أحد توما

المسيح قام- حقاً قام

ثمانية أيام مضت على خبر القيامة بتوكيدات وشهادات من ملائكة و شهود عيان كثيرين : المجدلية والنسوة وتلميذا عمواس والأحد عشر. وبالرغم من ذلك بقي توما وحده مصمم على عدم قبول القيامة إلا بشروطه الخاصة. وعلى العموم نحن نجد أن هناك تدرج في الإيمان بالقيامة : الدرجة الأولى : يوحنا يؤمن بدون أن يرى ، يكفيه رؤية الأكفان الموضوعة في القبر الفارغ . الدرجة الثانية : مريم المجدلية تؤمن بالقيامة دون أن تتحقق شخصية الرب، ولكن بمجرد تذكر صوته . الدرجة الثالثة : التلاميذ الأحد عشر ، آمنوا عندما رأوا وجسوا لحمه وعظامه وجروحه. الدرجة الرابعة : توما ، بعد أن استوفى لنفسه شرط الإيمان بوضع أصبعه في الجروح . ثم أخيراً: الدرجة فوق الأولى : وهي التي أعطى لها الرب الطوبى، وهي إيمان الذين صدقوا القيامة بالخبر وحسب.

الإنجيل لم يذكر لنا حادثة توما هذه المخجلة لكي يحط من قدر توما ؛ بل لكي يوضح صعوبة الإيمان بالقيامة. فأصبح الإيمان بها يحفه القبول من اليمين بالمديح ، كما يحفه الشك من الشمال بالتوبيخ . أما الطوبي ، أي السعادة ، فهي نصيب الذين يؤمنون ولا يطلبون شهادة العيان ، لأن الحق يضيء قلوبم.[1] 

إذا ، فرواية توما لا تخص توما ، بل هي حدثت لتكون ركناً ركيناً في استعلان شخص المخلص، كجزء حي في درجات سلم استعلان قيامة المسيح، كطوق نجاة للذين ستعصف بكم شكوك مثل شكوك توما!

وق . يوحنا يقدم لنا رواية توما على التوازي مع رواية تلميذي عمواس التي قدمها القديس لوقا. و كل من الروايتين حظت بظهور الرب . وكل منهما حظي بالتوبيخ المناسب.

« قد رأينا الرب »
نفس ما قالته المجدلية : « قد رأيت الرب » .
لم تقع هذه البشارة المفرحة عند توما موقع التصديق ، وذلك عن قصد من النعمة ، ليكون أباً ومرشداً لكل الذين صاروا بعقولهم قوامین علی قلوبهم ، ومدوا أيديهم وأصابعهم عوض البصيرة ليتحسسوا بها طريق الحق . لقد صار توما في تاريخ الإيمان إمام الشكاكين . ويا ليت كل من يشك ، ينطق بالنهاية بما نطق به توما.

لقد وقف توما على قمة الشكاكين مصمماً على حتمية أن تكون القيامة بنفس الجسد الذي تمزق على الصليب ، وأن يكون على مستوى لمس اليد ووضع الأصبع في نفس الجرح النافذ و في نفس الجنب المطعون.توما ولكن لأن القيامة التي قامها الرب هي قيامة حقيقية بالجسد الميت فعلاً؛ لذلك لم يمانع الرب أبداً من تحقيق شرط توما وظهر له خصيصا ليكمل له إيمانه هذا. فصار إيمان توما واعترافه المفاجئ : « ربي وإلهي » البرهان الأخير إزاء كل شكوك بأن المسيح قام حقاً، وبأنه قام بجسده الذي تمزق على الصليب هو هو.

فقال لهم : إن لم أبصر في يديه أثر المسامير ، وأضع إصبعي في أثر المسامير ، وأضع يدي في جنبه لا أومن».

جروح الصليب مميتة ، فكيف تصبح علامة حياة ؟ إنه تعجيز ! ولكنها هي حقا معجزة ! توما يطلب المستحيل بالعيان واللمس ، يطلب اقتران الموت بالحياة و الحياة بالموت ، فكان له ما شاء ! إنها حقاً القيامة!

توما أراد أن يمسك بنار اللاهوت ، فمسك ولم يحترق . توما أراد أن يُمثل بیده طعنة الحربة . إن أهوال الصليب ضيعت من عقل توما كل معقولية الحياة من بعد الموت ، لقد أصابت المسامير فکر توما بأكثر مما أصابت به يد الفادي. الفادي قام ويداه في ملء الحركة والحياة ، وفکر توما تسمر بالموت وبقي بلا حراك. الجنب المفتوح بالحربة صار کهوة في إيمان توما، تفصل الميت عن الحياة ، مع أن الدم والماء النازفين منه ، كفيلان بأن يحييا كل الأموات.

« لا أومن » ..
لقد جازف توما بكل إيمانه ، لقد وضع إيمانه بالمسيح قائماً من الموت في كفة، ورؤية عينيه ولمس يده لآثار المسامير وطعنة الحربة في الكفة المقابلة! لقد ظن توما أن الإيمان بالقيامة رهن نظر العين ولمس اليد.

ولكن المسيح نفسه عندما ظهر للتلاميذ المجتمعين « أراهم يديه وجنبه » ، فتوما وإن كان يطالب بحقه الرسولي ، کتلميذ له ، في الرب المُقام ؛ إلا أن ما كان ينقص توما حقاً والذي وبخه المسيح على فقدانه ، فهو الإيمان : « ووبخ عدم إيمانهم وقساوة قلوبهم لأنهم لم يصدقوا الذين نظروه قد قام » ..

« فجاء يسوع والأبواب مغلقة ، ووقف في الوسط».
كان هناك نوع من الترقب لمجيء يسوع . فمن أسبوع كان التلاميذ قد حازوا على عطية الروح القدس الكفيل أن يُشعرهم ” بالأمور الآتية ” وخاصة فيما للرب ومجيئه. جاء يسوع ووقف « في الوسط » ، صحيح أنه جاء خصيصاً لتوما ، ولكن حينما ظهر كان ظهوره للجميع والجميع له . ليس كبير أو صغير بينهم ، فالكل فيه كبير ، والكل فيه كريم ومُکرم.

“وقال سلام لكم “.
ليست هي مجرد تحية ، ولكنها وديعة يستودعها الرب لكنيسته «سلامي أعطيكم» ، فالرب لا يُقرئ السلام ، بل يعطيه ، بل يسكبه ويُبثه فينا بثاً ، ليسري في القلوب والأفكار والأرواح، ليبقى ويدوم ويترسخ داخل النفس ، تلتجئ إليه يوم العاصف فتجده ، وتستغيث به في الضيقة فتتسربل به.

“ثم قال لتوما : هات إصبعك إلى هنا ، وأبصر يدي ، وهات يدك وضعها في جنبي ، ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً”.
عجيب أن الرب يعيد نفس الكلمات التي نطق بها توما وهو يتحدث مع زملائه ، فكأن الرب كان واقفاً يستمع إلى شروط توما المغلظة ، لم يعاتبه ولا حتى آخذه ، بل بلطف يفوق كل لطف ، أخضع جسده الذي ترتعب منه الأجناد السماوية لرؤية عين توما وللمس أصابعه . عرَّی جروحه ، وجعل جنبه المفتوح في متناول يده . وهكذا احتفظ الرب بعلامات الموت ليجعلها برهان الحياة ، وجعل آثار الذلة والانسحاق لتكون هي هي أسباب المجد.

 ولكن تُرى ماذا كان وقع كلمات الرب على توما، حينما ردد الرب المُقام على مسامعه كل الكلام والشروط التي قالها للتلاميذ؟! أعتقد أنها فوق أنها أخجلته ، فقد جعلته في غير حاجة لأن يمد يده أو إصبعه. ولكن حين مدها وحينما لمس إطاعة للأمر الذي صدر له، كان قد بلغ الإيمان في قلبه حد الصراخ والشهادة. خبرة العين الروحية ابتلعت خبرة عين الجسد ، ولمسة الروح في القلب طغت على لمسة اليد.

« لا تكن غير مؤمن ، بل مؤمناً »

لم يكن توما غير مؤمن ، وإلا لو كان فعلاً هكذا ؛ أي غير مؤمن ، لما ظهر له الرب على الإطلاق . ولكن لما استبد به الشك ، كونه استُثني من رؤية الرب ، كان يطلب حقه في الرؤية العينية، إمعانا في الوثوق الذي يطلبه . معنی أن توما كان في طريقه إلى الإيمان في حالة حصوله على ما احتاجه إيمانه: « أؤمن ، یا سیدي ، فأعن عدم إيماني ».

الرب تنازل إلى مستوى شروط توما ، ليقطع على كل توما ، وعلى كل من يذهب مذهبه الطريق إلى عدم الإيمان.

« أجاب توما ، وقال : ربي وإلهي »
هذه هي قمة الاستعلانات، بل هي قمة إنجيل يوحنا . والذي يزيد من قيمة هذا الاستعلان الذي استلهمه توما من رؤية الرب المُقام ، أنه جاء بعد أسبوع كامل من عذاب الشك وليل الظنون. فهو ، إن كان قد تأخر عن التلاميذ ثمانية أيام في التعرف على القيامة وتصديقها ؛ إلا أنه سجل للكنيسة أول اعتراف علني بألوهية المسيح، خرج منه بتلقائية تعبر عن الحق الذي رآه كاعتراف إيمان بلغ الذروة ، ليس في كل الأناجيل ما يضاهيه.

إن ظهور الرب بحال قيامته كان كفيلاً بأن يُغير لا فكر توما بل روحه وحياته. إن ظهور الرب قوة ، فالقيامة هي المجال الإلهي الفائق ، الذي إذا دخله الإنسان يفقد رؤيته لنفسه والعالم ، وكأنها أقنعة ، يخلعها ليرى الحقيقة الدائمة ، ولا يعود يرى نفسه إلا في الله : ” ربي وإلهي “.

إنه يرى نفسه فيه ، ويراه هو في نفسه ، وكأنه يردد بلسان عروس النشيد : « أنا لحبيبي وحبيبي لي » . لقد صار له المسيح وصار هو للمسيح ، فاستعلن له المسيح في ذاته رباً وإلهاً. لقد تعرف على الله في المسيح ، وتعرف على المسيح في الله . وأخيراً ، أدرك توما أن المسيح ليس للمس اليد أو نظر العين !! فهو الملء الذي يملا الروح والبصيرة والقلب ، الذي لا تسعفه عين ولا يحيطه فکر.

“قال له يسوع : لأنك رأيتني يا توما ، آمنت . طوبى للذين آمنوا ولم يروا “
لقد أمَّن المسيح على اعتراف وإيمان توما : « ربي وإلهي » ، ووافقة على إعلانه بلاهوته . فلو لم يكن المسيح إلهاً بالحقيقة ما كان قد ارتضى بهذا الإعلان . لقد رأي توما المسيح كما يريد المسيح أن يُرى .

وهنا ظهرت رنة التوبيخ والعتاب في صوت المسيح لتوما ، لأنه ما كان لائقاً بتلميذ عاشر الرب وسمع منه أنباء القيامة العتيدة ، بل ورأى قوتها عياناً عند قبر لعازر ، ثم بعد ذلك لا يؤمن ، ولا يصدق من رأى وآمن .

ولكن شكرا لك ، أيها القديس توما ، لأن بشكك ورثتنا الطوبي ، بل أحسن الطوبي : « .. الذي وإن لم تروه تحبونه . ذلك ، وإن کنتم لا ترونه الآن ، لكن تؤمنون به فتبتهجون بفرح لا ينطق به و مجید » . [2]


  1.  من کتاب القيامة و الصعود مقالة أحد توما ص 181.
  2. من كتاب شرح إنجيل يوحنا ص1301

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى