كتاب حياة الصلاة الأرثوذكسية - القمص متى المسكين

الجفاف الروحي

“إلهي في النهار أدعو فلا تستجيب في الليل أدعو فلا هدولي … يبست مثل شَقْفَة قوتى، ولصق لساني بحنكي.» (مز 22: 2 و 15)

حينما تدخل النفس في اختبار الجفاف الروحي لأول مرة تجزع جداً، خصوصاً إذا كانت متوفرة على العبادة بإخلاص وتدقيق، ويبدأ الإنسان يضطرب و يتساءل و يفتش عيوبه لعله يجد السبب.

ولكن الحقيقة أن الجفاف الروحي ليس هو علامة على فقدان أي شيء في علاقتنا الطيبة مع الله، وإنما هو مرحلة هامة لازمة لتهذيب النفس وإعدادها لحياة روحية أكثر تقدماً لا تعتمد على مشجعات نفسانية أو مسرات ذاتية.

فهو بمثابة غذاء عسير الهضم نوعاً ما، إلا أنه بليغ الفائدة. فإذا خضعنا لهذا الإختبار وجُـزنـاه بـرضـى ووعي وصبر ولم تذبل أرواحنا بسبب عدم التعزيات والمشجعات واكتفينا بالإعتماد على صدق مواعيد الله، فنحن ندخل بواسطته إلى قامة الأبناء الكاملين وتؤهل للمحبة العالية التي لا تطلب ما لنفسها والتي لا تعتمد على الأخذ بل تكتفي بالعطاء والبذل.

وإذا فحصنا هذا الإختبار الروحي بدقة، نجد أنه يخلو في طبيعته من أي اضطراب ولا يصيب القلب بضيق، فالجفاف يعم الروح من جهة المشاعر والعواطف فقط ولكنه لا يمس سلام النفس وهدوءها، غير أنه يكون سلاماً بلا حرارة عاطفية وهدوءاً بلا جاذبية أو مسرة.

لذلك لا يتأثر في الواقع من تجربة الجفاف الروحي إلا ذوو النفوس المدللة الذين يعيشون على التعزيات والمشجعات والذين التقوى عندهم مرتبطة بالأخذ، ونموهم في نظرهم يعتمد على البراهين الحسية.

وخطر هذه المرحلة هو أن يتشكك الإنسان في الطريق و يعتقد أن علاقته بالله قد انقطعت، فيتوقف عن الصلاة، مع أن حدود هذا الإختبار ـــ أي الجفاف الروحي الذي تسوقه النعمة على الإنسان – يسمح بوجود واستمرار الصلوات، فهو لا يسلب من الإنسان القدرة على الصلاة والمداومة فيها ولكن يسلبه فقط التعزيات الفرعية التي كان يعتمد عليها في الصلاة.

فإذا أوقف الإنسان الصلاة بحجة الجفاف الروحي وفقدان التعزية فإنه يتقهقر روحياً، و يدخل بدون داع في تجربة سلبية خطرة وهي التذمر على الله.

 إذن ، من الخطأ أن يضطرب الإنسان عند عبوره مرحلة الجفاف؛ كذلك من الخطر أن يتوقف الإنسان عن الصلاة بحجة أنه لا يجد مسرة في الصلاة، فالجفاف جزء حي من طبيعة الصلاة قادر لـو اسـتـوعـبـنـاه بنفس راضية واعية أن يرفعنا إلى درجة أعلى في الصلاة وهي الصلاة النقية التي لا تعتمد على العواطف والمشاعر والمشجعات من أي نوع !!

فمهما شعر الإنسان بتخلية النعمة ظاهر ياً فليكتف بعملها السري، وليعتمد على قوة الدفع السابقة التي اقتناها في حياته مع الله ، فهي تكفيه لعبور المراحل الأولى من هذا الإختبار حتى تبتدىء تستقر نفسه في الله بدون مشجعات ووسائط.

كذلك فليعتمد السائر في الطريق أثناء هذا الإختبار، على مشورة المرشد واتباع أوامره بتدقيق لأنها ذات قيمة كبيرة خصوصاً في هذه المرحلة. ولكن لعل أعظم وصية تفيد الإنسان في هذا الإختبار هي قبول الإنسان الجفاف الروحي بداعي الإتضاع واكتفاؤه بأن يكون أقل الناس وأنه ليس أهلاً للتعزيات. وحتى لو اعتبر أن الجفاف الروحي تأديباً، فهذا أمر جيد لنفسه (مع أن الجفاف ليس تأديباً ولكنه تهذيب).

ولن ينفع الإنسان في هذه المرحلة أن يقف ليفحص حاله و يفتش عن الأسباب والدواعي ويحاول أن يضع خططاً للخروج من هذا الإختبار، بمضاعفة السهر أو الصلاة أو الصوم، فإن هذا كله جهد ضائع ويُخرِج الإنسان خارج خط تدبير النعمة. أما أعظم عمل يمكن أن يعمله فهو أن يقبل الجفاف و يداوم أثناءه على عمله الروحي برزانة ووعي، مستجيزاً العناء والجهد الزائد لمتابعة مسيره بنفس السرعة كالسائر في دروب الصحراء لا يثنيه فقدان مسرات المدينة عن المسير في جوف الصحراء القاحلة حتى النهاية. 

وأوقع ما في الإختبار الروحي هو أن نقبله في ذاته، لا من أجل شيء ورائه. فالجفاف الروحي تجربة روحية موضوعة لذاتها كلازمة من لوازم الطريق الضيق.

والتجارب الروحية، على وجه العموم، لا نجوزها طمعاً في بلوغ الكمال لأن هذا فيه معنی تأليه الذات، ولكننا نخضع لكل تدبير الله حتى نكمل مشيئته؛ لأن طاعتنا الله هي أساس حياة شركة معه ، وهي وحدها التي توصلنا إلى الكمال.

علاقة الجفاف بالإرادة :

يلزمنا أن نفرق بين جوهر النفس البشرية وبين الصفات والإنفعالات الناتجة عن نشاطها . فالنفس في صميمها شيء غير العاطفة الصادرة عنها والمؤثرة فيها.

كذلك أيضاً التصورات والأفكار قد تكشف عن حالة النفس ولكن ليست هي النفس ولا تمثلها، لا يوجد شيء يعلن عن النفس ويمثلها إلا الإرادة الحرة، لذلك فالإنسان لا يُسأل ولا يُدان عن تصوراته ولا عن أفكاره أو عواطفه وإنما يُسأل و يُدان عن ما تعلنه إرادته.

وفي حالة الجفاف الروحي نجد أنه يختص بتوقف في قدرة ملكات النفس عن استقبال التعزيات والمشجعات الروحية الفائقة التي كانت تتحصل عليها النفس بالنعمة عن طريق التصورات والأفكار والعواطف. أما النفس في حد ذاتها فلم تتوقف إرادتها أثناء الجفاف عن اشتهاء وقبول هذه التعزيات والمشجعات . لذلك فالجفاف الروحي يظل تجربة خارجة عن الإرادة !

هذه الحقيقة غاية في الأهمية لأنها تخلي الإنسان من مسئولية وهمية، يحاول أن يضعها الضمير على الذات بسبب توقف حالة العزاء والمسرة الداخلية التي ترافق تجربة الجفاف الروحي.

ومن هذا يتبين بوضوح أن علاقة النفس (الإرادة ) بالصلاة يمكن أن تظل سليمة بالرغم من وجود حالة الجفاف، لأن الجفاف لا يتعلق بالإرادة أصلاً. أي أنه يمكن أن تستمر الصلاة بكل قوتها ونشاطها بالرغم من وجود حالة الجفاف الروحي.

واستمرار الصلاة بدون الإعتماد على التعزيات والمشجعات العاطفية التي كانت تتقبلها النفس عن طريق التصورات والعواطف والأفكار، هو القصد الأساسي من تجربة الجفاف الروحي التي تسوقها النعمة على الإنسان أثناء مسيره على الطريق الروحي، حتى يتخلص من الإرتباطات التي تربط النفس بالمحسوسات والعواطف البشرية والتصورات العقلية التي تعطل اتصال النفس بالله مباشرةً. فالجوهر النفسي لا يمكن أن يستقر في الله استقراراً كاملاً طالما كان النشاط العاطفي أو التصوري أو العقلي يستطيع أن يلعب بالنفس.

وفي اللحظة التي تتحرر فيها الصلاة من هذه الإرتباطات فإنها تدخل في درجة الصلاة النقية. والصلاة النقية إذا بلغها الإنسان ، فلا شيء في الوجود يستطيع أن يفصله عن الله لأن جوهر النفس يكون قد تركز في الله بدون مؤثرات خارجية. وتستطيع النفس أن تشخص في الله أثناء الصلاة بدون عائق وبدون تنبيهات نفسية قابلة للخطأ.

وبهذا يتبين أن الجفاف الروحي اختبار تدفعه النعمة على النفس لتزيد من قدرتها على الشخوص مباشرةً في الله، وذلك بسد جميع المنافذ الأخرى الفرعية التي يتشتت منها الإبصار الروحي أي التعزيات والمسرات والمشجعات.

الجفاف فرصة للطياشة الشريرة:

من مخاطر مرحلة الجفاف انطلاق الحواس الفكرية والتصورات لتعمل في جو بعيد عن الرقابة الروحية، فيستأسرها العدو ويُسقطها من علوّها الأول لإرتياد المناظر والأفكار الشريرة والتصورات الخاطئة التي لم تكن تخطر على بال الإنسان. وذلك لأن توقف التعزية الروحية التي كانت تغذي بها النعمة ملكات النفس من تصور وتفكير وعاطفة، يعطي فرصة للعدو أن يستعرض شروره على هذه الملكات.

وبذلك صار من المحتمل أثناء مرحلة الجفاف الروحي أن يطيش عقل الإنسان ، دون أن ينتبه، في تصورات شريرة لا نهاية لها قد تصل إلى منتهى الإذلال للنفس. هنا يلزم أن ننتبه غاية الإنتباه إلى الدور الذي ستقوم به الإرادة. فطالما أن الإرادة لا ترتاح ولا تتوافق بل ولا تحتمل هذه الطياشة وتُبدي استنكارها وحزنها واحتجاجها لدى الله في الصلاة، فإن الصلاة تظل في حدود طهارتها دون أن تستطيع هذه الطياشة الفكرية والتصورات الشريرة أن تخدشها من أي ناحية!!

فالمسئول الأول والأخير عن طهارة الصلاة هو الإرادة فوق كل اعتبار.

وقدرة الإرادة على الإستمرار في رفض هذه التصورات والأفكار الباطلة وعزمها على النضال، مهما طالت التجربة، هو الذي يضع حداً لها في النهاية.

والذي ينبغي أن نثق به وثوقاً تاماً هو أن الله لا يحاسبنا قط عن أي شريسري في فكرنا أو تصورنا طالما نكون غير موافقين له ولا راضين عنه، على أن نقدم برهان ذلك بواسطة الصلاة على الدوام دون أن نكل. فإذا ثبتت الإرادة في احتجاجها ولم تتنازل النية في الداخل، بمعنى أننا لم نلق السلاح ، فكل تعذيب العدو للفكر والضمير يُحسب في النهاية ذبيحة طاهرة.

أما الخطر الناشيء من اعتياد الفكر على هذه التصورات الشريرة والطياشة الباطلة بسبب طول زمن التجربة، فلا خوف منه البتة، طالما تظل الإرادة حية قوية تغذيها الصلاة، لأنه في لحظة واحدة ستكف الحرب كفاً نهائياً حينما يتنازل الله و يضم إليه النفس بعد أن تكون قد تجردت من أنانيتها وعاطفيتها.

أما لماذا يسمح الله للعدو أن يعذَّب فكر الإنسان وضميره هكذا بهذه القسوة التي عبر عنها بعض القديسين بأنها تشبه الجحيم، فالرد على ذلك هو بسبب طبيعتنا التي فسدت بالخطيئة وأصبحت مستهدفة للشرور. فلولا أن فكرنا قد سبق واعتاد بحريته على تصور الشر والتفكر فيه ولو مرة واحدة، ما أمكن للعدو أن يرغمه بعد ذلك على تصور الشر والتفكر فيه مجبراً مهزوماً.

فالله بعد ذلك عندما يهملنا لحظة لنذوق مرارة سلطان إبليس لا يكون ظالماً، غير أنه في نفس الوقت لا يمكن أن يتخلى عنا بل في اللحظة المعينة يتدخل ويحول كل ما أُسيء به إلينا إلى عوامل قوة وخلاص ومجد.

فـبـعـد أن تنصهر عواطفنا وأفكارنا وتصوراتنا في محنة الجفاف الروحي، نُؤهّل في النهاية لدرجة النقاوة التي بها نعيش مع الله.

زر الذهاب إلى الأعلى