؛ وكانوا يعتقدون أن عطيتهم للآخرين تُعتبر ذبيحة مقدسة ترضي الله . فمن يعمل يقاتله شيطان واحد والكسلان تقاتله شياطين كثيرة.

وقد قال لي مرة أنبا موسى الأسود الرجل المجرَّب، حال جلوسي معه في البرية، حينما أخبرته أني مرة تأذيت جداً من شيطان الضجر ولم أفلت منه حتى ذهبت إلى أنبا بولس، فأجابني أنبا موسى قائلاً : ثق أنك لم تفلت منه ولكنك أسلمت نفسك إليه أكثر وأطعته ! واعلم أنه من الآن سيقاتلك قتالاً أشد وأثقل إن لم تحرص، فلا تطعه بمبارحة مكانك وقاتله بالصبر والصلاة وعمل اليدين مع طلب معونة الله.

الأب يوحنا كاسيان

749 ـ قبل كل شيء إعلم أنه لن يُتوّج أحد إذا لم يجاهد قانونياً، كما قال بولس الرسول. وكل واحد لا يجاهد حسب ناموس السيرة التي اختارها لنفسه فإنه لن يُتوّج فينبغي لمن تقدم إلى الطريق الروحاني أن يغصب نفسه في كل تدبير يقدمه إلى الله ، إن كان صوماً أو صلاة أو بقية الفضائل.

واعلم أيها التلميذ المتتلمذ للحق أنك لا تستطيع أن تثبت في الأمور الإلهية إذا لم تغصب نفسك عليها كل وقت.

750 – بقدر ما يشقى الإنسان ويجاهد و يغصب نفسه من أجل الله، بقدر ما تُرسل إليه معونة إلهية وتحيط به وتُسهل عليه جهاده وتصلح الطريق قدامه.

751 ـ إذا كنت تسأل : إلى أي حد أغصب ذاتى، أقول لك إلى حد الموت اغصب نفسك من أجل الله.

إغصب نفسك في صلاة الليل وزدها مزاميراً ، ولو مزموراً واحداً وسجوداً قليلاً زائداً عن العادة، فإن نفسك تنتعش وتدنو منك معونة الله وتُؤهَّل لحفظ الملائكة.

إغصب نفسك في عمل المطانيات لأنه محرّك للحزن في الصلاة.

إغصب نفسك في هذيذ المزامير ( أي التفكر فيها بعد تلاوتها).

إذا حان وقت الصلاة فاغصب نفسك وقم لتشترك في الخدمة والق عنك ثقل الجسد الذي يدعوك للتخلف عن العبادة.

إغصب نفسك على الصلاة قبل مواعيدها لتخف عليك.

صل بطول روح وتأنَّى في المزامير بصبر و بر وتجلد بدون ضجر، ولا تتلوها كمضغوط.

إغصب نفسك في الليل أن تقوم وتسجد قدام الصليب ولو أن النوم يكون ثقيلاً عليك والجسد يؤخرك . هذا هو الوقت المقبول وهذه هي ساعة المعونة .

752 – إحذر أن تُبطل شيئاً من خدمة الأوقات ( أي السبع صلوات التي بالإجبية) . إتعب جسدك بالصلاة حتى تُؤهّل لحفظ الملائكة وحتى يتقدس سريرك من عرق الصلاة، وبغير تعب في الصلاة لا تنم.

ولا تصدق يا أخي أنه من دون الأعمال والجهاد ينعتق الإنسان من الخطايا أو تعطى له المواهب. واعلم أن الملائكة سوف تشهد في تلك الساعة بمقدار تعبك وضيقتك وشقاك لأجل بغضتك للخطية وجحودك لها.

753 ـ صدّقني يا أخي أن الملل والضجر وثقل الأعضاء والتكدر وتعب الفكر و بقية أسباب الحزن التي يسوقها عدو الخير على النساك ، تُحسب لهم عملاً إلهياً . ولو يبقى الإنسان مضغوطاً بها فيصبر ويحتمل ولا يخضع لها ، تُحسب له ذبيحة نقية وعملاً إلهياً ما خلا فكر العظمة والكبرياء.

754 – صل أن لا تدخل التجارب النفسية . فأما تجارب الجسد فهييء نفسك لها بكل قوتك وشجاعتك. لأنك لا تستطيع أن تقترب من الله وتستحق رحمته إلا بها. سيدنا أوصانا أن نصلي طالبين عدم الدخول في التجارب ، وهو قال : « أدخلوا من الباب الضيق في الأولى خطر الإنفصال عنه لأنها تجارب الشهوات النفسية والتخلية وقت الضيق النفساني ؛ أما الثانية فهي الضيقات التي توصلنا إليه التي بأتعاب الجسد.

755 ـــ محبو الراحة لا يحل فيهم روح الله بل الشيطان .

أما إن كنت تتعب في سهرك من الوقوف و يوسوس الشيطان إليك أنه ما بقيت فيك قوة و يوحي إليك بالنوم ، فقل له أنا أجلس وأكمل سهري ولست أنام .

756- إنه أليق لنا أن نموت في الجهاد من أن نحيا في السقوط . 

757ـ هذا العالم هو ميدان الجهاد، وقد وضع علينا الرب أن لا يفرغ جهادنا حتى النهاية . والذي يصبر إلى المنتهى فهو يخلص. حينئذ يظهر من تجلد وصبر ومن أدبر و ولى . لهذا يجب ألا يقطع الإنسان رجاه لأنه ربما في آخر لحظة ينال الظفر على عدوه ويرتفع اسمه كأحد الشجعان ! فلا نتهاون بالصلاة ولا نمل من طلب المعونة.

758 – وإذا هبط علينا روح الإهمال و بردت حرارتنا نجلس بيننا و بين أنفسنا ونجمع أفكارنا ونميز بدقة ما هو سبب الإهمال ومن أين بدأ وما هو الذي يُبطلك من الصلاة والعبادة ؟

فإن كان الأمر يستحق التقويم قومه ، وإذا كان يستحق القطع اقطعه . وإن لم تكن كفواً لذلك ولم يوجد مرشد لتستشيره من جهة أمورك، إرجع إلى أول الطريقة التي بدأت بها وابدأ سيرتك كمبتدىء، وأنت في وقت يسير تمتلىء حرارة وترتفع إلى الدرجة التي سقطت منها، وتنظر بنفسك الدرجات التي عبرت عليها في صعودك الأول.

شاب سأل شيخاً مجرَّباً : ماذا أصنع للجسد عندما يلم به المرض والكسل و يرتخي منه العزم وتبرد الإرادة من شهوة الصلاح والعبادة ؟

أجابه الشيخ : إنما يحدث هذا الأمر لمن خرج وراء الله تعالى ونصفه الآخر باق في العالم، وقلبه قد انقسم على نفسه فتارةً ينظر إلى الأمام وتارةً ينظر إلى الخلف، ولم يطرح عنه شهوة العالم بالتمام. لذلك أمر سيدنا أن الذي يتبعه يجب أن ينكر نفسه أولاً : أي يجحد شهواته وملذاته الجسدية و يكون مستعداً كمن قد دعي للصعود على الصليب وقد وضع في قلبه أنه قبل الموت. أما الذي يُؤثر أن يُحيي نفسه في هذا العالم فهو يهلكها. أما من كان نصفه حياً ونصفه الآخر ميتاً فهو لا يصلح لملكوت الله.

759- الذين يبدأون جهادهم بعزيمة متراخية فإن الشيطان يقوى عليهم ، والله لا يعضدهم لأنه يقول : « ملعون من يصنع عمل الرب بتراخ» .

760 – القديس باسيليوس يقول : من تكاسل عن الأمور الصغيرة لا تثق به في الأمور الكبيرة. ولا يثقل عليك أن تموت من أجل الأمور التي تحيا بسببها.

761 – إن الفضائل لا تكتسب من كلام الكتب بل من تجربة طويلة . قد يكون إنسان ساذج يعمل عملاً بالتجربة أفضل ممن كان عالماً في سيرة الروح بواسطة سطور الكتب والتسليم عن الآخرين فقط بلا تجربة واختبار.

762 – إن جميع الفضائل التي نقتنيها بالتعب إن كنا نتهاون في عملها تضيع قليلاً قليلاً.

ما ر إسحق السرياني

763 – سُئل الأب صاروفيم الذي من صروف قديس روسيا في القرن التاسع عشر : ماذا يعوز هذا الجيل ليوتى ثمار القداسة التي كانت غزيرة في الأجيال السالفة ؟
أجاب : يعوزهم شيء واحد، التصميم بحزم قاطع !

***

 ملخص المبادىء الهامة :

(1) في بدء حياة العبادة تكون الصلاة أمراً ثقيلاً على الجسد والعقل، وإن تركا لذاتيهما لما تقدمنا للصلاة قط. لذلك وجب أن نغصب ذواتنا حتى تصير الصلاة جزءاً هاماً من حياتنا لا نستطيع أن نهمله أو نستغني عنه.

(2) الجسد يعمل ضد الروح و يشتهي خلاف ما تشتهيه. إذن ، فلا تُعِرْهُ التفاتك عندما يلح عليك بطلب الراحة ، لأن من أطاع جسده هلكت نفسه.

(3) مهما كان الجسد متعباً من عمل النهار فالصلاة لا تزيده تعباً، بل على العكس فإن الصلاة سوف تنعش روحك وجسدك أيضاً ، أليست الصلاة تشفي المريض ؟ إذن فهي تُزيل التعب أيضاً.

(4) متى قت لتصلي فلا تختصر في الصلاة التي قررتها لنفسك، لأن هذا يحرمك من ! حريتك . فإذا أتاك هذا الفكر فاعمل بالعكس وزد صلاتك قليلاً المعتاد وأنت ستشعر بنصرة عجيبة وتحس أن العدو هو الذي كان يشير عليك بالإختصار. لله الصلاة كتقدمة عن

(5) إذا وقفت تصلي فاجمع نفسك وفكرك وقلبك وقدم ذبيحة حبك من كل قوتك وقـدرتـك ! ولا تجعل فكرك وقلبك في شيء آخر لأن في هذا خداعاً لله. وهذا يبغضه جداً لأنه يقول : «يا ابني أعطني قلبك . » ( أم ٢٣ : ٢٦)

(6) الصلاة التي نقدمها بفتور وعدم اجتهاد ولا نغصب ذواتنا وفكرنا فيها ، تكون ضدنا وتترك فاصلاً بيننا وبين الله.

(7) صل بلجاجة وشدة من أجل الصلاة ذاتها حتى تكون حارة ومقبولة حسب مشيئة الله، عالماً أن صلاتك إما تُحسب لك أو تُحسب عليك.

(8) لا تفضل الحديث مع الناس أو العمل الجسدي، مهما كان، على الصلاة، لأنك بذلك تكون قد فضلت الناس والتراب على الله : « وقال لبطرس اذهب عني يا شيطان أنت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله لكن بما للناس» (مت 16: 23)؛ «ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس» (أع 5: 29) ؛ «وقالوا لا يُرضي أن نترك نحن كلمة الله ونخدم موائد.» (أع 6: 2)

(9) الصلاة إذا كانت بسبب الظهور أو المجاملة أو الخوف من الناس أو الرؤساء، فهي كصلاة الفريسي تُنشىء لعنة. فيجب أن تكون صلاتنا بحب واشتياق وخوف الله.

 (10) الكسل هو الشوك الذي يخنق حنطة الجهاد. وهو يحرمنا من أتعابنا السالفة. والكسل فرصة للشيطان يرمي فيها بذوره السامة : الحسد الغيرة، البغضة ، الدينونة .

(11) أعداء الصلاة ثلاثة : مشاغل العالم شهوات الجسد ، حسد الشيطان. إلا أن الصلاة كفء لتغلبهم جميعاً إذا كانت بغيرة واجتهاد.

(12) إغصب نفسك في كل كلمة من كلمات الصلاة لكي تكون بصحو وشدة من عمق القلب. فإذا فرحت بصلاتك فاعلم أن الله فرح بها . وإذا وثقت باستجابتها فقد استجيبت لأنه . حسب إيمانك يكون لك ، والله يعطيك حسب قلبك .

(13) لا تخضع لشعور النوم، أو التثاؤب ، أو الإستناد على الحائط ، أو الإستناد على رجل دون أخرى أثناء الصلاة. لتكن لك رهبة من الديان الذي أنت واقف أمامه ؛ واغصب نفسك واعتدل في صلاتك وتعقل لما تقوله ولما تسمعه .

(14) القلب الذي تقسى بأباطيل العالم وشهوات الجسد طويلاً يلزمه جهاد طويل كذلك.

(15) الله يفرح بلجاجتنا في الصلاة، لذلك أعطانا مثل صديق نصف الليل، والأرملة الملحة . فلا تمل من الصلاة وجاهد إلى أن تبلغ ما تريد.

(16) كل ما تغصب نفسك عليه في البداية سوف يكون سهلاً هيناً عليك في النهاية . وكلما تعبت في الجهاد أكثر كلما تحنن الرب عليك أكثر : « لأن الله ليس بظالم حتى ينسى عملكم وتعب المحبة التي أظهرتموها نحو اسمه . » (عب 6: 10)

(17) لا تعتمد على جهادك وحده كأنه يوصلك إلى ثمار الحياة الروحية ، لأن نعمة الله إذا لم تحل على الإنسان وتبارك جهاده يظل عقيماً بلا ثمرة كتقدمة قايين ! فالجهاد يؤهلنا فقط للملكوت، والنعمة تقودنا إلى هناك ؛ والجهاد لا يخلصنا من الخطية قط بل يجلب علينا رحمة الله.

(18) المواهب التي يمنحها الله لنا تكون بمثابة وسائل لتقوية إيمان الآخرين، فإذا اكتفينا بها فإنها لن تنفعنا شيئاً بل ربما كانت سبب سقوطنا في الكبرياء وابتعادنا عن الله.

( 19) الملل الذي يعترينا أثناء الصلاة هو من عمل الشيطان ، فإذا ضاعفنا الصلاة هرب في الحال. أما إذا استسلمنا له أنشأ ضجراً وحزناً مفسداً للنفس. وهذا يحرمنا من لذة العبادة ومن الرجاء بالله حتى ومن الثقة في الناس.

(20) حياة الصلاة تزدهر وتقوى بالإجتهاد في الصوم والسهر وفي الخدمة وعمل اليدين، والله يطالبنا باجتهاد على قدر ما أعطانا من قوة.

(21) لا وسيلة لرفع الملل والضجر والحزن المفسد، إلا بالإنقطاع عن الكلام البطال والمزاح، ومضاعفة الصلاة، والإنهماك في العمل الموكول إلينا، وعدم التنقل من مكان إلى مكان.

(22) لكل سيرة قانون جهاد خاص مرتب عليها ، فالذي يتخلف عن قوانين جهاد السيرة التي اختارها لنفسه سواء كان خادماً أو كاهناً أو راهباً لا يُكلل.

(23) الصلوات السبع التي بكتاب الأجبية سنّها الآباء الثلاثمائة والثمانية عشر المجتمعون بنيقية على جميع المسيحيين عموماً.

(24) إحتمل الملل والضجر والأفكار الشريرة التي يسوقها عدو الخير عليك خصوصاً وقت الصلاة. وطالما كنت لا تخضع لها ولا تميل إلى المشاركة فيها بل تتألم وتتنهد وتظهر عدم رضاك عنها، تُحسب لك كعمل أفضل من الصلاة ذاتها لأن الآباء وضعوها في درجة الإستشهاد.

(25) التجارب التي أمرنا الرب أن نطلب عدم الدخول فيها هي التجارب النفسية التي تؤول بنا إلى الفشل وتبعدنا عن الخلاص ؛ أما تجارب الجسد فعلينا أن نستعد لقبولها بالشكر لأنها توصلنا إلى الله.

(26) لا تقل إني جاهدت ومللت، فربما في آخر لحظة تهزم عدوك وتأخذ إكليلك وتعبر من أرض الشقاء إلى الراحة الأبدية. وربما يكون ذلك بكلمة تقولها في موضعها او بفكر منسحق تقدمه أو بشكر على ضيقة تحل عليك. أذكر اللص الذي دخل الملكوت مع مخلصنا ا بسبب فكرة إيمانية ملأت نفسه في آخر ساعة من ساعات حياته.

(27) إذا شعرت بفتور حياتك الروحية وضعفت صلاتك ، فأسرع وعالج نفسك : إجلس في هدوء مع نفسك وابحث سبب هذا الفتور فقد يكون من كثرة الخلطة بالناس والكلام ، أو ربما من حبّك للمزاح والضحك لأن ذلك عدو الحياة الروحية، أو ربما الحسد والنميمة والغيرة أو الدينونة للآخرين أو الغضب أو شهوة دنسة متعلقة بقلبك. إبحث، وإذا عرفت داءك فلا تتوان عن تقويمه وقطعه مُركّزاً كل عبادتك وصلاتك من أجله.

(28) إذا تعرقلت حياتك الروحية لأي سبب كان، فابدأ حياتك من جديد كأول يوم عرفت فيه الله ، وابدأ جهادك بشدة وأنت تصل سريعاً إلى درجتك الأولى.

زر الذهاب إلى الأعلى