قوة الدموع والنار الإلهية
العظة الخامسة والعشرون من العظات الخمسون للقديس أنبا مقار
[هذه العظة تُعلم أن ليس أحد من الناس – إلا إذا تمكن من المسيح – بمستطيع أن يغلب عثرات الشرير. وما الذي ينبغي أن يصنعه الذين يبتغون المجد الإلهي. وتُعلم أيضا أنه بمعصية آدم تردينا في عبودية اهواء الجسد، تلك التي نُنقذ منها بواسطة السر الذي في الصليب. وهي تعلمنا كذلك كيف أن قوة الدموع والنار الإلهية هي عظيمة]
[أ] الإنسان بمفرده لا يمكن أن يغلب
1- إن الذين يتأصل فيهم الناموس الإلهي ، لا مكتوباً بحبر وأحرف بل مغروساً في قلوب لحمية[1]، هؤلاء متى استنارت عيون أذهانهم[2] وابتغوا على الدوام لا رجاءً محسوساً ومنظوراً بل آخر معقولاً وغير منظور ، يمكنهم أن يغلبوا عثرات الشرير، لا من تلقاء ذواتهم إنما بالقوة التي لا تقهر . أما الذين لم يتكرموا بكلمة الله ولم يتأدبوا تحت الناموس الإلهي فإنهم ، إذ ينتفخون باطلاً[3] ، يظنون أنهم بقوة إرادتهم الخاصة يبطلون علل الخطيئة ، تلك الخطيئة التي قد أُدينت فقط في السر الذي في الصليب[4]. فإن قوة الإرادة التي في مقدور الإنسان هي موضوعة ليقاوم بها الشيطان ، لا ليسود الأهواء بالتمام ، لأنه يقول : « إن لم يبن الرب البيت ، ويحرس المدينة ، فباطلاً يسهر الحارس ويتعب البناء » ( مز 126: 1- حسب النص).
۲ – فإنه من المستحيل للإنسان أن « يطأ على الأفعی وملك الحيات ويسحق الأسد والتنين»[5] ، ما لم يُطهر نفسه أولاً، بكل ما في وُسعه ، ويأخذ القدرة من ذاك الذي قال لرسله : « ها أنا قد أعطيتكم[6] قُدرة لتدوسوا الحيات والعقارب وكل قوة العدو » ( لو ۱۹:۱۰ ) . لأنه لو كانت الطبيعة البشرية تقدر – بدون سلاح الروح القدس الكامل – أن « تثبت ضد مكايد إبليس»[7] ، لما قال الرسول : « وإله السلام سيسحق الشيطان تحت أرجلكم سريعاً» ( رو 20:16) ، وأيضاً: « ..الأثيم الذي الرب سيبيده بنفخة فمه» ( ۲ تس ۲ : ۸ ). لأجل هذا أيضاً فقد أمرنا بأن نتوسل إلى الرب : « لا تدخلنا في تجربة ، لكن نجا من الشرير » ( مت 6 : 13) . فما لم نُنقذ بواسطة “المعونة الأفضل” من « سهام الشرير المُلتهبة»[8] ونؤهل للتبني فعبثاً نسعى ، إذ نوجد بعيدين عن قوة الله.
[ب] حالنا البائسة من دون نعمة الله
۳ – فالذي يروم إذا أن يصير شريك المجد الإلهي ، وأن ينظر في عقله[9] إلى شكل المسيح كما في مرآة ، و ينبغي له أن يطلب – بولع لا يشبع ونزوع لا يقنع ، من كل قلبه وقدرته ، ليلاً ونهاراً- المعونة الآتية من الله بقوة ، والتي لا يمكن الاشتراك فيها ، كما قلت آنفا ، ما لم يبتعد الإنسان أولاً عن ملذات العالم وشهوات القوة المعادية الشريرة المغايرة للنور ، التي لا اتفاق لها مع القوة الصالحة وهي غريبة عنها في كل شيء . لذلك فإن كنت تريد أن تعلم الأمر الذي بسببه – رغم كوننا خُلقنا في كرامة وأقمنا في الفردوس – قد شابهنا أخيراً البهائم التي لا فهم لها وحاكیناها[10] ، إذ سقطنا من المجد فائق النقاوة ؛ فاعلم أنه بسبب المعصية قد أمسينا عبيداً لأهواء الجسد ، وأوصدنا دون ذواتنا « كورة الأحياء»[11] الطوباوية ، وما نزال بعد قابعين في السبي ، جالسين « على أنهار بابل »[12] ومن أجل أننا لم نزل ممسوكين في مصر فنحن لم نرث بعد أرض الموعد التي تفيض لبناً وعسلاً ؛ وحتى الآن لم نُعجن بخميرة الإخلاص بل ما زلنا في خميرة الشر؛ ولم تُرش قلوباً بعد بدم الله ، لأن « شرك الجحيم »[13] وصنارة الشر لا يزالان مغروسين في قلوبنا.
4 – فحتى الآن ما نلنا بهجة خلاص المسيح[14] ، لأن شوكة الموت[15] لا تنفك مغروسة فينا . وما لبسنا بعد ” الإنسان الجديد المخلوق حسب الله في القداسة”[16] ، لأننا لم نخلع بعد « الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور »[17] . وما لبسنا بعد « صورة السماوي »[18] ولا صرنا « على صورة مجده »[19] . وما سجدنا لله بعد « بالروح والحق »[20] ، بسبب تملك الخطيئة في جسدنا المائت[21]. وما نظرنا حتى الآن مجد غير الفاسد ، لأن الظلمة الدامسة لا تفتأ تعمل فينا . وما لبسنا بعد « أسلحة النور »[22] لأننا لم نخلع عنا أسلحة الظلمة مع سهامها وأعمالها . وما تغيرنا بعد عن شكلنا بتجديد أذهاننا[23] لأننا لم نزل مُشاكلين لهذا الدهر في بُطل ذهنه[24]. وما تمجدنا حتى الآن مع المسيح لأننا لم نتألم معه[25] ، ولا حملنا بعد سماته[26] في جسدنا باشتراكنا في سر صليب المسيح ، لأننا لم نبرح کائنين في الأهواء الجسدية والشهوات . وما صرنا بعد « ورثة لله ووارثين مع المسيح »[27] لأن روح العبودية لا يزال هو الحال فينا لا روح التبني . وما صرنا هيكلاً لله ومسكناً للروح القدس[28] لأننا لم نزل هيكلاً للأوثان وإناء لأرواح الشر بسبب ميلنا إلى الأهواء .
5 – فإنا بالحقيقة ما اقتنينا بعد بساطة السلوك واستنارة الذهن ، ولا أُهلنا « للبن العقلي عديم الغش»[29] ولا للنمو الروحي . وحتى الآن لم “ينفجر لنا النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبنا »[30] ؛ ولم نمتزج بعد « بشمس البر» [31] ولا استضأنا بأشعته . وحتى الآن ما حصلنا على شبه الرب ، ولا صرنا « شركاء الطبيعة الإلهية »[32]. وما أصبحنا بعد أرجواناً ملوكياً بلا عيب ولا صورة إلهية خالصة. وحتى الآن ما جُرحنا بالعشق الإلهي ، ولا أصابتنا محبه العريس الروحانية. وما عرفنا بعد الشركة التي تفوق الوصف ، ولا تحققنا القوة والسلام الكائنين في التقديس. وبالإجمال أقول إنها حتى الآن ما غدونا « جنساً مختاراً ، وكهنوتاً ملوكياً، وأمة مقدسة ، وشعب اقتناء »[33] لأننا بعد « حيات ، أولاد أفاع »[34].
[ج] الرب يقبل الدموع عوض أشفيته
6 – فكيف لا نكون حيات نحن الذين لسنا نوجد تحت طاعة الله ، بل في المعصية التي صارت بواسطة الحية ؟ فعلى هذه الحال كيف أندب بؤسنا بما يتناسب معه ؟ لست أجد! كيف أذرف الدموع صارخاً نحو القادر أن يطرد عني الضلالة الساكنة فيَّ؟ لست أدري ! « كيف أرنم تزنيمة الرب في أرض غريبة ؟ »[35] كيف أنوح على أورشليم ؟ كيف أهرب من عبودية فرعون القاسية ؟[36] كيف أترك الغربة المخزية ؟ كيف أنكر الطغيان المُر؟ كيف أخرج من أرض مصر؟ كيف أعبر البحر الأحمر ؟ كيف أجتاز المفازة العظيمة ؟ كيف لا أهلك ملدوغاً من الحيات ؟ كيف أهزم الغرباء ؟ كيف أُهلك تماماً الأمم التي فيَّ؟ كيف أقبل كلمات الناموس الإلهي في لوحي ؟ كيف أعاين عمود النور الحقيقي وسحابة الروح القدس ؟ كيف أتمتع بمن النعيم الأبدي ؟ كيف أشرب الماء من الصخرة المحيية ؟ كيف أعبر الأردن وأدخل أرض الموعد الجيدة ؟ كيف أنظر رئيس جند الرب ، الذي حالما رآه يشوع بن نون سقط للوقت وسجد له »[37]
۷- فإنه ما لم أجز هذه جميعاً وأُهلك تماماً الأمم التي فيَّ ، فلن أدخل وأستريح في مقدس الله ولن أصير شريكاً في مجد الملك . لذلك فلتجتهد أن تصير ابناً لله بلا عيب[38] وأن تدخل « تلك الراحة » [39] « حيث دخل المسيح كسابق لأجلنا »[40] . اجتهد إذاً أن تُكتب في كنيسة السماوات مع الأبكار[41] ” لكیما توجد « عن يمين عظمة العلي »[42] . اجتهد أن تدخل إلى المدينة المقدسة ، “أورشليم العليا”[43] التي تفيض سلاماً، هناك حيث الفردوس . فإنه ما من وسيلة أخرى لديك لكي تُؤهل لهذه المثالات العجيبة الطوباوية سوى أن تذرف الدموع نهاراً وليلاً، بحسب القائل : « سأعوم كل ليلة سريري ، وبدموعي سأبل فراشي » ( مز 6 : 7 س ) ، فإنك لست تجهل أن « الذين يزرعون بالدموع سيحصدون بالابتهاج »[44] . ولذلك يقول النبي باجتراء : « عن دموعي لا تسكت » ( مز ۳۸ : ۱۳ س ) ، وأيضاً: « وضعت دموعي أمامك بحسب وعدك » ( مز 55 : 9 س ) ، وأيضا : « صارت دموعي خبزاً لي نهاراً وليلاً» ( مز 4:41 س ) ، وفي مزمور آخر : « مزجت شرابي ببكاء» ( مز ۱۰۱ : ۱۰ س ) .
۸- لأن الدمعة المنسكبة بالحقيقة « من حزن كثير وكآبة قلب »[45] ، في معرفة الحق مع التهاب الأحشاء ، هي قُوت مُقدم للنفس من الخبز السماوي ، ذاك الذي كانت تتناوله مريم أساساً وهي جالسة عند قدمي الرب باكية ، بحسب شهادة المُخلص نفسه ، لأنه يقول : « اختارت مريم النصيب الصالح الذي لن يُنزع منها» ( لو ۱۰ : ٤۲ ) . فيا لتلك اللآلي الغالية الثمن المكنونة في سكب العبرات الطوباوية ! يالهذا الإنصات المخلص الطيع ! يالشجاعة الذهن وحكمته ! يالشدة عشق روح الرب الجاذبة بقوة نحو الختن فائق النقاوة ! يالحدة توق النفس إلى الله الكلمة ! يالها شركة حميمة للعروس مع العريس السماوي !
[د] نار الروح القدس تُضرم القلوب
9- فلتتمثل بمريم مثل طفل ! تمثل بالتي لم تشخص إلى آخر إلا فقط إلى ذاك القائل : « جئت لألقي ناراً على الأرض ، وكنت أريد لو أنها اضطرمت » ( لو ۱۲ : 49 – حسب النص ) ! فإن نار الروح القدس هي التي تضرم القلوب[46]. من أجل هذا فالنار الإلهية غير المادية قد دأبت أن تنير الفوس وتُذكيها كذهب نقي في أتون، أما الشر فإما تلتهمه کشوك وقش ، « لأن إلهنا نار آكلة ، يُعطي نقمة في لهيب نار للذين لا يعرفونه والذين لا يطيعون إنجيله » [47]. هذه النار قد عملت في الرسل حين كانوا يتكلمون بألسنة نارية[48] ، هذه النار أضاءت حول بولس عبر الصوت (الذي خاطبه ) فأنارت ذهنه بينما طمست بصره ، إذ إنه ليس بدون جسده قد رأى قوة ذلك النور[49] هذه النار ظهرت لموسى في العليقة[50]، هذه النار اختطفت إيليا من الأرض في شكل مركبة[51]. هذه النار كان يلتمس فعلها داود الطوباوي قائلاً: « اختبرني ، يارب ، وجربني . أشعل[52] كليتي وقلبي» ( مز 25: 2 س ) .
۱۰- هذه النار ألهبت قلب كليوباس ورفيقه حين كان المخلص يتحدث إليهما بعد قيامته[53] . فإن الملائكة والأرواح الخادمة تشترك هي أيضاً في لمعان تلك النار بحسب ما قيل : « الصانع ملائكته أرواحاً، وخدامه ناراً ملتهبة » ( مز 4:103 س ؛ عب 7:1 ) . هذه النار حين تحرق الخشبة التي في العين الداخلية تُعيد العقل نقياً، حتى إذا ما استرد بصيرته الصافية التي بحسب الطبيعة ، ينظر على الدوام عجائب الله ، بحسب القائل : « اكشف عن عيني ، فأتفهم عجائب من ناموسك » ( مز ۱۱۸ : ۱۸ س ). لذلك فهذه النار تطرد الشياطين وتهدم الخطيئة ؛ هي قوة القيامة وفعل الخلود ؛ هي إنارة نفوس القديسين وقوام القوات العقلية . فلنصل نحن أيضا لكي تدرگنا هذه النار ، حتى إذا ما سلكنا كل حين في النور ، لا نصدم أرجلنا أبداً بحجر[54] ولو إلى حين، بل “نُضيء گأنوار في العالم ، متمسكين بكلمة الحياة الأبدية »[55] ، لكي إذا ما تمتعنا بخيرات الله نستريح مع الرب في الحياة ، ممجدين الآب والابن والروح القدس ، له المجد إلى الدهور ، آمين .
- انظر : ۲ کو ۳ : ۳ .
- انظر : أف ۱ : ۱۸.
- انظر : کو 2: 18.
- انظر : رو 8: 3.
- مز 90: 13 س .
- = قد أعطيتُكم ( وليس أعطيكم كما في الترجمة البيروتية ) .
- أف 6 : 11.
- أف 6 : 16 .
- الكلمة تعني حرفياً : ’ الرئاسي “ أو ” القيادي“ ، وهي مستخدمة في مز 50: 14 س « ..وبروح رئاسي اعضدني » ، وهي عند الرواقين تعني ” intellect = العقل ‘ ‘ کونه الجزء الأساسي صاحب السلطة والسيادة في النفس البشرية . وقد أخذها العديد من الآباء واستخدموها بذات المعنی ، مثل : كليمندس الإسكندري ، وأوريجانوس ، وق . أثناسيوس الرسولي ، وق . يوحنا فم الذهب ، وغيرهم .( see Lampe , s.v)
- انظر : مز 48: 21 س.
- مز 144 : 9 س .
- مز 136 : 1س .
- أم 18:9 س ۔
- انظر : مز 14:50 س ۔
- انظر : 1کو 10: 56 .
- أف 4 : 22 – حسب النص.
- أف 4: 22
- 1کو 49:15 .
- في 3: 21 – حسب النص
- يو 24:4 .
- انظر : رو 6: 12.
- رو 12:13.
- انظر : رو 2:12
- انظر : رو 12: 2 ؛ أف 4 : 17.
- انظر : رو 17:8 .
- انظر : غل 17:6 ، وقد أورد أنبا مقار هذه الكلمة ” سمات” ثلاث مرات في عظاته ( هنا ؛ 32: 7 ، 37: 9) .
- رو 17:8.
- انظر : 1کو 16:3 .
- 1 بط 2:2 – حسب النص .
- 2 بط 19:1.
- ملا 3: 30
- 2 بط 4:1 .
- 1 بط 2: 9 .
- مت 23: 33.
- مز 4:137
- بدءاً من هنا وإلى نهاية هذه الفقرة ، يسرد أنبا مقار ما قد حدث لشعب إسرائيل في رحلة خروجهم من مصر ، ويُطبقه مستيكياً على نفسه ، أو بالأحرى على كل إنسان .
- انظر : یش 5 : 14 .
- انظر : في 2: 15.
- عب 11:4 .
- عب 6 : 20- حسب النص.
- انظر : عب 23:12 .
- عب 3:1- حسب النص
- انظر : غل 4 : 26
- مز 125 :5س
- 2 کو 2 : 4 .
- تكلم أنبا أنطونيوس كثيراً عن هذه النار غير المادية التي جاء الرب لكي يلقيها في القلوب ( انظر مثلاً الرسالة 3 : 4 ، 5 : 3 ؛ 6 : 8 )
- تث 4 : 24 ؛ عب 12: 29 ؛ 2تس 8:1 – حسب النص .
- انظر : أع 2 : 3 ، 4 .
- انظر : أع 9، 22 ؛ 26.
- انظر : خر 3 : 2.
- انظر : 2 مل 2 : 11.
- =burn , refine by fire ، والمقصود هنا التنقية والتمحيص كما بنار.
- انظر : لو 24: 32.
- انظر : مز 90 : 12 ؛ مت 4 : 6 ؛ لو 4 : 11.
- في 2 : 15 ، 16 – حسب النص .