من مقالات الأنبا غريغوريوس أسقف عام البحث العلمي
الإنسان والهدف الأعلى من الحياة
نحن کائنات عاقلة حرة مريدة خالدة ومسئولة، خلقنا الله على صورته ومثاله، وقد خلقنا لا لأنه في حاجة إلينا، وخلقنا لا لخير يعود عليه هو جل جلاله، وإنما لخير يعود علينا نحن خليقته. ذلك لأن الوجود خير من العدم، فوجودنا في الحياة خير لنا من عدم وجودنا. وخيرنا هو في الوجود مع الله وجوداً دائماً، لنستمتع وننعم بالخير الذي لا يستقصى في الله وفي وجوده. إن رجلاً غنياً ليس له أولاد يحزن لأنه لا يجد أولاداً يتمتعون معه بغناه. فإذا كان هذا الشعور يوجد في الإنسان وهو شعور خير، فبالأحرى أن يكون في الله، إذ أن الله هو الخير الأعظم. والخير المحض، وعلة الخير في كل إنسان، وفي كل الوجود.
فإذا كان الله قد خلقنا لكي توجد، ولكي ننعم بالخير في الله وبالخير في الوجود، وإذا كنا قد خلقنا خالدين، وسنحيا مع الله إلى الأبد، ولن نفني، وما الموت إلا نهاية المرحلة الأولى من مراحل الحياة التي لن تنتهى، أي أن بعد الموت في الدنيا هناك حياة أبدية لا نهاية لها، ينعم فيها الأبرار بسعادة تامة بالوجود مع الله في ملكوته الأبدي، فنحن إذن كائنات متميزة وممتازة راقية، على صورة الله وعلى شبهه ومثاله، أي أننا نشبه الله، نشبهه وإن كنا لا نساويه.
نحن إذن قد خلقنا الله لنكون آلهة صغاراً تحت رعاية الإله الأعظم، سيدنا وسيد الوجود، وخالقنا وخالق كل الوجود.
فإذا كان هذا هو مركزنا في الوجود، وهذه هي مكانتنا الممتازة والمتميزة في الكون، بل وهذه هي أيضاً نسبتنا إلى الله وإلى الوجود، وإلى سائر الكائنات الأخرى من نباتات وحيوانات عجماوات التي أعطانا الله أن نسود عليها وأن نحكمها وأن تخضعها لأهدافنا السامية، فنحن إذن لنا هدف كبير، نسعى إلى التحقق به، وللبلوغ إليه، وهذا الهدف هو أن تُحقق غاية الله من وجودنا بأن نعمل في الحياة الدنيا عمل الله فيها وفينا، لنكون بالحقيقة صورة الله بالنسبة لكل الخليقة.
هدفنا الأعلى في الحياة أن نكون مشابهين الله في القداسة والبر والكمال الأدبي.
ولذلك، للبلوغ إلى هذا الهدف، يجب أن نسعى لنمتلك كل الفضائل السامية التي تقربنا إلى الله، وتجعل منا تحقيقاً عملياً لصورة الله في الخليقة، فنتجمل بالطهارة والنقاء، وبالحب العام لجميع الناس، وبالصبر وطول الروح، والرأفة بكل الخليقة، وبالعدل والسلوك بالحق في كل شيء. قال السيد المسيح له المجد (فكونوا إذن كاملين كما أنّ أباكم الذي في السماوات كامل) (مت5: 48).
ولما كان الله هو الخير الأعظم، فنحن الذين خلقنا الله على صورته ومثاله ينبغي أن يكون هدفنا أن نعمل الخير دائما، وأن ننشر الخير ما أمكننا في كل الوجود، وأن نصنع الخير لكل أحد، وحتى الذين يضايقوننا ويشاكسوننا لا نرد شرهم بشر، بل نسعى لنرد شرهم بخير. لأن الله الذي خلقنا على صورته ومثاله “يجعل شمسه تشرف على الأشرار والصالحين، وينزل المطر على الأبرار والظالمين” (مت5: 15).
العلم هو طريقك لتحقيق هدفك:
ولكي نكون نحن كاملين، أخياراً، ولكي نعمل الخير بالناس، وننشر الخير على الأرض، يجب أن نزود عقولنا بالعلم والمعرفة التي هي نور للعقل، وكشاف للطريق. وهنا أهمية العلم وضرورة الإقبال على الدرس خصوصاً في مرحلتي الطفولة والشباب، وإن كان الإنسان الراقي لا يتوقف عن التعلم والدرس كل أيام حياته، لأن العلم والمعرفة يصقلان العقل ويزيدان قدرته الطبيعية على الفهم والإدراك، وبالتالي يرشدان الإنسان إلى الخط الفاصل بين الحق والباطل، بين الخير والشر.
وإذا تناولنا موضوع العلم والمعرفة والدرس والتعلم، فنحن نقصد كل أنواع المعرفة، الروحية أولا والمادية ثانياً.
والمعرفة الروحية نجدها في الكتب المقدسة وفي كتب الآباء القديسين الذين بلغوا في العلم الروحاني مكانة جعلتهم شديدي الشبه بالله في سيرتهم الشخصية والعملية.
وأما المعرفة المادية فنجدها في الكتب التي وضعها العلماء والمعلمون والمختصون في كل علم من العلوم الطبيعية، وفي كل فن من فنون المعرفة الإنسانية، كما نجدها عند المعلمين الذين ندرس عليهم في المدارس والجامعات، والذين نلتقى بهم في معترك الحياة. عليك إذن أن تتبين أنك كائن راق ممتاز ومتميز عن كل الكائنات الحية الأخرى التي تراها في هذا الوجود، من نباتات ومن حيوانات عجماوات على مختلف درجاتها. أنت أرفع وأسمى منها جميعاً. أنت سيدها، وقد أقام الله الإنسان ليكون خليقته في الأرض، يحكم بأمره في كل ما هو دونه من كائنات. “فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم. وباركهم الله وقال لهم: انموا واكثروا واملأوا الأرض، وأخضعوها، وتسلطوا على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى كل حيوان يدب على الأرض” (تك1: 27، 28).
وعليك أن تعرف أنك على صورة الله مخلوق، وأن أعلى هدف ينبغي أن يسعى إليه كل إنسان يفهم قدر إنسانيته، أن يحقق صورة الله فيه، وأن يجاهد ليكمل نفسه بكل الفضائل التي تجعل منه صورة حقيقية الله، وأن يعمل الخير بين الناس وينشره في الوجود، لأنه صورة الله في العالم.
وعليك أخيراً وليس آخراً أن تملأ ذهنك بالمعرفة الصافية الصحيحة، وأن تقبل على الدرس والتحصيل وطلب العلم، برغبة صادقة، وشهية مفتوحة، كأرض عطشانة إلى الماء، لأن العلم هو طريقك إلى تزويد نفسك بكل ما يلزمك لتحقيق هدفك الأعلى، بشرط أن يتحول عندك العلم إلى عمل، وإلى ممارسة، والعلم هنا هو العلم بنوعيه: العلم الروحي الذي تبني به شخصيتك في الحياتين الحاضرة والآتية، والعلم المادي الذي يمكنك أن تنتفع به في الحياة الدنيا، وأن تُفيد به غيرك من بني الناس فيها.
العمل كقيمة أساسية من القيم المسيحية:
العمل شرف الإنسان وكرامته. لقد خلق الله الإنسان للعمل. فالإنسان الذي يعمل يحقق بالعمل شرفه، وكرامته، ويتحقق بالغاية من وجوده.
وإذا كان الإنسان قد خلق على صورة الله ومثاله (تك1: 26، 27) والله ذاته يعمل ولا يتوقف عـن العـمل (يو5: 17)، فهو الذي خلق كل الوجود (أع17: 24)، ولا يزال يخلق، وسوف يظل خالقاً، بفعل القوانين الطبيعية التي رسمها للطبيعة، وهو الذي منحها ثباتها وإستمراريتها وفعاليتها الدائمة ـ فالإنسان إذن لابد أن يعمل ليحقق ذاته لأنه خلق ليعمل، على صورة خالقه.
قال الكتاب المقدس إنه على الرغم من أن آدم خلق في آخر اليوم السادس أو الحقبة السادسة من الخليقة، وكان الله قد خلق له من قبل، الأرض والشمس والقمر والنجوم، كما خلق له النباتات من أعشاب وبقول وأشجار، وخلق له الجنة (تك2: 8) وأنبت فيها كل شجرة… مع ذلك “أخذ الرب الإله آدم وجعله في جنة عدن ليفلحها ويحرسها” (تك2: 5). فكان آدم هو الفلاح الأول، وكان عمله منذ إبتداء وجوده الفلاحة والحراسة. وأخذ عنه ولداه قايين وهابيل، شرف العمل “فكان هابيل راعي غنم، وقايين كان يحرث الأرض” (تك4: 2)، وكذلك كل بني آدم.
وإذن فمن حق الإنسان أن يعمل، لأن العمل من طبيعته، والعمل مهمته التي خلق من أجلها. وبالعمل يسعد لأنه يحقق به الغاية من وجوده. ومن واجبه أن يعمل، لأنّ العمل تكليف له من خالقه، ليصنع به التقدم والنمو والإزدهار لنفسه، وللأغيار، ولكل الخليقة، وإلا أجدبت الخليقة وأصابها الجفاف والموت. فالعمل سر الحياة. والحياة تقوم بالعمل، وتقتضى العمل، وحيث لا عمل فلا حياة.
ولقد شاء الله أن يربط الإنتاج بالعمل. “فما يزرعه الإنسان فإياه يحصد” (غل6: 7) وعلى ذلك فإذا لم يزرع فلا يحصد، وإذا لم يعمل فلا إنتاج، وبالتالى فإنه لا يستفيد ولا يفيد. إن من لا يعمل يمسى عالة على الحياة، وبدلا من أن يكون عنصر خير وبركة لغيره وللخليقة يصير مُبطلا ومُبطِلا، ومُعطلا ومُعطِلا.
جاء في الكتاب المقدس “لا تعتل عن الإشتغال بالأعمال، فإن الذي يشتغل بكل عمل، خير ممن يتمشى أو ينتفخ وهو في فاقة إلى الخبز” (يشوع بن سيراخ 10: 29، 30)، (من عمل بكف وانية إفتقر، وأيدي المجدين تستغنى) (أم10: 4). “اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمل طرقها وكن حكيماً. إنها ليس لها قائد ولا مدبر ولا حاكم. وتعد في الصيف طعامها، وتجمع في الحصاد أكلها. إلى متى تنام أيها الكسلان. متى تنهض من نومك. قليل من الوسن، قليل من النوم. طي اليدين قليلا للرقاد. فيأتي فقرك كساع وعوزك كغاز. لكن إذا كنت مجداً يفيض حصادك فيض الينبوع، والفاقة تنصرف عندك” (أم6: 6 – 11). “أيدي المجدين تسود، واليد الوانية تخدم تحت الجزية” (أم12: 24). “نفـس الكسـلان تشتهى ولا تحصل. ونفس المجـد تسـمن) (أم13: 4)، “مـن يفلح أرضه يشبع خبزاً. ومن يتبع الفـراغ فهو فاقد اللب”(أم12: 11).”المشتغـل بأرضـه يشـبـع خـبـزاً، وتابع البطالين يشبع فقراً” (أم28: 19).
وجاء في الكتاب المقدس على لسان القديس بولس الرسول “ونتعب في العمل بأيدينا)” (1كو4: 12). ويقول للمؤمنين في تسالونيكي “وإنما نسألكم، أيها الإخوة… أن تحرصوا على أن تكونوا هادئين، وتنشغلوا بما يعنيكم، وتعملوا بأيديكم كما أوصيناكم… ولا تكون بكم حاجة إلى أحد” (1تس4: 10-12) ، “فإنكم تعرفون كيف يجب أن تقتدوا بنا، لأننا لم نخالف الترتيب فيما بينكم، ولا أكلنا الخبز من أحد مجاناً، بل عملنا ليلاً ونهاراً بجد وكد حتى لا نثقل على أحد منكم: لا لأنه لا حق لنا في ذلك، بل لأننا أردنا أن نجعل من أنفسنا قدوة تقتدون بها. ولما كنا عندكم أعطيناكم هذه الوصية، وهي أنه إذا كان أحد لا يريد أن يعمل، لا يحق له أن يأكل وقد بلغنا أن بينكم قوماً يسيرون بطالين ولا شغل لهم سوى التشاغل بما لا نفع فيه. فهؤلاء نوصيهم ونناشدهم في الرب يسوع المسيح أن يعملوا بهدوء، ويأكلوا من خبزهم” (2تسا3: 7-12). أنظر أيضاً (1تس2: 9).