الاتكال الكامل على الرب

‏‏العظة الثامنة والأربعون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

[عن الإيمان الكامل بالله]

1- لما أراد الرب أن يقود تلاميذه إلى الإيمان الكامل ، قال في الإنجيل : « المؤمن[1] في القليل مؤمن أيضا في الكثير ، وغير المؤمن في القليل غير مؤمن أيضا في الكثير » ( لو 10:16 – حسب النص ) . فما هو القليل وما هو الكثير، القليل هو وعود هذا الدهر التي تعهَّد الرب بأن يُقدمها للذين يؤمنون به، مثل الطعام والثياب وبقية أسباب راحة الجسد، أو الصحة وما شابه، الأمور التي سبق وأمر أن لا نُعيرها اهتماماً بالكلية[2] بل نتَّكل عليه بثقة ، لأن الرب يصير مُتكفلاً بكل شيء للذين يلتجئون إليه ؛ أما الكثير فهو عطايا الدهر الأبدي غير الفاني التي تعهد بأن يُقدمها للذين يؤمنون به والذين بلا انقطاع يهتمون بها ويسألونه عنها. فإنه هكذا أوصي قائلا : « أما أنتم فاطلبوا فقط ملكوته وبره ، وهذه كلها تزاد لكم » ( مت ۱ : ۳۳ – حسب النص)، لكي من هذه الأمور الصغيرة الزمنية يُمتحن كل واحد ، أيؤمن بالله. لأنه وعد أن يُقدمها إن كنا لا نُلقي بالاً إلى مثل هذه الأمور ، ونقصر عنايتنا فقط على الأمور العتيدة والأبدية.

۲ – وحينئذ يكون ظاهراً أن الإنسان يؤمن فيما يختص بالأمور غير الفانية ويطلب بالحق الخيرات الأبدية إن كان يحفظ إيمانه سالماً فيما يختص بالأمور المنظورة[3]. فينبغي لكل واحد من الذين يطيعون كلمة الحق أن يمتحن نفسه ويفحصها أو أن يُفحص ويُمتحن على يد رجال روحانيين ، کيف آمن وأعطى ذاته لله: هل حقا بالحقيقة بحسب كلمته ، أم إنه بزعمه البر والإيمان يتوهم في نفسه الإيمان. فإن كل واحد يمتحن ويُوبخ بهذا : أمؤمن هو في القليل، أعني الأمور الزمنية . أما كيف يكون ذلك ، فاستمع: أتقول إنك تؤمن بانك صرت أهلاً لملكوت السماوات، وأنك غدوت بميلادك الفوقاني ابناً لله ووارثاً مع المسيح[4]، وأنك تملك معه[5] إلى كل الدهور ، وأنك تتنعم في نور لا يُنطق به عبر دهور لا نهاية لها ولا حصر كما الله ؟ دون شك ستقول : ” نعم ، فإنه لأجل هذا السبب قد أعطيت ذاتي للرب تاركا العالم”.

3 – فامتحن نفسك إذاً لئلا تكون بعد ممسوكاً من الهموم الأرضية والقلق الزائد فيما يخص طعام الجسد ولباسه وبقية الاهتمامات وأسباب الراحة ، وكأنك بقدرتك الذاتية تتحمل نفسك وتعتنى بها ، في حين أنك أُمرت أن لا تكترث البتة بتلك الأمور من جهة نفسك . لأنك إن كنت تؤمن بتلك الأمور الخالدة والأبدية والباقية والفائضة ، فكم بالأحرى هذه الأمور العابرة والأرضية التي أعطاها الله حتي للأشرار والوحوش والطيور ، ألا تؤمن أن الرب يقدمها لك ، لا سيما وإنه قد أمر أيضاً بعدم الاهتمام البتة بهذه الأمور ، قائلاً: « لا تهتموا ما تأكلون أو بما تشربون أو بما تلبسون ، فإن هذه كلها تطلبها الأمم» ( مت 6 : 31 ، 32- حسب ا النص ) ؟ فإن كنت لا تزال مهتماً بهذه الأمور ، ولم تعهد بنفسك كلية إلى كلمته ، فاعلم أنك ما آمنت بعد بنيلك الخيرات الأبدية ، أي ملكوت السماوات ، حتى وإن ظننت أنك تؤمن، ذلك لأنك وُجدت في الأمور الصغيرة الفانية غير مؤمن بعد . وقد قال أيضاً« كما أن الجسد أكرم من اللباس ، هكذا النفس أكرم من الجسد»[6] ، أتؤمن إذا أن نفسك تقبل بواسطة المسيح شفاء من جراحاها الدهرية المتعذر شفاؤها عند البشر ، أي أهواء الخطيئة – ذلك الشفاء الذي من أجله أتى الر هنا لكي يشفي الآن نفوس المؤمنين من الأهواء المستعصية ويطهرها من دنس برص الشر ، وهو الطبيب الوحيد الحقيقي والشافي؟ 

 4 – ستقول دون شك :”أومن ، ففي هذا أنا قائم وهذا هو انتظاري”. فاعرف ذاتك إذا وافحصها لئلا تكون آلامك الجسدية تسوقك إلى أطباء أرضيين ، وكأن المسيح الذي آمنت به غير قادر على مداواتك . فانظر كيف أنك تخدع ذاتك إذ تتوهم أنك تؤمن ، مع أنك لم تؤمن بعد كما ينبغي بالحق . لأنك إن آمنت أن جراح نفسك غير المائتة – تلك الجروح الدهرية المتعذر شفاؤها – وأهواء الشر إنما تُشفى بواسطة المسيح ، لكن تؤمن بأنه قادر كذلك على شفاء آلام جسدك الزمنية وأسقامك ، ولكن تلوذ به هو وحده متغاضياً عن الوسائل والعلاجات الطبية . لأن الذي خلق النفس هو الذي صنع الجسد أيضاً، والذي يشفي تلك النفس غير المائتة هو الذي يستطيع أن يداوي الجسد من آلامه الزمنية وأسقامه .

6- لكنك بلا شك ستقول لي هذا : ” الله قد أعطى الجسد أعشاب الأرض والأدوية لشفائه”[7]، وسبق فأعد وسائل الأطباء من أجل آلام الجسد ، راسماً أن يداوي الجسد – كونه من الأرض – بمنتجات الأرض المتنوعة . أوافقك أنا أيضا أن هذه الأمور هكذا هي ، لكن انتبه وسوف تعرف كيف هذا ، ولمن أُعطيت هذه الأمور ولمن دبرها الله بحسب جزیل محبته للبشر غير المحدودة ولطفه . فإنه لما سقط الإنسان من الوصية التي كان قد أخذها ، وأصبح تحت حكم الغضب ، ونُفي من تنعم الفردوس إلى هذا العالم كما إلى السبي والمذلة أو العمل في المناجم ، وبات تحت سلطان الظلمة ، وصار غير مؤمن بسبب ضلال الأهواء ، سقط أخيراً- هذا الذي كان قبلاً بلا ألم ولا مرض – سقط تحت آلام الجسد وأسقامه ، وواضح أن جميع المولودين منه أيضا قد سقطوا تحت الآلام عينها.

6 – من ثم فقد دبَّر الله هذه الأمور للضعفاء وغير المؤمنين ، إذ لم يشأ – بفرط لطفه – أن يهلك بالتمام جنس البشر الخاطئ ، بل أعطى الأدوية لأناس العالم ولجميع الذين هم من خارج[8] لأجل إراحة الجسد ومداواته ورعايته ، فأذن باستعمالها لأولئك الذين ما استطاعوا بعد أن يكلوا أمر نفوسهم كليه إلى الله . أما أنت أيها الراهب الذي تقدمت إلى المسيح ، والذي تروم أن تكون ابنا لله وتولد من فوق من الروح القدس ، والذي تنتظر مواعيد أسمى وأعظم من تلك التي كانت للإنسان الأول غير المتألم – أعني مسرة سكنى الرب – والذي أصبحت غريبا عن العالم ، فيتوجب عليك أن تقتني إيماناً جديداً جداً وعجيباً ونية وسيرة تفوق كل أناس العالم . والمجد للآب والابن والروح القدس إلى الدهور ، آمين . 


  1. = مؤمن، أمين ، وسياق هذه العظة يُرجح المعنى الأول.
  2. انظر : مت 6: 25 – 34 ؛ لو 22:12 – 31.
  3. وردت في ال  PG = الأمور السابق ذكرها ، بدلا من  الأمور المنظورة ” ( PG 34 , 809 A ) ۔ 
  4. انظر : رو 17:8 
  5. انظر : 2تي 12:2.
  6. انظر : مت 6: 20
  7.  انظر : سي 38: 4.
  8. أي غير المؤمنين ( انظر : اکو 5: 12 ؛ 1تي 3 : 7 ) ۔ 

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى