رسائل القديس أنطونيوس – الرسالة الثالثة

 

الإنسان العاقل الذي أعدَّ نفسه لكي يتحرّر بظهور ربّنا يسوع يعرف نفسه في جوهره العقلي، لأنّ الذي يعرف نفسه يعرف تدابير الخالق وكلّ ما يعمله وسط خلائقه.

يا أعزّائي المحبوبين في الرَّبِّ أنتم أعضاؤنا والورثة مع القدّيسين. نتوسّل لأجلكم باسم يسوع، أن يُعطيكم الله روح التمييز، لكي تدركوا عظم المحبّة التي في قلبي نحوكم، وتعرفوا أنّها ليست محبّة جسديّة بل روحيّة إلهيّة. لأنّه لو أنّ الأمر بخصوص أسمائكم الجسديّة لما كانت هناك حاجة لأن أكتب إليكم بالمرّة لأنّها أسماء مؤقتة. لكن إذا عرف إنسان اسمه الحقيقيّ فسوف يعرف أيضًا اسم الحقّ. ولهذا السبب أيضًا عندما كان يعقوب يُصارع طوال الليل مع الملاك كان لا يزال اسمه يعقوب، لكن عندما أشرق النّهار دُعي اسمه إسرائيل أي “العقل الذي يرى الله” (تك 32: 24 ـ 30).

وأعتقد أنّكم لا تجهلون أنّ أعداء الفضيلة يتآمرون دائمًا ضدّ الحقّ. لهذا السبب فقد افتقد الله خلائقه ليس مرّة واحدة فقط، بل من البدء كان هناك البعض مستعدّين لأن يأتوا إلى خالقه بواسطة ناموس عهده المغروس فيهم، هذا الناموس الداخلي، الذي علّمهم أن يعبدوا خالقهم باستقامة. ولكن بسبب انتشار الضّعف وثقل الجسد والاهتمامات الشرّيرة جفَّ الناموس المغروس في البشر، وتوقـّف وضعفت حواس النفس، حتى أنّ البشر أصبحوا غير قادرين أن يجدوا أنفسهم على حقيقتها بحسب خلقتهم، أي الجوهر، الطبيعة، عديم الموت لا يتحلل مع الجسد. ولذلك فهذا الجوهر، أيّ النفس، لم يتمكّن من التحرر أيّ الخلاص، بواسطة برّه الذاتي. ولهذا السبب سكن الله مع البشر حسب صلاحه بواسطة النّاموس المكتوب، لكي يعلّمهم الناموس كيف يعبدون الآب كما يجب. الله واحد، أي أنّه جوهر واحد عاقل. وأنتم تفهمون هذا، يا أحبّائي، أنّه في كلّ مكان حيث لا يوجد توافق وانسجام، يحارب البشر بعضهم بعضًا ويقاضون في المحاكم بعضهم بعضًا.

وقد رأى الخالق أنّ جرحهم يعظم وأنّه يحتاج لرعاية طبيب ويسوع نفسه هو خالقهم وهو نفسه الذي يشفيهم، ولذلك أرسل أمام وجهه السّابقين. ونحن لا نخاف أن نقول إنّ موسى واضع الناموس هو أحد سابقيه، وإنّ الرّوح نفسه الذي كان مع موسى كان يعمل أيضًا في جماعة القدّيسين جوقة الأنبياء وأنهم جميعًا صلّوا لابن الله الوحيد. ويوحنّا أيضًا هو أحد سابقيه ولهذا السبب فإنّ الناموس والأنبياء كانوا إلى مجيء يوحنّا “وملكوت الله يُغصب والغاصبون يأخذونه بالقوّة” (مت 11: 12 ، 13) واذ كانوا لابسين للرّوح رأوا أنّه ولا واحد من الخليقة قادر أن يشفي هذا الجرح العظيم وإنّما فقط صلاح الله ونعمته، أي ابنه الوحيد الذي أرسله ليكون مخلصًا للعالم كلّه، لأنّه هو الطبيب العظيم الذي يستطيع أن يشفي الجرح العظيم. وطلبوا إلى الله، وهو في صلاحه ونعمته، وهو آب كلّ الخليقة، لم يضنّ بابنه لأجل خلاصنا بل سلّمه لأجلنا جميعًا ولأجل خطايانا (روم 8 : 32). ووضع نفسه وبجلداته شُفينا (راجع فيلبي 2: 8 ـ أشعيا 53 : 5) وبقوّة كلمته جمعنا من كلّ الشّعوب ومن أقصاء الأرض إلى أقصائها ورفع قلوبنا بعيداً عن الأرض وعلّمنا أنّنا أعضاء بعضنا لبعض.

أتوسل إليكم يا أعزّائي المحبوبين في الرَّبّ، إفهموا أنَّ هذا الكتاب المقدّس هو وصيّة الله. وإنّه لأمر عظيم جداً أن نفهم الصورة التي أخذها يسوع لأجلنا، لأنّه صار في كلّ شيء مثلنا ما عدا الخطيئة (عب 4: 15) . والآن إنّه من الصّواب أن نخلص نحن أيضًا من كلّ شيء بواسطة مجيئه، حتّى أنّه بجهله يجعلنا حكماء وبفقره يجعلنا أغنياء، وبضعفه يقوّينا، ويهب القيامة لنا كلّنا، مبيدًا ذاك الذي له سلطان الموت (عب 2: 14). وحينئذ نكفّ عن أن نطلب يسوع لأجل احتياجاتنا الجسديّة. إنّ مجيء يسوع يساعدنا على أن نفعل كلّ صلاح، إلى أن نبيد تمامًا كلّ رذائلنا. وعند ذلك يقول يسوع لنا لا أدعوكم بعد عبيدًا بل إخوة (يوحنّا 15 : 15).

وعندما وصل الرّسل إلى قبول روح التبني علّمهم الرّوح القدس أن يعبدوا الآب كما يجب.

أمّا بالنسبة إليّ أنا الأسير الفقير ليسوع، فإنّ الوقت الذي نعيشه قد تسبّب في فرح ونوح وبكاء. لأنّ الكثير من الرّهبان قد لبسوا الثوب الرّهباني ولكنّهم أنكروا قوّته. أمّا الذين أعدّوا أنفسهم للخلاص بمجيء يسوع، فهؤلاء أنا أفرح بهم.

أمّا الذين يُتاجرون باسم يسوع بينما هم يعملون مشيئة قلوبهم وأجسادهم، فهؤلاء أنا أنوح عليهم. أمّا الذين نظروا إلى طول الوقت وخارت قلوبهم وخلعوا ثوب الرّهبنة وصاروا وحوشًا فأنا أبكي لأجلهم. لذلك اعلموا أنّ مجيء يسوع يصير دينونة عظيمة لمثل هؤلاء. لكن هل تعرفون نفوسكم يا أحبّائي في الرَّبّ، لكي تعرفوا هذا أيضًا هذا الوقت، وتستعدّوا بتقديم نفوسكم ذبيحة مقبولة لدى الله. وبكلّ يقين يا أحبّائي في الرَّبّ أنا أكتب لكم كأناس حكماء قادرين أن يعرفوا أنفسهم وأنتم تعرفون أنّ من يعرف نفسه يعرف الله وأنّ من يعرف الله يعرف أيضًا تدابيره التي يصنعها من أجل خلائقه.

لتكن هذه الكلمة ظاهرة لكم، إنّه لا يوجد عندي حبّ جسدي من ناحيتكم وإنّما محبّة روحيّة إلهيّة، لأنّ الله يتمجّد في جميع قدّيسيه (مز 88 /8س). هيّئوا نفوسكم طالما أنّ لكم من يتوسّلون عنكم لله لأجل خلاصكم، لكيما يسكب الله في قلوبكم النّار التي جاء يسوع لكي يلقيها على الأرض (لو 12 : 49)، لكي تستطيعوا أن تدرّبوا قلوبكم وحواسّكم وتعرفوا كيف تميّزوا الخير من الشرّ واليمين من الشّمال والحقيقة من الوهم. إنّ يسوع عرف أنّ الشّيطان يستمدّ قوّته من الأشياء الماديّة الخاصّة بهذا العالم، ولذلك دعا تلاميذه وقال لهم “لا تكنزوا لأنفسكم كنوزًا على الأرض” “ولا تهتمّوا للغد” (مت 6: 19، 34).

وحقـًّا يا أحبّائي إنّكم تعرفون أنّه عندما تهبّ ريح معتدلة يفتخر ربّان السّفينة عندما يكمل الرحلة، لكنّه في وقت الرّياح العاصفة المُضادة يظهر كلّ ربّان ماهر. اعرفوا إذًا من أيّ نوع هو هذا الوقت الذي نعيش فيه.

أمّا عن تفاصيل كلمة الحرّية فتوجد أمور كثيرة أقولها لكم. لكن أعطوا الفرصة للحكيم فيكون أكثر حكمة (أم 9:9) .

أحييّكم من الصَّغير إلى الكبير في الرَّبّ، آمين.

فاصل

كما يمكنك أيضاً قراءة رسائل القديس أنطونيوس

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى