تدابير نعمة الله من نحو بني البشر

‏العظة التاسعة والعشرون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار

[ الله يجري تدابير نعمته من نحو جنس البشر على نهجين ، وهو عتيد أن يطلب ثمارها أيضا في دينونة عادلة]

[أ] أولئك الذين تأتيهم النعمة سريعاً

1 – إن حكمة الله ، كونها لا تُحد ولا تُدرك ، تُجري بطريقة فائقة للإدراك والفحص تدابير النعمة من نحو جنس البشر بسبل شتَّى، لأجل امتحان الإرادة الحرة ، حتى يظهر أولئك الذين من كل قلوبهم يحبونه ويحتملون كل خطر وتعب من أجل الله. فالبعض تُبادرهم مواهب الروح القدس وهباته وتدركهم فيما هم يتقدمون بإيمان وسؤال، ويحدث أن يعطيهم الله نعمته دون مشقَّات وأعراق وأتعاب وهم بعد في العالم[1]. وهذا ليس جزافاً ولا في غير أوانه ولا كيفما اتفق، إنما بحكمة لا يُنطق بها ولا تُدرك ، لأجل امتحان النية وحرية الإرادة لأولئك الذين نالوا النعمة الإلهية هكذا سريعاً، إن كانوا قد شعروا بإحسان الله ولطفه نحوهم وحلاوته ، بما يتناسب ونعمته المعطاة لهم دون تعب من جانبهم – تلك النعمة التي بعد أن حُسبوا أهلاً لها وجب عليهم أن يُظهروا اجتهاداً وسعياً وجهاداً وثمر المحبة النابع من إرادتهم ونيتهم، وأن يردوا العوض[2] إزاء هذه المواهب، بأن يُعطوا نفوسهم بالكلية ويُسلموها لمحبة الرب ويتمموا مشيئته فقط وينبذوا بالتمام كل شهوة جسدية.

[ب] أولئك الذين تتمهل عليهم النعمة

۲ – ولكن لآخرين – لأولئك الذين اعتزلوا العالم وأنكروا هذا الدهر ، بحسب الإنجيل[3] ، وهم يتوفرون في دأب كثير على الصلاة والصوم والاجتهاد وبقية الفضائل ، لا يعطيهم الله في الحال نعمة الروح القدس وراحته وابتهاجه، إنما يطيل أناته عليهم محتجزاً موهبته عنهم. وهذا ليس جزافاً ولا في غير أوانه ولا كيفما اتفق، إنما بحكمة لا يُنطق بها، لأجل امتحان الإرادة الحرة، لكي يرى إن كانوا يحسبون الله الذي وعد أميناً وصادقاً[4] حتى يعطى الذين يسألون ويفتح باب الحياة للذين يقرعون . ولكي يرى إن كانوا – بعد أن آمنوا حقاً بكلمته – يثبتون إلى النهاية في يقين الإيمان[5] والاجتهاد سائلين وطالبين، كانوا لا يرتدون خائري العزائم ناكصين على أعقابهم ، قد فتَّ عضدهم عدم الإيمان وعدم الرجاء ، غير صابرين إلى المنتهی[6] بسبب بطء الرمان وامتحان إراداتهم ونياتهم.

٣- لأن الذي لا ينال النعمة بأكثر سرعة – وذلك بإمهال الله وطول أناته – يكون أشد اتقاداً وأكثر ابتغاءً للخيرات السماوية ويزداد كل يوم أكثر فأكثر شوقاً واجتهاداً وسعياً وجهاداً وكل سيرة للفضيلة وجوعاً وعطشاً إلى الصلاح، ولا يُثبط همته شر الأفكار الملازمة للنفس، ولا يجنح إلى الإهمال وفراغ الصبر وقطع الرجاء، ولا يُسلم نفسه إلى التراخي بعلة طول الأناة، متذرعاً بمثل هذا الفكر “إني نائل” يوماً ما نعمة الله، ومن هنا يسرقه الشر إلى التهاون. لكن (على النقيض من هذا ) بقدر ما يطيل الرب نفسُه أناته عليه بإمهال ، ممتحناً إيمانه وما تهواه مشيئته، ينبغي له أن يطلب «عطية الله»[7]  بأكثر شدة وأكثر حمية، بلا فتور ولا كلل ، إذ قد آمن مرة وتيقن في نفسه أن الله « مُنزه عن الكذب»[8] ، وأن ذاك الذي وعد أن يعطي نعمته للذين يطلبون بإيمان إلى النهاية بكل صبر، هو صادق.

4 – لأن الله مُعتبر أميناً وصادقاً للنفوس المؤمنة، والتي “قد ختمت أن الله صادق”[9] ، بحسب الكلمة الصادقة . فوفقاً لمعنى الإيمان المذكور سالفاً، فإن النفوس المؤمنة تفحص ذواتها على قدر طاقتها فيما يعوزها، تعباً كان أم جهاداً أم اجتهاداً أم إيماناً أم محبة أم توطيداً لبقية الفضائل. وبعد أن تفحص ذواتها بكل تدقيق وعناية، تغصبها بكل ما لها من قوة وتقسرها إلى مرضاة الرب ، إذ قد آمنت مرة أن الله ، كونه صادقاً، لن يحرمها موهبة روحه إذا ما لبثت حتى النهاية بكل اجتهاد في عبادته وانتظاره ، بل ستُؤهل للموهبة السماوية وهي : بعد في الجسد وتنال الحياة الأبدية.

5- وهكذا فإنها تدفع بكل محبتها نحو الرب ، جاحدة كل شيء ، ومتطلعة إليه وحده في اشتهاء كثير وجوع وعطش ، ومترقبة في كل حين راحة النعمة وتعزيتها، ورافضة – باختيارها – أن تتعزى أو تستريح أو ترتبط بشيء من هذا العالم . لكن على الدوام ، فيما هي تقاوم الأفكار المادية، تتطلع فقط إلى معونة الله ومعاضدته. لأن النفوس التي تأخذ على عاتقها مثل هذا الاجتهاد والعزم والصبر يكون الرب نفسه حاضراً بالفعل معها خُفية ، فيعينها ويحرسها ويؤازرها نحو كل ثمرة للفضيلة ، حتى ولو كانت لا تزال في تعب وضيق ، وما نالت بعد نعمة الروح القدس وراحة “الموهبة السماوية”[10] – في ما يخص معرفة الحق واستنارة النفس – وما شعرت بها بيقين . وذلك بسبب حكمة الله التي لا يُنطق بها وأحكامه التي لا يُعبر عنها، إذ يمتحن النفوس المؤمنة بسبل شتى ويراقب المحبة النابعة من إرادتها ونيتها. لأن هناك حدوداً وقاماتٍ وقياساتٍ للنية الحرة ولمشيئة المحبة وللعزم بكل قوة نحو جميع وصاياه المقدسة، وهكذا حين تُتمَّ النفوس قامة محبتها وما هو منوط بها ، تؤهل للملكوت والحياة الأبدية.

[ج] دينونة الإنسان على قدر معرفته

6- فإن الله عادل هو وعادلة هي أحكامه[11] « وليس عنده محاباة »[12] بل حين يدين كل واحد سيطلب ثمار الفضيلة بما يتناسب والميزات الحسنة – إن جسدية أو روحية أو معرفة أو فهماً أو تمييزاً – التي قد وضعها الله أيضا على نحو متباين في طبيعة البشر ، وسيجازي كل واحد في يوم الدينونة بالعدل طبقاً لأعماله . لأنه يقول : يأتي « ويجازي كل واحد حسب أعماله » ( رو 2 : 6)، و « الأقوياء بقوة سيُفحصون، أما الأضغر فخليق به الرحمة » ( حك 6 : 6 – حسب النص ) . والرب يقول : « العبد الذي يعلم إرادة سيده ولا يفعل سيُضرب كثيراً، ولكن الذي لا يعلم ويفعل ما يستحق ضربات سيُضرب قليلاً. ومن يودعونه كثیراً سيطالبونه بأكثر» ( لو 12: 47 ، 48 – حسب النص ) . أما المعرفة والفهم ( آنفا الذكر ) فلتفهم أنهما يكونان بدرجات متفاوتة ، إما بحسب نعمة الروح القدس وعطيته السماوية، أو بحسب ارتقاء طبيعي للفهم أو التمييز مع التأدب بالأسفار الإلهية . لأن كل واحد سوف تُطلب منه ثمار الفضيلة بما يتناسب وما صار له من قبل الله من ميزات حسنة ، طبيعية كانت أم مُعطاة من النعمة الإلهية . فكل إنسان إذا هو بلا عذر عند الله في يوم الدينونة ، لأن كل واحد سوف يُطالب – على قدر ما له من معرفة – بثمار الإيمان والمحبة وكل فضيلة مُعطا له ، وبما رده بمحض اختياره وإرادته ، سواء سمع كلمة الله أم لم يسمعها قط.

7- فإن النفس المؤمنة المُحبة للحق حين تُنعم النظر في الخيرات الأبدية الموضوعة للأبرار، وفي الإحسان الذي لا يُنطق به الكائن في النعمة الإلهية العتيدة أن تفتقدها ، تُحسب ذاتها – مع اجتهادها وتعبها وكدّها –  غير مستحقة إزاء مواعيد الروح القدس التي لا يُنطق بها . هذا هو المسكين بالروح الذي طوبه الرب[13] ، هذا هو الجائع والعطشان إلى البر[14] ، هذا هو المنكسر القلب[15]. فالذين يتخذون مثل هذا العزم والاجتهاد والتعب والشوق إلى الفضيلة، ويلبثون فيه إلى النهاية ، يمكنهم أن ينالوا بالحق الحياة والملكوت الأبدي. فلا يتشامخن إذا أحد من الإخوة على أخيه ولا يتقدم إلى العجب مخدوعاً من الشر، وكأني به يقول : ” ها أنا ذا قد حزت موهبة روحية » . فإنه لا يجدر بالمسيحيين أن يتفكروا هكذا، لأنه ماذا يصنع الغد بذاك؟ لست تعلم ؛ وأية خاتمة لذاك ، وأية خاتمة لك ؟ لست تعلم . لكن ليفحص كل واحد ضميره هو على الدوام ، منتبهاً إلى ذاته ، وليمتحن عمل قلبه ، وأية همة تكون لعقله من نحو الله وأي جهاد . وليركض فلا يتوقف ولا ينثني عزمه، مُثبتاً نظره على الهدف الكامل ، أعني الحرية وانعدام الأوجاع وراحة الروح ، غير قانع بأي موهبة أو بر . والمجد والسجود للآب والابن والروح القدس إلى الدهور ، آمين .


  1.  أي وهم لم يخرجوا بعد من العالم إلى الرهبنة . 
  2. الفعل ورد في سياق مشابه في مز 115: 3 س « بماذا أكافي الرب عن كل ما أعطانيه » . 
  3. انظر على سبيل المثال : مر 29:10 ؛ لو 26:14 ؛ … إلخ .
  4. انظر : عب 11:11.‏
  5.  انظر : عب 22:10
  6. انظر : مت 22:10 ،  13:24 ، مر 13:13. 
  7. تعبير عطية الله لم يرد في العهد الجديد إلا مرتين فقط ، يشير في كل منهما إلى الروح القدس : يو 4 : 10 ؛ أع 8 : 20.
  8. تي 2:1
  9. يو 3 :33.
  10. عب 6 :4. 
  11. انظر : مز 119 : 137 ، 75 س ۔ 
  12. أف 6 : 9. 
  13. انظر : مت 5: 3.
  14. انظر : مت 5: 6. 
  15. انظر : مز 19:33 ؛ 19:50 ؛ 146 : 3 ؛ إش 61: 1. 

فاصل

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى