الوهية الروح القدس للقديس كيرلس الإسكندري

الروح القدس يخلق ويُجدّد:

إن كان الروح يستطيع أن يُؤله وأن يهب المخلوقات رتبة أسمى من الخليقة فهو أسمى من حيث الطبيعة، والكرامة، فإذا كان يستطيع أن يؤله النفس، فكيف يمكن أن يكون مخلوقًا وليس إلهًا، طالما أنه يؤله؟

إن كنا نؤمن بأن الله قد أتى إلينا، بواسطة سكنى الروح القدس داخلنا، فكيف يمكن أن يكون (الروح) مخلوقًا؟ لأنه من غير الممكن أن يُقيم الله داخلنا بواسطة مخلوق، إذ أن الله يسمو على الكون (المخلوق). لأنه كما انه بسكنى الله داخلنا، نصبح شركاء الطبيعة الإلهية، وليس شركاء الطبيعة المخلوقة، هكذا فإذا سكن داخلنا مخلوق، فلن نكون بعد شركاء الطبيعة الإلهية، بل شركاء الطبيعة المخلوقة. إذًا فالروح هو إله، طالما أن الله يسكن فينا بالحقيقة من خلاله.

فكل شيء يأتي من العدم إلى الوجود، يعتبر عبد للذي خلقه، ويكون في مكانة الخادم، بينما نحن إذ قد صرنا شركاء الروح القدس وصرنا أحرارًا، وهذا معناه على كل حال أن الروح القدس بحسب طبيعته حر، وليس بمخلوق، ولا عبدًا، كما في حالة الخليقة، بل هو الطبيعة التي هي فوق كل نير وكل حرية.

إن كان الروح يعمل فينا المواهب الإلهية كما يشاء، لأن هذا ما يقوله المطوب بولس: ” الله واحد الذي يعمل الكل في الكل “[1كو 12: 6]، إذًا فالروح إله، إذ أنه ينبثق من الله بالطبيعة.

والمطوب داود يُرنم لله مخلص الجميع، من اجل كل ما هو موجود على الأرض قائلاً: ” تُرسل روحك فتخلق وتجدد وجه الأرض “[مز 4: 1- 30]، لكن هذا الذي تجّدد، قد تجّدد هكذا كما كان في البداية، وهذا هو فعل القوة ذاتها، التي أتت به إلى الوجود منذ البدء، وعندما فسد هذا المخلوق، أعادته تلك القوة مرة أخرى إلى حالته الأولى. الروح يُجدد الخليقة، لأن الخليقة لم تُخلق من قِبل مخلوق، وعندما فسدت لم تتجدد بمخلوق، بل من الله. إذًا فالروح القدس إله، ويأتي من الله بحسب الطبيعة.

إن كانت المخلوقات في مجموعها قد خُلقت بنسمة فم الله، كما يُصلي داود[مز 32: 6]، وان كان الروح مخلوق (كما يدّعي البعض)، فليقل لنا هؤلاء الذين يُؤمنون بذلك، إلى أي شيء يستند هذا الإيمان. وإن كان الروح حقًا طبيعة مخلوقة، وهو الذي يُثبت الخليقة، فهذا معناه أن الخليقة تُثبّت نفسها، وليس لها احتياج لله على الإطلاق. لكن حين تؤمن بهذا الكلام، وتتحدث به، فهذا أمر يدعو للدهشة والغرابة، لأننا نتحد بالله عن طريق الروح القدس، وكلام المزمور كلام حقيقي: ” بكلمة الرب صُنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها “[ مز 32: 6]. إذًا فالروح من طبيعة الله، ويأتي من الله، وعلى أية حال فهو ذو طبيعة مختلفة عن الخليقة، التي تعتمد في وجودها عليه. فذاك الذي هو أسمى من الخليقة، ومن طبيعة مختلفة عن المخلوقات، هو بالتأكيد إله، وليس شيئًا آخر.

روح الحكمة والقوة:

لقد جعلنا الله حكماءً، بل وأقوياءً، عن طريق الابن، بالروح القدس. لأنه يُدعى روح الحكمة، وروح القوة. إذًا كيف يمكن أن يكون روحًا مخلوقًا؟ لأنه لو كان ذلك أمرًا صحيحًا، فمن الواضح أنه لا يوجد شيء يمكن أن يُعوقنا عن أن نفكر على هذا النحو: أن الله حكيم وقوي من خلال المخلوقات، وحكمته حكمه مخلوقة. وفي هذه الحالة يكون الكون هو الذي يضفي جمالاً على الله وليس العكس. لكن أن تؤمن بهذا، أو تقوله فهذا كفر. وبناءً على ذلك فإن الروح إله، وينبثق من الله بحسب الطبيعة، وبواسطته يعطي الله الحكمة للخليقة ويشدّدها. وعن الابن قال المطوب بولس: ” وأما الرب فهو الروح “[2كو 3: 17]. أيضًا الابن نفسه قال: ” الله روح “[يو 4: 24].

إذًا عندما يُدعى الروح القدس بالآب مرةً، وأيضًا بالابن مرة أخرى، فكيف لا يكون واحد في الجوهر معهما؟ كما أن الخليقة في طبيعتها غير مؤلهة. إذًا فإن كان من غير الممكن أن نشترك في طبيعة الله أو نصير شركاء الطبيعة الإلهية، إلاّ فقط من خلال الروح القدس، فكيف يُعتبر الروح خارج الألوهه، ذاك الذي بذاته يجعل أولئك الذين يأتي إليهم، شركاء الطبيعة الإلهية؟

أن نقول بأن الخليقة، أو أي مخلوق من المخلوقات، هو مساو في العمل والقوة مع الله، فهذا يُمثل دليلاً واضحًا على الكفر. لكن لأن الروح القدس له نفس الطاقة أو العمل مع الآب والابن، فمن الواضح أنه إله من إله من حيث طبيعته، حتى أنه يستطيع أن يعمل ما يعمله الله. والدليل على كل ما يُقال، هو هذا الذي طرحه القديس بولس بكل وضوح، قائلاً: ” فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد. وأنواع خدم موجودة ولكن الرب واحد. وأنواع أعمال موجودة ولكن الله واحد الذي يعمل الكل في الكل “[1كو 12: 7]. ولأن الآب يُعطي حياة، والابن أيضًا بنفس القدر يُعطي حياة، الروح القدس هو أيضًا يُحيي. يكتب إذًا المطوب بولس: ” أوصيك أمام الله الذي يُحيي الكل “[1تي 6: 13]. بل إن الابن نفسه قال: ” خرافي تسمع صوتي وأنا اعرفها فتتبعني وأنا أعطيها حياة أبدية [يو 10: 27 – 28.].

وأما أن الروح يُحيي، سيُبرهن على ذلك المخلص نفسه بقوله: ” الروح هو الذي يُحيي. أما الجسد فلا يفيد شيئًا. الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة “[ يو 6: 63]. بل والمطوب بولس يكتب ” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائتة بروحه الساكن فيكم “[رو 8: 11]. إذًا فذاك الذي يمكنه أن يعمل أعمال مساوية في الكرامة للأعمال التي يعملها الله، هو بالحقيقة إله، ويأتي من الله بحسب الطبيعة.

لقد وبّخ ربنا يسوع المسيح جموع اليهود قائلاً: ” أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي. بسبب أي عمل منها ترجمونني “[يوحنا 10: 32]. وأيضًا ” الآب الحال فيّ هو يعمل الأعمال “[يوحنا 14: 10]. بل إنه أقر، بأنه بروح الله يُخرج الشياطين. إذًا طالما أن أعمال الروح هي أعمال الآب، ومن الواضح أنها أعماله هو أيضًا، فكيف يكون من الممكن أن يكون الروح مخلوقًا؟ لأنه لو كان هذا الأمر حقيقي (أى أن الروح مخلوق)، فعندئذ يتمجد الآب من خلال المخلوق، بل والابن يتمجد بالمخلوق، طالما أن المعجزات يصنعها بواسطة الروح، إلاّ أن هذا أمرًا غير معقول. إذًا فالروح إله، وهو من طبيعة الله، طالما أنه يعمل أعمال الآب والابن.

الروح القدس يملأ كل المسكونة:

حين يعرض المطوب بولس للعهد الجديد الذي للمسيح، يعرضه بصورة أكثر مجدًا من العبادة الناموسية، قائلاً: ” إن كانت خدمة الدينونه مجدًا فبالأولى كثيرًا تزيد خدمة البر في مجد “[2كو 3: 9]. إذًا الناموس كان لخدمة الدينونة، بينما البشارة الإنجيلية كانت لخدمة البر. لكن خدام العهد القديم، الذين أدانهم، كانوا يتحدثون بعبارات مثل ” يقول الرب “، وخدام العهد الجديد، الذين بررهم، قالوا: ” الروح القدس يقول “. إذًا هل خدام العهد الذين أدانهم أسمى من خدام العهد الثاني (أي الجديد)؟ لأن خدام العهد القديم خدموا بكلام الله، فلو أن الروح القدس هو مخلوق فهذا معناه أن خدام العهد الجديد خدموا بكلام المخلوق. وكيف تكون بعد، خدمة البر في مجد؟ لأنه ما هو الأكثر مجدًا، أن يخدموا بكلام الله أم بكلام المخلوق؟ لكن خدام العهد الأول (القديم) ليسوا أسمى ولا هم أكثر بهاءً من خدام العهد الجديد.

وبناء على ذلك فعندما قالوا إن: ” الروح القدس يقول “، فهم أيضًا يُخدَمون بكلام الله، لأن روح الله، هو إله، ويأتي من الله بحسب طبيعته. أما أن خدمة خدام العهد الثاني (الجديد) هي أكثر بهاءً من خدمة خدام العهد الأول (القديم). فهذا ما أكده المخلص، قائلاً للرسل القديسين: ” الحق أقول لكم إن أنبياء وأبرارًا كثيرين اشتهوا أن يروا ما أنتم ترون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم تسمعون ولم يسمعوا ” لكن أنتم ” طوبى لعيونكم لأنها تُبصر ولأذانكم لأنها تسمع “[متى 13: 17,16]. وقال لتلاميذه القديسين: ” وتساقون أمام ولاة وملوك من اجلي… فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلمون لأنكم تُعطَون في تلك الساعة ما تتكلمون به. لأن لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم “[متى 10: 19 – 20].

أيضًا يقول المطوب بولس: ” إذًا أنتم تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ “[2كو 13: 3]. إذًا عندما يتكلم المسيح في القديسين، فالروح هو الذي يتكلم، فكيف يمكن أن يكون مخلوقًا ذاك الذي يوجد داخلنا ويتكلم المسيح من خلاله، والذي من الله بحسب الطبيعة، وواحد في الجوهر مع الابن؟ والمطوب موسى قال في سفر التكوين: ” فخلق الله الإنسان على صورته “[تك 1: 27]. بل وخالق الجميع قال بفم إشعياء: “ أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها “[أش 45: 12]. وطالما أن هذا صواب، فإن المطوب أيوب يقول: ” روح الله صنعني “[أيوب 33: 4]. فإن كان روح الله مخلوقًا، فهذا معناه أننا خُلقنا من مخلوق. وإذا كان كذلك فلماذا يقول الكتاب: ” وجبل الرب الإله ادم ترابًا من الأرض “[تك 2: 7]. وبناء على ذلك فمن الأمور الأكثر غرابة أن ننسب مجد الخالق للمخلوق، فالروح خالق، إذًا فهو إله وهو من الله بحسب طبيعته.

فلو أن الأصغر يُبَارك من الأكبر[عب 7:7.]، وفقًا لكلام القديس بولس، ولو أن الخليقة المدركة تتبارك، وتتقدس من الله بواسطة الروح، فإنها تتبارك وتتقدس من ذاك (أي الروح) الذي هو أسمى بحسب طبيعته من كل شيء. وإن كان هذا صحيحًا، إذًا فالروح القدس ليس مخلوقًا. لأن الأكبر لا يتبارك من الأصغر.

الروح يُحيي إذ هو الحياة:

فإن كانت المخلوقات تُدرك في مكان محدد، ومن خلال بعض الصفات، وإن كان الروح القدس لا يُدرك هكذا، لأنه مكتوب: ” روح الرب ملأ المسكونة “[حكمة سليمان 1: 7.]، بل وداود يُرنم قائلاً: ” أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب “[مز 139: 7]، فكيف يمكن أن يكون ذاك الذي يملأ المسكونة، مخلوقًا، لأنه بالنسبة للابن، كتب ” الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات لكي يملأ الكل “[أف 4: 10]. والآب نفسه قال لليهود في موضع ما ” السموات كرسيّ والأرض موطئ قدميّ أين البيت الذي تبنون وأين مكان راحتي “[إش 66: 1]، وأيضًا: ” أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب [إر 23: 24].

وفي موضع آخر قال الله لليهود الذين تحرروا من بابل ” واعلموا فإني معكم … وروحي قائم في وسطكم “[حجي 2: 4 – 5]، أي انه في وسطكم قائم الله بحسب الطبيعة والحقيقة. كيف يمكن أن يُعد مخلوقًا، وليس إلهًا، إنه من الله بحسب الطبيعة، طالما أنه بذاته يحقق الحضور الإلهي؟

مكتوب: “ بكلمة الرب صنعت السموات وبنسمة فيه كل جنودها[مز 33: 6]. والمؤكد أن قوة الخلق تليق بالله، وليس بالمخلوق، فكيف يمكننا أن نتشكك في ذلك؟ لكن لو أن الروح حقًا مخلوق، وهو الذي يثبّت الخليقة، فحينئذٍ تكون الخليقة هى التي تحفظ ذاتها لكي تكون في حالة حسنة، دون أن تحصل أو تأخذ أي شيء من الله لأجل هذا الأمر، وإن كان يجب أن أقول شيئًا غير لائق، فإن الخليقة بهذه الرؤية لها طبيعة سامية، طالما إنها تعمل من تلقاء ذاتها، وبهذا تصير موضع إعجاب لدى المرء. لكن هذا أمر غريب، لأن الروح يُثبت السموات، ويُشدّد الخليقة. إذًا فهو طبيعة أسمى من الخليقة، إذ هو إله.

فإن كان الروح يُحيي، وهو الحياة، وفقًا لكلام المخلص[ يوحنا 6: 36]، فكيف يمكن أن يكون مخلوقًا؟ ولهذا فلو لم يكن موجودًا قبلاً، فليس هو حياة، أي لو أنه خُلق مع أشياء أخرى، أي تلك التي أتت للوجود من العدم. إن الكلام عن خلق الروح، بهذه الطريقة هو كلام غير لائق، لأن الروح هو بالحقيقة حياة، ويُحيي. إذًا فهو لم يُخلق، بل كان موجودًا قبل الدهور، لأنه من الله بالطبيعة، وهو إله.

الطبيعة الإلهية غير المائتة، طبيعة بسيطة وغير مركبة، وهى التي تأتي بكل المسكونة إلى الوجود، وتكملّها بالروح. فلو أن الروح القدس هو مخلوق، كما يدّعي المضادون، فستكتمل عندئذٍ أعمال الألوهة عن طريق مخلوق. ولأن الله من جهة طبيعته بسيط، فكيف يمكن لروحه أن يكون مُركبًا؟ لأنه ليس هناك بين المخلوقات ما هو بسيط من حيث طبيعته. نعم، كما قال هؤلاء الذين يشتكون على مجد الروح القدس، الروح القدس هو من الله، ويُقدس الخليقة من الله. لأن المخلص قال عنه: ” يأخذ مما لي “[يوحنا 16: 15].

إن ما يُمنح ويأتي من خارج، من آخر، يمكن على أية حال أن يُنزع، وما ليس لنا بالطبيعة، يمكن أن يُفقد. إذًا هل سيفقد الروح القدس ذات مرة قوة التقديس؟ برغم أنه من المؤكد أن له صفة تدل على جوهره، والذي يؤكد على أنه كائن، وليس مجرد رتبه ما، أو امتياز، كما هو الحال بالنسبة للسلطة والعرش، والسيادة. لأن هذه الألقاب لا تعبر عن جوهر هؤلاء الذين يحملونها، بل تُعلن درجة كرامة كل رتبة على حدة. ولكن في الثالوث القدوس اسم الآب والابن والروح القدس، لا يُظهر امتيازًا ما، بل يُوضح ماهية كل واحد من هذه الأسماء.

قدوس بطبيعته:

فإن كان اسم الروح القدس يُعلن عن جوهره، أي يُعلن عن ماهيته من جهة طبيعته (لأنه دُعي قدوس)، فالله قدوس أيضًا[ إش 6: 3]، (إذ هكذا تُسبّحه القوات السمائية لا كأنه اكتسب القداسة، بل لأنه قدوس بطبيعته، وبحسب الجوهر)، ولن يكون الروح غريبًا عنه من حيث جوهره. لأنه هو بطبيعته قدوس، طالما أنه يأتي من قدوس، ومتحد بالله القدوس بحسب طبيعته.

هؤلاء الذين يقولون إن الروح القدس مخلوق لا يدركون، إذ هم عميان، أن كل خدمه تتصف بالعبودية، هي اقل أو أدنى من الخدمة الذاتية أو الشخصية. مثلما حدث على سبيل المثال عندما أُعطى الناموس للقدماء، والذي أُخبر به بترتيب ملائكة، وبواسطة موسى، الكامل في الحكمة.

لكن الذي أعلن الناموس قديمًا، هو نفسه أرسل لنا النعمة بواسطة الإيمان. ولهذا فإن خدمة المسيح نفسه هي أكثر مجدًا، من خدمة موسى. إذًا لو أن الروح يُقدسنا كخادم، فمن الذي تقدّس أكثر من قِبل الآب؟ إنه ذاك الذي لا يتقدس، إلاّ عن طريق الروح القدس فقط. إن أعلى وأسمى درجات البركة الإلهية هو التقديس بواسطة الروح. وبناء على ذلك فالروح لا يُقدس الخليقة كعبد، ولا كواهب غريب (عن طبيعة الله)، بل إن الله ذاته بروحه هو الذي يصنع هذا بطريقة ما.

يهبنا شركة الطبيعة الإلهية:

المسيح له المجد يقول في موضع ما: ” إن أحبني احد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي وعنده نصنع منزلاً “[يوحنا 14: 23]. وبأي طريقة يتحقق فينا هذا الوعد، الكلمة الإلهية تعلّمنا ذلك بوضوح. بالحقيقة يقول المطوب يوحنا البشير: ” وبهذا نعرف أنه يثبت فينا من الروح الذي أعطانا “[1يوحنا 3: 24]. والكامل في الحكمة بولس يقول: ” أما تعلمون أنكم هيكل الله وروح الله يسكن فيكم “[1كو 3: 16]. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا طالما صرنا بواسطته شركاء مع الآب والابن؟ لأنه لم يكن ممكنًا بواسطة مخلوق، أو واحد من الملائكة القديسين، أن نصير شركاء الطبيعة الإلهية. وهكذا فإن الله يوجد داخلنا عن طريق الروح الذي هو إله.

الكتاب يقول، إن الروح القدس كان حاضرًا في شمشون، طالما كان غير حليق الشعر، ثم يقول الكتاب ” الرب قد فارقه “[قض 16: 20]، وذلك عندما حلق شعره بطريقة سيئة. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا، طالما أنه بطبيعته هو الرب؟ لأن ذاك الذي هو حر، وسيد حقًا، لا ينتسب أو ينتمي للمخلوقات.

عندما قرر ربنا يسوع المسيح أن يصعد إلى السماء، عزى رسله القديسين قائلاً: ” لا أترككم يتامى. إني أتي إليكم “[يوحنا 14: 18]. وتمم وعده، وأرسل لنا المعزي من السماء، أو من الأفضل أن تقول، إنه أتى إلينا بواسطة الروح. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا، وهو الذي بواسطته تُقيم بيننا الطبيعة غير المخلوقة، “الكلمة” الذي خلق المسكونة؟

الروح القدس واحد في الجوهر مع الآب والابن:

إن الذين يتجرأون على أن يقولوا أو يؤمنوا، بأن الروح القدس مخلوق، يكفرون كثيرًا. لأنه كما أن الإنسان، ليست روحه غريبة عن ماهيته. هكذا فإن الروح ليس غريبًا عن الله بالطبيعة وبالحقيقة، وإن كان يُدرك كموجود بذاته، أي مثل الآب ذاته، وبالطبع مثل الابن، فمن المؤكد انه عندما يكون الروح داخلنا، يكون الابن داخلنا أيضًا، بسبب وحدة الجوهر بينهما ولأن الروح هو روحه بالطبيعة، وهذا ما يؤكده لنا المطوب بولس قائلاً: ” الذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله. وأما أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح الله ساكنًا فيكم. ولكن إن كان احد ليس له روح المسيح فذلك ليس له. وإن كان المسيح فيكم فالجسد ميت بسبب الخطية. وأما الروح فحياة بسبب البر “[ رو 8: 8 – 10]. إذًا فهو يؤكد أن الروح يُدعى روح الله، ويُشير أيضًا إلى المسيح، بسبب وحدة الجوهر بينهما.

إذًا عندما يوجد المسيح داخلنا، فكيف يمكن أن يكون روحه مخلوقًا، طالما أن الابن من حيث طبيعته هو إله، وواحد في الجوهر مع الآب؟ المطوب بولس، تكلم عن أولئك الذين يتنبأون في الكنيسة متّبعين النظام الخاص بذلك، أى كل واحد بمفرده، يقول إن مَن ينظر إليهم، يقول إن الله داخلهم بالحقيقة. لكن من جهة هؤلاء الذين يتكلمون بألسنة غير مفهومة، يقول عنهم إنهم لا يُكلمون الناس، بل الله[1كو 14: 23 – 26].

ها هو إذًا يقول بكل وضوح، إن هؤلاء يتنبأون ملهمين بالروح، والله يوجد داخلهم، وان هؤلاء الذين يتكلمون بلسان غير مفهوم، يتحدثون مع الله[1كو 2: 1]. إذًا فالروح القدس هو إله.

كل شيء مخلوق، هو على كل الأحوال اقل من سمو الله، ويأتي في مرتبة أقل بكثير من المجد الأسمى. لأنه لا يمكن أبدًا لمَن هو عبد، أن يكون له نفس استحقاقات السيد، ولا المخلوق له نفس استحقاق الخالق أو نفس القيمة مع الخالق. وبناء على ذلك فإن إله الجميع يُبرر أولئك الذين يخطئون، مادام له السلطان على غفران الخطايا. بل والروح القدس أيضًا يُبرر بنفس الدرجة. لأن القديس بولس يقول:” لكن اغتسلتم بل تقدستم بل تبررتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا [1كو 6: 11]. إذًا طالما أن الروح يُبرر بنفس القدر مع الله، فكيف لا يكون واحدًا معه في الجوهر؟ لأن المخلوق لا يمكن أن يبررنا.

ذلك الذي له نفس القدرة مع الله الآب، هو على كل الأحوال واحد في الجوهر معه. إذًا مادام الله الآب مُحيي، فإن الروح القدس وبنفس القدر هو روح مُحيي.

أو من الأفضل أن نقول إن الآب يُحييّ بواسطة الروح القدس. هذا ما يؤكده القديس بولس وهو يكتب لتلميذه تيموثاوس: ” أوصيك أمام الله الذي يُحيّ الكل والمسيح يسوع… أن تحفظ الوصية بلا دنس ولا لوم [1تيمو 6: 13 – 14]. لكن في موضع أخر يقول: ” وإن كان روح الذي أقام يسوع من الأموات ساكنًا فيكم فالذي أقام المسيح من الأموات سيُحيي أجسادكم المائته أيضًا بروحه الساكن فيكم “[ رو 8: 11]. إذًا من المؤكد أن الله الآب يُعطي حياة للأموات، كما قلت، لكنه يعطيهم هذه الحياة بواسطة الروح القدس. إذًا كيف يكون مخلوقًا؟ فالآب لا يُعطي حياة عن طريق مخلوق، بل بالروح القدس الذي هو واحد معه في الجوهر.

قال الله ذات مرة لموسى: ” من صنع للإنسان فمًا؟ أو من يصنع اخرسًا أو أصمًا أو بصيرًا أو أعمى؟ أما هو الرب؟ فالآن اذهب وأنا أكون مع فمك وأعلمك ما تتكلم به “[خر11:4]. بل أيضًا ربنا يسوع المسيح وعد رسله القديسين، عندما كانوا يذهبون إلى ولاة، أنه سيعطيهم فمًا وحكمة[متى 10: 19 – 20].أيضًا كُتب في سفر أعمال الرسل: ” وظهرت لهم ألسنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم. وامتلأ الجميع من الروح القدس وابتدأوا يتكلمون بألسنة أخرى كما أعطاهم الروح أن ينطقوا “[أع 2: 2 – 4]. إذًا ها هو مرة أخرى يُعطي فمًا للإنسان، وبنفس الطريقة يُعطيه الروح القدس أيضًا. إذًا فذاك الذي له نفس الطاقة والقوة، والسلطة مع الله بالطبيعة، كيف لا يكون واحدًا معه في الجوهر وليس مخلوقًا؟

فإن كان يُسجد لطبيعة واحدة للثالوث القدوس الواحد في الجوهر، كيف يكون الروح القدس مخلوقًا؟ لأنه لا يكون ثالوثًا بعد، وكمال الثالوث سيكون ناقصًا، إن كان الروح القدس يُحصى مع المخلوقات، وإن كان المطوب بولس يعد الروح القدس مع الآب والابن بالضرورة. لأنه يكتب لأهل كورنثوس قائلاً: ” نعمة ربنا يسوع المسيح ومحبة الله وشركة الروح القدس مع جميعكم “[2كو 13: 14]. لأنه لا يُصلي لأجل الذين امنوا، لكي يصيروا شركاء لمخلوق، بل لكي يتقدسوا مشتركين في الطبيعة الإلهية.

يقول النبي المطوب إشعياء: ” رأيت السيد جالسًا على كرسي عال ومرتفع وأذياله تملأ الهيكل. السيرافيم واقفون … وهذا نادى ذاك وقال قدوس قدوس قدوس “[إش 6: 1 – 3]. ثم يُضيف ” ثم سمعتُ صوت السيد قائلاً من أُرسل؟ ومن يذهب من اجلنا؟ فقلت هاأنذا أرسلني فقال اذهب وقل لهذا الشعب اسمعوا سمعًا ولا تفهموا وأبصروا إبصارًا ولا تعرفوا “[ إش 6: 8 – 9]. لكن المطوب بولس يقول أن هذا الكلام يأتي من الروح القدس. وقد كُتب في سفر الأعمال ما يلي عن الروح القدس، في إشارة لليهود ” فانصرفوا وهم غير متفقين بعضهم مع بعض لما قال بولس كلمة واحدة انه حسنًا كلّم الروح القدس آبائنا بإشعياء النبي. قائلاً اذهب إلى هذا الشعب وقل ستسمعون سمعًا ولا تفهمون وستنظرون نظرًا ولا تبصرون “[أع 28: 25 – 26]. إذًا حين تكلم رب الصباؤوت، كان الروح القدس هو المتكلم، فكيف يكون مخلوقًا؟ هذا الرأى (بأن الروح مخلوق) ليس له أية علاقة بالحقيقة. بل هو روح رب الصباؤوت وهو واحد معه بالطبيعة، وتكلّم بما لله.

وعندما يقول الله الآب: ” أما أملأ أنا السموات والأرض يقول الرب “[أر 23: 24]، بل والمطوب بولس يكتب عن الابن قائلاً: ” الذي نزل هو الذي صعد أيضًا فوق جميع السموات “[أف 4: 10]، وهذا الذي يملأ المسكونة هو الروح، لأنه مكتوب: ” روح الرب ملأ المسكونة “[حكمة سليمان 1: 7]، إذًا فالروح القدس ليس غريبًا عن طبيعة الله الآب، ومن المؤكد أنه ليس غريبًا عن طبيعة الابن، بل إن حفظ الخليقة يتم من الآب بالابن في الروح القدس، الذي هو فوق الخليقة. لأن الخليقة لا تشترك في ذاتها، بل هي تشترك في ذاك الذي هو بحسب الطبيعة فوق الخليقة، أي الله بواسطة الروح.

الروح يُدعى ربًا وإلهًا:

المطوب إشعياء قال ذات مرة للإسرائليين: ” كبهائم تنزل إلى وطاء روح الرب أراحهم. هكذا قدت شعبك لتصنع لنفسك اسم مجد[أش 63: 14]، وموسى أيضًا يقول في سفر التثنية: ” هكذا الرب وحده اقتاده وليس معه إله أجنبي “[تث 32: 12]. إذًا ها هو الروح القدس، يُدعى الرب وبوضوح، ويدعى إلهًا وليس غريبًا. أما لو كان مخلوقًا وغريبًا عن طبيعة الله، فلن يكون له المجد الحقيقي، وسيكون إلهًا غريبًا. إلاّ أنه من غير اللائق أن تؤمن بهذا وان تقوله. لأنه دُعي ربًا وإلهًا، وليس غريبًا. إذًا فهو إله وهو من الله بحسب الطبيعة.

وأما أن الروح هو رب وإله، فهذا ما سنعرفه أفضل من خلال كلمات نشيد موسى، لأنه قال: ” اذكر لا تنسى كيف أسخطت الرب إلهك في البرية “[ تث 9: 7]. والمطوب إشعياء يقول: ” في كل ضيقهم تضايق. وملاك حضرته خلّصهم. بمحبته ورأفته هو فكهم ورفعهم وحملهم كل الأيام القديمة. ولكنهم تمردوا وأحزنوا روح قدسه. فتحول لهم عدوًا وهو حاربهم “[ أش 63: 9 – 10]. إذًا ها مرة أخرى، بينما يقول الكامل في الحكمة موسى “أسخطت الرب إلهك”، يقول إشعياء النبي إن الروح حزن. لأنه ليس غريبًا عن الرب، وروحه هو بحسب طبيعة الله، أي قدوس.

وهؤلاء الذين لهم إيمان مستقيم، يقولون إن الروح القدس إله. لأنه مكتوب، أن روح الله جبلني. أما الذين لهم رؤية ملتوية، ويقولوا إن الروح مخلوق، فقد اظهروا بدعًا كثيرة بطرق مختلفة، وقالوا، نعم الروح يُدعى (لاهوت)، ليس لأنه هو بالحقيقة من الله، أو لأنه إله، بل أنه هكذا مثلما يمكن أن يُقال عن الإنسان أنه إلهي. وفي هذا الشأن نقول الأتي: إن المطوب بولس دعا إله الجميع، لاهوت، فقد كتب إلى أهل أثينا، قائلاً: ” فإذ نحن ذرية الله لا ينبغي أن نظن أن اللاهوت شبيه بذهب أو فضة أو حجر نقش صناعه أو اختراع إنسان”[أعمال الرسل 17: 29]. قائلاً “اللاهوت” بدلاً من “الله”. بل في رسالته إلى أهل رومية، يكتب عن الله: ” لأن أمور غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركه بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى إنهم بلا عذر “[رو 1: 20]. إذًا فإن ما يقوله المعارضون، إن الروح القدس يُدعى (لاهوت)، مثلما يمكن لأحدنا أن يُدعى إنسانًا إلهيًا أو من طبيعة إلهية، يعتبر كلامًا باطلاً.

يقول ربنا يسوع المسيح: ” إن عطش أحد فليقبل إلىّ ويشرب. من آمن بي كما قال الكتاب تجري من بطنه أنهار ماء حي “[يوحنا 7: 37 – 38]. ثم بعد ذلك يُضيف المطوب يوحنا البشير: ” قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنون به مزمعين أن يقبلوه “[ يوحنا 7: 39]. إذًا فالروح حيّ، وفقًا لكلام المخلص. لكننا نرى أن إله الجميع يقول بفم إرميا أيضًا: ” أبهتي أيتها السموات من هذا واقشعري وتحيري جدًا يقول الرب. لأن شعبي عمل شَرّين. تركوني أنا ينبوع المياه الحية لينقروا لأنفسهم أبارًا مشققة لا تضبط ماء “[أر 2: 12 – 13]. إذًا عندما يُسمي إله الجميع نفسه “ينبوع المياه الحية”، ويُسمي الروح القدس “ماء حيّ”، كيف لا يكون إلهًا بالطبيعة، ذاك الذي له مع الله نفس الطاقة المحييّة؟

يكتب المطوب بولس: ” تطلبون برهان المسيح المتكلم فيّ “[2كورنثوس 13: 3]. وربنا يسوع المسيح نفسه، يتوجه إلى رسله القديسين قائلاً: ” لستم أنتم المتكلمين بل روح أبيكم الذي يتكلم فيكم “[متى 10: 20]. إذًا طالما أنه عندما يتكلم المسيح، يتكلم الروح، فكيف يمكن أن يكون روح الكلمة الذي خلق المسكونة، مخلوقًا؟ لأن: ” كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان “[يوحنا 1: 3]. لكن ذاك الذي خلق كل المسكونة، هو على كل الأحوال مُختلف بحسب طبيعته عن كل الأشياء، ويتميز عن الخليقة لأنه إله.

وأما أن الروح القدس إله، وينبثق من الله بالطبيعة، فهذا ما يُعلمنا إياه المطوب بطرس قائلاً: ” لماذا ملأ الشيطان قلبك لتكذب على الروح القدس وتختلس من ثمن الحقل… أنت لم تكذب على الناس بل على الله “[أعمال الرسل 5: 4]. إذًا طالما أن الذي يكذب على الروح القدس يكذب على الله، فكيف لا يكون الروح إلهًا بطبيعته؟

المطوب بولس دعا نفسه عبدًا ليسوع المسيح، والمدعو رسولاً، وقال أنه تعيّن لخدمة إنجيل الله[ رو 1: 1]. وأيضًا يُعلن نفس الأمر بطريقة أخرى، عندما كتب عن الله ” الذي جعلنا لأن نكون خدام عهد جديد لا الحرف بل الروح “[2كورنثوس 3: 6]. إذًا طالما أنه يُسمي إنجيل الله، عهد الروح، الذي تعيّن لخدمته، فكيف لا يكون الروح القدس إلهًا؟

يقول أيضًا: ” لأنه من عرف فكر الرب فيُعلمه. وأما نحن فلنا فكر المسيح “[1 كو 2: 16]. إذًا عندما يُدعى (أي الروح)، فكر المسيح، فكيف يكون واحدًا من المخلوقات، طالما أن الطبيعة الإلهية غير المائتة، لا تقبل أن يكون فيها شيئًا من تلك الأمور التي هي خارج جوهرها؟

يكتب الرسول بولس إلى أهل غلاطية، قائلاً: ” يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضًا حتى يتصور المسيح فيكم “[غل 4: 19]. إذًا طالما أن المسيح يتصور داخلنا، ويُعيد صياغتنا على شبهه بعمل الروح، ويجعلنا روحيين بواسطة كل فضيلة، إذًا فروح المسيح هو إله. وقد ورد في الأناجيل، أن شخصًا أتى إلى ربنا يسوع المسيح وقال له: ” أيها المعلم الصالح “. أجابه المسيح وقال له: ” لماذا تدعوني صالحًا. ليس احد صالحًا إلا واحد وهو الله “[متى 19: 16]. إذًا بينما يقول المسيح، إن الصالح بالحقيقة وبحسب الجوهر هو واحد، يقول المرنم ” روحك الصالح يهدي في ارض مستوية “[مز 143: 10]. إذًا فبما أن الصالح هو واحد، والروح هو صالح، فمن الواضح جدًا أن الروح من طبيعة الله، المتحقق فيها الصلاح.

المطوب بولس حدد النواميس من جهة المرأة، قائلاً: ” المرأة مرتبطة بالناموس مادام رجلها حيًا. ولكن إن مات رجلها فهي حرة لكي تتزوج بمن تُريد في الرب فقط. ولكنها أكثر غبطة إن لبثت هكذا بحسب رأيي وأظن إني أنا أيضًا عندي روح الله “[1كو 7: 39 – 40]. إذًا ما هي النتيجة التي نخرج بها من هذا؟ النتيجة هي إن كان يليق بالله وحده أن يُشرّع، لكن بولس أيضًا يُشرّع، لأن عنده روح الله، إذًا فالروح الذي في داخله هو إله، والذي يُقنعه أن يُحدد النواميس أيضًا.

الروح هو الحق:

في الأناجيل يقول المخلص عن نفسه في موضع ما: ” أنا هو الحق “[يوحنا 14: 6]. بل والمطوب يوحنا يساوي بين الروح وبين الآب والابن من جهة الجوهر، ويقول: “روح الحق الذي من عند الآب ينبثق “[يوحنا 15: 26]. بينما في رسالته الأولى يقول: ” الروح هو الحق “[1يوحنا 5:7]. إذًا فذاك الذي ينبثق من الآب، وهو روح الحق، وله كل هذا القدر من التساوي مع الابن، بسبب وحدة الجوهر، حتى أنه يُدعى أيضًا “الحق”، كيف يكون مخلوقًا؟ هذا كلام غير لائق. إذًا الروح هو إله، طالما أنه “الحق” وينبثق من الآب.

ناموس موسى يفرض عقابًا لا مفر منه على أولئك الذين يجدفون على الله. هكذا أعطى الله أمرًا أن يُرجم ابن الإسرائيلية في البرية، من كل الجماعة. لأنه أورد اسمه، كما هو مكتوب، وتجرأ أن يقول عليه شيئًا ممنوعًا[لا 24: 10 – 23]. بل إن ربنا يسوع المسيح ذاته، يصون كرامة الطبيعة الإلهية، قائلاً: ” من قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له. وأما من قال على الروح القدس فلن يُغفر له لا في هذا الدهر ولا في الآتي “[متى 12: 32]. فإن كان الروح مخلوقًا، وليس واحد مع الله في الجوهر، ولم يكن إلهًا مع الآب والابن، فكيف يكون التجديف عليه، يحمل هذا القدر الكبير من العقاب، الذي يُعاقب به الذين يجدفون على الله؟ إذًا من الواضح أنه إله، وينبثق من الله، وهو مع الله ويُكرّم في الكتب المقدسة كإله، وهو هكذا بحسب الطبيعة.

فإن كان كما يقول المخلص: ” المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح “[يوحنا 3: 6]. إذًا فالروح بحسب الطبيعة إله، الذي يلد القديسين مرة ثانية، باتحادهم مع الله، بأن يسكن فيهم، ويجعلهم شركاء في طبيعته. وهذا الذي هو قديس بسبب الشركة (مع الروح)، يُشبه إناءً للقداسة قد أصبح يمتلكه (الروح)، بينما هو قائم بطبيعته كإنسان.

إذًا فليقولوا لنا هؤلاء الذين يتجرأون على القول، إن الروح قدوس بسبب شركته مع الله الآب، وليس بحسب طبيعته، مَن هو الروح في ذاته، بعيدًا عن الآب والابن. لكننا لم نسمع شيئًا أخر من الكتب المقدسة. إذًا فهو قدوس ليس عن طريق الشركة، بل لأنه قدوس بحسب طبيعته وجوهره، ولكي أتكلم عنه أقول إنه فعل الألوهة الذي لله الآب، مثل الحلاوة لعسل النحل، ومثل الرائحة الذكية للأزهار.

كتب القديس بولس إلى أهل رومية عن المسيح مخلصنا يقول: ” وتعين ابن الله بقوة من جهة روح القداسة بالقيامة من الأموات. يسوع المسيح ربنا “[رو 1:4].

قوة الله تستعلن بالروح:

إذًا إن كان قد قام من الأموات، وبقوة الروح القدس المحييّة قد فك قيود الموت، وتعيّن المسيح حقًا ابن الله، وهو كذلك، فلا يمكن أن يكون مخلوقًا ذاك الذي بواسطته صار إعلان القوة الإلهية، أي الروح، لكي لا يظهر أن المسيح قد تعين بطريقة ما، بواسطة مخلوق، بل بالأحرى استخدم قوته، تلك التي للروح الواحد في الجوهر. ويقول: ” إذ أُخضعت كل الخليقة للبطل. ليس طوعًا بل من اجل الذي أخضعها على الرجاء “[رو 8: 20]. إذًا لو أن الروح القدس مخلوق، فيلزم أن نعترف بالضرورة أن الروح أيضًا خضع للبطل، ويئن مع الخليقة ويتمخض، والآن هو يوجد كما لو كان في حالة عبودية، وسيتحرر لكي يصل إلى حرية مجد أولاد الله[رو 8: 21].

ويقول أيضًا القديس بولس في حالة أخرى: ” إذ لم تأخذوا روح العبودية أيضًا للخوف بل أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب “[رو 8: 15]. فلو كان الروح القدس عبدًا، كمخلوق، فكيف نصرخ به “يا أبا الآب”؟ لكنه حرر الذين حل فيهم من العبودية، وبالأحرى جعلهم أبناءً أحرارًا، مُظهرًا إياهم شركاءً في طبيعته. فذاك الذي ليس بمخلوق، والذي لا ينتمي لنظام أو طبقة العبيد، هو خاص بالجوهر الإلهي في كل الأحوال.

وعن الإنجازات أو العطايا التي صارت من مخلصنا لمنفعة الأمم، بواسطة الروح، يفتخر الرسول بولس قائلاً: ” فلي افتخار في المسيح يسوع من جهة ما لله. لأني لا أجسر أن أتكلم عن شيء مما لم يفعله المسيح بواسطتي لأجل إطاعة الأمم بالقول والفعل. بقوة وآيات وعجائب بقوة روح الله “[رو 15: 17 – 19]. إذًا طالما أن المسيح يصنع الآيات والعجائب بواسطة بولس، بقوة الروح القدس، كطاقة طبيعية وحية، وكفعل لألوهية الابن، فكيف يكون ذاك الذي هو في الله، وينبثق من الله بطريقة طبيعية، مخلوقًا؟ وكيف يكون مخلوقًا ذاك الذي بقوته يعمل الابن (في القديسين)، الأمر الذي يعد كفرًا بمجرد النطق به؟ يُعلّم القديس بولس عن الكرازة المخلّصة، أنها لا تحتاج إلى الكلمة القاسية أو المفزعة، إذ يكتب في رسالته إلى أهل كورنثوس: ” وأنا كنت عندكم في ضعف وخوف ورعدة كثيرة. وكلامي وكرازتي لم يكونا بكلام الحكمة الإنسانية المقنع بل ببرهان الروح والقوة. لكي لا يكون إيمانكم بحكمة الناس بل بقوة الله “[1كو 2: 3 – 5].

ها هو يسمى برهان الروح، أي عمل الروح، قوة الله. لأنه من الله ومع الله، الروح يصنع كل شيء بطريقة طبيعية، كيف إذًا يكون مخلوقًا، ذاك الذي هو واحد في الجوهر مع الله، والذي يُعرف أو يُستعلن لنا على قدر استيعابنا، كما لو كنا ننظر في مرآه في لغز[1كو 13: 12].

” أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم الذي لكم من الله “[1كو 6: 19]. إذًا عندما نصير مسكن وهيكل لله، بسكنى الروح القدس فينا، فكيف لا يكون للروح طبيعة إلهية، وكيف سيُحصى بين المخلوقات، في اللحظة التي يتضح فيها، أنه لا يوجد بين الأشياء المخلوقة، ما يُقال عنه أنه يسكن في هيكل كإله، بل إن هذه الصفة مع صفات أخرى، هي الخاصية التي تُُميز الطبيعة الإلهية وحدها؟

” فبكل سرور افتخر بالحري في ضعفاتي لكي تحل علىّ قوة المسيح “[2كورنثوس 12: 9]. فإن كان الروح هو الذي يحل ويسكن فينا، ومن خلاله يسكن المسيح فينا، إذًا فالروح القدس هو قوة المسيح. وإن كان الأمر هكذا، فكيف يكون مخلوقًا مَن هو بالطبيعة كائن في الابن؟ ويمكنهم أيضًا أن يقولوا إن الله الكلمة الذي ليس فيه ازدواجية أو ثنائية، هو مُركب من اثنين، أى من طبيعة مولودة ومن طبيعته الذاتية (الإلهية). لكن إن كان كل هذا هو أمر غير لائق، فإن الروح ليس مخلوقًا، لكنه من الجوهر الإلهي غير المُدرك، كقوة له، وبمعنى ما كطاقة طبيعية. والرسول بولس يتكلم عن المسيح مخلّصنا، فيقول: ” الذي فيه أيضًا انتم إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضًا إذ أمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس. الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده “[أف 1: 13 – 14].

يوزع المواهب الإلهية:

فإن كنا قد خُتمنا بالروح القدس، وأُعيد تشكيلنا لله، فكيف يمكن اعتبار الذي بواسطته حُفرت في داخلنا أيقونة الجوهر الإلهي، وبقيت فينا علامات الطبيعة غير المخلوقة، مخلوق؟ لأن الروح بالطبع عندما يكون محددًا للصورة فقط فهو لا يرسم فينا جوهر الله، لو أنه كان مختلفًا عن جوهر الله، ولا بهذه الطريقة يقودنا لنصير على شبه الله. ولكن هذا ما يحدث، فهو لأنه إله وينبثق من الله، لذلك ينطبع في قلوب أولئك الذين قبلوه كختم كما على شمع، وبالشركة معه، والتشبه به، تُستعلن الصورة مرة أخرى، في الطبيعة بحسب جمالها الأول. إذًا كيف يكون مخلوقًا، ذاك الذي بواسطته تتجلى الطبيعة، بأن تصير لها شركة مع لله؟ ” تعقلوا واصحوا للصلوات. ولكن قبل كل شيء لتكن محبتكم بعضكم لبعض شديدة لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا. كونوا مُضيفين بعضكم لبعض بلا دمدمة. ليكن كل واحد بحسب ما أخذ موهبة يخدم بها بعضكم بعض كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة [1بط 4: 7 – 10].

لاحظ من فضلك أنه بينما يوزع الروح القدس المواهب الإلهية، ويقسّمها لكل قديس، بسلطان وكما يُريد، فإن القديس بطرس يؤكد بكل ثقة أن أنواع هذه النعمة، والهبات تصير من الله، وأن الروح ليس غريبًا عن الطبيعة الإلهية. إذًا طالما أن القديس بطرس يدعو الروح، إلهًا، فكيف لا يكون كافرًا ومختل العقل من يجعله في عداد المخلوقات، ويتجرأ ويخاطر بأن يناقض بشارة الرسل القديسين؟

” من هو الذي يغلب العالم إلاّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله هذا هو الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم. والروح هو الذي يشهد لأن الروح هو الحق. فإن الذين يشهدون في السماء هم ثلاثة الآب والكلمة والروح القدس وهؤلاء الثلاثة هم واحد. والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم واحد. إن كنا نقبل شهادة الناس فشهادة الله أعظم لأن هذه هي شهادة الله التي شهد بها عن ابنه “[1يوحنا 5: 5 – 9]. لاحظ إذًا مرة أخرى، أن الكارز بالحقيقة، يُسمي الروح، إلهًا، ومنبثقًا من الله بالطبيعة. لأنه قال، إن الروح هو الذي يشهد، ويتقدم قليلاً، قائلاً: ” شهادة الله أعظم “. إذًا كيف يكون الروح مخلوقًا، وهو منبثق من الله بالطبيعة، ومُتمم للثالوث القدوس؟

يعيد ولادتنا للخلاص:

” أما ولادة يسوع المسيح فكانت هكذا. لما كانت مريم أمه مخطوبة ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس “[متى 1: 18]. من حيث إنه يستطيع أن يخلق، فهذا أمر يتعلق بالطبيعة الإلهية وحدها، وهذا الأمر بالإضافة إلى جوانب أخرى، يؤكد على ما للروح القدس من رتب إلهية موقرة، ومتميزة تمامًا، وأن الروح الإلهي يخلق داخل هيكل العذراء، وفقًا للكتب، إذًا من يقول أن الروح مخلوق، ألا يُعد هذا كفرًا وهوسًا؟ لأنه يوجه إتهامًا للجوهر الاسمي من كل شيء، ويتدني به، ويحسبه في عِداد المخلوقات، والتي هى حديثة العهد في وجودها، وليس منذ البدء. لكن الله بالنسبة لنا، ليس حديث العهد، بحسب ما كُتب في المزامير[مز 81: 7]. إذًا لم تخلق الطبيعة الإلهية النقية، لكن بالأحرى هي موجودة منذ البدء. فإن كان الأمر هكذا، فكيف يمكن أن يقال إن الروح القدس، الروح الإلهي، قد خُلق، بينما هو موجود في الله الآب؟

” وأما الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله “[يوحنا 1: 12 – 13]. فإن كان الروح هو الذي يُعيد ولادتنا للخلاص بالإيمان بالمسيح، حتى أنه بواسطته نصير مولودين من الله، فكيف يكون ممكنًا ألا يكون الروح إلهًا؟ بل إننا نحن الذين آمنا، قد صرنا مولودين من الروح. وهذا ما أكده المخلص لنيقوديموس قائلاً: ” الريح تهب حيث تشاء وتسمع صوتها لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح “[ يوحنا 3: 8]. ” ومتى جاء المعزي الذي سأرسله أن إليكم من الآب روح الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي “[ يوحنا 15: 26]. فإن كان الروح القدس ينبثق من الله الآب، وواحد معه في الجوهر، وإن كان الآب غير مولود ولا مخلوق، فكيف يمكن أن يكون الروح الذي ينبثق من الآب، مولودًا؟ وكيف صرنا نحن هيكل الله، بسكنى الروح القدس، إن لم يكن إلهًا؟

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى